ونام جبور على مضض فلم يصبح ... واستيقظت الأسكلة على صراخ ناهيل وتفجعها، وقال طنوس حين أذاع الجرس نعي جبور إلى الضيعة: أماه! يسلم رأسك، جاء خبر جبور؛ صدقت أنه مال رائح؟
فدقت أم طنوس يدا بيد، وبهتت هنيهة، ثم استأنفت شغلها ...
معاز الضيعة
رأسه كالبطيخة، وحول أنفه الأفطس بثور زرقاء كأنها طلائع الزنجار في ذلك الوجه النحاسي المفلطح، عينان ثعلبيتان فوق شاربين كئيبين، مفركح أفرم يلبس عباءة براقة ذات كمين دون الكوع، ليس يتخلى عن عصاه، أحيانا يعرضها كالرمح، وطورا يمدها فوق كتفيه تحني عليها الأصابع، ما رأيته يتعكز عليها إلا بعد وقعة الذئاب.
يصف قطيعه كالعسكر المدرب، إذا شردت عنزة يناديها باسمها فتعود إلى مستقرها، رام ماهر إن شاء أصاب القرن، وإن أراد أصاب الفخذ، ويصيب المقتل إن كان قرما إلى اللحم، فالويل للعاصية من حجر جليات، وإذا عصى الكراز فهناك المسئولية العظمى والحساب العسير، عصا زعرور تهتز في الهواء، وراع كأنه متر مكعب يهرول ليلقي على التيس دروسا مسلكية يستفيد منها كل فرد من أفراد الرعية، والتيوس تقبل الآداب.
ما ألذ وقع حوافر القطيع عائدا عند الغروب، فهو كحفيف أوراق الخريف الصفراء، وكتساقط المطر على السطوح في الليلة الخرساء. موكب صامت، القطيع بين مدبرين: الكراز أمامه والراعي خلفه، والكلب يروح ويجيء بينهما. في كتف الراعي سطله وهو مزنر بالجراب يشك في وسطه الناي، ورأس القصبتين المضمومتين باد من عبه. الموكب يمشي الهويناء، والزعيمان لا يتكلمان، لا صوت يسمع إلا رنين الجرس المعلق في عنق الكراز، وعلى الكراز مهابة تفيض على جنبات الدرب، فهو لا يلتفت البتة كأنه يحس طعم الزعامة تحت أضراسه، إذا حاول ربع أو سدس أن يماشيه ينكزه بقرنه العظيم، فيعرف مقامه. أما الأنثى فلا يخاشنها، ولا بأس عليها إن اخترقت خط العظمة.
من رأى الكراز يمشي بأبهة وجلال خاله يفكر بمشاكل خطيرة، كان صوت جرسه يعلن قدومه فأسرع إلى استقباله، ومتى غاب عني شغلني المعاز الظريف، يداعب سائليه عن الحليب واللبن وعينه على رعيته، لسانه مر وحديثه حامض، يعبث الأولاد بقطيعه ليغضب ويسب، ولكنه لا ينثر درره الغوالي ما لم يتحقق أن ليس هناك من يحتشم، كثيرا ما كنت أدعوه إلى السهرة فيجيء، وكنت أوسع عليه في الحديث ليتبسط في مواضيعه؛ مارست ذلك معه مدة، فصار يأتيني بلا دعوة، وسقطت كل كلفة ما بيننا.
عجبت لمعرفته قطيعه واحدا واحدا، فقال: لا تتعجب، أعرفهم مثلما تعرف تلاميذك، ولكل واحدة اسم، وفي عنزاتي المطيعة والعاصية والهادئة والورشة، عندي عنزة شقراء تتلصص مثل البشر، تغافلني وتغزو. السكاء آدمية جدا، بنت حلال لا تتعبني أبدا. وقال بصوت مسموع: الله يرضى عليها! ولكن الملحاء شيطانة، بنت حرام، لها حركات تشيب الرأس، إذا غفلت عيني عنها تهجم وتنتش، الله يقصف عمرها، هي وحدها سودت وجهي عند الضيعة.
فقلت له: اذبحها. فتهدلت شفته السفلى وقال كالمستهزئ: أذبحها! الحكي هين، كل سنة بطن، تخلف ثلاثة أربعة، اثنين ثلاثة، خلفها اليوم جدي، إن الله أعطاه العمر الكافي، كان أعظم فحل في المسكونة.
وجئنا ليلة على ذكر الجن فتبسم وقال: سمعت عنهم وما ظهر لي شيء منهم، قالوا إنهم اختفوا لما كثرت الأجراس في البلاد، ومع هذا أنا أصلب كثيرا.
Page inconnue