فهؤلاء القادة يجدون في طيات هذا الكتاب كثيرا من الأدلة التي تكذب ظنهم وتبرهن على أنهم خاطئون، كما يجد الشبان فيه ما يؤكد إيمانهم بأن استقلالهم يؤخذ ولا يعطى وهو إنما يؤخذ بالتضحية، وأن الوحدة لا تتم إلا بالقوة والإيمان.
ثم إن القارئ يرى في هذا الكتاب كثيرا من العبر، ويطلع على وقائع ما أعظم أوجه الشبه بينها وبين الوقائع التي حدثت في تاريخ القضية العربية، حتى ليكاد يخيل له أنه يقرأ سيرة بعض رجال العرب؛ من زعيم ظل يجاهد رغم كل العقبات التي قامت في وجهه، وآخر سياسي حاد عن مبدئه وأخذ يموه على الناس، ودجال منافق خان القضية وصار يعمل لحساب المستعمر، وأشباه ونظائر لشيوخ وكهول وشباب مؤمنين عاهدوا الله على العمل في إخلاص ولم يبدلوا
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .
وفي الكتاب عبر جديرة بأن يعتبر بها قادة الرأي العربي العام، ومن أبرز ما يستنتج منها: أن الوحدة لا تتم إلا بالقوة، وقد شنت دولة بيمونته ثلاث حروب في سبيل الوحدة وحارب فيها المتطوعون من جميع الأقطار الإيطالية في صفوف الجند البيمونتين، وقد شنت بيمونته وحدها إحدى هذه الحروب كما ساعدتها حليفتها فرنسة في الأخرى، كما أن اشتراكها في حرب القريم - حيث لا ناقة لها فيها ولا جمل - إنما كان في سبيل الوحدة أيضا.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدل على أن الوحدة القومية والسياسية لا تؤسس إلا بقوة السلاح، حتى إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها لم تنقذ وحدتها من الانهيار إلا بحد السيف، وقد شنت في سبيلها حربا شعواء استمرت خمس سنوات، وضحت من أجلها بنفوس كثيرة، وقد نوه المؤرخون الأمريكيون بهذه الظاهرة التي ربما عدها الكثيرون خروجا على المبدأ الديموقراطي، زاعمين أن من حق الحكومات الجنوبية أن تقرر الانفصال إذا شاءت، إلا أن الرئيس إبراهام لنكولن لم يعترف بمثل هذا الحق، بل رأى أن الوحدة فوق جميع الحقوق فحارب الجنوبيين بكل ما أوتي من قوة، وقد أحسن فيما فعل.
وقد يستغرب القراء تلويحي بمبدأ القوة في عهد شنت فيه جميع الدول الديموقراطية حربا عنيفة على مبدأ القوة وضحت في سبيل هدمه بكثير من أبنائها، ولكن استغرابهم يزول إذا قلت إن هذه القوة التي أشرت إليها هي عين القوة التي استخدمتها الدول الديموقراطية في سبيل نشر السلام العالمي، فترك أمة مجزئة ضعيفة عرضة لأطماع الطامعين بها من الدول المجاورة أو الدول الاستعمارية التي تحتل قواعدها وتتصرف بشئونها متذرعة بحجج واهية لهو أمر لا شك في مخالفته ومناقضته لمبدأ السلام العالمي، والأمة التي انقسمت أقطارها إلى حكومات وخضعت سياستها الخارجية إلى سياسة حكومات أجنبية مناوئة لا يمكن أن تستقر وستظل خطرا يهدد السلم.
وثمة نقطة أخرى جديرة بأن تلفت نظر قادة الرأي العربي، وتلك هي أن الأجنبي الذي يتظاهر بنصرته للوحدة ويساعد بجيوشه على إنجازها إنما يعمل لمصلحته ولقاء فائدة قد تكون أشد ضررا من التجزئة، وإذا ما ساعد بحلفه على أن تخطو الأمة خطوة في سبيل الوحدة قد تعرقل مساعدته سير القضية وترجعها إلى الوراء خطوات؛ فلذلك يجب على الأمة أن تعتمد على نفسها فقط وأن تتجنب الحليف الأجنبي جهد طاقتها.
والقارئ مدرك - لا محالة - بأن أهم العوامل التي ساعدت على إنجاز وحدتها، هو وجود دولة بيمونيه المستقلة الإيطالية لحما ودما، ورعاية الأسرة المالكة فيها لقضية الوحدة، واقتناع رجال حكومتها بأن واجبهم يقضي عليهم بمساعدة الأقطار الإيطالية الأخرى بالسلاح والمال غير مبالين بما تجر هذه المساعي على بلدهم من أخطار وأضرار، واعتقاد الزعماء الإيطاليين في جميع الأقطار المستعبدة منها والمستقلة وشبه المستقلة؛ بأن على دولة بيمونيه أن تتزعم قضية الاستقلال والوحدة.
وفي تاريخ الوحدة الإيطالية بعض مواقف تدل على أن رجال الحكم في بيمونيه قد تنصلوا أحيانا من تحمل أعباء الزعامة، ولم يظهروا الجرأة الكافية، فأضر عملهم هذا سير القضية الإيطالية كثيرا، وكبد الطليان خسائر فادحة في الأرواح والأموال.
ومما يلفت النظر زعم خصوم الوحدة الإيطالية استحالة اتحاد أهل نابولي بأهل طوسكانه واجتماع ابن صقلية بابن بيمونيه في صعيد واحد؛ لما بينهم من اختلاف في الميول والنزعات وتباين في المشارب والعادات.
Page inconnue