وكان اتساع المملكة الإسلامية في العهد العباسي سببا في تمزيقها إربا؛ فخرج كثير من الولايات عنها، ولم تعد الوحدة الإسلامية كما كانت، فتوالت الانتقاضات على عمل الخليفة، فانفصلت تونس والأندلس وابن طولون في مصر ... إلخ.
وتبع نشوء الولايات انحلال الخلافة على يد الأتراك، واستمرت عوامل الانحلال على توالى الأيام. وكان الإسلام في الأندلس وشمالي إفريقية كالإسلام في الشرق؛ عصبية لا تزال تثير القبائل إلى الحروب، غير أن عدو الشرقيين من الفرس والأتراك، وعدو الإسبانيين المسلمين من النصارى والمولدين، كانوا يثيرون الاضطرابات والفتن من حين إلى آخر، ولذلك ما لبثت الأمة الإسلامية أن ضعفت بعد القوة، فالموحدون الذين ضموا في ملكهم الأندلس وإفريقية كلها إلى تخوم مصر، وكانت مملكة واسعة لم تجتمع لأي من الدول الإسلامية من قبل ما لبثت أن أصابها الانحلال بسبب العوامل التي ذكرناها، وانتهى الأمر بطردهم على يد الإسبان من الأندلس.
وأحاط العباسيون الخلافة بنوع من التقديس الديني على النمط الفارسي، وشجعوا من الشعراء من أشاد بذكرهم، وأعلن أحقيتهم بالخلافة، وبذلوا العطاء لهم دون غيرهم. ويقول بعض المستشرقين: إن مبدأ انهيار المملكة الإسلامية كان على عهد الرشيد، والسبب في ذلك - على ما يظهر - أن الدولة الأموية قامت على العصبية العربية، فلما جاءت الدولة العباسية أذلت العصبية العربية، وأعلت شأن العصبية الفارسية، وخاصة لما أعطيت السلطة للبرامكة في عهد الرشيد. فلما جاء المعتصم أضعف العصبية العربية والفارسية معا بجلبه الأتراك والتعصب لهم، ورأى الأتراك أن سلطان الخلفاء يحارب العصبيات فخافوا على أنفسهم وأذلوهم، فمنهم من قتلوه ومنهم من سملوا عينيه حتى ضعفت الخلافة وزالت من الوجود. وإنما تحمل الرشيد هذه المسئولية؛ لأنه على يديه ويد ابنه المأمون كانت تقوية الفرس على العرب.
وكان أثر كثرة الفتوح وامتزاج العرب بالفرس وغيرهم من أهل الديانات الأخرى أن وجدت طائفة لا تفقه حقيقة الإسلام، وتريد أن ترجع دينها السابق فسمي هؤلاء الأخيرون «زنادقة». واجتهدت الدولة حفظا على عقيدة الإسلام أن تقتل وتسرف في القتل، وظهر ذلك أثناء القرن الأول الإسلامي، ثم بلغ ذروته في القرن الثاني؛ حيث كان مبدأ ظهور الدولة العباسية، وكان بطل هذا الميدان الخليفة المهدي ثالث الخلفاء العباسيين، وانتهز هذه الفرصة لمحاربة التعصب الفارسي والشعوبية. وبلغ منه أن قتل في وقعة واحدة مئات، وأحرق كتبهم، وكانت تدعو إلى مذهب ماني الذي يسمى أتباعه بالمانوية، وكان أكثر الزنادقة من أصل فارسي يتعصب للفرس، وقد سمى أبو جعفر المنصور ابنه محمدا بالمهدي؛ لإيهام الناس أنه المهدي المنتظر الذي يزعمه الشيعة، فتشدد المهدي في تقصي الزندقة والعقوبة عليها؛ زعما بأنه يرجع إلى عقيدة الإسلام الأولى وسيرة السلف، وقتل من أجل ذلك كثيرين، منهم: بشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، وغيرهما، وتسلح المهدي بهذا السلاح ليقتص من أعداء العباسيين، والموالين للأمويين بحجة الزندقة؛ كسبا للرأي العام فكان في ذلك إضعاف للإسلام، كما اتهم أكبر الناس عقلا، وأكثرهم حرية، وأصحهم تفكيرا بمثل ذلك، كعبد الله بن المقفع وأضرابه، وصارت الدولة تحارب كل من اتسم بحرية في الفكر، وذكاء في العقل، وطلب إصلاح للخليفة أو الدولة مما أضر الإسلام ضررا بليغا.
وأسرفوا في الترف والنعيم، وشرب الخمر، والنساء؛ تبعا للحالة الاجتماعية في زمنهم، وكان يمثل هذه الحالة تمثيلا صادقا بشار بن برد، ولذلك عد مجددا، وقرن بالمهلهل وامرئ القيس والنابغة الذبياني والأعشى وعمر بن أبي ربيعة. فأما المهلهل؛ فهو أول من هلهل الشعر أي رققه وحسنه، وأما امرؤ القيس فقد ابتكر التشبيهات البديعة، ووصف مجالسه مع النساء، وأما النابغة فقد ذكر أنه مخترع الاعتذارات، ووصف مجالس الملوك، وأما عمر بن أبي ربيعة فقد ابتكر وصف أحوال النساء في مجالسهن، وأما بشار فقد جدد الشعر مراعاة لزمنه مع جزالة ألفاظه ومتانة لغته، وذكره مفاخر القبائل وأيامها وانتصارتها، وهو مجدد أيضا لأنه ملأ شعره بالمعاني الجديدة، والعادات الحضرية من نسيب رقيق، وخمريات، وزهريات، وهجاء مقذع مع بعض العناية بالمحسنات اللفظية والمعاني العلمية. وقد سن ذلك كله للمولدين فقلدوه، ولكنهم لم يبلغوا شأوه، بل كل منهم اقتصر على ناحية واحدة من نواحيه؛ فسلم الخاسر وأبو نواس في جزالته، ومسلم بن الوليد في نسائياته، وأبو تمام في معانيه.
ثم أتى أبو نواس فتوسع في باب النساء والخمر بما لم يسبق إليه، وابتكر فن الغزل بالمذكر، فكان هذا كله خروجا على نمط الإسلام وتعاليمه في العفة وضبط النفس. وجرى الشعراء على أثره فقلدوه في غزله بالمذكر، حتى الفقهاء والصالحون، وقلده الصوفية حتى في خمرياته، وهذه نزعة جديدة لا يقرها الإسلام.
وقسم العباسيون بسياستهم الناس إلى أغنياء مترفين، وفقراء مدقعين، ولاهين لهوا تاما، وجادين جدا تاما ليحصلوا على قوتهم، فنرى نظام الطبقات واضحا كل الوضوح، فجنة ونار، ونعيم مفرط وبؤس مفرط، وإمعان في الترف للخلفاء والأمراء، ومن يلوذ بهم من الأدباء والعلماء، وبعض التجار، وإمعان في البؤس والفقر والشقاء لأكثر الناس. وحتى أغنى الأغنياء في كثير من الأحيان لم يكن محصنا بالأمان، بل هو عرضة لغضب الخلفاء والأمراء، فهم يصادرون في أموالهم، فقصور الخلفاء والأمراء وأمثالهم واسعة كل السعة، مترفة كل الترف، فابن المعتز يصف في ديوانه بنية للخليفة المعتضد اسمها «الثريا» فيقول:
حللت الثريا خير دار ومنزل
فلا زال معمورا وبورك من قصر
فليس له فيما بنى الناس مشبه
Page inconnue