بيد أن العناصر الرجعية قررت أن ترمي آخر ما في جعبتها من سهام وأن تقدم بتجربة أخيرة، ولاح لها أنه يمكن استرضاء إنجلترة ببعض إصلاحات تجرى في لمبارديه والروماني، ولا سيما لأنها كانت تميل إلى النمسة وتخشى مطامع فرنسة، وشجعهم على الإقدام ارتيابهم بإقدام فرنسة على مساعدة بيمونته؛ لأن الإمبراطور كان يتحاشى الاصطدام بروما، فضلا عن أن الانتقادات التي وجهتها إليه الصحافة المتطرفة في تورينو وجنوة قد أغاضته كثيرا.
ورأى الرجعيون أن سبيلهم للعمل هو تقوية مركزهم في الداخل وخوض غمار انتخابات تضمن فوز أكثرية لهم، وهذه الانتخابات تجرى قريبا في بيمونته فيستعدوا لها، وكانت هذه الخطة محكمة التدبير فالضرائب الباهظة كانت جمة يسهل استغلالها لإثارة الناس، وكانت إيالة صافويه نفسها لا تعطف على الآمال الإيطالية إلا قليلا، وكان الأشراف ورجال الدين ذوي نفوذ كبير فيها، أضف إلى ذلك أن الأحرار في بيمونته كانوا متفرقين يهاجم بعضهم البعض الآخر بدلا من التضامن في مقاومة العدو المشترك.
وقد تزعمت روما هذه الحركة واستعدت لها في الخفاء استعدادا عظيما شرع بالعمل بأن دوت في جميع الأنحاء صرخة: «الكنيسة في خطر»، وجرف التيار حتى أكثر الأساقفة وطنية، فآثروا الكنيسة على بلادهم وجرت الانتخابات في تشرين الثاني سنة 1857، ولم يبد الأحرار حتى النهاية أي تخوف ولم تأبه الحكومة للأمر ولم تستخدم نفوذها في الانتخابات كالمعتاد.
وتقدم في اللحظة الأخيرة مرشحون إكليريكيون في جميع الدوائر الانتخابية، فانتخبت صافويه وريفييرا وجنوة نفسها التي كانت إلى ذلك الحين معقل أقصى اليسار جماعة من الرجعيين، أما في بيمونته فقد خسر الأحرار بعض الكراسي في الدوائر الريفية، ولو لم يجمع الأحرار شملهم ويلموا شعثهم في الساعة الأخيرة؛ لكانت أكثرية المجلس النيابي الجديد من الإكليريكيين، ولكنهم بيقظتهم الأخيرة واتحادهم أديا إلى تغلب الأحرار على العناصر الرجعية على الرغم من كل المساعي التي بذلتها.
وكانت نتيجة المنافسة أن تلاشت جماعة اليسار وجماعة اليمين المعتدل وأن أصبح الحزبان الكبيران وحدهما وجها لوجه: الأحرار والرجعيون، ودل فوز واحد وأربعين من الأشراف بمقاعد في المجلس النيابي على ما بذله المحافظون من رجال المعارضة من المساعي، وعلى أن طبقة الأشراف أخذت تشترك في الحياة السياسية.
وبنتيجة الانتخابات صار كافور يستند إلى أكثرية متجانسة عاهدته على أن تسير وراءه حتى إن بروفيريو وفاليريو كفا عن انتقاداتهما حين أدركا الخطر، وطالبت الأكثرية - لأسباب مختلفة - باستقالة رتازي. ولما كان كافور ينقم على وزيره لنكثه بوعده في مساعدته على التفريق بين الملك وخليلته؛ فإنه استوصى مصلحة الدولة أكثر من واجب الصداقة ، ورجا رتازي أن يتخلى عن منصبه ففعل في وقار وعدم اكتراث.
الفصل الخامس والعشرون
بلومبير
1858-1859
لم تكد تنتهي الانتخابات حتى جابه كافور أزمة غير متوقعة، وتفصيل تلك الأزمة أن وطنيا إيطاليا اسمه «أورسني» كان مازيني يثق به ويعتمد عليه في مشاريعه الثورية، وقد أبعد عن بيمونته ووقع بيد الشرطة النمسوية فزجته في السجن، ثم استطاع أن يفر منه بأعجوبة أدهشت أوروبا كلها، ثم انفصل عن زعيمه مازيني فحنق المازنيون عليه حنقا حمله على أن يقدم على عمل جريء عظيم؛ بغية إسكات الذين بالغوا في انتقاده والتهجم عليه، فعقد النية على اغتيال الإمبراطور لويس نابليون؛ لأنه يعتبره المستبد الذي سحق الجمهورية في روما وباريس والذي اتخذ من نفسه أداة لمقاومة الثورة.
Page inconnue