في إيطالية لم يكن أعظم منه بين البروفنسيين والنورمنديين في فرنسة، أو بين البروسيين والبافاريين في ألمانية، أو بين الإنجليز والأيرلنديين في إنجلترة. ولكن مما لا شك فيه أن الامتزاج العظيم الذي حدث بين هذه الأجناس المختلفة ووحدة التفكير؛ قد ضمن وجود أساس للاتحاد.
وعلى رغم اختلاف اللهجات في إيطالية فإن اللغة كانت واحدة والاسم واحدا، وهناك ذكرى مشتركة لماض مجيد، يوم كانت روما تحكم العالم، وكانت كل منطقة من مناطق إيطالية تحتفظ بذكريات الرجال العظام، الذين أنجبتهم إيطالية، وتفتخر بأعمال روما الخالدة، وكان لإيطالية أدب مشترك، وكلها تفخر بدانتي ومكيافيلي.
وعلى الرغم من التحاسد بين بيمونته وجنوة، وبين نابولي وصقلية، وبين الروماني وروما، وعلى الرغم من تضارب المنافع حتى بين صغار المقاطعات؛ فإنه كان واضحا لدى المفكرين أن الشعور بالمصلحة المشتركة يدفع أجزاء إيطالية المتفرقة إلى اندماج بعضها بالبعض الآخر، لتكوين إيطالية الموحدة.
ويتألف الشعب الإيطالي من طبقات عدة، وكان الإكليروس البالغ من العدد مائة وخمسين ألفا يؤلف الطبقة القوية؛ إذ كان نفوذه متغلغلا في جميع الأنحاء، فبإشرافه على المدارس وبسلطته في مراسم الزواج وبمقدرته على فتح أبواب السماء؛ قد استطاع أن يسيطر على النفوس وأن يصبح ذا نفوذ لا حد له بين الشعب الإيطالي المتدين، فليس مستبعدا - والحالة هذه - أن تقف الكنيسة بجانب الأمة في كفاحها ضد الأجنبي، فقد وجد بين الخوارانة والرهبان وطنيون، وراح منهم في كل ثورة شهداء، وكانت نار الوطنية متأججة في أديرة لمبارديه وصقلية.
أما الطبقة الثانية في إيطالية، فكانت طبقة الأشراف، وقليل منهم من كان يملك أرضا، ويعيش هذا القليل دائما في المدن بعيدا عن أملاكه ما عدا أشراف صقلية وكلبريه، وأخيرا أشراف بيمونته، وبذلك أضاع الأشراف نفوذهم في مناطق أملاكهم، وكثر لقب الكونت في الشمال وفي الوسط ولقب الدوق والأمير في الجنوب، فقلل الكثرة من قيمة هذه الألقاب.
وكان الأشراف في نابولي وفنيسيه وروما متردين معروفين بفساد الأخلاق، حتى إن أحدا من رجال السياسة لم يفكر قط في جميع التقلبات السياسية التي حدثت في ذلك العصر بالدعوة إلى إيجاد مجلس أعيان، أما الأشراف في صقلية فكانوا أغنياء يتحمسون لما يتحمس له الشعب، وبذلك كانوا ذوي نفوذ عظيم، وقل مثل ذلك عن الطبقة الأرستقراطية الفخمة في ميلانو من حيث النفوذ والغنى والقوة.
أما أشراف فلورنسة في طوسكانه فكانوا ينحدرون من أسر التجار في الجمهورية، وأما
الإقطاعية وبتقاليدها الوطنية المتينة، فيرى الإنسان الأشراف على رأس كل حركة أو ثورة تنشب في سبيل الحرية، وكما حق للطبقة المتوسطة أن تفخر ببعض رجالها فلطبقة الأشراف أن تفتخر ببعض رجالها أيضا، أما الطبقة الوسطى فهي خير طبقات الأمة؛ فقد قوى نفوذها في العهد الإفرنسي.
واشتهرت «مودينه» بمدارس لتخريج الموظفين، ومن هؤلاء مهندسون وعلماء منشئون وأذكياء أصابهم التوفيق، ولكن هذه الطبقة كابدت من الاضطهاد أكثر مما كابدته أية طبقة أخرى بعد مؤتمر فينا، ولم يكونوا يتهافتون على الوظائف المدنية التي لم تبهرهم؛ إذ كان الموظف في نظرهم رجلا يبيع مواهبه لمضطهدي الأمة، فضلا عن أن الوظيفة - في حد ذاتها - لا تفسح أمام المرء مجال التقدم؛ فلذلك كان النمسويون في لمبارديه والأشراف في بيمونته وكبار الكهنة في دويلات الكنيسة يتولون أعلى المناصب.
أما المشاركة في الآداب فكان طريقا شائكا؛ لأن الرقيب كان واقفا بالمرصاد، ومع كل ذلك فقد عنيت إيطالية بالكتاب، وكان لها فلاسفتها وشعراؤها وعلماؤها وقصاصوها، هذا رغم أن الرقابة كانت تحول دون انتشار الكتب السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ومما قيل في هذا الشأن أن الجرائد الرسمية كانت تبحث في شئون الهند واليابان أكثر مما تبحث في الشئون الأوروبية، ولا تبحث قط عن السياسة المعاصرة، وكانت مجلة «أتنالوجيا» هي المجلة الإيطالية الوحيدة التي تضاهي المجلات الأوروبية الكبيرة، وكانت التجارة لا مخرج لها، فقوانين الحماية، والحواجز الجمركية، وفقدان العملة، وتباين الأوزان؛ كل هذه عراقيل تحول دون نموها.
Page inconnue