وكانت إلى جانب الوعاء المرمري، ونظراتها تنم على ارتباك ودهشة، وصدرها يتحرك في موجة رفيقة، وخيل إليه عندما رآها أنه كان غريقا فعثرت يده بجانب صخرة، وملأ عينيه منها ثم تردد كالحالم إذا بدأ يستيقظ، وتعجب كيف لم يرها من قبل في مثل هذا الرواء.
كانت خيلاء في تلك اللحظة مثل دمية أحد البارعين الذين يخلدون اللحظات المسحورة بفنهم، ولو وضعت في الكنيسة لكانت أيقونة العذراء. أهي خيال آخر في حلم متصل؟ واقترب منها كالمأخوذ، ومد يده نحوها ولم يدر ما يقول لها. ومرت لحظة طويلة وهي رافعة بصرها إليه مترددة، وكست وجهها بسمة خاشعة حزينة، وزادت موجة صدرها شدة، ونزع سيف ألفاظه مرتبكا: خيلاء! معذرة لما ترين مني. لم أذكر أنك هنا، بل ما عرفت أنني آت إلى هنا. تعالي أستمع إلى صوتك، فإن قلبي ممتلئ وهو مغلق، وكأن نبعا حارا قد انبثق في أعماقي، أحسه يتدفق كامنا مكبوتا فوارا.
وجلس معها على المقعد في جوار الوعاء المرمري، وكانت نظرتها على هدوئها تصيح سائلة. فقال سيف: لا تعجبي لما ترين، فإني اليوم غير من تعرفين، وغير من أعرف أنا. إنني أشك في نفسي في هذه الساعة وأشك في كل ما حولي، ويخيل إلي أنني في عالم أجوف لا حقيقة فيه، وكل ما أرى منه لا يزيد على صور يخلقها لي وهمي وأحسبها حقائق. أسمعيني صوتك لأني لا أستطيع أن أشك فيه إذا سمعته، أعينيني على العودة إلى حسي حتى لا أنفض يدي من الحياة يائسا.
فتحركت خيلاء في قلق لا يخلو من الذعر، ولم يخف ذلك عندما قالت: تثبت يا سيف وهدئ من روعك وحدثني بما يزعجك. حدثني عما تحس أو ما يحزنك، لعلي أحمل معك حملك. كنت اليوم في القليس؟
فقال سيف في ضحكة ثائرة: نعم، ذهبت إليه في الصباح. ذهبت إليها شخصا وخرجت منها شخصا آخر. إنني في هذه الساعة مثل طفل صغير يسير في الظلام ويرى فيه أشباحا، فينطق ولا يدري ما يقول، وينادي وليس يعرف من ينادي، لعله يأنس بسماع صوت نفسه، فكلميني يا خيلاء فإني أفزع من صوتي.
فقالت خيلاء: أما من سبب لكل هذا؟
فقال: إنني أبدأ حياة جديدة منذ اليوم، ولست أدري أين أتجه فيها. علي أن أرتادها وأن أفهمها بعقل غير عقلي الذي اعتدت أن أزن به أموري، وأن أتعرف أهلها وأحوالها بعين غير عيني الأولى. قلت لك إنني مثل طفل، فلا تدعيني أتكلم، لا تسأليني، بل تحدثي إلي، قولي أي شيء، حدثيني عن هذا الوعاء وعن اللحظات المسحورة؛ فقد كان حديثا جميلا. حدثيني عما صنعت منذ الصباح، أو عما قلت في صلاتك للعذراء، لعل ذلك يدخل إلى قلبي شيئا من إيمانك. لو كنت أومن بشيء لآمنت بنفسي، ولكني أسبح في فراغ.
فأمسكت خيلاء بذراعه في حزن وأطرقت تبكي صامتة.
فقال سيف: معذرة يا خيلاء، فقد قسوت في ثورتي العمياء. لا تظني بي الخبل، وإن كنت لا ألومك إذا ظننت ذلك. ولكني أحاول أن أتماسك. دخلت هذا الصباح إلى الكنيسة وأنا سيف بن أبرهة، وخرجت منها وأنا سيف بن ذي يزن. أتفهمين قولي؟
فرفعت رأسها في دهشة ولهفة، ولكنها لم تتكلم، فمضى سيف قائلا: كنت أعيش كل هذه السنين في نسيج من الأكاذيب، كانوا يسمونني ابن أبرهة وهم يعلمون أنني ابن رجل شريد، ذهب على وجهه في الأرض منذ كنت طفلا. وأخذ يعيد عليها قصة أمة.
Page inconnue