صاحبنا مبتلى بملاريا الأدب، ومتى نفضته البرداء يشتد هذيانه فيه. يأنس بأشياء من العلم الحديث فيخيل إليه أنه وجد حجر الفلسفة، إن رأى معازا أو بقارا أو فلاحا ابتسم له وحياه تحية صب مشتاق، حتى إذا استأنس به انهال عليه بأسواط منظومه ومنثوره، يطمع في أن تعم شهرته جميع الطبقات، فأعار الأرض اهتماما اقتداء بفرجيل، ثم وصف المعارك كهومير ليسد برأس قلمه ثغرة في جدار الأدب العربي.
تقرأ على مسامعه قصيدة لأعظم شاعر، فيفتر عن أسنان مصفرة ولثة مزرقة، ويقول بكل وقاحة: «منو المتنبي؟ ومنو شكسبير؟ أليسا بشرا مثلنا؟» يفتح كشكوله ويخرج منه أفاعي رقطاء ورقشاء دونها حيات أدهى الحواة، فتسمع وأنفك راغم، وإن تثاءبت يحدجك بعين زرقاء لو رآها ابن الرومي للزم بيته شهرا كاملا، عليك عند سماع درره اليتيمة أن تهز برأسك كالضب، وترجع كالحمام، وتنثر زهور الاستحسان عند كل نظرة يلقيها عليك، وعند كل شدة يعض عليها ... ولا تحسب أنك اتقيت شره إن فعلت فصاحبنا مغفل، يخالك طربت حقا فيتمادى حتى يؤنسك ساعات ... لا يدرك أن أحدا مشغول لأنه بطال، أدركته حرفة الأدب فلا عمل له غير النظم والنثر وكب هذا «الزفت» على رأس من يتشبث به، مؤمن بأنه من عباقرة الشرق العربي، ويرجو أن تنصفه الذرية التي تربى تربية حديثة، أما معاصروه فجلهم حساد، ومعظمهم غلاظ الأكباد.
لا يستقر إن جلس فكأنه قاعد على خازوق، فهو يتفنن في جلسته كأنه أمام مصور، وكثيرا ما يدعم ذقنه بإبهامه ويثني السبابة على شفتيه، فيغطي بها السفلى ويسند العليا.
دعاني يوما إلى زيارته وألح علي وأغراني بقوله: تعلم أن كل بلد معروف بلون من الطعام والحلويات، وأنا عندي لون ما ذقت مثله أبدا، ولا أبصرته في نومك، إن زرتني أذقتك إياه وعلمتك صنعه، فتأكله وتبيض به وجهك أحيانا، فقلت في نفسي هذا صياد ماهر يضع في صنارته ذبانة ليصطاد دلفينا ... وارتخت نفسي إذ سمعت بأكلة جديدة، ثم حسبت أنه سيحبسني عنده حتى الغداء، وأنه سيعد لي من مطهماته خيولا تجول في كل ميدان، فجئته بعد الميعاد بساعتين، تذكرت الأكلة الجديدة التي لم أحلم بها، وحياتي كلها أحلام من هذا الضرب، فهان علي سماع سفاسفه ثلاث ساعات.
كان جالسا إلى طاولته جلسة فنية، وقد نشر عليها أوراقا تخال سطورها دروب النمل على الرمل، أو أعشاش البق في زوايا بيت لم تعرف حيطانه المكانس، انقبض صدري وأحسست بما تحس به النفوس قبل الخطر والنكبات، ولكنني تجلدت وقلت: هما ساعتان ويليهما الغداء. فهب أني في حبس الدم، فما يكون مقدار ويل ساعتين ثلاث في سبيل أكلة نتلذذ بها ونضيفها إلى معجم المطبخ.
وكان رد التحية توبيخا لطيفا على تضييعي ساعتين أخسر بهما مشاهدة أسراب من عذارى الخلود، عنفني كأني غريمه، فاعتذرت بما ألفناه من أكاذيب المعاذير، زعمت له أنني التقيت بأديب آخر استوقفني ليسمعني آية فنية جديدة، فتأفف وتمتم: ما أشد غرور الأدباء! ما أسمجهم! يفلقون الناس بترهاتهم. ثم استعجل حرصا على الوقت وفتح دفترا من قطع شحيم كنيستنا، فرمقت ذلك الدفتر بمؤخرة عيني، فأدركت أنه لا يزيد عن كف، فقلت في نفسي: اللطمة بكف هينة، وقانا الله شر الكفين.
شرع يقرأ ويشرح فقلت له: لا تضيعني، اقرأ وعجل والمناقشة بعدئذ. ومضى هو في نثر درره، وسحت أنا في دنيا اللاوعي، فكنت كالأطرش في الزفة.
ودقت الساعة الثانية وصاحبي لم ينته من قراءة تحليل نفسي من قصة فتاة هجرها صاحبها وأحب غيرها، قال صاحبي: إنها كانت تفكر في مصيرها وخيبة آمالها. أما أنا فكنت أفكر بالأكلة العبقرية التي وعدني بها، لم أسمع قعقعة صحون ولا وسوسة ملاعق، ولم أشم غير رائحة أدبه ... فأدركت أني وقعت في الشرك، وتذكرت المثل القائل: إن الشقي وافد البراجم.
وانتهت القراءة، فجاء دور التعليق، فأخذ يدلني على مواضع الحسن، فيئست من حديث كليل ابن الفارض، وأخذت أتحين الفرصة للفرار وهو يسد علي الدروب، ولا يدع لي مجالا، وشاء القدر فسعل وانقطع سيل كلامه الجارف فوقفت، فأخذ يسعل ويؤمئ إلي: أن اقعد. فحييت وانصرفت لا أسمع نداء ولا ألتفت ورائي.
وبعد عامين قرع صاحبنا باب غرفتي، وكان بطني ماشيا في ذلك النهار، فدخل علي الساعة الثامنة وأخذ ينزع من كنانته الحجاجية سهما إثر سهم ويصوبها إلي، زاعما أنها فتح جديد في الأدب العربي، وأنه قرأها على أئمة العواصم فقرظوها وأثنوا عليها، وأراني خط كل واحد منهم، وفي نيته أن يظفر بشيء مني، فقلت له وقد شقني: الأدب ذوق يا صاحبي، فلو كنت شيخ أدباء العالم، وهكذا ذوقك، فإنك أفتك من طير أبابيل الرامية بحجارة من سجيل، قم عني يا أخي؛ فجسمي مهدود لا يحتمل مسهلين ... كيت وكيت من الأدب والأدباء، متى كان الأدب حقنة؟ ... ليتك تحلل نفسيتي بدلا من تحليل نفسية تلك المستورة بطلة روايتك، ليتك تدرك هذا فتكتب أروع فصل تحليلي. غفر الله لبورجه وستندال ودوستويفسكي، للطاعون مصل واق أما أنت فهيهات أن يقيني منك واق، ولو هاجرت إلى مدينة النحاس والواق واق. ارحمني يا صاحبي، وخف ربك، فعندي أولاد عيال علي.
Page inconnue