وإن أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث، فنحن أحق الناس بالكتابة فيه.
وإن جمعت هذه الأغراض كلها قالوا لك: والقطن؟ وشئون القرض الجديد؟ ومسائل العمال، ورءوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه.
وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض.
إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفا من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعا، وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول.
سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة من القراء معروف، سره أن الجمهور في بلادنا العربية لم «يتشكل» بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوروبية، وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلا إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات.
وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيرا حتى يتم لنا «التشكيل» المنشود، وهو غير بعيد.
ولسنا لهذا نستغربها كلما سمعناها من حين إلى حين؛ لأنها مفهومة على الوجه الذي قدمناه.
ولكن الذي لا نفهمه أن نتلقى تلك المقترحات من كاتب نابه يعرف حاجة الأمة العربية إلى كل نوع من أنواع القراءة، ولا سيما تاريخها القديم مكتوبا على النمط الحديث.
فغريب حقا أن يشير كاتب نابه إلى كتابة الدكتور هيكل، وكتابتي عن أبي بكر وعمر؛ فيقول كما قال كاتب المصور: ... حسن جدا هذا السابق وقد أجدتما الجري في ميدانه، ولكن هل نسيتما أن أبا بكر وعمر كتب عنهما مائتا كتاب؟ وأن في عصرنا الحاضر موضوعات قومية ووطنية وتاريخية ومالية واجتماعية تستحق منكما نظرة، ومن قلميكما التفاتة؟ وأن أكثر طلابنا لا يعرفون عن تاريخ بلادهم الحديث حرفا، وأن صدر الإسلام بحمد الله قد وفاه أئمته وأدباؤه وشعراؤه من العرب حقه، فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وفوها وشرحوها وفصلوها، وبقي تاريخ مصر الحديث والقديم بغير بحث ولا تحليل؟
غريب هذا الرأي من «المسئولين» كما نسميهم في لغة السياسة، وإن لم يكن غريبا من غير المسئولين.
Page inconnue