صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.» وفرق بين رجلين يعملان عملا واحدا، أحدهما نوى الخير فيما يعمل، والآخر لم ينو شيئا أو نوى الشر. فهم يسيرون في حياتهم الدنيوية متأثرين بالدين، وليس الدين مقصورا على العبادات. وهذا ما ينقص الغرب، فإن وجب على المسلمين أن يقلدوا الغربيين في العلم والصناعات تقليدا تاما، ويسايروهم ويجروا معهم وجب أن يحتفظوا بنظرتهم الدينية إلى الحياة، وهي النظرة التي يتميزون بها عن الغربيين، لكن موضع السوء أن كثيرا من المسلمين - وخاصة المتنورين منهم - يريدون أن يقلدوهم تقليدا تاما في كل شيء، حتى في نظرتهم إلى الطبيعة ونظرتهم إلى الحياة. ويدعوهم إلى ذلك خطأ كبير وقعوا فيه، وهو ما عندهم من مركب النقص؛ إذ ظنوا أن الغربيين متى فاقوهم في العلم وجب أن يقلدوهم في كل شيء، وفاتهم أن المهارة في ناحية لا تقتضي المهارة في النواحي الأخرى، وأن روحانيتهم ونظرتهم إلى العالم خير من نظرة الأوروبيين ، ولا يمكن أن يفيقوا من غفلتهم إلا إذا اعتقدوا أن روحانيتهم خير للعالم كله، وأنهم إذا كانوا انحطوا في العلم والصناعة فقد سموا بالفطرة الروحانية، وأنهم إذا وجب أن يقلدوا في العلم وجب أن يقلدهم الأوروبيون في النظرة الروحانية، وليس الأوروبيون متسامين في كل شيء. ومن المؤسف أنهم حذوا حذو الأوروبيين في تعليمهم ونمط تربيتهم، فأسسوا المدارس المدنية على النمط الأوروبي، ولم يشذ عن ذلك إلا الأزهر، وقد قال أبو العلاء المعري:
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
فالمدارس المدنية محرومة من التربية الدينية والأدبية. نعم يسوغ لنا أن نقلدهم تمام التقليد في العلوم ومعامل التجارب ونحو ذلك فقط، ولكن لا نقلدهم في الناحية الأدبية، فهم يدرسون التاريخ على أن أوروبا سيدة العالم، وعلى أن رجلها الأبيض هو المسئول عن الأسود والأصفر، وأن الله خلق العالم قسمين: قسما أوروبيا ساميا، وقسما غير أوروبي منحطا، ومن أجل ذلك يؤرخون أوروبا كأنها المركز وما حولها نقط على المحيط، وإذا جاءوا للتاريخ الإسلامي اقتضبوه أو حرفوه، فوجب على المسلمين أن يفرقوا بين ما هو علمي يقلد، وما هو أدبي لا يقلد. وهذه المدارس لا تأبه بالدين إلا شكليا، ولذلك يجهلون أصول الدين كل الجهل، ويتبعون الأوروبي في منهجهم كل الاتباع، ورأس هذه الحركة الجامعة المصرية التي تقود المدراس الثانوية والابتدائية، وليسوا يسألون في كل أمر عرض: ماذا رأى الإسلام؟ ولكن يسألون: ماذا يرى الأوروبيون؟ كأن الله اصطفى الأوروبيين وحدهم، وجعل غيرهم ذيلا لهم.
وإن كان في كل من الشرق والغرب عيوب ففيه أيضا محامد؛ فالغرب أصح رأسا، وأعظم علما، وأصبر على الشدائد وعلى البحث العلمي، وله مهارته في الذكاء، وله اليد المفكرة، والشرق له سماحة صدر، وله روحانية يعترف بها حتى الأقدمون؛ فقد قال فندلبند عند كلامه على الإسكندرية: إنه قد التقت فيها مادية الغرب بروحانية الشرق. ولكن ماذا نعني بالمادية والروحانية ومن قديم والكتاب والفلاسفة قد تعارفوا على وصف الشرق بالروحانية والغرب بالمادية، فما معنى هذا ؟
لقد سمعت كثيرا من المثقفين ثقافة واسعة ينكرون هذا، ويقولون إن الغرب غني بماديته وروحانيته، والشرق فقير في ماديته وروحانيته. أما أن الغرب غني بماديته فليس يحتاج إلى دليل ولا برهان؛ فالصناعات والاختراعات والآلات ونحوها كلها من الغرب وليس الشرق إلا عالة عليه. أما روحانية الغرب فتتجلى في سمو عواطفه، وحبه الخير لأمته، وأحيانا للإنسانية كلها، وهو في هذا يفوق الشرق أيضا. إن شئت فانظر لتبرعات الأغنياء من الغربيين ببناء المستشفيات والمؤسسات العلمية والأعمال الخيرية مما لا يبلغ عشر معشاره الشرقيون؛ فأغنياء الشرق لا يفكرون إلا في لهوهم وملذاتهم، فإن ارتقوا قليلا ففي أسرتهم وأقاربهم، ولذلك لا نرى منهم تبرعا لعمل خيري إلا أن يكون ملقا لوزير أو مدير، أو رغبة في رتبة أو نياشين، وكثيرا ما نسمع عن غربي خرج عن ماله أو أكثره لعمل ينفع قومه، وقلما نسمع ذلك عن شرقي، ولكن نسمع الكثير عن شرقيين ابتزوا أموال غيرهم، أو اغتصبوا عملاءهم الفقراء، أو غشوا في المعاملة، أو ارتشوا لقضاء مصلحة أو نحو ذلك! فأين هي روحانية الشرق ومادية الغرب!
وإن كانت روحانية الشرق عبادة وصلاة وصياما ونحو ذلك؛ فما قيمتها إذا لم تؤثر في عمل المؤمن؟! ما قيمة صلاة يتبعها نهب وسلب؟! وما قيمة صيام لا يمنع صاحبه من جشع وطمع! إن العبادة إذا كانت على هذا النحو كانت حركات ميكانيكية أو ألعابا بهلوانية، وكانت هي والعدم سواء.
ولكن يظهر لى - رغم كل ذلك - أن للشرق روحانية ليست للغرب، وأن من الواجب إذا نظرنا للشرق ألا ننظر إليه فقط في عصر تدهوره وانحطاطه، وألا ننظر إليه في شكله الأخير الذي ساء، بل في جوهره الحقيقي، وقيمته الذاتية، وتعاليمه ومبادئه غير مقيدة بعصر، ولا مرتبطة بزمن.
إن الغرب من غير شك يحيا حياة مادية بحتة؛ بمعنى أن حياته حياة عمل في مصنع أو شركة أو وظيفة يحسب حسابها المادي فقط بمرتب وأجر، وكيف يناله على خير وجه ، وكيف ينفقه على خير وجه، وكيف ينعم بهذه الحياة، وكيف يكسب خير كسب، وينفقه خير إنفاق، وكيف يعيش في أسرته، وكيف يحظى بالنعيم المادي ... إلخ. وكل الأخلاق الحسنة المرسومة له أخلاق تجارية، تعلمه كيف ينجح في التجارة، وكيف ينجح في العمل، وكيف يسعد في الحياة، ولذلك كان أهم قوائم الفضائل عنده المحافظة على المواعيد، والنظام، والترتيب، والصدق في القول والعمل إلخ ... والذي يسيطر على هذه الحياة، ويرسم خططها، ويخترع آلاتها هو العلم، والعلم نتيجة العقل والقضايا المنطقية، وهي أمور كذلك مادية بالمعنى الواسع.
أما الشرق فعماده قديما وحديثا القلب، فإن كان ولا بد فالقلب أولا والعقل ثانيا. هو يدخل في حسابه دائما الحياة الآخرة بعد الموت، ويضمها دائما إلى حساب الدنيا، وهو دائما يتساءل هل هذه الأعمال يكافئ الله عليها في الآخرة بالثواب أو العقاب. وأخلاقه التي يسير عليها مبنية على حساب هذه الآخرة أيضا، وهو كثير السؤال عن غاية هذا العالم ومصيره، وأنه مسير بقوة عظيمة هي قوة خالقه، وأنه سيحاسب الإنسان في الآخرة على ما قدمت يداه في دنياه، وهذه الصورة مركزة في ذهن الشرقي وموروثة له أبا عن جد، وهو في أشد أوقات النعيم في الدنيا يشعر بحافز يحفزه إلى أن يسأل: ما عاقبة هذه اللذة بعد الموت؟! أثاب عليها أو أعاقب؟ وماذا سيكون موقفي أمام الله إذا سألني عنها؟! وهكذا. وهو يبني أخلاقه على أساس الدين، ويبني أعماله على أساس القلب، ولهذه الطبيعة الشرقية والاستعداد الفطري الخاص كان الشرق منبع النبوات، والفلسفة الإشراقية، ومذاهب المتصوفة، وإطالة التأمل، ونحو ذلك من مظاهر الحياة الروحية! فإن ظهرت نفحات من ذلك في الغرب فمصدرها غالبا الشرق، واليهودية والنصرانية والإسلام والتصوف في الغرب ليس إلا موجة من موجات الشرق.
Page inconnue