فقال أبو عاصم: ألسنا نحس مرورها حقا؟
فقال ذو نفر: بلى، إنها على الأقل تذكرنا بمرورها إذا رأى أحدنا وجه صاحبه.
فقال الشيخ: نعم، نحس التغير الذي نراه على وجوهنا، ونحسه في ضعف حواسنا وأبداننا. كل شيء يزول، حتى الجبال الراسية، والبشر يذبلون كما تذبل النخيل المعمرة. وجوههم تتجعد كما تتجعد الثمرة الجافة، ويتحول سوادهم إلى بياض وبياضهم إلى سواد. كل ذلك لا يزيد على حقيقة صغيرة، وهي أننا من الفانين.
فقال ذو نفر: أهناك حقيقة أكبر؟
فقال صفوان: نعم يا أبا الهيثم، فإننا نتغير في أعماقنا تغيرا آخر يدق عن إدراكنا، حتى نقف عمدا لكي نتبينه بعقولنا لا بحواسنا. وقد نألفه وهو يدب فينا دبيب الفناء في أعضائنا، فلا نعرفه حتى يبدو لنا فجأة أو نطلع عليه فجأة كما أفعل اليوم.
وتلفت ذو نفر حوله قائلا: لا يبدو القصر كما عهدته، ولا الناس كما عرفتهم، أو هكذا هم في عيني.
فقال صفوان: لا يملك أحدنا إلا أن ينظر بعينيه، ولكن ليس هذا ما أقصد. هناك تغير آخر لا يتصل بما نرى، هناك تغير آخر يشمل العالم كله مستقلا عن أشخاصنا، وهو يجرفنا معه رضينا أو كرهنا. أنحن اليوم نفكر كما كنا نفكر، ونحكم على الأمور كما كنا نحكم؟ هل يزن الناس شئون الحياة بالمعايير التي كنا نزنها بها؟ أما زالت مثلنا باقية كما عرفناها، نقيس بها الفضائل والرذائل ونميز بها الخير من الشر؟
فقال ذو نفر: أنا رجل قضيت حياتي في البادية، ولا أستطيع أن أعرف من الأمور إلا ما يقع في خاطري. عرفتك يا أبا عاصم تطلب العلم وتقرأ الكتاب، ولست أعرف سوى إبلي وخيلي. ولكني مع ذلك أعرف أننا نتغير، نتغير في داخلنا كما نتغير في خارجنا، فإذا عركنا الدهر وامتحنتنا تجاربه تعلمنا منه أن نكون أكثر حكمة.
فقال صفوان: أو أكثر تفاهة. قد تعلمنا التجارب أن نكون أكثر تهورا أو أكثر جبنا، وقد تزيدنا بذلا أو تحملنا على مزيد من الحرص، وقد تجعلنا نقدس الحق، كما قد تجعلنا نخذله ابتغاء الراحة. قد تجعلنا الأيام أكثر حكمة، كما قد تميل بنا إلى الإسفاف والتعسف.
فقال ذو نفر: إنها طبائعنا. الحنظل يزداد مرارة إذا نضج، والشوك يزداد حدة وشدة، ولكن الثمرة الطيبة تحلو.
Page inconnue