61

فقال سيف متمسكا بها: بل قولي إننا سنخرج معا، نخرج من هذا القصر الذي لا تربطنا به غير ذكرياتنا، فلنخرج بها ولنذهب إلى ركن من الأركان البعيدة على شط من شطوط الأودية، أو في براح من الصحراء الفسيحة، هناك تكون دارنا لنا وحدنا.

فقالت خيلاء في صوت خافت: قلبي يفيض ولا أقوى على أن أفكر في شيء، دعني أذهب الآن لعلي إذا لقيتك بعد كنت أهدى إلى سبيلي.

واختطف سيف يديها فقبلهما، وكان صدر خيلاء يضطرب وعيناها تدمعان عندما تركها سيف عند باب مخدعها.

وما كادت تدخل حتى ألقت بنفسها إلى جنب تمثال العذراء تصلي صامتة، متجهة بقلبها الواجف إلى مورد الحب الأعلى، تدعوه أن يحمي حبها خالصا نقيا، وتودع عنده عهدها على الوفاء لسيف حتى يجتمعا معا عند كرسيه الأقدس.

وأما سيف فإنه لم يطق البقاء في مكان، كان يجد الفضاء نفسه أضيق من أن يحتويه، ولم يعرف أين يتجه، وخيل إليه أن الكون كله لا يهب له إلا ملجأ واحدا وهو خيلاء، فنزل إلى البستان ووجد الربيع فيه يتوهج بالأنوار، ولكن أين يستقر فيه؟ لم تكن أزهاره ولا طيوره تستطيع أن تستمع إليه إذا أراد أن يتدفق في الحديث، وما كانت ظلاله الحالمة توائم سعادته الواثبة التي تنفر به من الاستقرار. يذهب إلى أمه؟ ولكن أمه المسكينة كانت لا تقوى على التجرد من هزتها العنيفة لتؤنسه بمشاركتها. وهل كان يجرؤ على أن يتحدث إليها عن أمنيته في ترك غمدان مع خيلاء؟

وخرج من الباب الخلفي إلى الأرباض القريبة، وكانت الأكواخ الصغيرة التي في أطراف الربض تلوح له من بعيد هادئة قانعة راضية، كأنها تظل تحتها قلوبا سعيدة، وأي سعادة تنطوي تحت أحدها إذا كان يأوي إليه مع خيلاء! وخيل إليه أن يذهب إلى تلك الأكواخ واحدا بعد آخر، فيحيي من هناك من المساكين قائلا لهم: أنا ابن ذي يزن، ويصافح الأيدي القحلة التي تمتد إليه مرحبة.

وتمثلت له صورة شعب بعيد فيه منزل منعزل، تطلع إليه طريق صخرية، يحف بها من الجانبين صفان من شجر الطلح أو السمر، ويمتد فناؤه الفسيح مسرحا للعين، وفيه أركان ظليلة تتشابك فوقها فروع الأعناب وتستر جوانبها أعواد الياسمين، يشرف عليه القمر إذا طلع، وتلمع فوقه النجوم في الليالي المظلمة، وتكون فيه خيلاء. ألا يزري ذلك المنزل المتواضع بعظمة غمدان؟ وود لو لم يطل مقامه بعد في ذلك القصر الأجنبي ليلة واحدة، فهو قصر أبرهة وأبناء أبرهة، ثم هو قصر يكسوم. وعادت إليه صورة يكسوم وهو يدفعه قائلا: «ابن أبرهة أولى»، فما مقامه في غمدان وما مقام خيلاء هناك؟ فهي الأخرى ...

وتذكر في تلك اللحظة أنه لم يفكر فيما تحسه خيلاء ولا فيما تحبه خيلاء، فإنه لم يسمع منها لفظا واحدا يدل على أنها كانت تكره الإقامة في غمدان، أو أنها تؤثر الإقامة معه في أحد الأكواخ المتواضعة أو في شعب منعزل في الجبال. وكان يرى في سيره أشباحا تخرج من كوخ، أو توقد النار أمام خيمة قائمة، ترغو إلى جانبها ناقة هزيلة. أفي مثل هذه تقيم خيلاء؟ وهل تحمله غضبته على مثل هذا التفكير الذي لا يزيد على هذيان الحمى؟ وهي بعد كل هذا لم تقل سوى أن قلبها يفيض، وأنها تريد أن تذهب إلى حجرتها لعلها تهدأ، حتى إذا لقيته مرة أخرى كانت أهدى إلى سبيلها، ولم تقل له أنها تؤثر العيش معه في الخيمة المنعزلة أو في ركن بعيد من شطوط الأودية. إنه هو كذلك يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون أهدى إلى سبيله، فأين يذهب إذا خرج من غمدان؟ ولو خرج وحده يوما ليهيم على وجهه في الأرض كما خرج أبوه من قبل لكان أمره هينا، فهو يستطيع أن ينام حيث يدركه الليل، وأن يتحمل الجوع والعطش إذا لم يجد طعاما أو شرابا. وفي أية غاية يجر خيلاء معه إلى عالم مجهول غير محدود المعالم؟

من أجل أية غاية؟ الحياة؟ السعادة؟ الكرامة؟

وعاد أدراجه بقلب ثقيل، يسير نحو غمدان الذي خرج منه منذ ساعة بقلب يفيض سعادة ولا يتسع له مكان. ولما بلغ القصر ذهب إلى حجرة الشيخ أبي عاصم، لعله يجد في حديثه ما يضيء له غيابة الظلام الذي خيم على نفسه.

Page inconnue