كان حنا منذ نطق لا يعثر بالصدق، وقد يكون كذب في المهد صبيا، فمن يعلم؟ كان يخرج مع لداته - على عادة الصغار في القرى - إلى البرية، ويعود إلى البيت وفي جعبته أخبار كلها خارجة عن نسق العادة، فكم من حية قتلها بضربة قضيبه، ثم أخذها بذنبها ليقايسها على قامته، فبقي منها على الأرض قدر شبرين، مع أن حنا شال يده اليمنى حتى كادت تنخلع! وكم من ثعلب ضربه بحجر فأصاب مقتله! وكم من عابر سبيل تعرض لرفاقه وابتهر عليهم حتى تصدى له هو، فلف ذنبه ومشى! وخاطره رفاقه يوما - كما زعم - على ربع مجيدي إن دخل مغارة الرصد، فما تلكأ عن ذلك، وفي أعمق أعماق المغارة وجد شيخا قاعدا يفتل شاربيه فطرده منها، ولكنه لم يقع على الكنز، فصاحت أمه: هذا الرصد يا مجنون، إياك ثم إياك أن تعمل هكذا مرة ثانية.
وأرى والده الربع المجيدي الذي كسبه، فكاد يصدقه لو لم تقل عمة حنا العانس: هذا الربع مسروق مني. وأدخله والده المدرسة لعله يستقيم، فلقط الحرف يوم دخلها، ولكنه خرج منها بعد سنين وقد ازدادت أخلاقه سوءا.
كان حنا ملسانا حتى الهذر، كان يتطاول على الناس وبقي كذلك من شب إلى دب، شك الدواة في زناره على نسق القارئ الكاتب من أهل ذلك الزمان، ولم تعد تطيب له الحياة القروية الهادئة، فغير زيه واستبدل الشروال بالغنباز لباس علماء عصره، ثم ارتقى بعد حين فلبس الطقم الفرنجي حين هاجر إلى المدينة، وظل يتتبع سير الأزياء فلبس صديرية حمراء ذات أزرار زجاجية مدورة براقة، شرع يكتب للناس «المعاريض» قدام السراي لقاء نصف بشلك وما دون، ثم علت درجته فصار عنده كرسي وطاولة، وأخيرا اكترى زاوية من دكان عطار تجاه السراي، فكثرت زبائنه وفاض عليه الخير، ففتح مكتبا فرشه فرشا حسنا؛ كراسي منجدة بعد تلك الخشبات التي لمعها الوسخ، وسخ زبائنه من حمالين وفحامين ومكارين.
ووردت الأخبار على الوالد، فكانت تأتيه مضخمة، فصار حنا عنده رجلا مقربا من الباشا، ورجال الحكومة يرتعدون إذا غضب، كلمته تفك المشانق كما يقولون، فيحمد الله على تلك النعمة.
وبعد حين ورد كتاب من حنا إلى والده، المكتوب متوج بسيدي الوالد العزيز، والظرف مكتوب عليه: «جناب الوجيه الأمثل الهمام الشيخ خليل عبدو.» الإنشاء جميل والخط أجمل وأجمل، والعاطفة تحرق العشب، ولكن أمرين حيرا العم بوحنا: أولا الشيخ خليل عبدو، فهو خليل عبدو «حاف» فمن أين جاءت المشيخة؟ وثانيا توقيع المكتوب «جان» والعهد باسم ابنه حنا وهو بوحنا، ظن أنها ضحكة، وأن في المكتوب سحرا؛ لأن الإمضاء «جان» فلا شك أن للجن يدا في الأمر، فهرع إلى الخوري الذي أقرأه المكتوب وعرض له ما تصور، فضحك الخوري وقال: اسمع يا عمي، حنا وبوحنا ويحيى ويونس وجان وأوهانس، هذه الكلمات كلها معناها حنا.
فقال الرجل: ولماذا نقى ابني جان، وما نقى يحيى مثلا؟
فأجابه الخوري: «موضة» يحيى بطلت، وجان اسم عصري جديد، فأنت صرت بحسب ناموس الارتقاء بوجان.
فهمهم الرجل: «بوجان، آخرة حلوة.» ثم قال للخوري: لا يا معلمي، خلوني بوحنا، أنا راض باسمي العتيق.
أما جان أفندي فكان يحيا حياة رخاء، أثث بيتا صغيرا صار يدعو إليه صغار رجال الحكومة فيستفيد من تلك الدعوات، وأمسى يكتب العريضة ويقتفي آثارها؛ يدخل على أصحابه صغار الموظفين ساعة يريد، يتعهد بملاحقة القضايا المحبوسة في خزائن المأمورين - لأمر ما - فيطلق سراحها، فورم كيسه، ثم رأى أنه لا بد له من المقامرة ليحتك بذوي الحل والربط، فأخذ يقامر ويربح، وبالاختصار طابت له الريح فذرى، وازداد غرورا.
وفي ذات يوم أخذ يحدث رفاقه في أحد الأندية عن مزارعيه في الضيعة، عن أخبار المواسم الطيبة التي وردت إليه من جناب الوالد الشيخ خليل، وعن الفيلا التي بناها له أبوه وفقا للخريطة المرسومة، وأراهم إياها فهي دائما في جيبه: صورة بيت مسنم مقبب كأنه قصر الحمراء، وتمنى على أصحابه أن يزوروه فيها فوعدوه خيرا، وكان صاحبنا يفتخر بالمرحوم جده عبدو ويزعم أنه من بقايا السلالة الغسانية، أما والده فعالم علامة، وأمه مثقفة، وأبوه أيضا رجل إداري مع أن هذا لا يتفق مع العلم العميق.
Page inconnue