2
كانت مديرية جبيل - على عهد لبنان الدولي - أغلى المديريات مهرا ... لجودة مناخها وجود أهلها، يدر على مرعاها اللبن، ويسمن من يطول له في ضواحيها فيستكمل شحما ولحما ...
وكان المدير في ذلك العهد السعيد أطول باعا من المحافظ اليوم، يشغل مناصب شتى؛ فهو مستنطق، وقاض، ومدع عام، وهو قائد «الضابطية» - الدرك - يقول لضابط المركز اليوزباشي رتبة: رح فيروح، وتعال فيأتي. يأخذ الناس بالظنة إذا شاء، ويجتاحهم كالعاصفة إذا كان قوي الظهر، لا كبير عنده إلا الجمل ... يبث الضابطية في القرى للجباية، فيذبحون عنزة هذا وخروف ذاك ودجاجات تلك، وقد يذبحون البقر إذا كانت «الأوامر شديدة»، ويمسحون - كما يعبرون - بفروة المدير.
يتولى «عزته» التحقيق في الجرائم حتى الجنايات، وإذا أذنب «شيخ صلح» فهو المحقق، ثم يشرف على انتخاب الخلف، وإذا كرجت الليرات في الساحة ضرب «الصندوقة» بقضيبه السحري فيصير الأبيض أسود، والأخضر أحمر. وخير تعبير عن تلك السلطة الهوجاء قول العامة: كان يقضي ويمضي.
فلا بدع إذن إن تبرجت أسكلة جبيل - أورشليم العالم القديم - وازينت كالعروس يوم الزفة؛ ففي الساحة العمومية، وعند سيدة البوابة، وأمام مدخل القلعة عقدت أقواس نصر احتفاء بقراءة «البيلوردي» - المرسوم - لجبور بك الذي أصاب عصفورين بحجر واحد: البكوية والمديرية ...
هبط المدينة شيوخ القرى، والمختارون ومن يحلمون بمشيخة الضيعة أو المختارية ... كانت توجه الدعوات إلى الأعيان فيأتون من كل فج، وأكثرهم يهنئ عزة المدير بالمبلغ المرقوم ... احتياطا ... من يدري فربما احتاج إلى معونته لينكي جاره أو ابن عمه أو أخاه، فالمشيخة والمختارية والناطور والوقف والمشاع والمقابر والطرقات أجل وأعظم خطرا عندهم من الممر البولوني ...
ماجت جبيل بالخلائق، فضاقت الخانات على الخيل والبغال والحمير، لم يكن في ذلك العهد طرقات ولا سيارات، فجاء أكثر المدعوين مساء السبت، ولم يتأخر إلى صباح الأحد غير وفود القرى القريبة.
كان قلب جبور يضرب مائة وما فوق، تعروه لذكرى الموعد اهتزازة العصفور بلله القطر، ولا غرو فالوظيفة سيدة المعشوقات ... أخذت جبور رجفة سماها «تشة برد»، وكان ينهض كل دقيقة ليعرض «بكويته» الطريئة على المرآة، فيعادل في كل لحظة ميزان شاربيه، جاعلا القب على العاتق ... وأتت الساعة فمشى يختال في أبراده إلى القلعة، والأعيان حوله وحواليه. أخذت سلامه على الدرج شرذمة ضابطية المركز فارتعد، فضحك البعض ضحكات مستورة إلا واحدة أفلتت من فم مدير قديم، فاحمر وجه جبور بك ... لم يرد جبور التحية، فأراح الجنود بندقياتهم ضاحكين، وقال جندي عتيق اسمه رجب: راح السلام طعام القرد!
كانت بيارق القرى تتطاول في الهواء، والقوالة يتنافسون في الحداء والهزج و«القول»، وكلمة «يا بيكنا يا عزنا» كانت أحلى «القول» وقعا في قلب جبور، يتمنى لو ظلوا يرددونه، وجاء وفد يعطعط:
جبور متى يا ملك
Page inconnue