زمن الطفولة «أيام كنا والزمان مساعد»
في سنة 1302 هجرية تبتدئ قصتي، حيث كنت أبلغ إذ ذاك العاشرة من العمر، وإنني كنت في ذلك الوقت صغير السن لا أفقه ولا أعي أغلب الحوادث، غير أنني أذكر للقارئ ما يصل فكري إليه من ترجمة حياتي، التي أكتبها الآن وأنا في سن الثانية والعشرين، وإذا سمحت الظروف وعدت إلى بلادي نشرتها، وإن جاء القدر ضد مقاصدي - كما هي العادة - فلا أعدم واسطة من إرسالها لصديق صباي ورفيق شبيبتي ... وليكن في علمك أيها القارئ، أن ما أكتبه عن نفسي وقع لي بدون مبالغة أو تحريف.
ولدت في سنة 1293، وكان ميلادي بمنزل في رمل إسكندرية بالقرب من محطة «باخوص»، ولغاية ما أتذكر من الحوادث أقول: إنني كنت ألعب مع ابنة صغيرة تعادلني في السن، وهي ابنة جارنا في المنزل، الذي كان منقسما إلى مسكنين: أحدهما جهة الشرق والآخر جهة الغرب، وكان يسكن القسم الشرقي رجل من كبار المصريين، كان يأتي لنا وأنا ألعب مع ابنته فيلاطفني، وكنت أذهب معها إلى مسكنهم الذي لم يكن في الحقيقة إلا قسما من منزلنا، حيث لم يكن يفصلنا عنهم شيء، ولنا حديقة واحدة. أما والدي فكان رجلا في سن الأربعين، متوسط القامة، واسع العينين، أسود الشعر، وكنت تراه دائما ملازما للصمت، كمن يفتكر في أمر مهم، ولذلك كان لا يلعب معي كثيرا، كما يفعل جارنا مع ابنته، وكان يذهب في الصباح إلى الإسكندرية، ويعود في المساء، حيث يتناول العشاء، ويذهب للمحادثة مع جارنا، ثم يعود إلى النوم.
أما والدتي فياللأسف! تحققت أني لم أرها إلا وأنا طفل رضيع، وأما من كنت أظنها والدتي لم تكن في الحقيقة إلا مربيتي، وهي مصرية الأصل، وكان عندنا في المنزل خادم وخادمة يقومان بلوازم المطعم والملبس. أما أنا فكنت كثير اللعب مع تلك الابنة، وكنا بعض الأحيان نذهب مع والدها إلى الإسكندرية وإلى سان استفانو، حيث كنا نريض أنفسنا على شاطئ البحر ونعود إلى المنزل عند المساء مارين بين الحدائق والأزهار المجاورة للطريق. وعلى مثل هذا الحال قضيت زمن الطفولة زمن الهناء والسعادة.
هو الطفل أهنى الخلق لا يعرف الأسى
ولا يعرف البلوى ولا يعرف الهوى
ولما بلغت الثامنة من العمر شرع والدي في تربيتي، فلم يترك فرصة تمر دون أن يعلمني فيها ويرشدني إلى الفضائل والتحلي بالآداب. وأول شيء وضعه في عقلي وثبته بالإرشادات الصدق وفوائده، أذكر أنه ذات مرة قال لي: «إذا رأيت أن تخلص نفسك بالكذب هل تفعل؟» فأجبته: «نعم»، فاغتاظ مني، ولولا شفقته علي وحبه لي لأني كنت وحيده وثمرة حياته، لضربني، ولكنه وبخني، وقال: «اعلم يا ولدي، أن الكذب مهما كانت نتيجته من الخلاص، فلا بد من الوقوع في شره يوما ما، واعلم أن هذه الدنيا لا تدوم، وكلنا مائتون، ومن لم يمت صغيرا مات كبيرا، فكيف يكذب الإنسان سعيا وراء خلاص حياته وهي لا تدوم؟! أليس من شرف المبدأ وواجب الدين أن يصدق الإنسان ولو كان في الصدق فقدان روحه؟» وكم ضرب لي الأمثال! ومما أتذكر منها حكاية واشنطن محرر أمريكا، الذي لم يكذب على أبيه حين سأله: من الذي قطع شجر الكريز؟ وكان واشنطن القاطع له، بل قال بكل ثبات: «أنا يا والدي»، فاشتهر بعد ذلك بالصدق حتى صار رئيس جمهورية تلك البلاد. وكان في أثناء كلامه يزيدني من المعلومات العمومية، حتى إنني لما كنت في المدرسة كنت مشهورا بمعرفة الغرائب، وكنت مع صغر سني أعرف بعض معلومات عن الدول وقوادها وتواريخها وعن السياسة وبعض رجال السياسة، وذلك من المبادئ التي علمنيها والدي.
وكان والدي محافظا على أصول دينه، وأول شيء وضعه في ذهني أصول الدين والتمسك به، حتى إن إخواني التلامذة حين ذهبت فيما بعد إلى المدرسة كانوا يستغربون مني حينما يرونني أصلي كل وقت وأحافظ على الفرائض الدينية، ولذلك كنت محترما عند أساتذتي وعند إخواني. ثم فضلا عن تثقيف ذهني فإنه لم يمنعني عن اللعب في الحدائق مع ابنة جارنا، وكان يوصيني بالأدب معها ومع والدها والأولاد الذين نلعب معهم. ثم شرع في تعليمي القراءة والكتابة بنفسه ، وكذلك مبادئ الحساب واللغة العربية والفرنسوية. واستمر على ذلك حتى بلغت سن الثالثة عشرة، فأرسلني إلى مدرسة رأس التين الأميرية، وهذه أول مرة رأيت المدرسة والتلامذة والأساتذة، الذين اختبروني وقرروا إدخالي في السنة الثالثة من القسم الابتدائي، وكان ناظر المدرسة رجلا سليم القلب، محبا للتلامذة. وعند المساء كان يأتي خادمي فأذهب معه إلى محل تجارة والدي، التي كانت في محل يسمونه «بورصة مينا البصل»، فكنت أرى التجار وأغلبهم من الأجانب، ثم أذهب مع والدي وخادمنا إلى محطة الرمل، ونركب القطار إلى محطة باخوص، ومن ثم نذهب إلى بيتنا. وهكذا مرت السنة وجاء الامتحان وكنت من المتقدمين في الفرقة. وجاءت أيام المسامحة، ولله ما كان ألطف تلك المسامحة، التي أمضيت أغلب أوقاتها مع ابنة جارنا التي كانت تذهب إلى مدرسة بالإسكندرية وتعود بعد الظهر!
أما والدها؛ فقد سمعت عنه من والدي أنه من كبار المصريين وأغنيائهم، حر المبدأ، كريم العنصر، شريف العواطف، يساعد الفقراء والمساكين، ويحث الناس على تربية أبنائهم، ويجود بماله لتربية أولاد الفقراء لأنه يرى أن بلادنا محتاجة للتربية؛ إذ إن تقدم الأمم مرتبط بتقدم الأفراد، وكم شرع في تأسيس مدرسة خيرية لتربية أولاد الفقراء! ولكن أغنياءنا لم يساعدوه، وغاية مناهم من الدنيا كنز الأموال، حتى يخرج بعدهم أولادهم الذين يهملون تربيتهم فيفقدون ما جمعوه في بعض أيام قلائل، ومن الذي يحصل على أموال هؤلاء الأغنياء سوى باعة الخمور وأصحاب محال اللهو؟ وبذلك تتحول الثروة من البلاد وتلبث الأمة في الجهل، والذنب كل الذنب راجع على أغنيائنا وكبرائنا. وكان جارنا يحبني كما يحب ابنته، وطالما كان يتكلم معي في موضوعات شتى أدبية.
وهكذا مرت الأيام وانقضت المسامحة ما بين إسكندرية وباخوص وسان استفانو، الذي كنت أزداد محبة في الذهاب إليه. ولما جاء ميعاد افتتاح السنة المدرسية وذهبت إلى المدرسة، أخبرونا أننا سنمتحن آخر السنة لكي ننال شهادة سموها شهادة الدراسة الابتدائية، فاجتهدت في مذاكرة دروسي بكل همة ونشاط، وكان والدي يزور المدرسة ويوصي علي الأساتذة، حتى جاء يوم 25 يونيه سنة 1892 وجاء التلامذة من البلاد المجاورة كدمنهور ورشيد وطنطا، وامتحنا تحريريا، وانتظرنا ظهور النتيجة بقلوب واجفة، وكنت صغيرا لم أفقه مركزي، حتى جاء وقت ظهور النتيجة، وجاء رئيس الامتحان ونادى بأسماء التلامذة الناجحين، وذكر من ضمنهم اسمي فسررت جدا، وذهبت توا إلى والدي وأخبرته بنجاحي، فقبلني ووعدني إذا نجحت في الامتحان الشفاهي أن يهديني هدية فاخرة، وكنت أعجب من التلامذة الذين كانوا يبكون حينما لم يسمعوا أسماءهم، وكنت أتصور أنهم يخافون من آبائهم أن يضربوهم أو يهينوهم لعدم نجاحهم، ثم جاء اليوم المعين للامتحان الشفاهي فدخلنا ووجدنا لكل علم لجنة مكونة من ثلاثة أساتذة، فسألونا عن أسمائنا، وامتحنونا وأعطونا درجات تدل على نجاحنا، ثم خرجت بعد الامتحان وذهبت لوالدي وبشرته بنجاحي، ولم أدر ماذا تم حتى جاءني والدي في اليوم الثالث وأعطاني ساعة ذهبية وقال: «هذه مكافأة على اجتهادك»، وبشرني بتمام النجاح، ولم يمض شهر حتى ظهرت جريدة الوقائع المصرية، ولا تسل عن سروري حين وقع نظري على اسمي مطبوعا في الجريدة، ثم جاءني والدي وقال لي: «اعلم يا ولدي أني أريد أن أرسلك إلى مدرسة في القاهرة لتتميم دراستك»، فسألته: «وهل تذهب معي إلى القاهرة لتقيم فيها؟» فقال: «لا، ولكنك ستكون تلميذا داخليا في المدرسة، بين من يخاف عليك ويعتني بأمرك»، فسألته: «ولم لا ترسلني إلى القسم التجهيزي من مدرسة رأس التين؟» فأجابني: «إنهم ربما ألغوا القسم التجهيزي من هذه المدرسة، وسأرسلك إلى أحسن مدرسة في القاهرة، وما رغبت في ذلك إلا لكي تتعود على التغرب ومعاشرة الأساتذة والتلامذة»، فرضخت لأمره وأنا كاره لفراق موطني وابنة جارنا، التي كانت في ذلك الوقت تزداد لطفا وجمالا، وكان قلبي مولعا بها، حتى إنني كنت لا أهنأ إلا بجوارها، وكانت دائما تحادثني وتذاكرني الدروس، وكنت أشعر بانعطاف نحوها يزداد يوما عن يوم، وأنا لا أعرف وقتها غراما ولا هوى، بل كنت أتدرج في حب طبيعي ممزوج بالميل، ولو كنت أعرف ما تبطنه الأيام لما علق قلبي بشيء من ذلك، ولكنها الأقدار تجري بما تشاء.
Page inconnue