الفصل التاسع عشر
المبالاة
كتب إلي أديب يقول:
إن الإنسان يفيد دائما من التجارب المادية، فالأطباء مثلا يهتدون بالتجارب الماضية، ويطبقون في فنهم آخر ما يصل إليه العلم؛ ومن ثم كان التقدم الملحوظ في الطب وسائر العلوم والفنون والآداب، فلماذا لا تسير الأمور كذلك في معالجة المشاكل النفسية؟ أريد أن أقول: إن الإنسان - كل إنسان - لا يريد أو لا يستطيع أن يطبق القاعدة السابقة على مشاكله النفسية، فمثلا حدثنا الكثير من الفلاسفة والكتاب عما انتابهم من أزمات منها ما أخافهم أو أيأسهم أو آلمهم، ثم أردفوا ذلك بأن وضعوا تحت أعيننا تجاربهم، وتجاوزهم هذا الطور إلى طور آخر ... وعندنا مثل أقرب هو صديقكم المازني الذي كتب كثيرا مصورا ما كان يلح عليه في شبابه من يأس وخوف، محاولا أن يقنعنا أن كل ذلك كان عبثا لا طائل تحته، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش دون أن يكون بحاجة إلى شيء من ذلك ... فلماذا لا يعتبر الشباب بقول المازني، فيأخذ الحياة من حيث انتهى، ويقضي شبابه في أنس وراحة وسعادة؟ لماذا يأبى كل امرئ إلا أن ينهج في حياته على طريقته الخاصة، فيقبل على ما يسلمه للخوف والشقاء، ويعج في الألم واليأس؟
وأريد أن أقول أيضا: إذا قيض للإنسان أن ينتفع بتجارب غيره النفسية على النحو الذي ينتفع به في التجارب المادية، أيكون هذا رقيا وازدهارا، أم عندئذ تنتفي الحياة؟
وبعد إسهاب في هذا المعنى يقول الأديب: أرجو أن يتيح لنا الأستاذ ساعة نهرب فيها من حديث السياسة والحرب، ونأنس به فيها إلى ظل الأدب الوريف. •••
ويحضرني في الإجابة عن هذه الأسئلة قول الكاتب الإنجليزي الحديث ستيفنسن
Stevenson : إننا حين نقول للشاب ساخرين: هكذا أيضا كنا نفهم في شبابنا، فنحن نؤيده ولا نفنده بهذه الحجة!
وهو قول حق نافذ إلى اللباب؛ لأننا ندل به على أن هذا الفهم الذي ننقده ، ونحاول أن نثني الشباب عنه إنما هو من طبيعة الشباب التي لا محيد عنها، ولا استثناء فيها، فكل شاب إذن خليق أن يفهم الأمور كما فهمها الشاب الذي نلومه ونهديه إلى خطئه!
وهكذا يسألنا الأديب: لماذا لا يعتبر الشاب بقول صديقنا المازني، فيأخذ الحياة من حيث انتهى ويقضي شبابه في أمن وراحة وسعادة؟!
Page inconnue