وثانيا:
أن المجتهد لا يفوته نصيبه كله، وإن فاته بعضه قبل أن يناله بالاجتهاد. «ولكل مجتهد نصيب.» حكمة صادقة لم تخطئ كل الخطأ في ميدان من ميادين الحياة، فكثيرا ما يجني العامل ثمرة سعيه بعد حرمان، وكثيرا ما يضيع تراث العاجز الذي جاءه رخيا سخيا بغير عناء.
وثالثا:
إن الخير المكتسب أنفع لصاحبه وأمته له من الخير الموهوب، وإن الحظوظ التي تورث لا تساوي الحظوظ التي يستحقها المرء بسعيه، ويتدرب على تحصيلها باستخدام حيلته وحوله، ولو أننا وزنا ألف جنيه يرثها الغافل الساهي من أبويه، وألف جنيه يستحقها العامل اليقظان برأيه وتدبيره لما كان من الإنصاف أن نسوي بين الصفقتين في القيمة الحيوية أو القيمة النفسية، ولكنهما سواء في حساب المصارف والأرقام.
ورابعا:
إن تفاوت الفرص امتحان صادق لكفاءة المجتمعات الإنسانية، بل هو امتحان لفضيلة الإنسان التي امتاز بها على جميع الأحياء، وهي قدرته على تنقيح الأوضاع الطبيعية، وعلاج الأمور بالتفكير والتدبير ووحي الخلق والضمير.
فإذا ولد الأفراد متفاوتين في القسم والجدود لم ينته بذلك كل شيء في مقادير البشر وموازين الحياة، بل تبدأ هنالك فضائل المجتمعات المهذبة، وتجارب العقول البشرية، وينصب الميزان للمجتمع الصالح، فتكون قدرته على التسوية بين الفرص مقياسا لصلاحه، وارتقائه على غيره من المجتمعات.
وللحكم على حالة موجودة ينبغي أن نعكسها، ونتخيل الحالة التي تناقضها، ثم نوازن بين الحالتين لنخلص من الموازنة إلى الرأي الصواب في النقد والتماس التغيير.
فلنوازن بين حياة فيها الفوارق الكبيرة والصغيرة، ونحن نعالجها بجهود الأفراد والجماعات، وبين حياة خلت من جميع الفوارق، ولا حاجة فيها إلى جهد من الفرد أو جهد من الجماعة.
نوازن بين هاتين الحياتين وننظر بعدها أي الحياتين أشبه بمعنى الحياة، وأيها أشبه بالآلة الصماء.
Page inconnue