أو الذين يقولون: إن البلبل يوحي إلى الشاعر بتغريده، وإن الوردة توحي إليه بنضرتها، وإن الشفق يوحي بألوانه وظلاله وخفقات الهواء فيه ...
كل أولئك خلقاء أن يذكروا أن القريحة التي تستفيد من تعبير عصفورة، أو تعبير زهرة تستفيد ولا شك أضعاف تلك الفائدة من تعبير أبي الطيب وهوميروس وابن الرومي وبيرون وعمر الخيام؛ لأن قصائد هؤلاء تعبير عن الطبيعة الحية، وليس قصاراها أنها لفظ يقال أو أنها فن يصاغ.
فالاطلاع على ثمرات القرائح اطلاع على ثمرات الحياة، وكلما اتسع النطاق اتسع التعبير وتنوعت الثمرات؛ لأنك لا تعرف الحياة الإنسانية بالاطلاع على أبناء زمانك الذين يشبهونك، ويتلقون معك الشعور من مصدر واحد، ولكنك تعرف الحياة الإنسانية حق عرفانها إذا عرفت الصلة التي بين العصور المختلفة والأقطار المتباعدة، وعرفت الواشجة التي تجمع بينها على تعدد المصادر وتفاوت المؤثرات.
وليس هذا بميسور لشعراء العصر الواحد، وكيفما كان نصيب هؤلاء فهو ولا جدال دون النصيب الذي يظفر به قراء جميع العصور.
الفصل السادس عشر
المدرسة الرمزية
أرسل إلي أديب في بغداد يقول: ... استرعى نظري نوع من الأدب أسموه بالرمزية، ولا أعلم حتى الآن تعريف هذا النوع، وقد نبهني إليه تلك الإنذارات إلى الأدباء الشباب المحدثين أن يكفوا عن تلك الطريقة الرمزية، فإنها عقيمة النتاج لا تجدي نفعا، فما هي الرمزية في الأدب؟ وهل هي تقتصر على الآداب العربية فقط عدا الآداب العالمية؟ وما هي نتائجها المضرة؟
والرمزية التي يسأل عنها الأديب البغدادي قديمة في العالم؛ لأن الناس عرفوا الكتابة بالرموز قبل أن يعرفوا الكتابة بالحروف؛ ولأن الكهانات الأولى كانت تستأثر بأسرار الدين، وتضن بها أن تذاع للعامة على حقيقتها الصراح، فكانت تعمد إلى الرموز أحيانا للتعبير عن تلك الأسرار.
ثم ارتفع حجر الكهانات عن أسرار الدين، فتكلم الناس فيها وأفصحوا عما يعتقدونه من خفاياها، ولكن الولع بالأسرار والبحث عن الغوامض والغيوب طبيعة في بعض النفوس لا تخرجهم منها صراحة القول، ولا إباحة التفكير المطلق لمن يشاء، فظهر هؤلاء بين المسلمين كما ظهروا بين الأمم المسيحية والإسرائيلية، وقسموا عندنا العلم إلى علم شريعة وعلم حقيقة، وأرادوا بعلم الشريعة ما يبدو على ظواهر الأشياء، وبعلم الحقيقة ما ينفذ إلى بواطن الأسباب المغيبة عن العقل المكشوفة للبصيرة، وقابلهم عند الأمم جماعة المتعمقين الموكلين بالغوامض والأسرار، وهم المعروفون باسم الخفيين أو ال
Mystics ، ولا يزال لهم مريدون ودعاة في كل عصر من عصور الآداب.
Page inconnue