كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حزنان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
وهذا مثل تتمثلون به، وتلقنونه لأخدانكم وأولادكم، وانظروا إلى كتب الفرنسويين الابتدائية كيف أنهم يكتبون أول جملة فيها: «الألزاس واللورين أخذتها ألمانيا. يجب على كل فرنسوي أن يردها إلى بلاده»، ومثل ذلك من العبارات الوطنية؛ ليغرسوا في قلوب الناشئين حب بلادهم والسعي وراء استعادة ما أخذ من حقوقهم. وانظروا إلى الأمم التي نجحت في رفع شأنها، ولا تستبعدوا الطريق فمن جد وجد ومن سار على الدرب وصل.» ولقد نبه فكري إلى أشياء كثيرة بعباراته الرقيقة، فلا حرم منه الوطن ولا حرمت منه الإقامة. فقال صديقي: أما أنا فكما تعهدني لا أدع فرصة تمر علي دون أن أنشط إخواني وأحثهم على اتباع طرق الفضيلة، ويسوءني أن أرى بعض أولاد الأغنياء منكبين على الملاهي، عاكفين على الملذات البهيمية، طارحين العمل وراء ظهورهم، غير ذاكرين واجب بلادهم، وذلك نتيجة عدم بث روح الكمال وحب الفضائل فيهم من الصغر، ولكن الحال أحسن من ذي قبل، والشبان في دور يبعث على الأمل في النجاح، وفقنا الله لما فيه الخير والفلاح! ولكن إذا كنت مسافرا غدا فلا بد من الذهاب إلى المحافظة لأجل الحصول على جواز السفر، وإني أتشرف بالقيام بهذه الخدمة فإن لي في المحافظة قريبا يساعدني. - إني أشكرك يا صديقي، فإني حصلت على جواز السفر من الإسكندرية. - وكتبك التي بالمدرسة لمن تتركها؟ - خذها ووزعها على إخواني وأصدقائي، واكتب على كل كتاب «هدية من فلان إلى صديقه فلان»، واكتب تحت ذلك «حب الوطن من الإيمان».
فقال أحد الحاضرين: «حيث أبقيت لنا تذكارا يدل على شرف مبدئك، فأرجوك أن تأخذ مني صورتي دليلا على ودادي»، فقال صديقي: «وأنا كذلك»، فشكرتهم جميعا على حسن تعطفاتهم، وأخذت صورتيهما. ثم أشاروا علي بزيارة المدرسة قبل السفر فوافقتهم وإن كان ذلك يجدد الأحزان. وبعد أن وصلنا إلى هناك وكان قبل الغروب بساعة، قابلني بقية التلامذة، وعزوني على موت والدي، ومثلهم حضرات الضباط الكرام، ثم درت في أنحاء المدرسة حتى وصلت إلى شجرتي المحبوبة التي كنت أمضي أغلب أوقاتي ليلا تحتها، وهي بجوار السور الغربي المحيط بسكن الناظر المفضال، ولما وقفت تحتها ذرفت دمعة، لم أشعر لها إلا وهي تسيل على خدي، فأسرعت بالمنديل لمسحها، فلمح ذلك صديقي، ومسك يدي قائلا: «الصبر». ثم تركنا ذلك المكان الذي يجدد الأحزان، وسرنا إلى محل المذاكرة، فلما وصلت إلى محل جلوسي قعدت قليلا متفكرا فيما جرى وفيما سيجري، وفتحت الدرج فوجدت مكتوبا على ظهره:
إذا تذكرت أيامي التي سلفت
أقول بالله يا أيامنا عودي
وعلمت أن كاتبه صديقي، كتبه ليذكرني به، فشكرته على حفظه العهود، ثم سرنا إلى محل النوم، وهناك جلست على سريري الذي أمضيت عليه ليالي عديدة، لا فكر لي غير سكينة. وبعد أن جبنا أطراف المدرسة:
Page inconnue