وتفصيل ذلك أن فرديناند رأى الفرصة سانحة بعد أن قضى على العصيان في كالابريه، ووردت أخبار انخذال الجيش البيمونتي ونجاح الحركة الرجعية فجهز حملة قوية في الخفاء وحين ترك الأسطول نابولي في 31 آب تجمعت قوة تقدر بعشرة آلاف في سواحل كالابرية، ولم يكن إذ ذاك لدى صقلية إلا ستة آلاف جندي من المجندين الأحداث، ومن جمعية سكوادرة أو الحرس الوطني الذي يعوزه الضبط، وكانت قلعة مسينا لا تزال بيد حكومة نابولي.
واستطاع النابليون بمساعدة الأسطول الذي كان يسيطر على البحر إرسال المواد إلى القلعة، فأخذت المدافع تمطر المدينة بوابل من القنابل، وبعد أن أنزل القائد جنوده إلى جنوب المدينة أمر بابتعاد السفن في الساحل؛ ليقطع أي أمل لجنوده بالعودة، وطلب إلى جنده أن يختاروا بين النصر أو الموت.
على أنه رغم وصول القوات من نابولي بلا انقطاع وإسكات المدافع الصقلية وتشتيت رجال سكوادرة ولجوئهم إلى الجبال؛ فإن روح الدفاع الجريئة لم تهن حتى أخذ الرهبان يقاتلون بجانب المدنيين، والنساء والصبيان يلقون بأنفسهم في أشد المعارك. وأخيرا استطاع المهاجمون أن يستولوا على مدينة مسينا وانتقموا من أهلها أفظع انتقام؛ إذ أحرقوا الدور وسطوا على النساء وقتلوهن في الكنائس ومثلوا بالصبيان وذبحوا الشيوخ في فرشهم ونهبوا المعابد.
ومع ذلك كله لم تفت هذه الفظائع في عزم الصقليين، فأقسموا يمين المقاومة حتى النفس الأخير، ولم تتنفس الجزيرة الصعداء وتتخلص من الفظائع إلا بعد قبول شروط الهدنة التي وضعها الأميرالان الإفرنسي والإنجليزي، أما أهل مسينا فرموا بوعود القائد الإصلاحية عرض الحائط مستهينين بمحاولة فرديناند للتفاهم وقدموا ضرائبهم إلى حكومة باليرموا.
أما البرلمان فقد قطع عهدا على نفسه بأن لا يتفاهم مع العدو أبدا، وأقر قانون التجنيد، وسعى لاستخدام غاريبالدي والاستفادة منه، وحمل كردوفة المجلس على إقرار قانون لبيع الأملاك الوطنية والدينية، وهو من المشاريع الخطيرة التي لو تم تنفيذها لقلبت طريقة الملك في الجزيرة ظهرا على عقب.
وكان الجيش وسكان العاصمة باليرمو - ولعل أكثر الناس خارجها - يعاضدون الوزارة ولكن القوى الرجعية أخذت تتشجع رويدا رويدا، وقد جلبت إصلاحات كردوفة المالية خصومة العناصر الرديئة؛ من موظفي الخزينة، ووحدت بين كبار الإكليروس وكبار الملاكين، ولما فشلت المفاوضات في باريس للحصول على قرض اضطر كردوفة إلى أن يفرض على الناس قرضا إجباريا، الأمر الذي أغضب الرأسماليين، أما أمير جنوة فقد رفض التاج بعد أن طال انتظار الناس لجوابه، وأخذ الأعيان يعرقلون المراسيم الاشتراكية، أما المجلس النيابي فأضاع وقته بالمناقشات، وأوشك أن يتألف من الوسط حزب قوي ممن يحقدون على آل بوربون ولكنهم يخشون الحرب وما تتطلبه الحرب من تضحيات، أما الحرس القومي في العاصمة الذي كان بإمرة الأشراف والمؤلف من صغار التجار؛ فكان يتمتع بسلطة قانونية مستقلة من السلطة الإجرائية وعن مراقبة الجيش مما اضطر كردوفة أولا والوزراء الآخرين من بعده إلى الاستقالة.
وقد دل فوز الحرس الوطني على انهيار القضية الصقلية، فمع أن الوزارة الجديدة أعلنت عزمها على الدفاع عن استقلال الجزيرة؛ فإنها كانت مؤلفة خصيصا من مرشحي العصبة الفائزة، وظل بالمرستون يجهز الصقليين بالسلاح خلسة بعد الهدنة، وكان على تفاهم مع الحكومة الإفرنسية بأن يقوم السلم على أساس منح الجزيرة استقلالا ذاتيا مطلقا وتكون تابعة للتاج النابولي اسميا.
وأظهر الملك فرديناند استعداده لقيام برلمان مستقل وإدارة منفردة، إلا أنه لم يوافق على تأليف جيش خاص، وأصر على تجهيز بعض القلاع الصقلية بالحاميات النابولية، ولكن أهل صقلية أجمعوا على رفض سيادة آل بوربون حتى ولو كانت اسمية، مما جعل فرديناند يعزم على أن لا يبدي أي تساهل آخر وأن يتولى ضبط الجزيرة.
وبعد أن رفض التكاليف الإفرنسية الإنجليزية في منتصف كانون الثاني بصورة باتة؛ نشر إنذارا بمطالبة نهائية، وفيه منح أهل صقلية دستور سنة 1812، وبرلمانا وإدارة مستقلة وأن يعينوا موظفين مواطنين، واحتفظ للعرش بحق حل البرلمان وسوق الجيش من دون موافقة البرلمان.
وكان جواب الزعماء إصدار قانون بتجنيد عشرة آلاف جندي، واتحد الناس وتناسوا شئونهم الخاصة ومشاكلهم وهمومهم وزالت الجرائم وأعيدت المواد المسروقة إلى أصحابها وأرجعت العصابات الأغنياء الذين اعتقلتهم، وأخذت جماعات كثيرة من أهل باليرمو يهرعون للاشتراك في مهمة الدفاع، وأجمع الأشراف ونساؤهم والرهبان والمحامون والعمال والصناع على العمل، ولكن المؤسف أن لا يجدي هذا الإقدام وتلك الحماسة نفعا؛ إذ لم يكن لدى الصقليين أكثر من سبعة آلاف جندي نظامي للدفاع حين انتهاء أجل الهدنة في 29 آذار.
Page inconnue