فإن تعذر علينا أن نرسم ذلك المتحف عيانا فلنرسمه بالظن والتقدير، ولنرجع إذن إلى مقاييسنا وموازيننا نلمس مواضع الزيادة والنقصان فيها، ونصلح جوانب الغلو والبخس في كفايتها، ونغنم تصحيح الميزان في الحكم على الرجال والأزمان؛ لأن هذا التصحيح غنيمة أنفس وأجدى من تفصيل نابغ على نابغ، أو ترجيح جانب على جانب، إذ لا ضرر ولا قصور في اختلاف التفضيل والترجيح متى صحت النظرة واستقام القياس، تلك هي الحقيقة فيما يقال عن ندرة البطولة والنبوغ بيننا كما أراها، أما تواتر القول بندرتها بين جماعة من الناقدين، منهم أناس فضلاء محبون للإنصاف، فله أسباب قد تعود إلى تفصيلها ومناقشتها.
2
إن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردت فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر، وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرت وذكرت.
وموضع الوفاق بين ما قال الأستاذ وما قلت: أننا لا ينبغي أن نقيس علم السابقين إلى علم المحدثين، فليست المقارنة بين مقدار ما نعلم ومقدار ما يعلمون، وإنما المقارنة بين الملكات في الزمن الماضي، والملكات في الزمن الحاضر، وهذا ما نختلف عليه؛ إذ لا موجب عندي لأن تكون ملكات النابغين في عصرنا أقل مما كانت في عصر الأقدمين.
إن النبوغ صفة في أصحابها وليست صفة في غيرهم، فإذا تعلم غير النابغين أو لم يتعلموا، فصفة النبوغ باقية في أصحابها سواء ظهروا بين المتعلمين أو ظهروا بين الجهلاء، وكل ما هنالك من فرق أن النابغة الذي يظهر بين المتعلمين أنبغ من زميله الذي يظهر بين الجهلاء، وتلك شهادة للنابغين في العصر الحديث تضاف إلى ميزان الحسنات والمرجحات.
ومسافة البعد بين النابغ القديم ومعاصريه هي مسافة البعد بين نابغينا، وأبناء عصرنا إذا نحن تجاوزنا مسألة التعليم ووفرة المتعلمين؛ لأن النبوغ ملكة مطبوعة، والمسافة بين المطبوعين وغير المطبوعين اليوم هي هي المسافة بين الفريقين قبل مائة عام أو ألف عام، فليس فضل إديسون في زماننا أنه يعرف في علم الضوء وعلم الصوت ما ليس يعرفه أبناء عصره، ولكنما فضله أنه نابغ وهم غير نابغين، فأفاد بالعلم اليسير ما لم يفده الآخرون بالعلم الغزير، وظلت المسافة بينهم وبينه في النبوغ كالمسافة بين أرخميد ومن عاصروه من غير النابغين، وإن اختلف العصران في شيوع العلم وكثرة المتعلمين.
يقول الأستاذ الفاضل: «مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه، ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان، وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ، فسيبويه نابغة في النحو؛ لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه.»
وأنا أقول كما يقول الأستاذ: إن النابغة يفوق أهل زمانه في معرض من معارض العلوم والفنون، ولكني لا أقول: إن عصرنا لم ينحب أمثال سيبويه، بل أقول: إن سيبويه لو عاش في عصرنا لما فاق نوابغه الأحياء، وإن نوابغنا الأحياء لو عاشوا في عصره لما قصروا عن شأوه؛ لأن الملكات التي تعرف وحدة الأسماء والأفعال بين لغات أوروبا ولغات آسيا لا تقل عن الملكات التي تعرف الوحدة أو الاختلاف بين قبيلة وقبيلة من أبناء البادية؛ لا لأن الأمر يرجع إلى كثرة المتعلمين عندنا وقلة المتعلمين قبل نيف وعشرة قرون.
وعندي أن المعاصرين ينظرون إلى نوابغهم وأبطالهم، كما كان الأقدمون ينظرون إلى النوابغ والأبطال في عصورهم، إلا من كان منهم موسوما بسمة الدين أو محوطا بهالة الإيمان، فالأستاذ يقول: إن نابليون ظهر «فاستبعد الناس وأجرى الدماء أنهارا، وقلب الممالك رأسا على عقب ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقا في ناحية، وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب، ومن هم أقوى منه إرادة وأبعد نظرا، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ؛ لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون؛ ولأنه وحده كان هو القاهر المريد، ومن حوله كانوا المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل.»
فليت الأمر كما يبشرنا الأستاذ من هذه الناحية، إنما الواقع أن أحدا من أبناء القرن الثاني عشر لم يناد بأن الإمبراطور معصوم، كما ينادي الفاشيون من أبناء القرن العشرين بعصمة «الدوتشي» وطاعته بغير تفكير ولا امتعاض.
Page inconnue