Que tombe Sibawayh
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
Genres
ويقول رفاعة في «تخليص الإبريز» عن الفرنسية: «كان لسانهم من أشيع الألسن وأوسعها بالنسبة لكثرة الكلمات غير المترادفة، لا بتلاعب العبارات والتصرف فيها ولا بالمحسنات البديعية اللفظية؛ فإنه خال منها.» ومن الواضح أنه يقارن الفرنسية بالعربية العامرة بالمترادفات والتلاعب بالعبارات والمحسنات البديعية.
المشكلة هي أن من يرفضون بشدة أي تطوير ملموس في اللغة هم أنفسهم الذين يرفضون بضراوة أي تجديد في كل مظاهر الحياة، وهم الذين يقفون في مواجهة كل محاولة جادة للخروج من مأزق التمسك بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، وهم أنفسهم الذين يفرضون مرجعيات سلفية لكل قضايا المجتمع ومشكلاته المستعصية. وهؤلاء يقحمون الدين الحنيف في كل شيء، ليس في السياسة فقط لكن في التعاملات اليومية والعلاقات الاجتماعية والقوانين وقواعد السلوك العام. وهم يعمدون إلى ترويع الناس معنويا من أجل الحفاظ على القديم الذي يناسب مصالحهم.
وقد نجح هؤلاء في إسكات كل صوت ينادي بالتطوير، بتوجيه أشنع الاتهامات إليه، وأولها بأنه معاد للدين وكافر بالله. وقد أصبحت هذه الاتهامات المخيفة جاهزة على ألسنة حراس الماضي. وليسوا في حاجة إلى سند من المنطق للإطاحة بمن يفتح فمه للاعتراض، وأصبح الإنسان متهما عندهم بالكفر حتى يثبت إيمانه.
وفي كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الصادر عام 1937م ينبه الدكتور طه حسين إلى خطورة تحجر اللغة العربية، ويدعو إلى إصلاح اللغة بصورة عاجلة. وفي الفصل الذي يحمل رقم 37 بطبعة دار المعارف الصادرة عام 1996م وتحت عنوان: «ما اللغة العربية التي تتولى الدولة تعليمها»، يقول طه حسين «إن إصلاح اللغة أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بل من ضرورات الدين نفسه.»
لكن المفارقة هي أن عميد الأدب العربي لا يبدأ بنفسه، فهو يكتب بلغة بلاغية رائعة الجمال، لكنها لغة ليست في متناول القارئ العادي سواء في عصره أو في بداية القرن الحادي والعشرين. واللغة التي استخدمها طه حسين في هذا الكتاب وفي كل ما كتب بعيدة كل البعد عما نادى به من ضرورة تيسير اللغة وتقريبها إلى العامية. ومع الاعتراف بجمالها الكلاسيكي فإن لغة طه حسين أقرب كثيرا إلى لغة الجاحظ منها إلى اللغة التي ينادي باستخدامها. وقد حاول في أحد كتبه تطبيق رأيه في كتابة اللغة كما تنطق لكنها كانت تجربة فاشلة، ولا يعرف هذا الكتاب إلا المتخصصون دون غيرهم. •••
ومن أبرز الأمثلة على التحجر الذهني الذي يعكسه بجلاء تحجر لغوي في الألفاظ والمعاني، ما ظل يصنعه الشعراء العرب لقرون طويلة؛ فقد كان تقليد القديم شرطا حديديا للإبداع الشعري، وكل ما خرج عن السلف كان يعتبر محاولات شيطانية غير مقبولة، فكان الشعراء حتى العصر العباسي كثيرا ما يضطرون إلى البكاء على الأطلال والتغني بالناقة وبالبيداء وبالرمح في عصور اختفت فيها كل هذه العناصر من حياتهم. فالبدو الرحل كانوا يذرفون الدموع على الأطلال التي تركها قوم حبيبتهم بسبب الترحال من مكان إلى آخر بحثا عن الماء وظروف معيشية أكثر ملاءمة. أما شعراء العصر الأموي والعباسي الأول فكانوا في معظمهم يعيشون في المدن أو القرى التي لا يحتاجون فيها إلى الترحال، وكانت حبيباتهم تسكن مكانا ثابتا ولا يحتاج أهلهن إلى التنقل.
ومع ذلك فقد كان الشعراء في ذلك العصر يذعنون لإرادة التيار المحافظ الغالب، مع أنهم لا هم يعيشون في الصحراء ولا يركبون الجمال ولا يستخدمون الرماح، لكنهم ظلوا مضطرين لمحاكاة القدماء بنفس المعاني ونفس الكلمات، فجاء شعرهم مضحكا ومحزنا في الوقت ذاته.
وكان الشعراء المتمردون على القديم يلقون ألوانا من العنت تصل إلى حد الضرب والطرد والحبس والاتهام بالزندقة. كل هذا بفعل من يدعون حماية الدين وحماية اللغة من عدوان «المارقين». لكنه إذا كانت العربية قد نالت شيئا كبيرا من التطوير فذلك بفضل هؤلاء «المارقين» الذين اجترءوا على المحرمات، وشعروا بضرورة كسر القوالب الجامدة المفروضة من قبل حراس الماضي في كل زمان.
وبرغم الإرهاب الفكري لبعض حماة القديم آنذاك، استطاع الشعراء الفكاك في كثير من الأحيان من إسار الماضي وبدءوا يعبرون شيئا فشيئا عن بيئتهم وعصرهم.
ويذكرني ما لاقاه هؤلاء الشعراء من عنت ومعاناة على يد التيارات المحافظة على القديم، بالذين يعيشون بيننا اليوم ويريدون فرض أفكار لم يعد لها ما يبررها في عالم القرن الحادي والعشرين، كما يصرون على عدم المساس باللغة التي ورثناها من السلف، وآن الأوان أن نطورها حتى نجاري عصرنا الحالي.
Page inconnue