الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
وسط أجراس الخطر
وسط أجراس الخطر
تأليف
روبرت بار
ترجمة
أحمد سمير درويش
مراجعة
شيماء طه الريدي
الفصل الأول
في البهو ذي الأرضية الرخامية لفندق متروبوليتان جراند بمدينة بافالو، كان البروفيسور ستيلسون رينمارك واقفا يتلفت حوله بقلق شخص لم يعتد تلك الفخامة الصارخة التي اكتست بها دار الضيافة الأمريكية العصرية. كان البروفيسور قد توقف في منتصف الطريق بين الباب والمنضدة الرخامية؛ لأنه بدأ يخشى أن يكون قد وصل في وقت غير موات، وخالجه خوف من أن شيئا غريبا يحدث. فقد أوقعته العجلة والضجيج من حوله في حيرة من أمره.
كانت تقف عند الباب حافلة عمومية ممتلئة بعض الشيء بالركاب، ذات درج قصير كان مستندا على حجر الرصيف، وتقف بجوارها شاحنة مسطحة عريضة عليها حمالون أقوياء البنية يرفعون عليها صناديق مربعة ضخمة معصوبة بعصابات حديدية تخص التجار المسافرين، وحقائب كبيرة أخف منها، وإن لم تكن أقل منها ضخامة، من المؤكد أنها كانت تخص السيدات اللواتي كن يجلسن بصبر في الحافلة. وفي هذه الأثناء، كانت عربة أخرى قد وصلت للتو تتحرك إلى الخلف نحو الرصيف، وتفوه السائق الحانق بألفاظ ملائمة لهذا الحدث؛ إذ لم يكن حصانا العربة الجامحان يطيعانه.
كان يوجد رجل يصدح بصوت جهوري، وإن كان رتيبا وحزينا، بأن قطارا على وشك المغادرة إلى ألباني وساراجوتا وتروي وبوسطن ونيويورك والشرق. وحين وصل إلى كلمة «الشرق»، انخفض صوته إلى نبرة حزينة أقل حدة، كأن الرجل كان قانطا من مصير أولئك المسافرين نحو تلك الوجهة. وبين الحين والآخر، كان جرس نحاسي يقرع محدثا رنينا حادا، فيهرع أحد الزنوج، الذين كانوا جالسين صفا على دكة ممتدة بطول الجدار المكسو بالرخام إلى المنضدة، ويأخذ حقيبة يد أحد الأشخاص، ويتجه بها إلى المصعد متواريا وسط الزحام ومن ورائه النزيل الجديد. وكان بعض الرجال يقفون في مجموعات هنا وهناك يتبادلون أطراف الحديث، متجاهلين صخب الوصول والمغادرة من حولهم.
وأمام النوافذ العريضة العالية ذات الألواح الزجاجية، جلس رجال آخرون صفا، بعضهم يتحدث وبعضهم يقرأ وبعضهم يحدق إلى الخارج، لكنهم جميعا كانوا يجلسون واضعين أقدامهم على الحاجز النحاسي المنخفض الذي بدا أنه وضع هناك خصوصا لهذا الغرض. كان الجميع تقريبا يدخن السيجار. ثم نزلت سيدة مهيبة الطلة إلى الردهة متجهة إلى مقدمة المنضدة، وتحدثت بهدوء إلى موظف السجلات، الذي أمال رأسه المصفف جيدا إلى جانب واحد مصغيا في تبجيل إلى ما تقول. أفسح الرجال الطريق لها فورا. فمضت إلى الأمام وسطهم بهدوء تام كأنها في غرفة جلوس بيتها، حانية رأسها قليلا لواحد أو أكثر من معارفها، وقوبلت تحيتها بجدية تمثلت في رفع القبعة وإزالة السيجار من بين الشفتين مؤقتا.
كان كل ذلك في غاية الغرابة على البروفيسور، وشعر بأنه في عالم جديد لم يألف عاداته. لم يعره أحد أي اهتمام وهو واقف هناك وسط كل هذا حاملا حقيبته في يده. وفيما كان يتقدم على استحياء نحو المنضدة، ويحاول أن يستجمع شجاعة كافية ليخاطب الموظف، جاء شاب ورمى حقيبة يده على سطح المنضدة المصقول، متجاهلا البروفيسور، وجذب دفتر القيد الكبير ناحيته، وخربش اسمه على الصفحة بسرعة شديدة فظهر مبهما.
قال للموظف: «مرحبا يا سام! كيف الأحوال؟ هل تلقيت برقيتي؟»
فأجاب الموظف: «نعم، لكني لا أستطيع إعطاءك الغرفة رقم 27. فقد حجزت أسبوعا. لقد حجزت لك الغرفة رقم 85، واضطررت إلى التشبث بها بأسناني كي أتمكن من ذلك.»
اكتفى الشاب في رده بإشارة مقتضبة إلى الجحيم.
فقال الموظف بهدوء: «إنه ساخن. هل أتيت من كليفلاند؟» «نعم. أتوجد أي رسائل لي؟» «برقيتان. ستجدهما في الأعلى في الغرفة رقم 85.» «أوه، يبدو أنك كنت متيقنا تماما أنني سآخذ تلك الغرفة؟» «كنت متيقنا تماما من أنك ستضطر إلى ذلك. فإما تلك أو الطابق الخامس. الفندق مشغول عن آخره. لا أستطيع أن أحجز غرفة أفضل للرئيس نفسه لو أتى.» «أوه، حسنا، فما قد يكون جيدا كفاية للرئيس أستطيع تحمله بضعة أيام.»
نزلت يد الموظف على الجرس. فهرع الزنجي وأخذ حقيبة السفر.
قال الموظف: «خمسة وثمانون.» ثم اختفى الزنجي والتاجر الرحالة.
وأخيرا قال البروفيسور للموظف على استحياء: «أيوجد مكان أستطيع أن أترك حقيبتي فيه بعض الوقت؟». «حقيبتك؟»
رفعها البروفيسور ليريه إياها. «أوه، حقيبة سفرك. بالطبع. ألديك غرفة يا سيدي؟» وفي تلك اللحظة كانت يد الموظف تحوم حول الجرس. «لا. على الأقل، ليس بعد. فكما ترى، أنا ...» «حسنا. ها هو موظف الأمتعة على اليسار سيسجلها لك.»
فجأة قال رجل، دافعا نفسه أمام البروفيسور: «ألديك أي رسائل وصلت إلى بوند؟». فأخرج الموظف حزمة ممتلئة بالرسائل من الحجيرة التي تحمل العلامة «ب»، وناولها كلها للشخص المستفسر، الذي تفقدها سريعا، واختار اثنتين بدا أنهما موجهتان إليه، ثم دفع بقية الرسائل نحو الموظف، الذي وضعها حيث كانت من قبل.
ظل البروفيسور واقفا لحظة، ثم، حين أدرك أن الموظف قد نسيه، بحث عن موظف الأمتعة إلى أن وجده في حجرة مليئة بصناديق الأمتعة وحقائب السفر. كانت هذه الحجرة موصولة بالبهو الكبير عبر فتحة مربعة كانت حافتها السفلية في مستوى ارتفاع الصدر. وقف البروفيسور أمامها، وسلم الحقيبة إلى الرجل الواقف وراء هذه الفتحة، الذي سرعان ما علق قطعة نحاسية بمقبض الحقيبة برباط جلدي، وألقى القطعة النحاسية الأخرى إلى البروفيسور. لم يكن ذلك الأخير متيقنا، ولكن بدا أنه من المفترض أن يدفع شيئا ما للموظف، لكنه افترض صوابا أنه لو كان مطالبا بدفع شيء ما، لما تردد ذلك الرجل الفظ بعض الشيء في ذكر تلك الحقيقة، وقد أثبت حسه المنطقي السليم في ذلك التخمين أنه نبراس موثوق يهتدى به وسط البيئة المحيطة الغريبة. فلم يكن موظف الأمتعة يتسم بأي لطف ولو مصطنعا.
ومع أن البروفيسور كان متحيرا بعض الشيء من الوضع العام المحيط به، إلا أنه ظل كامنا في طبيعته إصرار عنيد كان قد نفعه للغاية من قبل، وكان يمكنه في نهاية المطاف من التفوق على رجال أذكى بكثير. لم يكن راضيا إطلاقا عن حواره المقتضب مع الموظف. فقرر أن يبادر بالتحدث إلى ذلك الشخص المشغول مجددا، إن استطاع أن يجتذب انتباهه. ومر بعض الوقت قبل أن يلفت انتباه الموظف المتكلم، ولكن حين استطاع ذلك، قال: «كنت على وشك أن أقول لك إنني أنتظر صديقا من نيويورك ربما لم يصل بعد. اسمه السيد ريتشارد ييتس من ...» «أوه، ديك ييتس! بالطبع. إنه هنا.» ثم التفت إلى الزنجي قائلا: «انزل إلى صالة البلياردو وانظر ما إذا كان السيد ييتس هناك. وإذا لم يكن كذلك، فابحث عنه في الحانة.»
كان واضحا أن الموظف يعرف السيد ديك ييتس. قال دون أن يلاحظ نظرة الدهشة التي اعتلت وجه البروفيسور: «إذا انتظرت في قاعة القراءة، فسأرسل ييتس إليك حين يأتي. سيعثر الصبي عليه إذا كان في الفندق، لكنه ربما يكون في الجزء الشمالي من المدينة.»
لم يشأ البروفيسور أن يزعج الموظف الخدوم أكثر من ذلك، فلم يسأله عن مكان قاعة القراءة. وسأل بدلا منه حمالا متعجلا، وتلقى إجابة مقتضبة لكنها وافية: «قاعة الطعام في الطابق التالي. قاعات القراءة والتدخين والكتابة عند البهو. وصالة البلياردو والحانة والمراحيض في الطابق السفلي.»
بعدما دخل البروفيسور صالون الحلاقة ومتجر بيع السيجار، وصل أخيرا إلى قاعة القراءة. كان العديد من الصحف اليومية متناثرا عبر أرجاء الطاولة، وكانت كل منها مثبتة على حامل طويل مشقوق بدائي الشكل من الخشب، فيما كانت توجد مجلات أخرى، مثبتة أيضا، متدلية من أرفف مستندة إلى الحائط. جلس البروفيسور على أحد الكراسي الوثيرة المكسوة بالجلد، لكنه لم يأخذ صحيفة، بل أخرج كتابا رفيعا من جيبه، وسرعان ما انهمك فيه بشدة حتى صار لا يشعر تماما بمحيطه الغريب. ثم وقعت لمسة خفيفة على كتفه أعادته من كتابه إلى العالم مرة أخرى، رأى وجها صارما لشخص غريب ذي شارب كثيف يحدق فيه من الأعلى.
قال الرجل الغريب: «معذرة يا سيدي، ولكن هل لي أن أسألك إن كنت أحد نزلاء هذا الفندق؟»
خيم طيف طفيف من القلق على وجه البروفيسور وهو يدس الكتاب في جيبه. فقد خالجه شعور غامض حالما دخل الفندق في البداية بأنه يتعدى على ممتلكات الغير، وها قد تأكدت شكوكه في هذه اللحظة.
قال متلعثما: «أنا ... أنا لست نزيلا بالضبط.»
تابع الآخر رامقا البروفيسور بنظرة باردة مدققة: «ماذا تقصد بأنك لست نزيلا بالضبط؟ فأنا أفهم أن الرجل إما أن يكون نزيلا أو لا. فأيهما أنت؟» «أظن، وفق المعنى الحرفي للكلمة، أنني لست نزيلا.» «وفق المعنى الحرفي للكلمة! مزيد من المراوغات. دعني أسألك يا سيدي، بصفتك رجلا شريفا حسبما يبدو عليك، هل تتخيل أن كل هذه الرفاهية، وهذه ... هذه الأناقة، تصان مجانا؟ هل تظن يا سيدي أنها متاحة لأي رجل ذي قدر كاف من الوقاحة ليدخل إلى هنا من الشارع ويستمتع بها؟ هل تحفظ وتصان من أجل أناس ليسوا نزلاء، بالمعنى الحرفي للكلمة؟»
تفاقمت أمارات الشعور بالذنب على وجه البروفيسور التعيس الحظ. لم يكن لديه ما يقوله. فقد أدرك أن سلوكه كان شديد الفجاجة إلى حد لا يسمح له بالدفاع عنه؛ لذا لم يحاول فعل ذلك. وفجأة، استنار محيا مستجوبه بابتسامة، وضرب البروفيسور على كتفه. «عجبا، أيها الرجعي الذي عفا عليه الزمن، لم تتغير قيد أنملة طوال خمسة عشر عاما! أنت لا تقصد التظاهر بأنك لا تعرفني، ألست كذلك؟» «لا يمكن ... لا يمكن أن تكون ريتشارد ييتس؟» «يمكن، بل لا يمكن أن أكون أحدا سواه. أعرف ذلك لأنني حاولت مرارا. عجبا، عجبا! لقد اعتدنا أن ندعوك ستيلي، ألا تتذكر ؟ لن أنسى أبدا تلك المرة التي غنينا فيها «أوفت إن ذا ستيلي نايت»، أمام نافذتك حين كنت تذاكر للامتحانات. دائما ما كنت رجلا هادئا يا ستيلي. كنت في انتظارك النهار كله تقريبا! كنت بالأعلى لتوي مع مجموعة من الأصدقاء حين أحضر الصبي بطاقتك إلي، كان تجمعا خيريا صغيرا، أشبه بترتيب لتحقيق منفعة متبادلة، كما تعلم؛ إذ أسهم كل منا بما استطاع ادخاره في صندوق للأموال العامة ذهب ما به إلى شخص يستحقه من عموم الناس.»
قال البروفيسور بنبرة جافة: «نعم. سمعت الموظف يخبر الصبي بأرجح مكان قد يجدك فيه.»
صاح ييتس ضاحكا: «أوه، حقا؟ نعم، عادة ما يعرف سام من أين يستدعيني، لكنه ما كان يجب أن يفشي ذلك بهذه العلنية الشديدة اللعينة. فبصفتي صحفيا، أعرف ما يجب أن ينشر وما يجب أن يشطب بالقلم الأزرق ويحذف. عادة ما يكون سام كتوما جدا، ولكن لا شك أنه عرف حالما وقعت عيناه عليك أنك أحد أصدقائي القدامى.»
ضحك ييتس مجددا، وكانت ضحكة مشرقة ومبتهجة جدا من رجل بدا خبيثا للغاية.
قال متأبطا ذراع البروفيسور: «تعال معي. يجب أن نسكنك في غرفة مناسبة.»
خرجا من القاعة نحو البهو، وتوقفا عند منضدة موظف الاستقبال.
صاح ييتس قائلا: «أصغ إلي يا سام، ألا يمكنك أن تجد لنا شيئا أفضل من الطابق الخامس؟ فأنا لم آت إلى بافالو للمشاركة في رياضة ركوب المناطيد. لا أحبذ المكوث في غرف في السماء، إن استطعت تجنب ذلك.»
قال الموظف: «أنا آسف يا ديك، لكني أتوقع أن الطابق الخامس لن يبقى متاحا حين يصل القطار السريع القادم من شيكاجو.» «حسنا، ما الذي تستطيع فعله لنا على أي حال؟» «أستطيع أن أمنحكما الغرفة رقم 518. إنها الغرفة المجاورة لغرفتك. وهما حقا الأكثر راحة بين غرف الفندق في هذا الطقس. إن لها إطلالة رائعة على البحيرة. كنت سأود أنا نفسي رؤية البحيرة لو كان بوسعي مغادرة المكتب.» «حسنا. لكني لم آت لأشاهد البحيرة، ولا قضبان السكك الحديدية الواقعة على ذلك الجانب، ولا نهر بافالو أيضا، برغم جماله ومنظره الشاعري، ولا لأستمع إلى صليل عشرات الآلاف من القاطرات التي تمر في نطاق السمع لإمتاع نزلائكم. الحقيقة أن بافالو أشبه ب... سأقول - من أجل البروفيسور - إنها أشبه بعالم هاديس، من أي مكان آخر في أمريكا، باستثناء شيكاجو دائما.»
قال الموظف بذلك الإحساس بالولاء المحلي الموجود لدى كل الأمريكيين: «أوه، إن بافالو جيدة. قل لي، هل أتيت إلى هنا بشأن تلك المهمة السهلة التي تعتزم حركة فينيان تنفيذها؟»
سأله الصحفي: «ما مهمة فينيان السهلة تلك؟» «أوه! ألا تعرف بأمرها؟ لقد ظننت حالما رأيتك أنك أتيت إلى هنا من أجل تلك المسألة. حسنا، لا تقل إنني أخبرتك، لكني أستطيع أن أدلك على أحد أعلى ذوي النفوذ شأنا إن أردت معرفة التفاصيل. يقولون إنهم سيأخذون كندا. قلت لهم إنني لم أكن لآخذ كندا هدية حتى، فضلا عن خوض قتال من أجلها. لقد كنت هناك.»
أثارت غريزة ييتس الصحفية لديه شعورا بالإثارة حين فكر في الضجة التي قد يحدثها ذاك النبأ. ثم تلاشى البريق رويدا من عينيه حين نظر إلى البروفيسور، الذي كان وجهه قد احمر بعض الشيء وضغط شفتيه وهو يستمع إلى التعليقات المهينة عن بلده.
قال الصحفي أخيرا: «حسنا يا سام، لن تجدني أتجاهل خبرا سوى مرة في العمر، لكن الحقيقة أنني في إجازة حاليا. ربما تكون أول إجازة أحصل عليها تقريبا منذ خمسة عشر عاما؛ لذا يجب أن أكون حريصا عليها كما ترى. دع صحيفة «أرجوس» تخسر السبق الصحفي، إن أرادوا. سيصبحون أكثر تقديرا لخدماتي من ذي قبل حين أعود. أظنك قلت الغرفة رقم 518، أليس كذلك؟»
ناوله الموظف المفتاح، وأعطى البروفيسور الصبي القطعة المعدنية الخاصة بحقيبته بناء على إشارة من ييتس.
قال ييتس لصبي المصعد: «هيا أسرع. سنقطع المسافة كلها معك.»
وهكذا انطلق الصديقان عاليا معا إلى الطابق الخامس.
الفصل الثاني
كانت غرفة السماء، كما وصفها ييتس، تطل على منظر شاسع جدا بلا شك. ويقع تحتها مباشرة عدد هائل من الأسطح. وعلى مسافة أبعد، توجد مسارات السكك الحديدية التي أبدى ييتس استياءه منها، وصف من الصواري ومداخن مراوح السفن ميز تعرجات مسار نهر بافالو الذي ارتفعت على ضفتيه عدة صوامع قمح شاهقة، كل منها مميزة بحرف ضخم من حروف الأبجدية مرسوم بطلاء أبيض على اللون البني الداكن للمبنى الضخم. وعلى مسافة أبعد ناحية الغرب، كان يوجد منظر أكثر إرضاء وراحة للنفس في يوم حار كهذا. فالبحيرة الزرقاء، التي تناثرت عليها أشرعة بيضاء وأثر دخان يظهر من حين إلى آخر، كانت تتلألأ تحت أشعة الشمس الحامية. وعلى الجانب الآخر من المياه، عبر الضباب الصيفي البعيد، كان بالإمكان رؤية الحد الخافت للساحل الكندي.
صاح ييتس واضعا يديه على كتفي الآخر ودافعا إياه على كرسي بالقرب من النافذة: «اقعد.» ثم أضاف واضعا يده على زر الجرس الكهربائي: «ماذا تود أن تشرب؟»
قال رينمارك: «سآخذ كوبا من الماء، إن كان يمكن الحصول عليه دون عناء.»
أسقط ييتس يده من على زر الجرس الكهربائي إلى جانبه يائسا، ورمق البروفيسور بنظرة توبيخ.
صاح قائلا: «يا رب السماوات! فلتشرب مشروبا خفيفا. لا تتسرع وتشرب ماء بافالو قبل أن تعرف مكوناته التي صنع منها. بل تدرج في المشروبات حتى تصل إليه. جرب كوكتيلا مثلجا أو مخفوق الحليب كبداية.» «شكرا لك، لا أريد. سيكفيني كوب من الماء تماما. اطلب ما تشاء لنفسك.» «شكرا، يمكن الاعتماد علي في ذلك.» وضغط على الزر، وحين ظهر الصبي، قال له: «أحضر كوكتيلا مثلجا، وأضفه على حساب البروفيسور رينمارك، غرفة رقم 518. وأحضر كذلك إبريقا من الماء المثلج على حساب ييتس، غرفة رقم 520.» وأضاف في نشوة فرحة: «أرأيت، سأسجل كل المشروبات على حسابك، باستثناء الماء المثلج. سأدفع الفاتورة، لكني سأحتفظ بإيصالها لأعايرك به مرارا في المستقبل. البروفيسور ستيلسون رينمارك المدين لفندق متروبوليتان جراند بثمن كأس من الكوكتيل المثلج وكأس من شراب الجن وكأس من مزيج من الويسكي، وما إلى ذلك. والآن يا ستيلي، لنتحدث عن العمل. أفترض أنك لست متزوجا، وإلا ما كنت لتستجيب لدعوتي بهذه السرعة.» هز البروفيسور رأسه بالإيجاب. فأضاف ييتس: «ولا أنا أيضا. لم تتوفر لديك الشجاعة قط لعرض الزواج على فتاة، ولم يتوفر لدي الوقت لذلك قط.»
قال رينمارك بهدوء: «دائما ما كنت شديد الزهو بنفسك في الأيام الخوالي يا ريتشارد.»
ضحك ييتس. «حسنا، لم يعقني ذلك إطلاقا، على حد علمي. والآن، سأخبرك كيف سارت حياتي منذ أن كنا معا في أكاديمية سكراجمور العجوز قبل خمسة عشر عاما. ما أسرع الوقت! حين تركت الأكاديمية، جربت التدريس لشهر واحد قصير. كانت لدي بعض النظريات عن تعليم شبابنا يبدو أنها لم تتناغم مع الآراء الاعتباطية السابقة التي كانت مجالس الأمناء في المدارس تتبناها بالفعل بشأن تلك المسألة.»
اعترى البروفيسور اهتمام تام في الحال. فإذا لمست وتر مهنة أحدهم في حديثك معه، عادة ما يستجيب بإبداء اهتمامه.
سأله: «وما تلك النظريات التي كانت لديك؟». «حسنا، كنت أرى أن المعلم يجب أن يعتني بصحة تلاميذه البدنية كما يعتني بصحتهم العقلية. فلم أكن أقتنع بأن واجبه تجاه رعيته من التلاميذ يقتصر على تعليمهم ما في الكتب فحسب.»
قال البروفيسور بحماس: «أتفق معك تماما.» «شكرا. حسنا، لكن الأمناء لم يتفقوا معي. كنت أشارك الأولاد في ألعابهم، على أمل أن أكون قدوة لها تأثير على سلوكهم في الملعب كما في حجرة الدراسة. لقد أعددنا ملعب كريكيت ممتازا. ربما لا تتذكر أن أدائي في الكريكيت حين كنا في الأكاديمية كان أفضل بعض الشيء من أدائي في الرياضيات أو اللغويات. وعن طريق تعويق تقدمي بضم العديد من اللاعبين السيئين إلى فريقي، وضم أفضل اللاعبين بين الصبية إلى الفريق الخصم، شكلنا فريقين متكافئين تماما في قطعة الأرض رقم 12 ذات العوائد المخصصة للمدارس. وفي ظهيرة أحد الأيام، بدأنا مباراة. كانت أرضية الملعب ممتازة، وكان صبية الفريق الخصم في أعلى مستوياته. وكان فريقي في أسوأ حالاته. كنت منهمكا جدا، وحين دقت الساعة الواحدة، رأيت أنه من المؤسف أن آمر الأولاد بالعودة إلى المدرسة وأفسد مباراة رائعة وشائقة جدا. كان الأولاد كلهم مجمعين على الرأي نفسه. وكانت الفتيات سعيدات بالتنزه تحت الأشجار. لذا لعبنا الكريكيت طوال فترة ما بعد الظهر.»
قال البروفيسور بارتياب: «أرى أن ذلك كان مبالغة بعض الشيء في تطبيق نظريتك.» «وهذا بالضبط كان رأي الأمناء حين سمعوا بما فعلته. لذا فصلوني، وأظن أن رحيلي كان الحالة الوحيدة المسجلة التي بكى فيها تلاميذ رحيل مدرسهم بصدق. نفضت غبار كندا عن قدمي، ولم أندم على ذلك قط. وطئت أرض بافالو، وواصلت نفض الغبار عن قدمي في كل خطوة. (مرحى! ها هي مشروباتك قد جاءت أخيرا، يا ستيلي. لقد نسيتها، وهذا ليس من عادتي. حسنا يا فتى، أضفها إلى حساب الغرفة رقم 518. آه! هذا بالضبط ما يريده المرء في يوم حار.) حسنا، أين وصلت في حديثي؟ آه نعم، عند بافالو. شغلت وظيفة في إحدى الصحف هنا، بأجر كان يكفي بالكاد للبقاء حيا، لكني أحببت العمل. ثم انتقلت إلى مدينة روشستر حيث عملت براتب أكبر، ثم إلى ألباني براتب أكبر وأكبر، وبالطبع تقع ألباني على بعد بضع ساعات فقط من نيويورك، حيث يحط كل الصحفيين رحالهم في نهاية المطاف، إذا أثبتوا براعتهم وكفاءتهم. رأيت جزءا صغيرا من الحرب أثناء عملي مراسلا خاصا، وأصبت، وأودعت في المشفى مع العديد من المصابين. ومنذ ذلك الحين، ومع أنني مجرد مراسل، أتربع على مشارف قمة هرم تلك المهنة، وأجني ما يكفي من الأموال لسداد ديوني في لعبة البوكر وشراء المشروبات المثلجة لتهدئة وطأة احتدام اللعبة. وحين تشهد البلاد أي حدث مهم في أي مكان فيها، أكون هناك مع زملاء آخرين لتأدية هذا العمل الشاق؛ إذ أكتب الأوصاف التصويرية الخلابة وأحاور ذوي النفوذ. تنتقل مقالاتي ساخنة وطازجة عبر أسلاك البرق، ولم تعد أظرفي تعرف الطابع البريدي المتواضع. أعرف كل موظف استقبال فندقي، وهذا يضاهي معرفة أي شيء يحدث من نيويورك إلى سان فرانسيسكو. لو كان بإمكاني ادخار المال، لأصبحت غنيا؛ لأنني أجني الكثير، لكن الفتحة الموجودة في أعلى جيب سروالي أفقدتني الكثير من النقود، ولا يبدو أنني قادر على رتقها. والآن، لقد استمعت إلى حديثي بصبرك المعتاد كي تمنح زهوي بنفسي، على حد وصفك، حريته الكاملة. أنا ممتن لك. وسأرد لك الصنيع. ماذا عنك؟»
تحدث البروفيسور ببطء. بدأ حديثه قائلا: «لم أخض مسيرة مهنية مفعمة بالمغامرة والإثارة كهذه. لم أنفض الغبار الكندي عن قدمي، ولم أحقق أي نجاح كبير. بل تهاديت بخطى بطيئة وكدحت، ولست مهددا بأن أصير ثريا، مع أنني أظن أنني أنفق قليلا كأي رجل. بعد طردك ... أقصد رحيلك عن الأكا...» «لا تشوه اللغة الإنجليزية القديمة الفصحى يا ستيلي. كنت محقا في عبارتك الأولى. فأنا لست حساسا. كنت تقول بعد طردي. أكمل.» «ظننت أنه ربما يكون موضوعا مؤلما. فكما تتذكر، كنت ساخطا للغاية آنذاك، و...» «بالطبع كنت ساخطا، وما زلت. فما حدث كان ظلما شنيعا!» «ظننت أنهم أثبتوا أنك ساعدت في وضع المهر في غرفة المدير.» «أوه بالطبع. هذا ما حدث بالتأكيد. لكن ما أثار استيائي هو تعامل المدير مع الأمر. لقد سمح لهذا الوغد سبينك بقلب الأدلة علينا، وقال سبينك بأنني الذي ابتدعت تلك الحيلة، في حين أن ذلك شرف لا أدعيه. لقد كانت تلك فكرة سبينك، وتقبلتها وشاركت فيها، كما كنت أفعل مع أي مقترح شائن وضيع. وبالطبع صدق المدير فورا أنني المجرم الرئيسي. هل تعرف إن كان سبينك قد أعدم أم لم يعدم حتى الآن؟» «أعتقد أنه رجل أعمال ذو سمعة طيبة جدا في مونتريال ويحظى باحترام كبير.» «ربما كان علي أن أخمن ذلك. حسنا، فلتواصل مراقبة أحوال سبينك المحترم. وإذا لم يفشل يوما ما، ولم يجن أموالا طائلة، فأنا لا أفقه شيئا. ولكن أكمل كلامك. فهذا انحراف عن الموضوع. بالمناسبة، اضغط ذاك الزر الكهربائي. فأنت الأقرب إليه، والجو شديد الحرارة إلى حد يجعل المرء لا يطيق التحرك. شكرا. بعد طردي ...» «بعد رحيلك، حصلت على دبلوم. ودرست لأحد الصفوف الدراسية في الأكاديمية عاما أو اثنين. وبعدئذ، بينما كنت أدرس في أوقات فراغي، حصلت على فرصة للعمل مدرسا في إحدى مدارس اللغويات بالقرب من تورنتو، وكان العامل الرئيسي وراء تلك الفرصة هو توصية من سيادة المدير سكراجمور، حسبما أظن. حصلت على شهادتي بحلول ذلك الوقت. بعد ذلك ...»
سمعا طرقة خفيفة على الباب.
صاح ييتس قائلا: «ادخل! أوه، هذا أنت. أحضر كأسا أخرى من الكوكتيل المثلج المنعش، أتستطيع ذلك؟ وأضفها، كالمشروبات السابقة، إلى حساب البروفيسور رينمارك، الغرفة رقم 518. حسنا، بعد ذلك ...» «بعد ذلك جاء افتتاح كلية يونيفرستي كوليدج في تورنتو. وحالفني الحظ بتعييني فيها. ما زلت هناك، وأظن أنني سأبقى هناك. لا أعرف سوى قلة قليلة من الناس، وآلف الكتب أكثر مما آلف البشر. ومعظم أولئك الذين تشرفت بمعرفتهم أشخاص شديدو الولع بالتعلم والدراسة إما تركوا بصمتهم، أو سيتركونها، في عالم التعلم. لم أحظ مثلك بلقاء قادة سياسيين حكوميين يقودون مصائر إمبراطورية عظيمة.» «كلا؛ دائما ما كنت محظوظا يا ستيلي. من واقع خبرتي، فالرجال الذين يقودون دفة الحكم أكثر انشغالا بجيوبهم، أو تقدمهم السياسي، من المصائر. ومع ذلك، يبدو أن الإمبراطورية تأخذ مجراها غربا. إذن، فقد كان سكراجمور العجوز صديقك، أليس كذلك؟» «بلى، بالفعل.» «حسنا، لقد أهانني منذ بضعة أيام فقط.» «يا للعجب! لا أستطيع أن أتخيل رجلا على قدر كبير من التأدب والثقافة الأكاديمية كسيادة المدير سكراجمور قد يهين أي شخص.» «أنت لا تعرفه كما أعرفه أنا. ما حدث كالآتي: أردت معرفة مكانك لأسباب سأذكرها لاحقا. ظللت أعتصر دماغي، ثم خطر ببالي سكراج العجوز. فكتبت إليه رسالة وأرسلتها في مظروف مدموغ بطابع بريدي ومعنون، كما ينبغي أن يفعل كل من يبادرون بإرسال رسائل من تلقاء أنفسهم. وقد رد علي رسالتي. لكن رده بحوزتي هنا في مكان ما. يجب أن تقرأه بنفسك.»
أخرج ييتس من جيبه الداخلي حزمة من الرسائل، وقلبها بإصبعه سريعا، معلقا عليها بصوت خافت في تلك الأثناء: «أظن أني رددت على تلك. ولكن لا يهم. يا إلهي! ألم أدفع تلك الفاتورة حتى الآن؟ لقد انتهت صلاحية جواز المرور ذلك. يجب أن أحصل على واحد آخر.» ثم ابتسم وتنهد وهو ينظر إلى رسالة مكتوبة بخط يدوي منمق، ولكن بدا واضحا أنه لم يعثر على الورقة التي كان يبحث عنها. «أوه، حسنا، لا بأس. إنها لدي في مكان ما. لقد أعاد إلي المظروف الذي دفعت تكلفة إرساله مقدما، وذكرني بأن طوابع الولايات المتحدة لا تصلح للاستخدام في كندا، وهذا ما كان ينبغي أن أتذكره بالطبع. لكنه لم يدفع ثمن الطوابع الموضوعة على رسالته؛ لذا اضطررت إلى دفع تكلفة مضاعفة. ومع ذلك، فلا أمانع في قبول هذا التصرف إلا باعتباره مؤشرا على خسته. ثم أضاف قائلا إن من بين جميع أفراد دفعتنا، كنت أنت ... أنت! ... الوحيد الذي جعلها مدعاة للفخر. كانت هذه هي الإهانة. فكرة أن يصدر عنه عبارة كتلك بعدما أخبرته بأنني أعمل لدى صحيفة «نيويورك أرجوس»! أظن ذلك مدعاة للفخر للدفعة حقا! أتساءل عما إذا كان قد سمع أي شيء عن براون بعد طرده. من المؤكد أنك تعرف. لا؟ حسنا، لقد صار براون، بمجهوده الشخصي، رئيسا لبنك «ألوم بنك» في نيويورك، ثم خربه وغادر إلى كندا وبحوزته مبلغ صاف قدره نصف مليون. نعم يا سيدي. لقد رأيته في كيبيك منذ أقل من ستة أشهر. لديه أرقى حصانين وعربة في المدينة، ويعيش في قصر. يستطيع أن يشتري ألف رجل مثل سكراجمور العجوز دون أن يؤثر ذلك في أمواله أبدا. إنه أكثر المتبرعين لقضية التعليم سخاء في كندا. يقول إن التعليم هو الذي صنعه، وإنه ليس الرجل الذي يخذل التعليم حين يحتاج إليه. ومع ذلك، يأتي سكراجمور بكل وقاحة ويقول إنك الرجل الوحيد في الدفعة الذي يجعلها مدعاة للفخر!»
ابتسم البروفيسور بهدوء، بينما ارتشف الصحفي المنفعل رشفة مهدئة من الكوكتيل المثلج. «أصغ إلي يا ييتس، آراء الأشخاص تختلف. قد لا يكون رجل مثل براون مثاليا من وجهة نظر سيادة المدير سكراجمور. ربما يتبنى المدير معايير محدودة منغلقة للنموذج المثالي للرجل الناجح، أو الشخص الذي يجعل تدريسه مدعاة للفخر.» «محدودة؟ إنها كذلك بكل تأكيد. أراها محدودة إلى حد لعين يجاوز المدى. سيكون مفيدا لذلك الرجل أن يعيش في نيويورك عاما. لكني سأرد الإهانة له. سأكتب عنه مقالة. سأخصص له عمودا ونصفا، وسترى بنفسك. سأحصل على صورته وأنشر رسمة لوجهه في الصحيفة. ولو لم يجعله ذلك يرتعد خوفا، فهو إذن مخلوق عديم الحس. قل لي، أليس معك صورة لسكراج العجوز تستطيع أن تقرضني إياها؟» «معي، لكني لن أقرضها لك لهذا الغرض. على أي حال، لا تشغل بالك بالمدير. أخبرني بخططك. أنا تحت أمرك لأسبوعين، أو أكثر إذا اقتضت الحاجة.» «ولد مطيع! حسنا، سأخبرك بحقيقة الأمر. أريد الراحة والهدوء والاستجمام في الغابة، أسبوعا أو اثنين. هكذا أخذت الإجازة: كنت أعمل بجد على قدم وساق بلا انقطاع، باستثناء مدة قصيرة قضيتها في المستشفى، وهذه لا تعد إجازة بمعنى الكلمة، كما ستوافقني الرأي في ذلك. فالعمل يثير اهتمامي، ودائما ما أكون في معتركه. هكذا تسير الأمور الآن في مجال العمل الصحفي: رئيسك لن يقترح عليك أبدا أن تأخذ إجازة. فعادة ما يكون لديه نقص في الموظفين وكم هائل من المهام التي يجب إنجازها؛ لذا إن لم تلح عليه ليمنحك إجازة، فلن يكترث بذلك إطلاقا. بل دائما ما يكون قانعا بترك الوضع على حاله. ثم دائما ما يكون معك في العمل شخص يريد إجازة لمسألة ملحة، كجنازة جدته وأشياء من هذا القبيل؛ لذا إن رضي أحد الزملاء بالعمل دائما بلا انقطاع، فسيرضى رئيسه تماما بتركه على هذه الحال. هكذا سارت الأمور معي العمل طوال سنوات. منذ بضعة أسابيع، ذهبت إلى واشنطن لإجراء حوار صحفي مع أحد أعضاء مجلس الشيوخ عن الآفاق السياسية. بإمكاني أن أخبرك يا ستيلي، دون تفاخر، أن هناك بعض الأشخاص المهمين في الولايات المتحدة لا يستطيع أحد سواي إجراء حوار صحفي معهم. ومع ذلك، يقول سكراج العجوز إنني لست مصدر فخر لدفعته! عجبا، لقد أرسلت توقعاتي السياسية تلغرافيا إلى جميع أنحاء البلاد في العام الماضي، وتظهر في الصحافة الأوروبية منذ ذلك الحين. أليس هذا مدعاة للفخر! برب السماء، لكم أود أن أواجه سكراج العجوز في حلبة ملاكمة مرتديا قفازين رقيقين لنحو عشر دقائق!» «لا أظن أنه سيؤدي أداء رائعا في ظروف كهذه. ولكن دعك منه. لقد تحدث، في تلك المرة فقط، دون ترو، وربما طغت عليه ذكريات مبالغ فيها لتصرفاتك المزعجة أيام الدراسة. ماذا حدث حين ذهبت إلى واشنطن؟» «حدث شيء غريب. حين أذن لي بدخول مكتبة عضو مجلس الشيوخ، رأيت رجلا آخر، ظننت أني أعرفه، جالسا هناك. قلت للسيناتور: «سآتي حين تكون وحدك.» فرفع السيناتور ناظريه نحوي متفاجئا، وقال: «أنا وحدي بالفعل.» لم أقل شيئا، لكني مضيت في حواري معه، وكان الرجل الآخر يدون ملاحظات طوال الوقت. لم يعجبني ذلك، لكني لم أقل شيئا؛ لأن السيناتور ليس بالرجل الذي يمكن إغضابه، كما أن عدم إغضاب هؤلاء الرجال هو ما يمكنني من الحصول على المعلومات التي أحصل عليها. حسنا، خرج الرجل الآخر معي، وحين نظرت إليه، رأيت أنه أنا. لم أر ذلك غريبا آنذاك، لكني ظللت أجادل معه طوال الطريق إلى نيويورك، وحاولت أن أبين له أنه لا يعاملني بإنصاف. كتبت نص الحوار، مع تدخل من ذلك الرجل الآخر طوال الوقت؛ لذا تنازلت وكتبت نصف الموضوع باقتراحاته، والنصف الآخر بما أردته أنا. وحين تفحص المحرر السياسي الموضوع، بدا منزعجا. أخبرته بصراحة بما واجهته من تدخل في كتابته، لكنه مع ذلك ظل منزعجا بعدما أنهيت كلامي. وفي الحال أرسل في استدعاء طبيب. تفحص الطبيب كل جزء مني، ثم قال لرئيسي: «كل ما في الأمر أن هذا الرجل قد أثقل للغاية بالعمل. يجب أن يحصل على إجازة، وإجازة حقيقية، لا ينشغل فيها بأي شيء إطلاقا، وإلا سينهار، وسيحدث ذلك بغتة على نحو سيفاجئ الجميع.» ما أدهشني أن الرئيس قد وافق دون تذمر، بل ووبخني على أنني لم آخذ إجازة قبل ذلك. ثم قال لي الطبيب: «فلتحظ في إجازتك برفيق، وليكن رجلا بلا عقل، إن أمكن، لن يناقش السياسة، وليس له رأي في أي شيء قد يهتم أي رجل عاقل بالحديث عنه، ولا يستطيع أن يقول أي شيء ذكي حتى لو ظل عاما كاملا يحاول فعل ذلك. فلتحظ برجل كهذا وتذهب معه إلى الغابة في مكان ما. شمالا في ولاية مين أو في كندا. بعيدا قدر المستطاع عن مكاتب البريد ومكاتب التلغراف. وبالمناسبة، لا تترك عنوانك في مكتب صحيفة «أرجوس».» وهكذا تصادف أن خطرت ببالي فورا يا ستيلي، حين وصف الطبيب ذاك الرجل بمثل هذا التصوير المفصل.»
قال البروفيسور بشبح ابتسامة لاحت على وجهه: «لا شك أني في غاية السعادة لأنك تذكرتني فورا من أجل مسألة كهذه، وإذا كان بوسعي خدمتك، فسأسعد بذلك جدا. أفترض إذن أنك لا تعتزم المكوث في بافالو؟» «لا أعتزم ذلك بكل تأكيد. بل سأتوجه إلى الغابة البدائية، حيث أشجار الصنوبر والشوكران ذات الحفيف، الملتحية من أسفلها باللونين الطحلبي والأخضر في ال... نسيت بقية القصيدة. أريد أن أتوقف عن الاستلقاء على ورق الصحف، وأستلقي على ظهري على المروج أو في حضن أرجوحة شبكية. سأتجنب كل الأنزال أو المنتجعات الصيفية المبهجة، وأستمتع بهدوء الغابة.» «لا بد أن ثمة بعض الأماكن الجميلة على شاطئ البحيرة.» «لا يا سيدي. لا أريد شاطئ بحيرة. سيذكرني بقضبان السكك الحديدية في ليك شور حين كان هادئا، وبشاطئ لونج برانش حين كان وعرا. لا يا سيدي، الغابة ثم الغابة ولا شيء سواها. لقد استأجرت خيمة والعديد من أدوات الطهي. سآخذ تلك الخيمة إلى كندا غدا، وبعد ذلك أقترح أن نستأجر رجلا ذا عربة بحصانين لينقلها إلى مكان ما في الغابة، على بعد خمسة عشر أو عشرين ميلا. يجب أن نكون على مقربة من بيت ريفي، كي نستطيع الحصول على منتجات طازجة من زبد وحليب وبيض. صحيح أن هذا سوف يعكر صفو الإجازة بالطبع، لكني سأحاول الاقتراب من شخص لم يسمع قط عن نيويورك.» «قد تواجه بعض الصعوبة في تحقيق ذلك.» «لا أعرف. أعلق آمالا كبيرة على قلة الذكاء لدى الكنديين.»
قال البروفيسور ببطء: «غالبا ما يكون أضيق الناس أفقا وثقافة هم أولئك الذين يظنون أنفسهم الأكثر إلماما بالثقافات المختلفة.»
صاح ييتس، بعدما قلب ذلك التعليق في ذهنه قليلا ورأى أن لا شيء فيه ينطبق عليه، قائلا: «أنت محق. حسنا، لقد خزنت حوالي نصف طن من التبغ، واشتريت جرة فارغة.» «فارغة؟» «نعم. فمن بين الأشياء القليلة التي تستحق الاقتناء لدى الكنديين الويسكي الفاخر. وإلى جانب ذلك، فالجرة الفارغة ستوفر علينا العناء في الجمارك. لا أظن أن ويسكي الجاودار المقطر الكندي سيكون جيدا كنظيره في كنتاكي، لكننا سنضطر، نحن الاثنان، أن نتعايش معه لبعض الوقت. وبمناسبة الحديث عن الويسكي، فلتضغط الزر مرة أخرى.»
ضغط البروفيسور على الزر قائلا: «أعتقد أن الطبيب لم يذكر أي تعليق عن الإقلال من شرب الخمر أو التدخين، أليس كذلك؟» «في حالتي؟ حسنا، تذكرت الآن أننا تحاورنا بشأن هذا الموضوع. لا أتذكر حاليا ما أسفر عنه حوارنا في النهاية، لكن الأطباء كلهم لديهم بدعهم التافهة كما تعرف. ليس من المستحسن أن تجاريهم أكثر مما ينبغي. أيها الصبي، ها أنت ذا مجددا. حسنا، البروفيسور يريد شرابا آخر. فلتحضر شراب جن فوارا هذه المرة، وضع الكثير من الثلج، ولكن لا تغفل عن إضافة الجن إلى الحساب. بكل تأكيد، أضفه إلى حساب الغرفة رقم 518.»
الفصل الثالث
سأل ضابط الجمارك القوي البنيان ذو الوجه المحمر بعض الشيء عند المعبر الحدودي في مدينة فورت إيري: «ما كل هذه المعدات؟»
قال ييتس: «هذه خيمة، مع أعمدة وأوتاد تخص الشيء المذكور سلفا. وهذا عدد من عبوات التبغ، التي سأضطر بالتأكيد إلى دفع رسوم عليها إلى خزانة جلالة الملكة. وتلك جرة لحمل السوائل. وأستأذنك أن ألفت انتباهك إلى حقيقة أنها فارغة حاليا، ما يمنعني مع الأسف من سكب بعض الخمر قربانا للصحبة الكريمة. أما بخصوص ما يحمله صديقي في هذه الحقيبة، فلا أعرف، لكني أشك أنها بعض معدات لعب القمار، وأنصحك بتفتيشه.»
قال البروفيسور فاتحا قبضته: «معظم محتويات حقيبتي كتب وبعض الملابس.»
نظر ضابط الجمارك بارتياب إلى مجموعة المعدات كلها، وكان واضحا أنه لم يستحسن لهجة الأمريكي. فقد بدا أنه يعامل إدارة الجمارك باستخفاف ولا مبالاة، وكان الضابط شديد التقديس لكرامة منصبه إلى حد أعجزه عن كبح استيائه من التهكم عليه. وفوق ذلك، كانت ثمة شائعات عن غزو فينياني وشيك، وقرر الضابط أنه ينبغي ألا يدخل أي فينياني البلاد دون أن يدفع الرسوم الجمركية. «إلى أين أنت ذاهب بهذه الخيمة؟» «أنا واثق من أنني لا أعرف. ربما تستطيع أنت أن تخبرنا. لا أعرف البلد هنا. أصغ إلي يا ستيلي، أنا ذاهب إلى الجزء الشمالي من البلدة لأتدبر أمر فراغ تلك الجرة الحجرية. فأنا نفسي أكون فارغا في كثير من الأحيان إلى حد يجعلني أتعاطف مع حالتها. ولتنخرط أنت في مناقشة مسألة الخيمة. فأنت تعرف طرائق أهل هذا البلد، بينما أنا لا أعرفها.»
وربما أحسن ييتس صنعا بأن ترك زمام التفاوض في يد صديقه. فقد كان سريع البديهة كفاية ليرى أنه لم يحرز تقدما في تفاوضه مع الضابط، بل العكس تماما. فوضع الجرة على كتفه في تباه واستعراض ما تسبب في إزعاج واضح للبروفيسور، وسار إلى أعلى التلة صوب أقرب حانة، مصفرا لحنا حربيا راج مؤخرا.
قال للنادل وهو يضع الجرة برفق على منضدة الحانة: «أنت، املأ هذه حتى فوهتها بأفخر ما لديك من ويسكي الجاودار. املأها بعصير الحياة كما قال الشاعر الراحل عمر الخيام.»
فعل النادل ما طلبه منه. «هل تستطيع أن تموه القليل من ذاك السائل بأي طريقة، كي يتسنى شربه دون أن يشك شخص في ماهية ما يتجرعه؟»
ابتسم النادل قائلا: «إلى أي مدى قد يلبي مزجه مع مشروبات أخرى ذلك الغرض؟»
أجاب ييتس قائلا: «لا أستطيع اقتراح شيء أفضل من ذلك. إن كنت واثقا من أنك تعرف كيفية صنعه.»
لم يمتعض الرجل من هذا الاتهام بالجهل. واكتفى بالرد بنبرة شخص ينطق بإجابة لا تقبل الجدل، قائلا: «أنا من كنتاكي.»
صاح ييتس باقتضاب بينما يمد يده عبر المنضدة: «فلتصافحني! ماذا جاء بك إلى هنا؟» «حسنا، وقعت في مأزق صغير في لويسفيل، وها أنا هنا، حيث أستطيع على الأقل أن أنظر إلى بلد الرب المختار.»
احتج ييتس قائلا: «مهلا! أنت تعد قدحا واحدا فقط من المزيج .»
أجاب الرجل وقد توقف عن تركيب الشراب: «ألم تقل واحدا؟» «فليباركك الرب، لم أر في حياتي أحدا يعد قدحا واحدا من الكوكتيل. وأظنك تتفق معي في هذا.»
رد الآخر وهو يعد ما يكفي لشخصين: «أتفق معك تماما.»
أسر ييتس إلى الآخر قائلا: «الآن سأخبرك بمأزقي. لدي خيمة وبعض معدات التخييم بالأسفل هنا في كوخ الجمارك، وأريد نقلها إلى الغابة، حيث أستطيع التخييم برفقة صديق. أريد مكانا نستطيع أن نحظى فيه براحة مطلقة وهدوء تام. هل تعرف شعاب البلد هنا؟ ربما تستطيع أن ترشح لنا مكانا مناسبا.» «حسنا، طوال الوقت الذي أمضيته هنا، لم أعرف سوى أقل القليل عن المناطق النائية من البلاد. لقد سرت على الطريق المؤدي إلى شلالات نياجرا، لكني لم أتوغل في أعماق الغابة قط. أظنك تريد مكانا بجوار البحيرة أو النهر؟» «كلا، لا أريد. بل أريد أن أتوغل في أعماق الغابة، إن كانت توجد غابة.» «حسنا، يوجد اليوم رجل هنا أتى من مكان ما بالقرب من ريدجواي، على ما أظن. معه عربة خشبية شبكية لحمل التبن، وتلك بالضبط هي ما تحتاج إليه لحمل خيمتك وأعمدتك. صحيح أنها لن تمنحكما رحلة مريحة للغاية على متنها، لكنها ستكون مناسبة تماما لحمل الخيمة، إذا كانت كبيرة.» «ستناسبنا تماما. لا نكترث إطلاقا بالراحة. بل أتينا من أجل المشقة. أين سأجد ذلك الرجل؟» «سيكون هنا قريبا. ها هما حصاناه مربوطان هناك عند الشارع الجانبي. إذا تصادف أنه في مزاج جيد، فسينقل أغراضك، بل ومن المرجح أن يمنحك مكانا لتخيم فيه في الغابة القريبة من بيته. اسمه هيرام بارتليت. وها هو ذا، كأننا كنا نتحدث عن الشيطان نفسه. أيا سيد بارتليت، كان هذا السيد يتساءل عما إذا كان بوسعك أن تحمل بعض أغراضه. إنه ذاهب في طريقك.»
كان بارتليت نموذجا فظا نحيلا صلب العضلات بعض الشيء للمزارع الكندي الذي بدا واضحا أنه لم يكن يعير مسألة الملبس اهتماما كبيرا. لم يقل شيئا، لكنه نظر إلى ييتس باكفهرار واستخفاف، ونظرات تحمل قدرا من الازدراء والريبة.
كان ييتس يملك وصفة واحدة لإقامة تعارف مع البشر كلهم. قال بابتهاج: «تعال يا سيد بارتليت وجرب مزيجا من هذين المزيجين الممتازين اللذين أعدهما صديقي.»
صاح بارتليت مزمجرا بفظاظة، مع أنه دخل الحانة بالفعل عبر بابها الذي كان مفتوحا: «أشرب الويسكي صافيا. لا أريد إضافات أمريكية في شرابي. الويسكي العادي جيد كفاية لأي رجل، إن كان رجلا حقا. ولا أشربه ممزوجا بالماء أيضا. لدي ما يكفي من المشكلات.»
غمز النادل بعينه لييتس بينما كان يدفع إناء الويسكي نحو الوافد الجديد.
فصدق ييتس على كلامه بحرارة قائلا: «أنت محق.»
لم يذب جمود المزارع قيد أنملة بذلك التصديق السريع على كلامه، لكنه ارتشف من كأسه متجهما، كأنه يحوي دواء كريها للغاية.
ثم قال أخيرا: «ما الذي أردت مني نقله؟». «صديق وخيمة، وجرة من الويسكي، والكثير من التبغ الفاخر للغاية.» «كم ستدفع؟» «أوه، لا أعرف. أنا مستعد دائما لفعل الصواب. ما رأيك في خمسة دولارات؟»
عبس المزارع وهز رأسه.
قال بينما كان ييتس على وشك أن يعرض المزيد: «هذا أكثر من اللازم. لا يستحق الأمر كل هذا. قد يكون دولاران ونصف هو السعر المناسب. لا أعرف، لكن هذا أكثر من اللازم. سأفكر في ذلك أثناء عودتي إلى المنزل، وسآخذ منك الثمن المستحق. سأكون جاهزا للمغادرة في غضون ساعة تقريبا، إن كان ذلك يناسبك. ها هما حصاناي على الجانب الآخر من الطريق. إذا وجدتهما قد رحلا حين تعود، فهذا يعني أني أيضا قد رحلت، وسيتعين عليك الاستعانة بشخص آخر.»
ثم سحب بارتليت كم معطفه على فمه وغادر.
قال النادل: «هذا هو بالضبط. إنه أشرس شخص نزق في البلدة. أصغ إلي، دعني أسدي إليك نصيحة بسيطة. إذ طرح موضوع عام 1812 - أي الحرب كما تعلم - فمن الأفضل أن تقر بأننا هزمنا هزيمة نكراء؛ هذا إن كنت تريد الانسجام مع هيرام. فهو يكره الأمريكيين كراهية السم.»
سأله ييتس الذي كان أدرى بالموضوعات الحالية من تاريخ الماضي: «وهل هزمنا هزيمة نكراء في عام 1812؟». «لا أعرف. هيرام يقول ذلك. أخبرته ذات مرة بأننا أخذنا ما أردناه من إنجلترا القديمة، فكاد يجرجرني نحوه من فوق منضدة الحانة. لذا أعطيك هذا التحذير، إن أردت الانسجام معه.» «شكرا لك. سأتذكر ذلك. إلى اللقاء.»
تعطي هذه الملاحظة الودودة التي ذكرها نادل الحانة مفتاحا لحل لغز نجاح ييتس في العمل الصحفي في نيويورك. فقد كان يستطيع معرفة الأخبار حين لا يقدر أي رجل آخر على ذلك. وبقدر ما كان صفيقا وسطحيا بلا شك، لكنه كان يستطيع بطريقة ما أن يدخل أعماق كل صنوف الرجال وينال ثقتهم بطريقة جعلتهم يعطونه معلومات عن أي شيء يحدث لمجرد أنهم يحبونه، وهكذا كثيرا ما نال ييتس مساعدة قيمة من معارفه لم يستطع المراسلون الآخرون نيلها بالمال.
وجد النيويوركي صديقه البروفيسور جالسا على دكة بجوار إدارة الجمارك، يتسامر مع الضابط ويحدق إلى النهر الأزرق العريض السريع الجريان أمامهما.
قال ييتس: «لدي رجل، سيأخذنا إلى البرية في غضون ساعة تقريبا. أعتقد أننا سنستكشف البلدة. لا أظن أن أحدا سيهرب بالخيمة ريثما نعود.»
قال الضابط: «سأتولى ذلك الأمر.» فشكره الصديقان وراحا يتمشيان بخطوات متمهلة في الشارع. تأخرا قليلا في العودة، وحين وصلا إلى الحانة، وجدا بارتليت على وشك العودة بالعربة إلى بيته. وافق بفظاظة على أخذهما في طريقه، شريطة ألا يؤخراه أكثر من خمس دقائق في تحميل العربة بمعداتهما. وضعت الخيمة ومتعلقاتها بسرعة على عربة التبن، ثم قاد بارتليت العربة إلى الحانة وانتظر دون أن يقول شيئا، مع أنه كان متعجلا قبل بضع لحظات. لم يرغب ييتس في سؤاله عن سبب الانتظار؛ لذا جلس الثلاثة هناك في صمت تام. وبعد بعض الوقت، سأله ييتس بكل ما لديه من لطف: «هل تنتظر أحدا يا سيد بارتليت؟»
أجاب السائق بنبرة فظة غليظة: «نعم، أنتظر أن تدخل وتحضر هذه الجرة. فلا أظن أنك ملأتها لتتركها على منضدة الحانة.»
صاح ييتس وهو يهب واقفا: «يا إلهي! لقد نسيتها تماما، ما يبين التأثير الاستثنائي الذي تركه هذا البلد علي بالفعل.» عبس البروفيسور، لكن ييتس خرج من الحانة مبتهجا وهو حاملا الجرة في يده، وانطلق بارتليت بحصانيه. خرجوا من القرية وصعدوا تلة منخفضة، سائرين حوالي ميل أو اثنين عبر طريق مستقيم رملي بعض الشيء. ثم انعطفوا إلى طريق ريدج رود، كما أسماه بارتليت ردا على سؤال من البروفيسور، ولم يكن ثمة داع إلى السؤال عن سبب تسميته بذاك الاسم. فقد كان طريقا رئيسيا جيدا، لكنه كان صخريا بعض الشيء، حتى إن بعض أجزاء سطحه كانت صخرية تماما. لم يكن الطريق يعترف إطلاقا بتعريف إقليدس للخط المستقيم، وكان ذلك تغييرا مستحسنا بعض الشيء عن الطرق الأمريكية العادية. أحيانا كانوا يمرون عبر طرق محاطة بأشجار كثيفة الغصون كان من الواضح أنها آثار باقية من الغابة التي كانت تغطي المنطقة كلها في الماضي. وكان الطريق ممتدا على طول قمة سلسلة التلال الصخرية الناتئة، وكثيرا ما يرون على كلا جانبيه مناظر شاسعة خلابة لمناطق ريفية منخفضة. وعلى طول الطريق، كانت تقع بيوت ريفية مريحة، وبدا جليا أن مجتمعا مزدهرا قد تنامى على طول التلال.
لم يتكلم بارتليت سوى مرة واحدة، وكان حديثه موجها للبروفيسور الذي كان جالسا بجواره. «أأنت كندي؟» «نعم.» «ومن أين هو؟»
أجاب البروفيسور البريء قائلا: «صديقي من نيويورك.»
نخر بارتليت بعبوس أشد من أي وقت مضى، قائلا: «أف!» ثم عاد إلى صمته مجددا. لم يكن الحصانان يسيران بسرعة كبيرة، مع أن الحمولة لم تكن ثقيلة والطريق لم يكن مزدحما. كان بارتليت يتمتم لنفسه كثيرا، وبين الحين والآخر يهوي بسوطه بوحشية على أحد الحصانين أو الآخر، ولكن حالما كان الحيوانان التعيسان يسرعان من وتيرتيهما، كان يشد لجامهما إلى الوراء بقسوة. ومع ذلك، كانوا يسيرون بسرعة كافية ليتجاوزوا شابة كانت تمشي وحدها. ومع أنها سمعتهم بالتأكيد وهم يقتربون منها على الطريق الصخري، لم تلتفت، بل كانت تسير بخطى طليقة وثابة يخطوها امرؤ ليس معتادا السير فحسب، بل يحبه أيضا. لم يكترث بارتليت بالفتاة، فيما كان البروفيسور يحاول جاهدا أن يقرأ كتابه الرقيق بمشقة كبيرة كتلك التي قد يواجهها أي رجل يحاول القراءة وهو يتعرض لهزات قوية متكررة، لكن ييتس، حالما أدرك أن تلك السائرة كانت شابة صغيرة، رفع ياقته وعدل رابطة عنقه بعناية، وجعل قبعته في وضعية أكثر أناقة وجاذبية بعض الشيء.
قال لبارتليت: «ألن تعرض على الفتاة توصيلها؟» «نعم، لن أعرض.»
فأضاف ييتس ناسيا التحذير الذي تلقاه من النادل: «أظن ذلك تصرفا غير مهذب بعض الشيء.» «أتظن ذلك حقا، هاه؟ حسنا، فلتعرض عليها أنت توصيلها. فأنت قد استأجرت الحصانين.»
قال ييتس، واضعا يده على قفص العربة من الخارج وقافزا على الأرض بخفة: «بحق الرب! سأفعل.»
قال بارتليت للبروفيسور مزمجرا: «من المرجح أنها ستوافق على الركوب مع واحد مثله.»
نظر البروفيسور لحظة إلى ييتس الذي كان يرفع قبعته بتأدب للشابة التي بدت مشدوهة، لكنه لم يقل شيئا.
أضاف بارتليت جامعا أربطة لجام الحصانين في يديه: «مستعد ألا آخذ أي مال نظير أن أضرب الحصانين بالسوط وأتركه يكمل بقية الطريق على قدميه.»
رد البروفيسور ببطء قائلا: «من واقع ما أعرفه عن صديقي، أظنه لن يمانع ذلك إطلاقا.»
تمتم بارتليت بشيء ما لنفسه، وبدا أنه غير رأيه بشأن الركض بحصانيه.
وفي هذه الأثناء، كما قيل سلفا، خلع ييتس قبعته بتأدب كبير للسائرة الشقراء، وبينما كان يفعل ذلك، لاحظ بقشعريرة إعجاب سرت في جسده أنها جميلة جدا. فطالما كان ييتس ذا عين متمرسة في ملاحظة الجمال.
استهل الكلام معها قائلا: «صحيح أن مركبتنا ربما لا تكون مريحة، لكني سأسعد جدا إذا قبلت ضيافتها.»
نظرت إليه الشابة نظرة خاطفة بعينيها الداكنتين، وخشي ييتس للحظة أن يكون قد استخدم ألفاظا أرقى من استيعابها الريفي البسيط، ولكن قبل أن يعدل عبارته، أجابت بإيجاز: «شكرا لك. أفضل المشي.» «حسنا، لا أستطيع القول إنني ألومك على ذلك. هل لي أن أسألك عما إذا كنت قد قطعت كل هذا الطريق من القرية؟» «نعم.» «تلك مسافة طويلة، ولا شك أنك متعبة جدا.» لم ترد الفتاة؛ لذا واصل ييتس كلامه قائلا: «أو على الأقل ظننتها مسافة طويلة، لكن ذلك ربما لأنني كنت راكبا على متن عربة بارتليت لنقل التبن. لا يوجد «سرير مريح ناعم» في عربته.»
وبينما كان يتحدث عن العربة، نظر إليها ثم مشى بخطوات واسعة إلى جوارها وقال بصوت هامس مبحوح للبروفيسور: «ستيلي، غط هذه الجرة بأحد ستاري الخيمة القماشيين.»
رد الآخر باقتضاب: «غطها بنفسك. إنها ليست جرتي.»
مد ييتس يده عبر العربة، وبحركة عابرة كأنه غير قاصد، ألقى بستار الخيمة القماشي فوق الجرة التي كانت واضحة للغاية. وليبرر حركته، أخذ عصا سيره من على العربة، واستدار نحو الفتاة التي عرفها منذ لحظات. كان سعيدا برؤيتها تسير متلكأة خلف العربة بمسافة ما، وسرعان ما انضم إليها مجددا. أسرعت الفتاة، التي كانت تنظر إلى الأمام مباشرة، وتيرة مشيتها آنذاك وسرعان ما قصرت المسافة بينها وبين العربة. قرر ييتس، بسرعة بديهته المميزة له، أن هذه إحدى حالات استحياء أهل الريف، وأن أفضل وسيلة لمواجهتها هو النزول بحديثه إلى مستوى ذكاء المستمعة.
سألها: «أكنت في السوق؟». «نعم.» «من أجل الزبد والبيض وما شابه؟»
أجابت قائلة: «نحن مزارعون، ونبيع الزبد والبيض» - ثم صمتت - «وما شابه.»
ضحك ييتس ضحكته المرحة المبتهجة. وبينما كان يلف عصاه، نظر إلى رفيقته الحسناء. كانت تحدق بقلق إلى الأمام نحو منعطف في الطريق. وكان وجهها الجميل متوردا قليلا، بسبب مجهود المشي بالتأكيد.
فأضاف النيويوركي: «والآن أصغي إلي، في بلدي، نقدس نساءنا. الفتيات الجميلات لا يقطعن مسافات طويلة شاقة على أقدامهن إلى السوق بالزبد والبيض.» «أليست الفتيات جميلات في بلدك؟»
قال ييتس في قرارة ذهنه إن تلك الفتاة ليست ريفية الطباع إلى الحد الذي ظنه في البداية. كانت المحادثة تتسم بطابع من اللذوعة الممتعة نال استحسانه. لكنه لم يكن متيقنا مما إذا كانت الفتاة تشاطره متعته أم لا؛ إذ لاحظ خطا طفيفا من الاستياء على جبينها الناعم. «إنهن جميلات بالطبع! أظن أن كل الفتيات الأمريكيات جميلات. يبدو أن ذلك حق يكتسبنه منذ الولادة. وحين أقول الأمريكيات، فأنا أقصد فتيات القارة كلها بالطبع. أنا شخصيا من الولايات المتحدة، من نيويورك .» ولف عصاه لفة أخرى وهو يقول ذلك، وتصرف بذلك السلوك المتعالي المتعمد الذي لا يتجزأ من طبيعة مواطني المدن الكبرى. «ولكن في الولايات المتحدة، نؤمن بأن الرجال ينبغي أن يؤدوا العمل كله، وأن النساء ينبغي أن ... حسنا، يستمتعن بإنفاق الأموال. ويجب أن أوفي نساءنا حقهن بالقول إنهن يلتزمن التزاما تاما بنصيبهن من تلك القسمة.» «إذن لا بد أنها بلد ممتع للنساء ليعشن فيه.» «كلهن يقلن ذلك. لقد اعتدنا لدينا قولا مأثورا مفاده أن أمريكا كانت جنة للنساء، ومطهرا من الآثام للرجال، و... حسنا، مكانا مختلفا تماما للثيران.»
لم يكن ثمة شك في أن ييتس عادة ما كان ينسجم مع الناس. وبينما كان ينظر إلى رفيقته، ابتهج حين لاحظ طيفا طفيفا للغاية من الابتسامة يداعب شفتيها. وقبل أن تستطيع الرد عليه، إن كانت تعتزم الرد أصلا، سمع صوت قعقعة حوافر سريعة على الطريق الوعر أمامهما، وبعدها مباشرة جاءت عربة فخمة ذات حصانين، كانت أسلاك عجلاتها الرفيعة المصقولة السوداء كالفحم تلمع وتتلألأ في ضوء الشمس، مسرعة متخطية عربة بارتليت. وحين رأى سائق تلك العربة المسرعة الاثنين يتمشيان معا، شد اللجام متوقفا وقفة مفاجئة كان من الواضح أنها لم تسر حصانيه الجامحين المرقطين.
صاح قائلا: «مرحبا مارجريت! هل تأخرت عليك؟ هل قطعت الطريق كله سيرا؟»
أجابت الفتاة دون أن تنظر نحو ييتس، الذي وقف يلف عصاه بلا هدف: «بل جئت في الوقت المناسب تماما.» وضعت الفتاة الشابة قدمها على دواسة الارتقاء إلى العربة ووثبت بخفة إلى جوار السائق. كان جليا من النظرة الأولى أن ذلك السائق كان شقيقها، ليس فقط بسبب التشابه الأسري بينهما، بل أيضا لأنه تركها تركب العربة دون أن يعرض عليها أدنى مساعدة، والتي لم يكن ثمة حاجة إليها في الواقع، ولأنه سمح لها بلطف بأن تضع طرف المعطف الواقي من الغبار الذي كان يغطي ركبتيه على حجرها كذلك. هرول الحصانان المتململان خببا على الطريق لبضع قصبات، حتى وصلا إلى مكان واسع من الطريق العام، ثم دارا فجأة في الاتجاه المعاكس، وبدا أنهما كادا يقلبان العربة، لكن الشاب بدا على دراية تامة بعمله، وثبتهما بقبضة متينة. كانت عربة الشاب تسير ببطء حيث كان الطريق ضيقا جدا، فيما توقف بارتليت بحصانيه في بلادة في منتصف الطريق أمامها.
صاح الشاب الذي يقود العربة: «أيا بارتليت! الزم أحد جانبي الطريق، كما تعرف؛ أحد جانبي الطريق.»
صاح بارتليت من فوق كتفه: «اصبر.» «دعك من هذا الهراء يا بارتليت، أفسح الطريق وإلا سأصدمك.» «فلتجرب ذلك إذن.»
إما أن بارتليت لم يكن لديه حس فكاهي، أو أن استياءه من جاره الشاب خنق ذلك الحس داخله، وإلا كان سيدرك أن عربة ثقيلة كعربته لم تكن مهددة تماما بأن تصدمها عربة خفيفة غالية كعربة الشاب. كظم الشاب غضبه على نحو رائع، لكنه كان يعلم تماما أين يلمس الوتر الحساس لدى الرجل العجوز. وضعت أخته يدها على ذراعه بأسلوب استعطافي. فابتسم دون أن يلتفت إليها. «دعك من هذا الهراء، أفسح الطريق وإلا سأبلغ عنك الشرطة.»
صاح بارتليت غاضبا: «الشرطة! فلتجرب ذلك إذن أيها المخادع.» «ظننتك قد اكتفيت من ذلك الآن.»
اعترضت الفتاة بضيق شديد قائلة: «إياك، إياك يا هنري!».
صاح بارتليت: «لا قانون في الدنيا يستطيع أن يجعل رجلا ذا حمولة يفسح الطريق لأي سبب.» «ليس معك أي حمولة، إلا إذا كانت في هذه الجرة.»
وهنا ذعر ييتس عندما رأى أن الجرة قد اهتزت حتى خرجت من تحت غطائها، لكن عزاءه هو أن راكبي العربة كانا يعتقدان أنها تخص بارتليت. ومع ذلك، رأى أن إصرار بارتليت العنيد على منعهما من شيء لا يفيده قد جاوز المدى. فخطا بسرعة إلى الأمام، وقال لبارليت: «من الأفضل أن تتنحى جانبا قليلا، وتتركهما يمران.»
صاح المزارع الغاضب للغاية: «ابق في حالك، ولا تتدخل.»
قال ييتس باقتضاب وهو يهرول نحو رأسي الحصانين: «سأفعل.» ثم شدهما من لجاميهما، وبالرغم من السباب الذي تفوه به بارليت في تلك الأثناء ومحاولته شد أربطة اللجامين، فقد سحبهما ييتس جانبا حتى مرت العربة.
صاح الشاب قائلا: «شكرا لك!» وانطلقت العربة الخفيفة المتلألئة على طريق ريدج رود وسرعان ما اختفت عن الأنظار.
ظل بارتليت متوقفا هناك للحظة مجسدا الغضب المتحير. ثم رمى زمام اللجامين على ظهري حصانيه الصبورين، وترجل من العربة. «أشددت حصاني من رأسيهما أيها الأمريكي التافه؟ أفعلت ذلك حقا، هاه؟ تعجبني وقاحتك. تلمس حصاني وأنا أمسك بزمامهما! اسمعني الآن! ستنزل متعلقاتك من عربتي حالا هنا على الطريق. أتسمعني؟» «أي شخص في نطاق ميل من هنا يستطيع سماعك.» «حقا؟ حسنا، ستنزل خيمتك المزعجة من على متن عربتي.» «كلا، لن تنزل.» «لن تنزل حقا؟ حسنا، عليك إذن أن تهزمني في نزال أولا، وهذا شيء لم يفعله من قبل أي أمريكي، ولا يقدر عليه أي أمريكي.» «سأفعل ذلك بكل سرور.»
صاح البروفيسور وهو يترجل من العربة على الطريق: «لا، لا، دعكما من هذا، لقد جاوز الأمر المدى. ابق هادئا يا ييتس. أصغ إلي يا سيد بارتليت، لا تكترث بذلك؛ فهو لا يقصد التقليل منك.»
قال بارتليت: «لا تتدخل. فأنت شخص جيد، وليس لدي أي مشكلة معك. لكني سأبرح ذلك الشاب ضربا حتى يوشك على الموت، وسترى بنفسك. لقد واجهناهم في عام 1812، وضربناهم وسحقناهم، ونستطيع فعل ذلك مجددا. سأعلمك عاقبة أن تشد حصاني من رأسيهما.»
قال ييتس مستفزا إياه: «فلتعلمني.»
وقبل أن يستطيع الدفاع عن نفسه كما ينبغي، انقض بارتليت عليه وقبض عليه من حول خصره. صحيح أن ييتس نفسه كان لديه قدر من مهارات المصارعة، لكن مهارته لم تنفعه بشيء في ذلك النزال. فقد التفت ساق بارتليت اليمنى حول ساقه اليمنى بقبضة فولاذية سرعان ما أقنعت الرجل الأصغر سنا بأنه يجب أن يرضخ لها وإلا ستنكسر إحدى عظامه. لذا رضخ لها، فطرح أرضا على ظهره بصوت ارتطام بدا كأنه زلزل الكون.
صاح المزارع المنتصر: «أرأيت أيها اللعين! هذا ما حدث لكم في عام 1812 ومعركة كوينزتاون هايتس. ما رأيك؟»
نهض ييتس على قدميه بشيء من التأني، وخلع معطفه.
فقال البروفيسور مهدئا إياه: «على رسلك يا ييتس. فلنكتف بهذا القدر.» ثم سأله بلهفة حين لاحظ مدى شحوب الشاب من حول شفتيه: «لم تصب بأذى، أليس كذلك؟» «أصغ إلي يا رينمارك؛ أنت رجل رشيد. يوجد وقت يجوز لك فيه أن تتدخل ووقت لا يجوز فيه ذلك. والآن هو الوقت الذي لا يجوز لك فيه ذلك. يبدو أن هذا الشجار قد اكتسب بعدا دوليا. والآن، فلتقف جانبا كرجل طيب؛ لأنني لا أريد أن أضطر إلى سحقكما معا.»
وقف البروفيسور جانبا؛ لأنه كان يعي أن الوضع يكون جد خطر حين يناديه ييتس باسم عائلته. «والآن، أيها الأحمق العجوز، لعلك ترغب في تجربة ذلك مرة أخرى.» «أستطيع تكرار ذلك عشرات المرات، إذا لم تكن قد اكتفيت. لا يوجد أي أمريكي تربى على فطيرة اليقطين يستطيع الصمود أمام حركة شجرة العنب.» «فلتجرب شجرة العنب مرة أخرى.»
تقدم بارتليت بمزيد من الحذر هذه المرة؛ لأنه لاحظ في عيني الشاب نظرة لم تعجبه تماما. اتخذ وضعية التأهب لإمساك خصمه من أي جزء في جسده، وظل يتحرك بحذر في نصف دائرة حول ييتس، الذي ظل يغير وضعيته ليبقى مواجها لخصمه. وأخيرا، قفز بارتليت إلى الأمام فوجد نفسه في اللحظة التالية مباشرة راقدا على جزء من صخرة أصلية من صخور المنطقة، شاعرا بأن ألف طائر طنان تطن في رأسه، فيما انضمت النجوم إلى المنظر الطبيعي من حوله متراقصة معه. فقد كانت الضربة مباغتة ودقيقة ومباشرة.
قال ييتس وهو يقف فوقه: «هذا ما حدث في عام 1776 - أي الثورة - حين، بحسب عبارتك، واجهناكم وقاتلناكم وسحقناكم. فما رأيك في ذلك؟ والآن، إذا كانت نصيحتي تحمل أي نفع لك، فأنصحك بأن ترى التاريخ من منظور أوسع من ذاك الذي تراه منه. لا تبالغ في حصر نفسك في فترة زمنية واحدة. ادرس قليلا من تاريخ الحرب الثورية.»
لم يرد بارتليت. وبعدما ظل جالسا هناك لبعض الوقت، حتى استعاد المنظر من حوله حالته الطبيعية، نهض على مهل دون أن يتفوه بكلمة واحدة. أخذ الزمام من على ظهري الحصانين، وربت على الحصان الأقرب برفق. ثم ركب في مكانه، وانطلق بالعربة. اتخذ البروفيسور مقعده بجوار السائق، لكن ييتس، بعدما ارتدى معطفه والتقط عصاه، سار أمامهما بخطى واسعة، قاطعا رءوس النباتات الشائكة الكندية بعصاه في أثناء سيره.
الفصل الرابع
ظل بارتليت صامتا لفترة طويلة، ولكن كان من الواضح أنه يفكر في شيء ما؛ إذ كان يناجي نفسه سرا، وظل صوت تمتماته يعلو شيئا فشيئا حتى كسر السكون، ثم ضرب الحصانين بالسوط وشد لجاميهما، وبدأ مناجاة نفسه مرة أخرى. وأخيرا قال فجأة للبروفيسور: «ما تلك الثورة التي تحدث عنها؟» «إنها حرب الاستقلال، التي بدأت في عام 1776.» «لم أسمع بها قط. هل قاتلنا الأمريكيون؟» «قاتلت المستعمرات إنجلترا.» «أي مستعمرات؟» «البلد الذي يسمى الآن الولايات المتحدة.» «قاتلوا إنجلترا حقا، هاه؟ ومن الذي انتصر؟» «نالت المستعمرات استقلالها.» «هذا يعني أنهم هزمونا. لا أصدق أي كلمة مما قاله. كان المفترض أن أسمع بذلك؛ لأنني عشت في هذه المنطقة فترة طويلة.» «كان ذلك قبل زمانك بقليل.» «وكذلك كانت حرب عام 1812، لكن والدي حارب فيها، ولم أسمعه قط يتحدث عن هذه الثورة. أظنه كان من المفترض أن يكون على دراية بها. ثمة حلقة مفقودة أو مبهمة.» «حسنا، كانت إنجلترا مشغولة بعض الشيء بالفرنسيين آنذاك.» «آه، هذا هو الأمر، أليس كذلك؟ أراهن على أن إنجلترا لم تعرف قط أن الثورة كانت جارية إلا حين انتهت. فلم يستطع نابليون الأول أن يهزمهم، وليس من المنطقي أن يكون الأمريكيون قد استطاعوا ذلك. أعتقد أن هذه الحرب شهدت بعض الخيانة والغش. عجبا، لقد احتاج الأمريكيون إلى أربع سنوات كي يهزموا أنفسهم! لدي كتاب في البيت يتحدث بالكامل عن نابليون. لقد كان شخصا عنيدا صعب المراس.»
لم يشعر البروفيسور بأنه مطالب بالدفاع عن شخصية نابليون؛ ومن ثم خيم الصمت عليهما مرة أخرى. بدا بارتليت منزعجا جدا من الخبر الذي سمعه للتو عن الثورة، وكان يزمجر في قرارة نفسه، بينما كان الحصانان يعانيان معاناة أشد من المعتاد من جراء ضربات السوط وشد اللجام الذي دائما ما كان يعقب تلك الضربات. وبينما كان ييتس متقدما عنهما بمسافة ما وكان يمشي مسرعا بتبختر إيقاعي، انعطف الحصانان، من تلقاء نفسيهما كما بدا، ليدخلا من بوابة مفتوحة، وواصلا السير بمشيتهما المتمهلة المعتادة نحو مخزن غلال كبير وراء بيت رحيب ذي هيكل من العوارض الخشبية وشرفة واسعة في مقدمته.
قال بارتليت باقتضاب: «هذا بيتي.»
رد البروفيسور وهو يثب مترجلا من العربة: «ليتك أخبرتني منذ بضع دقائق كي يتسنى لي مناداة صديقي آنذاك.»
قال بارتليت وهو يلقي زمام الحصانين إلى شاب خرج إليه من البيت: «لا أكترث به.»
ركض رينمارك إلى الطريق وصاح بعلو صوته مناديا ييتس البعيد. وكان واضحا أن ييتس لم يسمعه، لكن شيئا ما في البيت التالي جذب انتباه ذلك السائر الهائم، وبعدما وقف للحظة محدقا ناحية الغرب، رأى البروفيسور يلوح له. وحين التقى الرجلان، قال ييتس: «إذن فقد وصلنا، أليس كذلك؟ أصغ إلي يا ستيلي، إنها تعيش في البيت المجاور. رأيت العربة في فنائه.» «تعيش؟ من تقصد؟» «عجبا لك، تلك الفتاة الجميلة التي مررنا بها على الطريق. سأشتري زادنا ومؤننا من ذلك البيت يا ستيلي، إذا لم يكن لديك مانع. بالمناسبة، كيف حال صديقي العجوز الذي يعيش في عام 1812؟» «لا يبدو أنه يضمر أي بغضاء. في الحقيقة، كان انزعاجه بشأن الثورة أشد من انزعاجه بشأن الضربة التي سددتها إليه.» «كانت معلومة جديدة له، هاه؟ حسنا، أنا سعيد بأنني ضربت رأسه بمعلومة جديدة.» «لقد فعلت ذلك بطريقة غير علمية تماما بالتأكيد.» «ماذا تقصد بغير علمية؟» «أقصد تسديد اللكمة. لم أر في حياتي لكمة سفلية مسددة بطريقة أخرق من هذه.»
نظر ييتس إلى صديقه مشدوها. فكيف لهذا الرجل الهادئ المتعلم أن يعرف أي شيء عن اللكمات السفلية أو كيفية تسديد اللكمات؟! «حسنا، ولكن يجب أن تعترف بأنني أصبت الهدف مع ذلك.» «نعم، بالقوة الغاشمة. كان من الممكن لأي مطرقة ثقيلة أيضا أن تفعل ذلك. ولكن كانت لديك فرصة ثمينة لفعل ذلك بإتقان وبراعة، دون أي إظهار للقوة المفرطة، إلى حد أنني ندمت على رؤية فرصة كهذه تهدر.» «يا رباه يا ستيلي، هذا هو البروفيسور في ثوب جديد! ماذا تدرس في جامعة تورنتو على أي حال؟ فن الدفاع النبيل عن النفس؟» «ليس بالضبط، ولكن إذا كنت تنوي التجول في كندا بهذا السلوك العدواني، فأظن أنه سيجدر بك أن تأخذ بعض النصائح مني.» «أظنك ستقرن نصائحك ببعض الأمثلة المدهشة. يا إلهي! سوف أعمل بنصائحك يا ستيلي.»
حين وصل الاثنان إلى البيت، وجدا بارتليت جالسا على كرسي هزاز خشبي في الشرفة يتطلع بتجهم إلى الطريق.
قال ييتس: «يا لهذا الرجل من طاغية عجوز في بيته بالتأكيد!» ولم يكن لدى البروفيسور متسع من الوقت ليرد قبل أن يصبحا في مرمى سمع صاحب البيت.
قال المزارع بفظاظة: «المرأة العجوز تعد العشاء.» وبدا أن هذه المعلومة هي أقصى ما استطاع الوصول إليه في محاولة دعوتهما إلى أخذ نصيبهما من ضيافته. لم يكن ييتس يعرف ما إذا كان المقصود بذلك دعوتهما إلى العشاء أم لا، لكنه رد باقتضاب قائلا: «شكرا، لن نبقى.»
صاح بارتليت غاضبا: «تحدث عن نفسك إذا سمحت.»
قال رينمارك: «أوافق صديقي الرأي بالطبع، لكننا ممتنان لك على هذه الدعوة.» «افعلا ما تشاءان.»
وفجأة، صاح صوت مبتهج من داخل البيت بينما ظهرت امرأة بدينة متوردة البشرة ذات مظهر ودود للغاية عند الباب الأمامي: «ما هذا؟ لن نبقى؟ من ذا الذي لن يبقى؟ أود أن أرى أي شخص يغادر بيتي جائعا حين تكون ثمة وجبة جاهزة على المائدة! وإذا كان بإمكانكما، أيها الشابان، تناول وجبة أفضل في أي مكان على طريق ريدج مما سأقدمها لكما، فلا بأس، يمكنكما أن تذهبا إلى هناك المرة القادمة إن شئتما، لكن هذه الوجبة ستتناولانها هنا، في غضون عشر دقائق. هذا خطؤك يا هيرام. فأنت دائما ما تدعو أي شخص إلى العشاء كما لو أنك تريد مصارعته!»
انتفض هيرام انتفاضة شخص مذنب، ونظر بشيء من المناشدة الصامتة إلى الرجلين لكن دون أن يقول شيئا.
تابعت السيدة بارتليت قائلة: «لا تكترثا به. أنتما في بيتي، وأيا كان ما يقوله جيراني في حقي من مساوئ، فلم أسمع قط أي أحد اشتكى من قلة المأكولات الشهية حين أستطيع الطهي. ادخلا حالا واغتسلا؛ لأن الطريق بيننا وبين الحصن القديم مغبر جدا، حتى وإن كان هيرام لم يعتد أن يقود بسرعة أبدا. وفوق ذلك، فالاغتسال منعش بعد نهار حار.»
لم يكن ثمة أدنى شك في حميمية هذه الدعوة، واستجاب لها ييتس، الذي استثير تأدبه الطبيعي تجاه النساء فورا، بتأهب وصيف ملكي متملق. سبقتهما السيدة بارتليت إلى داخل البيت، ولكن بينما كان ييتس يمر بالمزارع، تنحنح ذلك الأخير بصعوبة، وأشار بإبهامه من فوق كتفه نحو الاتجاه الذي سلكته زوجته، وقال بهمسة مبحوحة: «لا داعي إلى ... إلى ذكر الثورة كما تعرف.»
رد ييتس بغمزة من تفهم الموقف: «لا بالطبع. هل سنتذوق عينة مما في الجرة قبل العشاء أم بعده؟»
فقال المزارع: «بعده، إن كان الخياران سواء لك.» ثم أضاف: «في مخزن الغلال.»
أومأ ييتس برأسه ودخل المنزل وراء صديقه.
اقتيد الشابان إلى غرفة نوم ذات مساحة أكبر من الحجم المعتاد في الطابق العلوي. كان كل شيء في المنزل يتسم بأقصى قدر من النظافة المقترنة بالتنميق والتدقيق، وساد المكان طابع من الراحة المبهجة. كان واضحا أن السيدة بارتليت مدبرة منزل يفتخر بها. كان في انتظارهما إبريقان كبيران من الماء العذب البارد، وكان الاغتسال، كما كان متوقعا، منعشا للغاية.
صاح ييتس قائلا: «أرى أن من الوقاحة نوعا ما قبول ضيافة رجل بعدما طرحته أرضا.» «سيكون هذا رأي معظم الناس، لكني أظنك تستهين بوقاحتك، كما تسميها.» «مرحى يا ستيلي! أنت تتطور. هذا حضور بديهة، إنه كذلك بالتأكيد. مع التشديد على أنه لاذع أيضا. لا تبال بذلك؛ أظن أنني وذاك العجوز المهووس بعام 1812، سنصبح على وفاق تام بعد ذلك. لا يبدو أن ما حدث يضايقه إطلاقا؛ لذا لا أرى سببا يجعلني أقلق بشأنه. عجوز ذات حنان أمومي، أليست كذلك؟» «من؟ المهووس بعام 1812؟» «لا، بل زوجة المهووس بعام 1812. أنا آسف أنني أثنيت على حضور بديهتك. يبدو أنك ستغتر. تذكر أن ما يراه الناس دليل ذكاء في صحفي يرونه وقاحة بغيضة لدى أستاذ جاد. هيا ننزل.»
كانت المائدة مغطاة بمفرش أبيض ناصع كما ينبغي للكتان الفاخر أن يكون. وكان الخبز منزلي الصنع حقا، وليس كمعظم خبز المدن حيث يساء استخدام ذلك المصطلح كثيرا. كانت قشرته بنية، وكانت لبابته هشة فاتحة. وكان الزبد، الذي جاء باردا من القبو الصخري، ذا لون أصفر يسر الروح. لاقى منظر المائدة الممتلئة بالطعام استحسانا كبيرا جدا في عيون المسافرين الجائعين. فقد كانت تحمل «وفرة منه»، كما أشار ييتس لاحقا.
صاحت السيدة بارتليت تزامنا مع ظهور الشابين، قائلة: «تعال يا فتاي!» فسمعا صرير الكرسي الهزاز على أرض الشرفة في تلبية فورية للنداء.
قالت السيدة بارتليت مشيرة إلى الفتى الذي وقف متحفظا بالقرب من أحد أركان الغرفة: «هذا ابني أيها السيدان المهذبان.» وهنا عرفه البروفيسور بأنه الشخص نفسه الذي تولى أمر الحصانين حين عاد والده إلى البيت. كان جليا أن شيئا ما من سلوك الأب قد غرس في خصال الفتى، الذي استجاب استجابة صامتة خرقاء لتعرفه على الرجلين.
ثم أضافت المرأة الطيبة: «وهذه ابنتي. والآن، ما اسماكما يا ترى؟»
قال ييتس: «اسمي ييتس، وهذا صديقي البروفيسور رينمارك من تو-رنتو» ناطقا اسم المدينة الجميلة على مقطعين، كما كان يحدث كثيرا جدا، مع الأسف! انحنى البروفيسور، فيما مد ييتس يده بود إلى الشابة، قائلا: «كيف حالك يا آنسة بارتليت؟ سررت بلقائك.»
ابتسمت الفتاة ابتسامة فاتنة جدا، وقالت إنها تأمل أن يكونا قد استمتعا برحلتهما من فورت إيري.
قال ييتس ناظرا هنيهة إلى مضيفه، الذي كان محدقا إلى مفرش المائدة وبدا راضيا تماما بترك زوجته تدير زمام الموقف: «أوه، لقد استمتعنا. كان الطريق صخريا قليلا في بعض الأماكن، لكنه كان ممتعا جدا.»
قالت السيدة بارتليت: «والآن، لتجلس هنا، ولتجلس أنت هنا، وأرجو أن تكونا قد جلبتما معكما شهية مفتوحة.»
اتخذ الغريبان مقعديهما، وحظي ييتس من مكانه بفرصة النظر إلى أصغر أفراد الأسرة، فلم يضيعها من يديه. كان من الصعب تصديق أنها ابنة رجل شديد الفظاظة كهيرام بارتليت. كانت وجنتاها ورديتين، وبهما غمازتان تظهران وتختفيان باستمرار في جهودها المتواصلة لتجنب الضحك. وكان شعرها، الذي يتدلى حول كتفيها المكتنزتين، ذا لون بني ذهبي ساحر. ومع أن فستانها كان مصنوعا من أرخص الخامات، فقد كان محاكا ببراعة وملائما لجسدها تماما، وأضفى عليها مئزرها الأبيض الأنيق تلك اللمسة من النظافة الصحية التي كانت ملحوظة في كل مكان في البيت. وكان عنقها الأبيض مزينا بشريط أزرق صغير معقود حوله، وزهرة ربيعية جميلة تحته مباشرة أكملا صورة فاتنة، صورة ربما كان أي رجل سيتأملها بسرور حتى لو كان أكثر تدقيقا وأقل تأثرا بالجمال من ييتس.
جلست الآنسة بارتليت مبتسمة إلى أحد طرفي المائدة، وجلس والدها متجهما إلى الطرف الآخر. وجلست الأم إلى جانب المائدة، ويبدو أنها كانت ترى ذلك المكان يمنحها ميزة الإشراف على المائدة كلها، وإبقاء زوجها وابنتها نصب عينيها. كان إبريق الشيء والأكواب على المائدة أمام الفتاة. لم تصب الشاي فورا، بل بدا أنها كانت تنتظر التعليمات من أمها. كانت تلك السيدة الطيبة تحدق بشيء من الصرامة إلى زوجها، الذي كان يحاول عبثا أن ينظر إلى السقف أو أي مكان آخر إلا إليها. سحب راحة يده المفتوحة في عصبية على وجهه، الذي كان متجهما ومكتسيا بجدية غير معتادة، حتى له شخصيا. وأخيرا، ألقى نظرة استعطاف على زوجته، التي كانت جالسة واضعة يديها المتشابكتين على حجرها، لكن نظراتها كانت صارمة لا تلين. وبعدما ظل لحظة في حيرة يائسة، حنى رأسه فوق طبقه، وتمتم قائلا: «أوزعنا أن نشكر لك ما نوشك أن نتناوله. آمين.»
رددت السيدة بارتليت الكلمة الأخيرة، بعدما حنت رأسها أيضا حين رأت الخضوع في عيني زوجها المهمومتين.
تصادف آنذاك أن ييتس، الذي لم ير أي شيء من هذا الصراع الصامت بين العيون، كان يتخذ كافة الاستعدادات لبدء تناول وجبته بنهم؛ إذ كان يتضور جوعا. فقد أمضى معظم حياته في الفنادق وأنزال نيويورك، وحتى لو كان يعرف أصلا القول المأثور الذي يوصي ب «دعاء الشكر قبل الأكل»، فقد نسيه. وفي خضم استعداداته، أتت كلمات الدعاء الورعة، ونزلت عليه كمفاجأة صادمة. ومع أنه كان رجلا ماكرا واسع الحيلة بطبيعته، فإنه لم يكن سريعا كفاية في هذه المرة في مواراة ارتباكه. كانت الآنسة بارتليت حانية رأسها الذهبي، لكنها لمحت بطرف عينها نظرة ييتس ذات الحيرة المشدوهة وتوقفه المفاجئ من فرط الذهول. وحين رفعت كل الرءوس، ظل رأس الفتاة في مكانه، بينما كان كتفاها الممتلئتان تهتزان. ثم غطت وجهها بمئزرها، وصدر صوت ضحكة رقيق شجي كان يعلو ويخفت كرنين موسيقي مكتوم يتدفق تدريجيا من بين أصابعها.
صاحت أمها مشدوهة: «عجبا يا كيتي! ماذا دهاك؟»
لم تعد الفتاة قادرة على كبح جماح ضحكتها. فصاحت وهي تهرب من الغرفة وقالت: «سوف تضطرين إلى صب الشاي بنفسك يا أمي!»
صاحت الأم المشدوهة وهي تقوم لتأخذ مكان ابنتها التافهة: «يا إلهي! ماذا أصاب الطفلة؟ لا أرى شيئا يستدعي الضحك.»
اكفهر وجه هيرام وأنزل عينيه إلى المائدة، وكان من الواضح أنه أيضا يرى أن لا شيء يستدعي الضحك. وكان البروفيسور كذلك لا يفهم شيئا مما يحدث.
قال ييتس: «يؤسفني، يا سيدة بارتليت، القول إنني أنا السبب البريء وراء ضحك الآنسة كيتي. أصغ إلي يا سيدتي، من المثير للشفقة قول ذلك، لكني في الحقيقة ليس لدي حياة منزلية منذ فترة.» ثم أضاف بكذب مختال واثق: «ومع أنني أرتاد الكنيسة بانتظام، يجب أن أعترف بأنني لم أسمع دعاء شكر عند الوجبات منذ سنوات طوال، و... حسنا، كل ما في الأمر أنني لم أكن مستعدا له. أنا متيقن من أنني جعلت من نفسي أضحوكة بتصرف محرج، وهو ما رأته ابنتك بسرعة.»
قالت السيدة بارتليت بشيء من الغلظة: «لكن هذا لم يكن سلوكا مهذبا.»
استعطفها ييتس بأسف عميق، قائلا: «أعرف ذلك، لكني أؤكد لك أنني لم أفعله متعمدا.»
فصاحت مضيفته: «يا رب البركات! لا أقصدك، بل أقصد كيتي. لكن تلك الفتاة لم تستطع قط أن تمنع نفسها من الضحك. طالما كانت أقرب لي في الطباع من طباع والدها.»
لم يكن من الصعب تصديق هذه العبارة؛ لأن هيرام في هذه اللحظة بدا كأنه لم يبتسم قط في حياته. ظل صامتا طوال الوجبة، لكن السيدة بارتليت تكلمت بما يكفي لينوب عن كلام شخصين.
قالت: «حسنا، أنا شخصيا لا أعرف ماذا دهى مجتمع المزارعين وكيف تبدل حاله هكذا! لقد مر هنري هوارد ومارجريت من هنا عصر اليوم متباهين للغاية في عربتهما المغطاة الجديدة. لكم اختلفت الأحوال عما كانت عليه في أيام صباي. كانت بنات المزارعين يضطررن إلى العمل آنذاك. أما الآن، فقد حصلت مارجريت على شهادة الدبلوم في كلية البنات، وبدأ آرثر الدراسة في الجامعة، وهنري يسير متباهيا على الملأ في عربة جديدة. لديهم بيانو هناك، ونقل الأرغن إلى الغرفة الخلفية.»
تمتم المزارع قائلا: «عائلة هوارد كلها عائلة متغطرسة.»
لكن السيدة بارتليت ما كانت لتتقبل ذلك. كانت تشعر بأنها وحدها كفيلة بالحط من قدر الآخرين إن لزم الأمر، دون أي مساعدة من زوجها الذي كان رب البيت صوريا فقط.
قالت: «كلا، لا أذهب إلى حد قول ذلك. وما كنت أنت أيضا لتقول ذلك يا هيرام لو لم تخسر دعواك القضائية بشأن سياج الحديقة؛ وقد كان هذا جزاء لك من جنس عملك أيضا، لأنه ما كان ليحدث لو كنت موجودة في البيت آنذاك. ومع ذلك، فمارجريت مدبرة منزل جيدة؛ لأنها ما كانت لتكون ابنة أمها لو لم تكن كذلك، لكني أرى هذا نهجا غريبا في تربية أبناء المزارعين، وآمل فقط أن يستطيعوا مواصلته كما ينبغي. لم تكن توجد آلات بيانو ولا تعلم الفرنسية والألمانية في أيام صباي.»
وهنا صاح الابن متحدثا لأول مرة: «يجب أن تسمعاها وهي تعزف! يا إلهي!». بدا واضحا أن إعجابه بعزفها كان يفوق قدرته على التعبير.
أما بارتليت نفسه، فلم يستمتع بالمنحى الذي أخذته المحادثة، ونظر بشيء من عدم الارتياح إلى الغريبين. كان محيا البروفيسور بريئا وصريحا، وكان يصغي باهتمام نابع من الاحترام إلى حديث السيدة بارتليت. وكان ييتس منكفئا على طبقه بوجه متورد، وصب جم اهتمامه بما في يديه.
قال البروفيسور ببراءة لييتس: «أنا سعيد لأنك تعرفت على هذه الفتاة الشابة. لا بد أن أطلب منك أن تعرفني بها.»
لم يكن لدى ييتس ما يقوله لأول مرة في حياته، لكنه رمق صديقه بنظرة خلت من أي ود أو لطف. وحكى ذلك الأخير، ردا على استفسارات السيدة بارتليت، كيف مروا بالآنسة هوارد على الطريق، وكيف عرض عليها ييتس، بحنان قلبه المعتاد، استضافتها في عربة التبن. ثم انتقلت المحادثة إلى موضوع الخيمة، ما جلب شعورا بالغا بالارتياح إلى شخصين من بين الجالسين إلى الطاولة. كان هيرام الصغير هو من جلب هذه النعمة. فقد كان مهتما بالخيمة وأراد أن يعرف المزيد عنها. بدا أن الفتى كان مشغولا بسؤالين: أولا، كان متلهفا لمعرفة أي سبب شيطاني يجعل رجلين عاقلين، كما بدا عليهما، يهجران كل سبل الراحة في البيوت ويعيشان في العراء هكذا، إن لم يكونا مضطرين إلى ذلك. وثانيا، أراد معرفة السبب الذي يجعل شخصين كانا يحظيان بميزة العيش في المدن الكبيرة ينتقلان، من تلقاء نفسيهما، إلى هذا البلد الممل على أي حال. وحتى حين ذكرت له التفسيرات، بدا أنه ظل عاجزا عن فهم اللغز.
بعد الوجبة، ذهبوا جميعا إلى الشرفة ليسترخوا هناك، حيث كان الهواء عليلا والمنظر أمامهم ممتدا. لم تسمح السيدة بارتليت بأن ينصب الشابان خيمتهما هذه الليلة. قالت: «الرب أعلم، ستمكثان فيها لاحقا حتى تملا منها، مع المطر والبعوض. لدينا الكثير من الغرف هنا، وعلى أي حال، ستقضيان ليلة واحدة مريحة على طريق ريدج. ثم في الصباح، يمكنكما أن تجدا مكانا يناسبكما في الغابة، وسيأخذ ابني فأسا ويقطع لكما أوتادا خشبية، ويساعدكما في نصب خيمتكما الغالية. تذكرا فقط أنكما ينبغي أن تأتيا إلى المنزل حين تمطر السماء، وإلا ستصابان بالبرد والروماتيزم. سيكون العيش في الخيمة لطيفا جدا حتى يفقد حداثته وتعتاداه، وحينئذ، يمكنكما بكل ترحاب وسرور أن تقيما في الغرفتين الأماميتين في الطابق العلوي، ويمكن أن يعيد هيرام الخيمة إلى إيري في أول فرصة يذهب فيها إلى البلدة.»
كان من عادة السيدة بارتليت أن تأخذ الأمور كواقع مسلم به لا يقبل الجدل. فقد بدا أنها لم يخطر ببالها قط أن أيا من قراراتها قد يكون محل نقاش. كان هيرام جالسا يحدق إلى الطريق بصمت، كأن كل هذا ليس من شأنه.
كان ييتس قد رفض الجلوس على كرسي، وجلس على حافة الشرفة، ساندا ظهره إلى أحد الأعمدة في وضعية مكنته، دون أن يدير رأسه، من النظر عبر المدخل المفتوح المؤدي إلى الغرفة، حيث كانت الآنسة بارتليت منشغلة في صمت بتنظيف المائدة من معدات الشاي. استرق الشاب نظرات خاطفة عابرة إليها وهي تتحرك في أرجاء الغرفة بحيوية مؤدية عملها. سحب سيجارا من علبته، وقطع طرفه بسكينه، وأشعل عود ثقاب بحكه في نعل حذائه، فاعلا ذلك باعتياد تلقائي سلس لم يتطلب أي تركيز منه، وكل ذلك أثار غبطة مشوبة بالاحترام من جانب الابن، الذي كان جالسا على كرسي خشبي حانيا جسده إلى الأمام يراقب ذلك النيويوركي بشغف.
قال ييتس عارضا العلبة على هيرام الصغير: «أتريد سيجارا؟»
شهق الفتى من جرأة العرض المتهورة، وقال: «لا، لا، شكرا لك.»
وصاحت السيدة بارتليت قائلة: «ما هذا؟» صحيح أنها كانت منهمكة في الحديث بطلاقة وبلا انقطاع مع البروفيسور، لكن يقظتها الأمومية لم تغف قط، فضلا عن أن تنام «سيجار؟! مستحيل! سأقول ذلك في حق زوجي وابني: إنهما - أيا كان ما اقترفاه من أفعال أخرى - لم يدخنا قط، ولم يقربا قطرة خمر منذ أن عرفتهما، وبمشيئة الرب، لن يفعلا ذلك أبدا.»
قال ييتس مفتقرا إلى اللباقة على غير عادته: «أوه، أظنه لن يؤذيهما.» فسقط عدة درجات في نظر مضيفته.
صاحت السيدة بارتليت بسخط: «يؤذيهما؟ أظنه لن يحظى بفرصة لذلك.» ثم التفتت إلى البروفيسور، الذي كان مستمعا جيدا ينصت لها بتوقير واحترام، ولم يكن لديه الكثير ليقوله عن نفسه. كانت تهتز برفق إلى الأمام والخلف وهي تتكلم.
كان زوجها يجلس صامتا بعبوس وجمود، في وضعية أشبه بأبي الهول لم تعط أي مؤشر خارجي لما يخالجه من انزعاج وقلق. فقد كان يراوده فكر كئيب بأن حظه كان سيكون عثرا جدا لو أنه قابل السيدة بارتليت فجأة في شوارع فورت إيري في إحدى تلك المرات النادرة التي كان يستمتع فيها بالملذات المحرمة لوقت قصير. كان يحمل أشد النذر شؤما بشأن ما يخبئه له المستقبل. ففي بعض الأحيان، حين كان بعض الجيران أو الزبائن «يدعونه لتناول شيء في القرية، وكان يشعر بأنه تناول أقصى قدر من الويسكي يمكن للقرنفل أن يواري رائحته، كان يأخذ سيجارا بخمسة سنتات بدلا من تناول شراب. لم يكن يحب تدخينه على نحو خاص، ولكن كان في سيره في الشارع حاملا سيجارا مشتعلا بين أسنانه تهور ممزوج باللامبالاة والاستهتار، وكان في ذلك إغراء ملحوظ له نظرا لما يحمله من خطورة واضحة. كان يشعر في تلك الأوقات بأنه يواكب الحياة العصرية، وأنه من الجيد أن نساءنا لا يعرفن كل الخبث الموجود في هذه الدنيا. لم يكن يخشى أن يشي به أي جار إلى زوجته؛ إذ كانت توجد أعماق لا يستطيع أي امرؤ إقناع السيدة بارتليت بأن زوجها يمكن أن ينزل إليها. لكنه فكر مذعورا في مجموعة من الظروف التي قد تتآزر وتجلب زوجته إلى البلدة بغير علمه في يوم يكون فيه منغمسا في إحدى تلك الملذات. تخيل، برعدة سرت في جسده، أن يقابلها بغتة على رصيف المشاة الخشبي المتقلقل في فورت إيري وهو يدخن سيجارا. وحين راوده هذا الكابوس، عزم على ألا يلمس سيجارا مرة أخرى، لكنه كان يدرك جيدا أن أصلب العزائم تتلاشى إذا انتشى الرجل بكأسين أو ثلاث من الخمر.
حين استأنفت السيدة بارتليت حوارها مع البروفيسور، نظر ييتس إلى هيرام الابن وغمز له. فتورد وجه الشاب في سرور تحت تأثير الشمول الذي اتسمت به هذه الغمزة. فقد أدخلته إلى هالة الإثم الجذابة التي كانت تغلف شخصية هذا النيويوركي المبهرة. بدا كأنها تقول: «لا بأس، لكننا رجلان عركتهما الحياة. نحن أدرى.»
لم تكن عبادة الفتى هيرام للإلهة النيكوتين قد وصلت قط إلى حد تدخين سيجار. بل كان يدخن غليونا خلسة في ركن منعزل خلف مخزن الغلال في الأيام التي يكون فيها والده بعيدا عن البيت. كان يخشى والده ووالدته كليهما؛ لذا كان في موقف أشد إحراجا بكثير من هيرام العجوز نفسه. كان قد تدرج في عشقه للتبغ بالبدء بتدخين سجائر القصب المصنوعة من التنورات التحتية النافخة التي لم تعد تستعمل. فقد كانت تنورات الكرينولين رائجة في هذا الزمن، حتى في الريف، وكانت بعض الشرائط الطولية المصنوعة من قشور عيدان القصب تستخدم قبل ظهور تلك الهياكل المعدنية النافخة للفساتين. كانت تنورة نافخة واحدة، من تلك التنورات التي لم تعد تنفع للتزين، تكفي لإمداد رفقة من الصبية بالبهجة ومواد التدخين طوال شهر كامل. صحيح أن دخان القصب كان يجعل اللسان محمرا ومتألما بعض الشيء، لكن لذة الخبث والفسق كانت أشد من أن تقاوم. بدت غمزة ييتس اعترافا بالفتى هيرام رفيقا جديرا بتقديم البخور في معبد الإلهة نيكوتين، وصار الفتى صديقا حميما لييتس منذ اللحظة التي تدلى فيها جفن الأخير.
بعدما أزيلت الأغراض المتعلقة بالشاي، لم يعد ييتس يلمح الفتاة عبر الباب المفتوح. نهض من مقعده المتواضع، وسار نحو البوابة على مهل واضعا يديه في جيبيه. تذكر أنه كان قد نسي شيئا ما، وظل يعتصر دماغه ليعرف ما هو. حدق إلى الطريق ناحية بيت آل هوارد، ما أعاد إلى ذاكرته، بطبيعة الحال، لقاءه بالفتاة الشابة على الطريق. شعر بوخزة انزعاج في تلك الخاطرة حين تذكر الإنجازات التي نسبتها السيدة بارتليت إلى الفتاة. تذكر نبرته المتعالية في حواره معها، وتذكر قلقه بشأن الجرة. الجرة! هذا ما كان ناسيا إياه. ألقى نظرة خاطفة على هيرام العجوز، ولاحظ أن المزارع كان ينظر إليه بشيء أشبه بالتأنيب في عينيه. فحرك يتس رأسه حركة طفيفة تكاد تكون غير ملحوظة نحو مخزن الحبوب، ونزلت عينا المزارع إلى أرض الشرفة. فسار الشاب بلا مبالاة متجاوزا حد المنزل الخلفي.
قال المزارع وهو يهم بالنهوض: «أظنني يجب أن أذهب للاعتناء بالحصانين.»
قاطعه ابنه قائلا: «الحصانان على ما يرام يا أبي. لقد اعتنيت بهما.» لكن العجوز أسكته بنظرة عابسة، ومشى متسكعا إلى أن انعطف وراء زاوية المنزل. كانت السيدة بارتليت منهمكة جدا في حوارها مع البروفيسور؛ حتى إنها لم تلحظ ذلك. فلم تكن تقابل مستمعا مصغيا جدا كهذا كل يوم.
قال ييتس وهو يدخل مخزن الحبوب على مهل ويخرج من جيبه كوبا معدنيا قابلا للإطالة كأنبوب التلسكوب، ويطيله بهزة من يده إلى حد كاف لاستيعاب السوائل محدثا طقطقة حادة: «لنشرب في صحتك.» وقدم الكوب الذي صار طويلا الآن إلى هيرام، الذي رفض أي تطور عصري كهذا. «فلتصب لنفسك في هذا الشيء. أما أنا فالشرب من الجرة يلائمني تماما.»
صب مقدار «ثلاثة أصابع» من الشراب من الجرة محدثا بقبقة في الكوب المبتكر، ثم أخذ المزارع الجرة بعدما نظر خلسة من فوق كتفه. «حسنا، في صحتك.» ازدرد الصحفي الجرعة كلها سريعا بسهولة تنم عن خبرة طويلة، وأعاد إغلاق الكوب جاعلا إياه مسطحا بإصبعيه الإبهام والوسطى، كأنه قبعة أوبرا معدنية.
شرب المزارع بصمت من الجرة نفسها. ثم ضرب السدادة داخل فوهتها براحة يده.
قال عابسا: «من الأفضل أن تدفنها في صومعة القمح. لربما يجدها الفتى إن وضعتها وسط الشوفان وهو يطعم الحصانين، كما تعلم.»
وافقه ييتس الرأي بينما تدفقت حبوب القمح الذهبية كموجة فوق الجرة المدفونة وسطها: «مكان ممتاز جدا. عجبا أيها العجوز، إنك تعرف الموضع الذي كانت فيه، لقد كنت هنا من قبل.»
اكفهر وجه بارتليت في إشارة إلى استيائه من هذا الاتهام، لكنه لم يؤكده ولم ينكره. خرج ييتس من مخزن الحبوب على مهل، بينما مر المزارع عبر مدخل صغير يؤدي إلى حظيرة الخيل. وبعد لحظة، سمع المزارع ينادي ابنه بعلو صوته ليحضر الدلاء ويسقي الخيول.
قال ييتس لنفسه مبتسما وهو يمشي الهوينى نحو البوابة: «من الواضح أنه يعد حجة لغيابه.»
الفصل الخامس
صاح ييتس في نعاس في صباح اليوم التالي حين استيقظ على طرق شديد متواصل على بابه: «ماذا جرى؟ ماذا جرى؟» «حسنا، أنت لم تنهض بعد .» فأدرك أنه صوت هيرام الصغير. «الفطور جاهز. لقد استيقظ البروفيسور منذ ساعة.»
قال ييتس متثائبا: «حسنا، سأنزل حالا»، ثم أضاف في قرارة نفسه: «تبا للبروفيسور!» كانت أشعة الشمس تتدفق عبر النافذة الشرقية، لكن ييتس لم يتذكر أنه رآها من قبل فوق الأفق على هذه المسافة القصيرة في الصباح قط. سحب ساعته من جيب صدريته التي كانت معلقة على أحد أعمدة السرير. لم تكن قد بلغت السابعة بعد. فوضعها على أذنه ظنا منه أنها توقفت عن العمل، لكنه وجد نفسه مخطئا.
قال وهو عاجز عن كبح تثاؤبه: «يا لها من ساعة مبكرة للغاية!» كانت السنوات التي قضاها ييتس في إحدى الصحف الصباحية قد جعلت الساعة السابعة صباحا كمنتصف الليل له. فلم يستطع النوم في الليلة الماضية إلا بعد الساعة الثانية صباحا، أي وقت نومه المعتاد؛ لذا بدا له هذا الإيقاظ الوقح تصرفا قاسيا أحمق. ومع ذلك، ارتدى ثيابه، ونزل إلى الطابق السفلي متثائبا.
كانوا جميعا جالسين إلى مائدة الفطور حين دخل ييتس الغرفة الكبيرة، التي كانت غرفة طعام وغرفة جلوس في آن واحد.
قال هيرام الصغير ممازحا: «في انتظارك»؛ إذ كانت هذه واحدة من مجموعة دعابات تلائم مختلف المناسبات. جلس ييتس بالقرب من الآنسة كيتي، التي بدت ناضرة ومتألقة كأنها جنية من جنيات الصباح.
قال ييتس: «أرجو ألا أكون قد جعلتكم تنتظرون طويلا.»
صاحت السيدة بارتليت: «إطلاقا. إذا تأخر الفطور دقيقة عن الساعة السابعة، سرعان ما نعرف ذلك من الناس من حولنا. فهم يتضورون جوعا بحلول ذلك الوقت.»
ردد ييتس قائلا: «بحلول ذلك الوقت؟ إذن هل يستيقظون قبل السابعة؟»
تعجبت السيدة بارتليت ضاحكة: «عجبا! ما أغرب المزارع الذي كنت ستكونه يا سيد ييتس لو قدر لك ذلك!» «يا إلهي، لقد أنجزت كل أعمال البيت والحظيرة؛ إذ أطعمت الخيول، وحلبت الأبقار، وكل شيء. لا توجد مقولة أفضل من تلك التي تعلمتها حين كنت صبيا، وأغلب الظن أنك لم تنسها إطلاقا:
النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا
يجعلان الرجل معافى وثريا وحكيما.
يؤسفني أنك لا تؤمن بها يا سيد ييتس.»
قال ييتس ببعض السمو: «أوه، هذا صحيح، لكني أود أن أرى رجلا مسئولا عن إصدار صحيفة صباحية يتبع هذه القاعدة. إن صحتي جيدة كفاية، وثروتي تضاهي ثروة هذا البروفيسور تقريبا، والجميع سيعترف بأنني أكثر منه حكمة، ومع ذلك، فأنا لا أخلد إلى النوم إلا بعد الساعة الثانية صباحا، ونادرا ما أستيقظ قبل الظهر.»
ضحكت كيتي لذلك، ونظر هيرام الصغير بإعجاب إلى النيويوركي، متمنيا أن يكون بمثل براعته وذكائه.
صاحت السيدة بارتليت بلفظ ناب أنثوي حقيقي: «سحقا بحق الأرض! ما الذي تفعله حتى وقت متأخر هكذا؟»
قال ييتس باستخفاف: «الكتابة؛ كتابة مقالات تجعل السلالات الحاكمة ترتعد في صباح اليوم التالي، وتسبب إما اعتذارات أو دعاوى قضائية بالتشهير، حسب الحالة.»
لم يكن هيرام الصغير يطيق صبرا على استمرار الحديث عن المهن. كان موضوع الخيمة ومكانها المستقبلي هو السؤال الذي يؤرقه. تمتم ببعض الكلمات عن أن ييتس نام متأخرا ليتجنب سماع دعاء الشكر في بداية الوجبة. وهنا تبين لوالديه من تعليقه ذاك كيف أن التعامل مع الخبثاء يفسد الأخلاق الحسنة؛ لأن الفتى، على ضخامة بنيانه، لم يكن يجرؤ من قبل على السخرية من موضوع كهذا ولو بالتلميح. نظر والده الصامت إليه بعبوس متوعدا إياه، ووبخته أمه الفصيحة اللسان بحدة. كان يبدو أن كيتي رأت تعليق الفتى مضحكا بعض الشيء، وأرادت أن تضحك عليه. ومع ذلك، اكتفت بنظرة خاطفة خبيثة إلى ييتس، الذي، مع أن ذلك قد يبدو غير معقول، تورد خجلا عند تلميح هيرام الصغير إلى الواقعة المحرجة التي حدثت في اليوم السابق.»
أما البروفيسور، الذي كان رجلا طيب القلب، فقرر أن يصرف تركيزهم عن الأمر.
قال مغيرا الموضوع: «لقد تكرم السيد بارتليت بالسماح لنا بالتخييم في الغابة الواقعة خلف المزرعة. خرجت إلى هناك هذا الصباح، وهو مكان رائع بلا شك.»
قال ييتس: «نحن في غاية الامتنان لك يا سيد بارتليت. بالتأكيد ذهب رينمارك إلى هناك ليبين الفرق بين النملة والفراشة فقط. ستكتشفين في المستقبل كم هو محتال يا سيدة بارتليت. يبدو شخصا نزيها، ولكن انتظري وسترين بنفسك.»
صاح هيرام الصغير: «أعرف الموضع المناسب تماما للخيمة، بالأسفل في الوادي الصغير بجوار الجدول. لن تحتاجا إلى نقل المياه حينئذ.»
قالت السيدة بارتليت: «نعم، ويصابان بالحمى والبرداء.» فلم تكن الملاريا قد اكتشفت آنذاك. «اعملا بنصيحتي، وانصبا خيمتكما - إذا كنتما ستنصبانها أصلا - على أعلى أرض تستطيعان إيجادها. فنقل المياه لن يضيركما.» «أتفق معك يا سيدة بارتليت. ليكن ذلك إذن. صديقي لا يستخدم المياه، يجب أن تري فاتورته في فندق بافالو. إنها لدي في مكان ما، وسأعلقها على الخيمة من الخارج كتحذير لشباب هذا الحي، وأي مياه سأحتاجها أستطيع أن أحملها بسهولة من الجدول الصغير.»
لم يدافع البروفيسور عن نفسه، ومن الواضح أن السيدة بارتليت لم تصدق الكثير من كل ما قاله ييتس. فقد كانت امرأة ذكية.
بعد الفطور، خرج الرجال إلى الحظيرة. وربط الحصانان بالعربة التي كانت لا تزال تحمل الخيمة والتجهيزات الأخرى. ثم ألقى هيرام الصغير فأسا ومسحاة وسط ثنايا الخيمة القماشية، وركب في مكانه، وقاد العربة معتليا المسار المؤدي إلى الغابة، وتبعه ييتس ورينمارك سيرا على الأقدام، تاركين المزارع في فناء حظيرته بتوديع مبتهج لم ير نفسه مضطرا إلى الرد بمثله.
مروا أولا بحقل قمح، ثم رقعة فسيحة من أعشاب التبن المتراقصة، التي كان أوان حشها بالمنجل قد اقترب، ثم مرعى كان فيه بعض المهور التي ركضت نحو سياجه، حيث حدقت لبرهة إلى الحصانين الملجومين وصهلت بتعاطف معهما، ثم ابتعدت في اللحظة التالية عن السياج ترفس بجموح بأعقاب محلقة في الهواء، مبتهجة بما تنعم به من حرية عكس هذين الحصانين، ووقفت عند الركن الأبعد من المرعى حيث نخرت معلنة تحديها للعالم كله. وأخيرا، وصلوا إلى الظل البارد للغابة التي كان المسار يمتد إلى داخلها فاقدا هويته كطريق مخصص للعربات بتشعبه إلى مسارات متباعدة للماشية. كان هيرام الصغير يعرف المنطقة جيدا، وقاد العربة مباشرة إلى مكان مثالي للتخييم. كان ييتس مسحورا. فقد ضم كل هذا الجزء من الريف في تلويحة جارفة بيده، وقال فجأة بانفعال عاطفي شديد:
هذه هي البقعة، وسط الأيكة.
حيث تقف أشجار البلوط، ملكة الغابة.
في هذا المكان وهذه الساعة،
سننصب خيمة لتدرأ عنا الشمس ونغتسل. «شكسبير بتصرف.»
قال رينمارك: «أظنك مخطئا.» «إطلاقا. لا يمكن أن نجد مكانا أفضل للتخييم.» «نعم أعرف ذلك. فقد اخترته من بين البقاع الأخرى منذ ساعتين. لكنك كنت مخطئا في الاقتباس الذي ذكرته. فهو ليس من تأليف شكسبير ولا تأليفك، كما يبدو أنك تظن.» «ليس كذلك حقا؟ من تأليف شخص آخر، هاه؟ حسنا، إن كان شكسبير راضيا، فأنا أيضا كذلك. أتعرف يا ريني، أظن أنني لو عددت ما كتبته، سطرا سطرا، سأجدني قد كتبت قدر ما كتبه شكسبير حوالي عشر مرات. هل يعرف الأدباء هذه الحقيقة؟ إطلاقا. هذا عالم جاحد يا ستيلي.» «إنه كذلك يا ديك. والآن، ماذا ستفعل بشأن نصب الخيمة؟» «كل شيء يا ولدي، كل شيء. فأنا أعرف عن نصب الخيام أكثر مما تعرفه عن العلم، أو أيا كان ما تدرسه. والآن، يا هيرام يا ولدي، فلتقطع لي بعض الأوتاد المتينة بطول نحو قدمين. وأنت أيها البروفيسور، اخلع عنك ذلك المعطف وهذا التراخي، وأمسك بهذه المسحاة. أريد حفر بعض الخنادق.»
وبالطبع أثبت ييتس صحة كلامه. فقد كان يفهم نصب الخيام؛ لأن تجربته في الجيش لم يكن قد مضى عليها وقت طويل. كان هيرام الصغير يحدق بإعجاب متزايد إلى براعة ييتس ودرايته الواضحة بما كان يفعله، بينما استطاع بالكاد أن يكبح احتقاره تجاه محاولات البروفيسور العقيمة لتحرير المسحاة حين علقت منه في بعض جذور الأشجار.
قال أخيرا: «من الأفضل أن تعطيني تلك المسحاة.» لكن شخصية البروفيسور كان بها قدر من العناد. لذا ظل يناضل لتحريرها بنفسه.
وأخيرا، أنجز العمل؛ إذ دقت الأوتاد، وشدت الحبال، وحفرت الخنادق.
رقص ييتس، وأطلق صيحة الحرب الخاصة بأهالي الريف.
وهكذا نصبت الخيمة القماشية،
ودقت كل الأوتاد المائلة؛
أوتاد من البلوط وأوتاد من الزان.
البروفيسور المتعب يمسح جبينه،
وهيرام يبتسم بارتياح،
والمراسل يرقص بجموح،
ويدعو بعلو صوته إلى شرب الجن والماء. «هذا هو الشاعر لونجفيلو، أيها العجوز، لونجفيلو. أراهن على ذلك بدولار!» ونكز ييتس التافه البروفيسور بمرفقه في ضلوعه.
قال الأخير: «ريتشارد، لا أطيق تحمل سوى قدر معين من مثل هذه الأشياء. لا أريد أن أصف أي رجل بأنه أحمق، لكنك تتصرف بحمق إلى حد لافت.» «فلتتحل بالجرأة الكافية لقول ما تريده مباشرة يا ريني؛ سم المسحاة مسحاة. يا إلهي! لقد رحل هيرام الصغير ونسي مسحاته، والفأس أيضا! ربما تعمد تركهما لنا. إنه شاب جيد، ذاك الفتى هيرام. أحمق؟ بالطبع أنا أحمق. هذا ما أتيت لأجله، وهذا ما سأكون عليه طوال الأسبوعين المقبلين. «أحمق، أحمق، قابلت أحمق في الغابة ...» هذا هو المكان المناسب له تماما. من يمكن أن يكون حكيما هنا بعدما قضى سنوات وسط مباني الطوب والملاط؟»
ثم صاح قائلا: «أين عيناك يا ريني وأنت تنظر حولك دون أن تخرج عن صوابك؟ انظر إلى ضوء الشمس المرقط المتسرب من بين أوراق الشجر، أصغ إلى حفيف الريح وهي تداعب الأغصان، اسمع صوت سريان المياه المتباطئ في الجدول بالأسفل هناك، شاهد لحاء أشجار الزان الأملس وغلاف أشجار البلوط المحزز، شم روائح الغابة الصحية. أنت بلا روح يا رينمارك، وإلا ما كان من الممكن أن تكون بهذا الجمود. إنها كالجنة. إنها ... ريني، يا إلهي! لقد نسيت تلك الجرة في مخزن الحبوب!» «ستظل متروكة هناك.» «حقا؟ أوه، حسنا، إن كنت ترى هذا.» «هذا ما أراه. لقد بحثت عنها صباح اليوم لتحطيمها، لكني لم أجدها.» «لماذا لم تسأل بارتليت العجوز؟» «سألته، لكنه لم يكن يعرف مكانها.»
رمى ييتس نفسه على الأرض المكسوة بالطحالب، وضحك رافسا بذراعيه وساقيه حوله مستشعرا بهجة الحياة. «بالمناسبة، هل أحضرت معك أي ثياب قديمة حقيرة أيها البروفيسور المتحضر؟ حسنا، إذن فلتدخل الخيمة وتلبسها، ثم اخرج واستلق على ظهرك وانظر إلى الأعلى نحو الأوراق. أنت رجل جيد يا ريني، لكن الثياب الرسمية المحتشمة تفسدك. لن تعرف نفسك حين تضع على ظهرك هذه الثياب العتيقة. فالثياب البالية تعني التحرر ، والحرية، وكل ما حارب أجدادنا لأجله. حين تخرج، سنقرر من يعد الطعام ومن يغسل الأطباق. لقد حسمت القرار بالفعل في قرارة ذهني، لكني لست أنانيا إلى حد الامتناع عن مناقشة المسألة معك.»
حين خرج البروفيسور من الخيمة، قهقه ييتس. ابتسم رينمارك نفسه؛ إذ كان يعرف أن النتيجة ستلقى إعجاب صديقه. «يا إلهي! أيها العجوز، كان يجب أن أضع مرآة بين المعدات. فمظهر الوقار المتعلم وهو مزين بثياب متشرد حقير يصنع مزيجا قاتلا من شدة الضحك. حسنا، لا يمكنك أن تفسد تلك الثياب على أي حال. والآن تمدد على الأرض.» «أنا مرتاح جدا في الوقوف، شكرا لك.» «انبطح على ظهرك. أتسمعني؟» «فلتجعلني أنبطح إذن.»
سأله ييتس وهو يجلس ناصبا ظهره: «أتعني ذلك؟» «بالتأكيد.» «أصغ إلي يا ريني، احذر. لا أريد أن أوذيك.» «سأسامحك هذه المرة.» «سأفعل ذلك على مسئوليتك.» «تقصد على ظهري.»
صاح ييتس ناهضا على قدميه: «لا بأس يا ريني. سيؤلمك هذا. ها أنت قد تلقيت تحذيرا وافيا منذ البداية. وقد أعذر من أنذر.»
اتخذ الشابان وضعية الملاكمة. حاول ييتس أن يفعل ذلك برفق في البداية، لكنه وجد أنه لا يستطيع لمس خصمه، فحاول مهاجمته بجدية أكبر، وحذره تحذيرا وديا مرة أخرى. استمر الحال على ذلك بلا جدوى لبعض الوقت، حتى لف البروفيسور قدمه بحركة سريعة وبسلاسة رشيقة كأنه أستاذ في الرقص، وركل ييتس خلف ركبته مباشرة، موجها إليه في الوقت نفسه نقرة خفيفة على الصدر. فانبطح ييتس على ظهره في الحال. «أوه، لم يكن ذلك عادلا، يا ريني. لقد كانت هذه ركلة.» «كلا، لم تكن كذلك. بل مجرد لمسة فرنسية صغيرة. تعلمتها في باريس. إنهم يركلون هناك، كما تعلم، ومن الجيد أن تعرف كيفية استخدام قدميك بالإضافة إلى قبضتيك إذا هاجمك ثلاثة أشخاص، مثلما حدث لي ذات ليلة في الحي اللاتيني.»
جلس ييتس منتصبا. «أصغ إلي يا رينمارك، متى كنت في باريس؟» «عدة مرات.»
حدق إليه ييتس بضع لحظات، ثم قال: «ريني، أنت تحسن معرفتك واطلاعك. لم يسبق لي أن رأيت شارعا باريسيا في حياتي. يجب أن تعلمني هذه الركلة الصغيرة.»
قال رينمارك وهو يجلس، بينما تمدد الآخر تماما: «بكل سرور. فالتدريس هو مهنتي، وسأسعد بممارسة أي مواهب ربما تكون لدي في هذا التخصص. وسعيا إلى تعليم رجل من نيويورك، فالخطوة الأولى هي إقناعه بأنه لا يعرف كل شيء. هذه هي النقطة الصعبة. وبعدها يصير كل شيء سهلا.» «أيها السيد ستيلسون رينمارك، أنت تسعد بأن تكون صارما. فلتعرف أنني أسامحك. فهذا الملاذ المبهج في الغابة ليس مناسبا للخلاف الحاد، أو، بلغة بسيطة، الشجار. دع الكلاب تبتهج، إن أرادت ذلك؛ فأنا أرفض أن تدفعني طبيعتك الشكاءة المزعجة إلى التفوه بأي شيء سوى الرد اللطيف اللين. والآن لننتقل إلى العمل. حين يخيم شخصان معا، لا شيء يعزز صداقتهما للغاية كتحديد الواجبات بينهما من البداية. أتتفق معي؟» «تماما. ماذا تقترح؟» «أقترح أن تطهو الطعام، وأغسل أنا الأطباق. وسيتناوب كلانا على إحضار الغذاء.» «ممتاز. أوافق على ذلك.»
وهنا انتصب ييتس في جلسته فجأة، رامقا صديقه بنظرة توبيخ. «أصغ إلي يا رينمارك، هل أنت مصمم على أن تفرض أزمة دولية بيننا في اليوم الأول؟ هذه ليست فرصة عادلة لتمنح رجلا إياها.» «ما تلك الفرصة غير العادلة؟» «عجبا، الموافقة على كلامه. إن لديك خسة شديدة كامنة في أعماق شخصيتك يا ريني، ولم أتصور ذلك قط. فأنت تعرف أن الأشخاص الذين يخيمون يعترضون دائما على جزء المهام الذي يكلفونهم به رفاقهم في التخييم. وأنا اعتمدت على ذلك. سأفعل أي شيء سوى غسل الأطباق.» «لماذا لم تقل ذلك إذن؟» «لأن أي رجل عاقل كان سيقول «لا» حين اقترحت الطهي، لمجرد أنني اقترحته. ليس لديك أي قدر من حسن التصرف يا رينمارك. والمرء لا يعرف من أين تؤكل كتفك حين تتصرف هكذا. فعندما كنت سترفض أداء مهمة الطهي، كنت سأقول لك: «حسنا، سأؤديها أنا.» وكان كل شيء ليصبح رائعا، لكن الآن ...»
استلقى ييتس على ظهره مرة أخرى مشمئزا. فثمة لحظات في الحياة تخذل فيها اللغة المرء.
قال البروفيسور : «إذن هل نتفق على أن تتولى الطهي، وأغسل أنا الأطباق؟» «نتفق؟ أوه نعم، إن كان هذا رأيك، لكن كل اللذة التي يجدها المرء في الحصول على ما يريده باستخدام ذكائه قد تلاشت. أكره أن يتفق أحد معي بهذه الطريقة المهذبة البغيضة.» «حسنا، ها قد حسمت هذه النقطة، من سيبدأ دوره في إحضار الطعام، أنا أم أنت؟» «كلانا يا سيدي البروفيسور، كلانا. فأنا أعتزم الذهاب إلى منزل آل هوارد، وأحتاج إلى مبرر للزيارة الأولى؛ لذا سأؤدي جزءا محدودا من مهمة إحضار الطعام. سأذهب إلى هناك متظاهرا بأنني أريد شراء الخبز. ونظرا لأنني قد لا أحصل على أي خبز، فربما يتعين عليك إحضار بعض منه من أي منزل ريفي تختاره مسرحا لمهمتك. دائما ما يكون الخبز نافعا في التخييم، سواء أكان طازجا أم قديما. وحين يراودك أدنى شك أو تردد، اشتر المزيد من الخبز. فلا يمكن أن يكون اختيارك فاسدا أبدا، وكذلك الخبز.» «ما الذي يتعين علي إحضاره أيضا؟ الحليب حسبما أظن؟» «بالتأكيد، وبيض وزبد وأي شيء. ستعطيك السيدة بارتليت نصائح بشأن ما يجب أن تحضره أفضل من نصائحي.» «هل لديك كل أواني الطهي التي تحتاج إليها؟» «أظن ذلك. لقد قال الوغد الذي استأجرت منه المعدات إنها كاملة. لا شك أنه كذب، لكننا سنتدبر الأمر، على ما أظن.» «رائع. إذا انتظرتني حتى أغير ملابسي، سأمشي معك هذه المسافة الطويلة حتى الطريق.» «يا رفيقي العزيز، كن حكيما، ولا تغير ملابسك. ستحصل على كل شيء بأرخص من ثمنه بعشرين في المائة إن اشتريته بهذه الثياب الرثة. وفوق ذلك، فهي تجعلك أكثر جاذبية بكثير. ربما تنقذنا ثيابك من الجوع إذا نفد المال. فيمكنك الحصول على ما يكفي لكلينا بصفتك متشردا محترفا. أوه، حسنا، إذا كنت تصر على رأيك، فسأنتظرك. إسداء نصيحة جيدة إلى أمثالك إهدار لها.»
الفصل السادس
كانت مارجريت هوارد تقف عند طاولة المطبخ وهي تعجن العجين. كانت الغرفة تسمى بالمطبخ، لكنها لم تكن كذلك، إلا في فصل الشتاء. فقد كان الموقد ينقل منها في فصل الربيع إلى كوخ ملاصق للبيت يمكن الوصول إليه بسهولة عبر الباب المفتوح المؤدي إلى شرفة المطبخ.
وحين كان الموقد يدخل إلى الغرفة أو يخرج منها، كان هذا مؤشرا على اقتراب حلول الصيف أو رحيله. كان بمثابة البندول الثقيل الذي كان تأرجحه إلى هذا الاتجاه أو ذاك يشير إلى التغييرين الكبيرين في السنة. ولم يكن المزارع وأولاده يكرهون أي مهمة في المزرعة أشد من كرههم لتغيير مكان الموقد كل ستة أشهر. فقد كان السخام يتساقط منه، وكانت المداخن تتذمر بصرير حاد مزعج من تركيبها معا مجددا، بينما كان الموقد نفسه ثقيلا ومنهكا، وكان أغلب أوجاع الظهر لدى أهل الريف يعود تاريخها إلى رحلة الموقد من الكوخ الخارجي إلى المطبخ.
كان المطبخ نفسه عبارة عن مبنى من طابق واحد، وكان بارزا من خلف البيت الريفي المكون من طابقين، ما جعل الشكل كله على هيئة حرف تي. وكانت توجد شرفة أرضية على كل من جانبي المطبخ، بالإضافة إلى شرفة بمحاذاة مقدمة المنزل نفسه.
كان كما مارجريت مشمرين إلى مرفقيها تقريبا، كاشفين عن ذراعين بيضاوين جميلتين. وكانت بين الحين والآخر تعفر لوح العجن بالدقيق ببراعة لتمنع التصاق العجين، وبينما كانت تضغط راحتي يديها في كتلة العجين الإسفنجية الملساء البيضاء، كانت الطاولة تصدر صريرا وتأوها كأنها تشتكي. قطعت لفة العجين بالسكين إلى كتل ربتت عليها حتى اتخذت الشكل المنشود، ورصتها متجاورة، كالتلال الثلجية الصغيرة، في الصاج الحديدي الأسود.
في هذه اللحظة، سمعت مارجريت نقرا على باب المطبخ المفتوح، واستدارت مذعورة؛ إذ كان بيتها نادرا ما يأتيه زوار في ذلك الوقت من اليوم، ولأن الجيران نادرا ما كانوا يتنازلون ويلتزمون بمثل هذه الشكليات كالطرق على الباب. توردت الفتاة خجلا حين أدركت أن هذا الزائر هو الرجل الذي تحدث إليها في اليوم السابق. كان يقف مبتسما في المدخل، حاملا قبعته في يده. لم تتفوه الفتاة بكلمة تحية أو ترحيب، لكنها وقفت تحدق إليه واضعة يدها على الطاولة المكسوة بالدقيق.
قال ييتس بابتهاج: «صباح الخير يا آنسة هوارد، هل لي أن أدخل؟ ظللت أطرق الباب الأمامي لبعض الوقت دون جدوى، لذا استدرت وجئت إلى هنا بلا إذن.»
ردت مارجريت قائلة: «لم أسمع طرقك.» تجاهلت دعوته للدخول، لكنه اعتبر الإذن شيئا مسلما به، ودخل ثم جلس من تلقاء نفسه جلسة رجل جاء ليبقى. وأضافت: «يجب أن تعذرني لمواصلة عملي؛ فالخبز في هذه المرحلة لن ينتظر.» «بالتأكيد، بالتأكيد. أرجو ألا تدعيني أقاطعك. كنت أصنع خبزي بنفسي لسنوات، ولكن ليس بتلك الطريقة. وأنا سعيد بأنك تصنعين الخبز؛ لأنني جئت لأرى إن كان بإمكاني شراء بعض منه.» «حقا؟ ربما يمكنني أن أبيع لك بعض الزبد والبيض أيضا.»
ضحك ييتس بطريقته المبتهجة العفوية المعتادة، التي كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بقدرته على المضي قدما في الدنيا. فقد كان من الصعب أن يظل شخص بهذه الطبيعة المرحة المتفائلة غاضبا لفترة طويلة. «آنسة هوارد، أرى أنك لم تغفري لي كلامي يوم أمس. بالتأكيد لم تظني أنني قصدته. في الحقيقة لقد قلته على سبيل الدعابة، لكنني مستعد للاعتراف، حين أتذكره الآن، بأن الدعابة كانت سخيفة بعض الشيء، ولكن على كل حال، فمعظم دعاباتي مبتذلة نوعا ما.» «أخشى أنني أفتقر إلى حس دعابي.» فقال ييتس بثقة عفوية: «كل النساء كذلك، أو على الأقل كل من قابلتهن طوال حياتي.»
كان ييتس جالسا على كرسي خشبي، كان قد وضعه آنذاك عند نهاية الطاولة، وأماله إلى الخلف حتى استقرت كتفاه على الحائط. كانت قدماه مستقرتين على عارضة الكرسي السفلية، وكان يلوح بقبعته يمينا ويسارا، ليهوي لنفسه؛ إذ كان الجو في المطبخ ساخنا. وفي هذا الوضع، استطاع رفع ناظريه إلى وجه الفتاة الجميلة التي كانت واقفة أمامه، والتي كان جبينها الناعم مشوبا بأخف علامات العبوس الطفيف. لم ترمق الشاب الواثق من نفسه ولو بنظرة خاطفة، بل أبقت عينيها ثابتتين على عملها بكل عزم وإصرار. وفي هذا الصمت، كانت الطاولة تصدر صريرا بينما كانت مارجريت تعجن العجين. أحس ييتس بشعور غير معتاد بالإحراج يتسلل إليه، وأدرك أنه سيضطر إلى إعادة بناء المحادثة على أساس جديد. كان من السخف الجلي أن يتعرض مواطن نيويوركي واسع الحيلة سريع البديهة للإحراج بالبرود غير المبرر لفتاة ريفية في براري كندا، بعدما سبق وأن تحاور بلا خجل أو حرج مع رؤساء وأعضاء في مجلس الشيوخ وجنرالات وغيرهم من عظماء أمة عظيمة.
قال أخيرا، حين أصبح صرير الطاولة لا يطاق مع أنه كان خافتا: «لم تتح لي الفرصة لتقديم نفسي كما ينبغي. اسمي ريتشارد ييتس، وقد جئت من نيويورك. أخيم في هذا الحي، للتخلص من إجهاد ذهني، إن جاز القول، نتيجة سنوات من العمل الأدبي.»
كان ييتس يعرف من خبرته الطويلة أن السبيل الأسرع والأضمن لنيل ثقة أنثى هو كسب تعاطفها. وخطر بباله أن عبارة «الإجهاد الذهني» ستكون جيدة؛ لأنها ستشير إلى العمل بجد حتى وقت متأخر من الليل وعين الطالب المتفاني الغائرة من شدة السهر.
سألته مارجريت بارتياب، رامقة إياه للمرة الأولى بنظرة خاطفة من عينها الداكنة: «هل عملك ذهني إذن؟».
ضحك ييتس بشيء من عدم الارتياح قائلا: «نعم.» كان واضحا أن رصاصته قد خابت. «ألاحظ من نبرتك أنك تظنين على ما يبدو أن قدراتي الذهنية ضعيفة. ينبغي ألا تحكمي بالمظاهر يا آنسة هوارد. فمعظمنا أفضل مما يبدو، وإن كان المتشائمون عكس ذلك. حسنا، كما كنت أقول، تتكون رفقة التخييم من رفيقين. ونحن مختلفان جدا في كل شيء لدرجة أننا صديقان مقربان. رفيقي هو السيد ستيلسون رينمارك، أستاذ مادة ما لا أتذكرها في كلية يونيفرستي كولدج في تورنتو.»
وهنا أبدت مارجريت بعض الاهتمام بالمحادثة لأول مرة. «البروفيسور رينمارك؟ سمعت عنه.» «عجبا! لم أكن أعرف إطلاقا أن شهرة البروفيسور قد تغلغلت إلى ما وراء حرم الجامعة، إن كان للجامعة حرم. صحيح أنه أخبرني بأنها مزودة بكل سبل التطور الحديثة، لكنني كنت أظن آنذاك أن هذا مجرد تفاخر من ريني.»
اشتد العبوس الظاهر على جبين الفتاة، وسرعان ما أدرك ييتس أنه خسر أرضا جديدة في محاولاته لاستهلال حوار معها، إن كان قد كسب أي أرض أصلا، وهو ما بدأ يشك فيه بالفعل. كان من الواضح أنها لم تستحسن حديثه العفوي السطحي عن الجامعة. وبينما كان يهم بقول شيء ما يظهر احترامه لهذه المؤسسة؛ لأنه لم يكن ليتحدث بازدراء عن أي شيء، ولا خط الاستواء نفسه، إذا رأى أنه قد يكسب ود مستمعه بأن يفعل عكس ذلك، خطر بباله أن اهتمام الآنسة هوارد كان منصبا على الرجل، وليس الجامعة.
تابع حديثه قائلا: «في هذا العالم يا آنسة هوارد، نادرا ما تجد الجدارة الحقيقية مكافأتها، أو على الأقل، تبدي المكافأة بعض التمنع على إظهار نفسها في الوقت المناسب ليتسنى للمرء الاستمتاع بها. والبروفيسور رينمارك رجل كفء وجدير بالتقدير إلى حد أنني ذهلت بعض الشيء حين علمت أنك تعرفينه. أنا سعيد من أجله لأنه معروف لديك؛ لأنه لا شخص أجدر منه بالشهرة إطلاقا.»
قالت مارجريت: «لا أعرف شيئا عنه، سوى ما كتبه شقيقي في رسائله. فشقيقي طالب في الجامعة.» «أهو كذلك حقا؟ ولأي غرض التحق بالجامعة؟» «التعليم الجيد.»
ضحك ييتس. «حسنا، هذا شيء يعود على المرء بفوائد عديدة حين يحوزه. كثيرا ما تمنيت لو أنني تلقيت تدريبا جامعيا. ومع ذلك، لا يلقى التدريب الجامعي القدر الذي ربما يستحقه من تقدير في مكتب صحيفة أمريكية.» وأضاف بنبرة أظهرت أنه لا يريد أن يكون مجحفا في حق رجل ذي تعليم جامعي: «ومع ذلك، أعرف بعض الخريجين الجامعيين صاروا مراسلين جيدين جدا في نهاية المطاف.»
لم ترد الفتاة، بل أولت انتباها حادا بما كان بين يديها من عمل. كانت لديها موهبة الصمت النادرة، وكانت هذه الفترات الفاصلة من الصمت تحرج ييتس، الذي كان أكثر ما يتباهى به مرارا هو قدرته على التفوق في الكلام على أي رجل في العالم. فقد كان ما يلقاه من معارضة، أو إساءة حتى، مجرد حافز يستفز استرساله في الكلام، أما الصمت فكان يربكه.
صاح أخيرا بشعور أشبه باليأس، قائلا: «حسنا، لنترك هذا النقاش الحيوي المحتدم عن موضوع التعليم، ونستأنف الحديث عن موضوع العيش الأكثر عملية. هل تصدقين يا آنسة هوارد أنني خبير في صناعة العيش؟» «أظنك قد قلت بالفعل إنك كنت تصنع عيشك بنفسك.» «آه، نعم، لكني قصدت آنذاك أنني أصنعه بعرق قلمي الرصاص الجميل. ومع ذلك، كنت أصنع العيش في أيام صباي، وأعتقد أن بعضا ممن كانوا يعيشون عليه ما زالوا على قيد الحياة إلى اليوم. حين يفكر المرء في مدى قدرة الجسد البشري على التحمل يجدها مذهلة. كنت أتولى مهمة الخبز ذات شتاء في أحد مخيمات قطع الأخشاب من الأشجار. اعتدت آنذاك أن أفرغ جوال دقيق في حوض مصنوع من جذوع الأشجار المقطوعة، وأسكب عليه دلوا أو اثنين من الثلج المذاب، وأقلب بمعول على غرار مساعد البناء في صنع الملاط. لم تكن صناعتي للخبز تتسم بشيء من التفاهة أو الوضاعة. فقد كنت أعمل في تجارة الجملة.» «أشفق على الحطابين التعساء.» «شفقتك في غير محلها تماما يا آنسة هوارد. يجب أن تشفقي علي أنا لأنني كنت أضطر إلى الرضوخ لمثل تلك الشهيات التي كان هؤلاء الرجال يجلبونها معهم من الغابة. صحيح أنهم لم يشتكوا قط من جودة الخبز، لكنهم أحيانا ما كانوا يبدون بعض التذمر بشأن الكمية. كنت أطعم آلة درس الحنطة حزم الحنطة، وكنت أطعم آلة نشر الخشب جذوع الشجر المقطوعة، لكن شره هاتين الآلتين كان لا شيء مقارنة بشره قاطع أخشاب ضخم عاد للتو من قطع الأشجار. فكل ما يريده آنذاك هو قدر كاف، ووفير، من الخبز. ولم تكن لترضيه كمية محددة منه. بل يريد الخبز كله دفعة واحدة، ويريده فورا. وإن وجدت أي ضرورة للاغتسال، يؤجله إلى ما بعد الوجبة. لا أعرف شيئا، باستثناء الصحف الصباحية، لديه شهية تجاه أشياء متنوعة مثل رجال الغابات.»
لم تتفوه الفتاة بأي تعليق، لكن ييتس رأى أنها مهتمة بحديثه رغما عنها. كان الخبز آنذاك في الصاج، وكانت الفتاة قد سحبت الطاولة إلى وسط أرضية المطبخ، واختفى لوح الخبز، ونظف سطح الطاولة. وبحركة خفيفة ورشيقة من يديها، ألقت فوق سطح الطاولة المفرش الأبيض الناصع، الذي انساب عليها في موجات حتى استقر في مكانه أخيرا بهدوء كسطح بركة ساكن صاف تحت ضوء القمر. أدرك ييتس أن الطريق إلى النجاح يكمن في إبقاء زمام الحوار بين يديه، وعدم الاعتماد على أي رد. فبهذه الطريقة، قد يستطيع المرء عرض مخزونه من المعرفة على أفضل وجه ممكن، مثيرا به إعجاب المستمعين إليه وحيرتهم، حتى وإن كان مخزونه لا يحوي سوى عينات مثل بضاعة التاجر الرحالة، غير أن التاجر الرحالة الضليع في عمله يستطيع ترتيب عيناته على طاولة غرفته في فندق ترتيبا يعطي من يشاهدها فكرة عن مدى اتساع المخازن التي أخذت منها وغزارة محتوياتها.
قال ييتس بجدية رجل علامة: «الخبز موضوع مثير جدا للاهتمام. فهو موضوع تاريخي، بل وموضوع إنجيلي أيضا. فقد ورد ذكره في الكتاب المقدس كطعام أكثر من أي طعام آخر. إنه يستخدم في الأمثال الروحانية، وفي الإشارة إلى عبرة. «يجب ألا تعيش على الخبز وحده».»
وهنا رأى طيفا طفيفا من البريق في عين الفتاة، فخشي أن يكون استشهاده خاطئا. كان يعلم أنه لم يكن آنذاك في معرض الجزء الأكثر دراية به من بين عيناته من مخزون المعرفة؛ لذا سارع بالعودة إلى الجانب التاريخي من موضوعه. لم يكن أحد يضاهي ييتس في قدرته على الانزلاق إلى سلوكيات وأفعال تجعله على المحك سوى قلة قليلة من الناس، لكن فطنته الطبيعية دائما ما كانت تعيده إلى أرض أكثر صلابة.
قال: «لقد مر الخبز في هذا البلد بثلاث مراحل مميزة، ومع أنني من أقوى المؤمنين بالتقدم، ولكن في حالة أهم مادة غذائية لدينا، أرى أن خبز العصر الحاضر أدنى جودة من الخبز الذي كانت تصنعه أمهاتنا، أو ربما ينبغي أن أقول جداتنا. فالعصر الحاضر، مع الأسف، يتحول بخطى سريعة ليصبح عصر الآلات، وصحيح أن الآلات ربما تكون أسرع، لكنها بالتأكيد لا تضاهي دقة العمل اليدوي القديم. يوجد كاتب جديد في إنجلترا يدعى راسكن لديه تعصب شديد ضد الآلات. إنه يود أن يراها وقد أبيدت؛ على الأقل هذا ما يقوله. سأرسل في طلب أحد كتبه، وسأطلعك عليه، إذا سمحت لي بذلك.» «من المؤكد أنكم، في نيويورك، لا تصفون مؤلف كتاب «الرسامون المعاصرون» وكتاب «الأنوار السبعة للهندسة المعمارية» بأنه كاتب جديد. فوالدي يقتني أحد كتبه الذي لا شك أن عمره حوالي عشرين عاما.»
كان هذا أطول حديث وجهته إليه مارجريت، وقد سحره وأوقعه في حبها، كما قال للبروفيسور لاحقا في وصف تأثيره. واعترف للبروفيسور، ولكن ليس للفتاة، بأنه لم يقرأ قط أي كلمة من تأليف راسكن طوال حياته. وأما هذه الإشارة التي أشارها إلى ذاك الكاتب، فكانت نقلا عن شخص آخر ذكرها، وكان قد أدرجها من قبل في إحدى المقالات وكان لها تأثير قوي مبهر. فقد بدت آنذاك جملة «كما يقول السيد راسكن» ذات وقع جيد في مقالة صحفية؛ إذ أضفت عليها طابعا من سعة المعرفة والبحث. ومع ذلك، لم يكن السيد ييتس في هذه اللحظة مستعدا لخوض نقاش عن عمر الكاتب الإنجليزي أو محاسنه.
قال: «آه، حسنا، عمليا، فراسكن ليس جديدا بالتأكيد. ما قصدته أنه يعد - آآه - في نيويورك ... بالأحرى - كما تعلمين - جديدا نسبيا ... جديدا نسبيا. ولكن، كما كنت أقول عن الخبز، فقد أنتج عصر الخبز القديم في زمن الأكواخ المبنية من جذوع الأشجار، كما يمكنني أن أسميه، ألذ رغيف صنع في هذا البلد. كان ذلك هو الخبز الأبيض السميك الذي كان يخمر بمزيج من اللبن والملح والدقيق ودقيق الذرة، وكان يخبز في غلاية حديدية مستديرة ذات قعر مسطح. هل سبق لك أن رأيت غلاية الخبز التي كانت تستخدم قديما؟» «أظن أن السيدة بارتليت لديها واحدة، لكنها لم تعد تستخدمها الآن أبدا. كانت توضع على الجمر الساخن، أليس كذلك؟»
قال ييتس، ملاحظا في سرور أن جمود الفتاة قد بدأ يلين، كما عبر عن ذلك لنفسه: «بالضبط. كان الفحم الساخن يخرج وكانت الغلاية توضع عليه. وحين كان الغطاء يستقر في مكانه، كان يوضع بعض الفحم الساخن فوقه. كان الخبز متماسكا وأبيض وحلوا من الداخل، وتكسوه ألذ قشرة ذهبية من كل الجوانب. آه، كان ذلك خبزا بحق! لكني ربما كنت أقدره لأنني دائما ما كنت جائعا في تلك الأيام. ثم جاء ذلك التطوير المزعوم المسمى بالموقد الهولندي الصفيحي. وكانت هذه هي المرحلة الثانية في تطور الخبز في هذا البلد. كان ينتمي هو الآخر إلى عصر المنازل المبنية من جذوع الأشجار والمدافئ المفتوحة. كان الخبز يخبز بالحرارة المباشرة من النار والحرارة المنعكسة من الصفيح المصقول. أظن أن مواقد عصرنا الحالي المصنوعة من الحديد الزهر أفضل من هذا الموقد الهولندي، وإن كانت لا ترقى لمكانة الغلايات القديمة.»
لو كانت مارجريت من قراء صحيفة «نيويورك أرجوس»، لكانت ستلاحظ أن الحقائق التي عرضها ضيفها قد ذكرت بالفعل في هذه الصحيفة، بتفصيل أكبر، في مقالة بعنوان «خبزنا اليومي». وفي خضم الصمت الذي خيم بعدما أنهى ييتس خطبته المطولة عن زاد الحياة البشرية، كسر السكون بصيحة طويلة حادة. بدأت تلك الصيحة بنغمة متواصلة ممتدة وانتهت بصيحة مطولة أدنى من الأولى بنصف نغمة. لم تكترث الفتاة بها، لكن ييتس هب منتفضا على قدميه.
قال: «باسم ال... ما هذا؟»
ابتسمت مارجريت، ولكن قبل أن تستطيع الرد، كسر السكون مرة أخرى بما بدا أنه نغمات بوق قادمة من مسافة أبعد.
قالت: «الأول كان صوت كيتي بارتليت تنادي الرجال من الحقل ليعودوا إلى البيت لتناول الغداء. فالسيدة بارتليت مدبرة منزل ممتازة، وعادة ما تسبق الجيران في إعداد الوجبات ببضع دقائق. أما الثاني، فكان صوت بوق قادما من مسافة أبعد على الطريق. وهذا ما قد تأسى عليه لأن تطورات عصر الصفيح قد امتدت إلى نداء الغداء، تماما كما حل موقدك الصفيحي محل غلاية الخبز الأفضل. أحب صيحة كيتي أكثر بكثير من البوق الصفيح. فأنا أراها أكثر موسيقية، مع أنها جعلتك تنتفض حسبما بدا.»
صاح ييتس صيحة إعجاب جريئة، قائلا: «أوه، أنت تستطيعين التحدث!» فتلون وجه الفتاة قليلا من الخجل وانطوت على نفسها مرة أخرى. «وتستطيعين السخرية من معرفة الآخرين التاريخية أيضا. أيهما تستخدمين إذن: البوق الصفيحي أم الصوت الطبيعي؟» «لا هذا ولا ذاك. إذا نظرت إلى الخارج، فسترى راية أعلى صارية. هذه إشارتنا.»
خطر ببال ييتس أن الفتاة قصدت بهذا تلميحا إلى أنه قد يرى أشياء عديدة في الخارج تثير اهتمامه. شعر بأن زيارته لم تحقق النجاح الباهر الذي كان يتوقعه. بالطبع كان البحث عن الخبز مجرد ذريعة. كان يتوقع أنه سيستطيع محو الانطباع السلبي الذي كان يعلم أنه تركه بمحادثته المرحة المفعمة بالحيوية على طريق ريدج في اليوم السابق، وأدرك أن موقفه ما زال كما هو. كان قدر كبير من نجاح ييتس في الحياة يرجع إلى أنه لم يكن يدري بالهزيمة قط حين يتعرض لها. أبى الاعتراف بالهزيمة في تلك اللحظة، لكنه رأى أنه، لسبب ما، لم يكسب أي أفضلية في مناوشة تمهيدية. لذا استنتج أنه سيكون من الأفضل أن ينسحب بوقار، ويستأنف المنافسة في وقت ما في المستقبل. كان غير معتاد أي شيء من قبيل الرفض أو الصد إلى حد أن كل خصاله القتالية كانت في غاية الاستنفار، وقرر أن يظهر لتلك الفتاة المتبلدة أنه ليس بالرجل الذي يمكن الاستخفاف به.
وبينما كان ينهض، فتح باب القسم الرئيسي من البيت، ودخلت منه امرأة تجاوزت منتصف العمر بقليل بدا عليها أنها كانت جميلة في الماضي بلا شك، لكن وجهها المنهك الباهت كان يحمل قسمات الإعياء الصبور الذي غالبا ما ينتج من انقضاء فترة الشباب في إعانة زوج على التغلب على العناد الشديد لمزرعة أمريكية مليئة بالأشجار. فعادة ما يكون المنتصر في مهمة استصلاح المزرعة مهزوما. وكان جليا من النظرة الأولى إليها أنها الأم التي ورثت منها الابنة حسنها. لم تبد السيدة هوارد متفاجئة برؤية شخص غريب يقف في بيتها؛ ففي الواقع، بدا أنها قد فقدت قدرتها على الاندهاش من أي شيء. عرفت مارجريت أحدهما إلى الآخر بهدوء، وشرعت في تحضيراتها للوجبة. حيا ييتس السيدة هوارد بحفاوة شديدة. قال إنه قد أتى باحثا عن خبز. كان يظن أنه ذو قدر من الدراية بالخبز وصناعته، لكنه علم آنذاك أنه جاء في وقت مبكر للغاية من النهار. وأعرب عن أمله في أن يحظى بشرف تكرار زيارته.
قالت السيدة هوارد بقلق مضياف: «لكنك لن ترحل الآن؟»
أجاب ييتس بنبرة متباطئة: «يؤسفني القول إنني قد مكثت وقتا أطول من اللازم بالفعل. ورفيقي، البروفيسور رينمارك، أيضا قد خرج للبحث عن المؤن الغذائية عند جيرانكم، آل بارتليت. لا شك أنه قد عاد إلى المخيم منذ وقت طويل، وسيكون في انتظاري.» «لا خوف من ذلك. فالسيدة بارتليت لن تسمح أبدا لأي شخص بمغادرة منزلها قبل وجبة وشيكة.» «أخشى أن أسبب متاعب إضافية إذا بقيت. فأنا أتصور أن كل بيت ريفي لديه ما يكفيه من المشاغل وفي غنى عن استقبال أي متشرد عابر يمر به مصادفة. ألا تتفقين معي هذه المرة يا آنسة هوارد؟»
لم يكن ييتس راغبا في الرحيل، لكنه لم يرد البقاء إلا إذا تلقى دعوة من مارجريت نفسها إضافة إلى دعوة أمها. انتابه شعور غامض بأن ممانعته الرحيل تحسب له، وبأنه يتحسن. لم يستطع أن يتذكر أي مرة لم يرض فيها دون نقاش بأي شيء قسمته له الآلهة، وهذا الشعور المفاجئ غير المعتاد بالتواضع جعله يظن أن ثمة أغوارا في طبيعته لم تسبر حتى تلك اللحظة. ودائما ما يسعد المرء حين يدرك أنه أعمق مما كان يتصور.
ضحكت السيدة هوارد ضحكة خافتة؛ لأن ييتس شبه نفسه بمتشرد، وقالت مارجريت ببرود: «شعار الأم أن زيادة فرد واحد أو نقصانه لن يحدثا أي فارق.» «وما شعارك يا آنسة هوارد؟»
قالت السيدة هوارد مجيبة بالنيابة عن ابنتها: «لا أظن أن مارجريت لديها أي شعار. إنها كأبيها. تقرأ كثيرا وتتحدث قليلا. إنه يقرأ طوال الوقت، ما لم يكن مضطرا إلى العمل. أرى أن مارجريت قد دعتك بالفعل؛ لأنها وضعت طبقا إضافيا على المائدة.»
قال ييتس: «آه، إذن سيسعدني كثيرا قبول الدعوة الشفهية وتلك المتمثلة في الصحن الفخاري. أشعر بالأسى تجاه البروفيسور الذي سيتناول وجبته وحيدا بجوار الخيمة؛ فهو يستميت من أجل الالتزام الشديد بالواجب، وأنا متيقن من أن السيدة بارتليت لن تستطيع إبقاءه في بيتها.»
وقبل أن تستطيع السيدة هوارد الرد، تهادى في الهواء إليهم من الخارج، حيث كانت مارجريت موجودة، صوت مبتهج لم يجد ييتس صعوبة في إدراك أنه صوت الآنسة كيتي بارتليت.
قالت: «مرحبا يا مارجريت! أهو هنا؟»
كان الرد غير مسموع. «أوه، تعرفين من أقصد. ذاك الرجل المغرور الوافد من المدينة.»
من الواضح أن مارجريت وجهت إليها توبيخا وتحذيرا. «حسنا، لا يهمني إن سمع. سأخبره بذلك في وجهه. لعله يستفيد منه.»
وفي اللحظة التالية، ظهرت فتاة ذات طلة ساحرة في المدخل. كانت تموجات شعرها الشقراء التي كانت تتطاير حول كتفيها تحمل فوقها، بعفوية وعشوائية، قبعة أخيها المصنوعة من القش ذات الحافة العريضة المتآكلة. وكان وجهها متوردا من الركض، ولم يكن يوجد أدنى شك في حقيقة أنها فتاة جميلة للغاية.
قالت للسيدة هوارد: «كيف حالك؟» ثم حيت ييتس بإيماءة، وصاحت قائلة: «كنت أعرف أنك هنا، لكني جئت لأتأكد. ستنشب حرب في بيتنا. لقد احتجزت أمي البروفيسور في البيت بالفعل، لكنه لا يعرف ذلك. إنه يظن أنه سيعود إلى الخيمة، وهي تعبئ الأشياء التي يريدها، وتفعل ذلك ببطء شديد ريثما أعود. لقد قال إنك ستكون في انتظاره في الغابة بكل تأكيد. أخبرناه، أنا وأمي، بأنه ينبغي ألا يقلق بشأن ذلك. فأنت لن تترك مكانا فيه طعام شهي حتى ولو من أجل كل أساتذة العالم.»
فقال ييتس متضايقا بعض الشيء من صراحتها: «أنت بارعة في الحكم على الأشخاص يا آنسة بارتليت.» «أنا كذلك بالتأكيد. البروفيسور أدرى منك بكثير جدا، لكنه مع ذلك لا يدرى بالحظ السعيد حين يواتيه. في حين أنك تدري به. إنه رجل عنيد متحفظ.» «وأيهما أكثر استمالة لإعجابك يا آنسة بارتليت: رجل عنيد متحفظ أم رجل مغرور؟»
ضحكت الآنسة كيتي من أعماق قلبها دون ذرة شعور بالحرج. «تقصد الأكثر استمالة لكراهيتي. لا أعرف بالتأكيد. مارجريت، أيهما أبغض؟»
نظرت مارجريت نظرة تأنيب إلى جارتها حين سألتها بغتة هكذا، لكنها لم تقل شيئا.
فضحكت كيتي مرة أخرى واتجهت فجأة نحو صديقتها بخطوات وثابة وطبعت قبلة صغيرة، كنقرة طائر، على كل وجنة من وجنتيها، وصاحت قائلة: «حسنا، يجب أن أغادر، وإلا ستضطر أمي إلى تقييد البروفيسور لإبقائه»؛ ومن ثم انطلقت بسرعة وخفة كأنها غزال صغير.
علق ييتس حين خفت صوت رفرفة تموجات شعرها وفستانها المنسوج من القطن، قائلا: «فتاة غريبة.»
فصاحت مارجريت بتشديد قاطع: «إنها فتاة طيبة.»
قال ييتس متسائلا: «لم أقل شيئا عكس ذلك. ولكن ألا ترين أنها صريحة بعض الشيء في آرائها عن الآخرين؟». «لم تكن تعرف أنك تسمعها حين همت الحديث في البداية، وبعد ذلك أصرت على موقفها بجرأة وتحد. هذه عادتها. لكنها فتاة لطيفة وطيبة القلب، وإلا لما تحملت عناء المجيء إلى هنا لمجرد أن صديقك شخص فظ.»
قال ييتس، مسارعا إلى الدفاع عن صديقه كما سارعت الفتاة إلى الدفاع عن صديقتها: «أوه، ريني قد يتسم بأي شيء إلا الفظاظة. فكما كنت أقول منذ لحظة، إنه يستميت من أجل الالتزام الشديد بالواجب، وإذا كان يظن أنني أنتظره في المخيم، فلا شيء سيبقيه. أما الآن، فسيحظى بغداء طيب في سلام عندما يعرف أنني لا أنتظره، وهذا الغداء أطيب مما سيتناوله حين أتولى مهمة الطهي.»
وبحلول هذا الوقت، كانت الإشارة الصامتة على صارية العلم قد أدت مهمتها، ووصل والد مارجريت وشقيقها قادمين من الحقل. وضعا قبعتيهما العريضتين المصنوعتين من القش على سقف شرفة المطبخ، ثم أخذا الماء في وعاء قصديري من برميل تخزين مياه الأمطار، ووضعاه على دكة في الخارج، وشرعا في الاغتسال بنشاط وحيوية.
كان السيد هوارد أكثر اهتماما بضيفه من ابنته حسبما بدا. كان ييتس يتحدث بطلاقة وعفوية، كما كان يفعل دائما حين يحظى بجمهور متعاطف من المستمعين، وأظهر معرفة عفوية دون أي كلفة بكبار الشخصيات في العالم، أبهرت رجلا كان قد قرأ الكثير عنهم، لكنه كان محروما بعض الشيء من التعامل المباشر مع هذه الأوساط الصاخبة. كان ييتس يعرف الكثير من الجنرالات المشاركين في الحرب الأخيرة، وكل الساسة. لم يكن بين رجال السياسة رجل نزيه، حسبما ذكر الصحفي، في حين أن قلة قليلة فقط من الجنرالات هم من لم يرتكبوا أفدح الأخطاء. كان يعتبر العالم كنزا هائلا من الأناس العاديين، فيه العباقرة الحقيقيون مدفونون بعيدا عن الأنظار، إن كان لهم وجود أصلا، وهو ما بدا محل شك بالنسبة إليه، وفيه أولئك المتربعون على القمة قد وصلوا إليها إما بحياكة المؤامرات أو لأن الظروف هي التي دفعتهم إلى هناك. كانت آراؤه في بعض الأحيان تثير نظرة تألم على وجه الرجل العجوز، الذي كان متحمسا بأسلوبه الهادئ، وكان لديه أشخاص يراهم أبطالا. كان هذا الرجل ليصبح جمهوريا متعصبا لو كان يعيش في الولايات المتحدة، وكان قد تابع حرب السنوات الأربع الأمريكية الأهلية من خلال الصحف باهتمام بالغ وانهماك شديد. كان يرى أن ولايات الشمال كانت تحارب من أجل مبدأ الحرية الإنسانية العظيم الخالد، وانتصرت بجدارة. غير أن ييتس لم يكن لديه مثل هذه الأوهام. فقد قال إنها كانت حربا بين الساسة. فلم يكن للمبادئ مكان فيها ولا صلة. كانت ولايات الشمال على أتم الاستعداد لترك العبودية قائمة لو لم يفرض عليها هذا الموقف اضطرارا بسبب القصف المدفعي الذي شن على حصن سمتر. كما أن أسلوب إدارة الحرب لم يلق استحسان السيد ييتس على الإطلاق.
قال: «أوه، نعم، أظن أن جرانت سيدخل التاريخ كأحد الجنرالات العظماء. الحقيقة أنه ببساطة كان يعرف كيفية الطرح. هذا كل ما في الأمر. لقد كان يحظى بتلك الميزة الإضافية المتمثلة في الافتقار التام إلى الخيال. كان لدينا العديد من الجنرالات أعظم من جرانت، لكن التخيلات كانت تؤرق بالهم. فالتخيل من شأنه أن يدمر أفضل جنرال في العالم. أصغ إلي، لنأخذك مثالا. إذا افترضنا أنك قتلت رجلا بلا تعمد، سيؤرقك ضميرك طوال ما تبقى من حياتك. فكر إذن في الشعور الذي سينتابك إذا تسببت في وفاة عشرة آلاف رجل دفعة واحدة. سيحطمك ذلك تماما. قد يسفر الخطأ الذي يرتكبه إنسان عادي عن خسارة بضعة دولارات، وهي خسارة يمكن تعويضها، أما إذا أخطأ الجنرال، فلا يمكن تعويض الخسارة أبدا؛ لأن أخطاءه تقدر بأرواح الرجال. يقول «اذهبوا» حين كان ينبغي أن يقول «تعالوا.» يقول «اهجموا» حين كان ينبغي أن يقول «تراجعوا.» ما النتيجة حينئذ؟ خمسة أو عشرة أو خمسة عشر ألف رجل طرحوا قتلى في ميدان المعركة، والكثير منهم أفضل منه. لم ينتب جرانت أي شيء من هذا الشعور. لقد كان يعرف ببساطة كيف يطرح، كما قلت من قبل. الأمر هكذا: لديك خمسون ألف رجل ولدي خمسة وعشرون ألفا. حين أقتل خمسة وعشرين ألفا من رجالك وتقتل خمسة وعشرين ألفا من رجالي، يتبقى لديك خمسة وعشرون ألفا ولا يتبقى لدي أحد. حينئذ تصبح المنتصر، وتهلل لك جحافل الجماهير الحمقاء، لكن هذا لا يجعلك الجنرال الأعظم إطلاقا. لو كان لي لديه عدد مقاتلي جرانت، وكان جرانت لديه عدد مقاتلي لي، لانقلبت النتيجة. لقد عقد جرانت العزم على إجراء عملية الطرح البسيطة هذه، وأجراها؛ بل ربما أجراها بسرعة كما كان أي رجل آخر ليجريها، وكان يعلم أنه حين يفرغ منها، ستتوقف الحرب حتما. هذا كل ما في الأمر.»
هز الرجل المسن رأسه. وقال: «لا أظن أن التاريخ سيتبنى وجهة نظرك سواء عن دوافع من هم في السلطة أو الطريقة التي أديرت بها الحرب. لقد كانت نضالا نبيلا وعظيما، خاضه بروح بطولية أولئك المغيبون الذين كانوا على خطأ، وتحداهم أولئك من كانوا على صواب بعناد وتضحيات هائلة بأرواحهم.»
قال هوارد الصغير للصحفي بفظاظة أثارت عبوس والده: «كم كان من المؤسف أنك لم تستطع أن تريهم كيفية خوض الحرب.»
قال ييتس بلمعة فكاهية في عينيه: «حسنا، أومن في قرارة نفسي بأنني كنت سأمنحهم بعض النصائح القيمة. ومع ذلك، فات أوان التحسر على إهمالهم.»
فأضاف الشاب القليل الحياء: «أوه، ربما ما زالت لديك فرصة. يقال إن الفينيانيين قادمون هذه المرة لا محالة. يجب أن تتطوع، إما في صفوفنا أو صفوفهم، وتظهر لنا كيفية خوض الحروب.» «أوه، فزاعة الفينيانيين محض هراء! لن يغامروا. فهم يحاربون بأفواههم. هذه هي الطريقة الأكثر أمنا.»
قال الشاب بنبرة ذات مغزى ضمني: «أصدقك.»
ربما لأن الشاب كان من التهور بحيث تفوه بهذه التعليقات، فقد تلقى ييتس دعوة ودية حارة من السيد هوارد وزوجته إلى زيارة مزرعتهما بقدر ما يشاء. وقرر ييتس أن يستفيد من هذا الامتياز، لكنه كان سيصبح أشد تقديرا له لو أضافت الآنسة مارجريت إليه دعوة منها، غير أنها لم تفعل؛ ربما لأنها كانت منشغلة تماما بالاعتناء بالخبز. ومع ذلك، كان ييتس يعرف أن التقدم الظاهري في بناء علاقة ودية مع امرأة نادرا ما يساوي تقدما حقيقيا. وقد خففت هذه المعرفة من خيبة أمله.
وبينما كان عائدا إلى المخيم، تأمل مشاعره بشيء من الدهشة. كانت وتيرة الأحداث سريعة، حتى بالنسبة إليه، وهو ذاك الذي لم يكن بطيئا قط في أي شيء تولى أمره.
قال لنفسه: «هذه نتيجة الفراغ. فهذه هي المرة الأولى التي أحظى فيها بفترة راحة منذ خمسة عشر عاما. لم يكد يمر يومان من إجازتي، وها أنا ذا واقع في حب ميئوس منه!»
الفصل السابع
كان ييتس ينوي المرور بمنزل آل بارتليت ومرافقة رينمارك للعودة إلى الغابة، ولكن حين خرج، نسي وجود البروفيسور، وتجول هائما بعض الشيء عبر الطريق الجانبي، ضاربا بعصاه على الأعشاب التي دائما ما تنمو بغزارة على طول المصارف الواقعة على جانبي أي طريق ريفي كندي. كان النهار مشمسا ودافئا، وبينما كان ييتس يتجول في اتجاه الغابة، راودته أفكار كثيرة. كان قبل مجيئه يخشى أن يجد الحياة شديدة الملل بعيدا عن نيويورك، من دون أن يستطيع تسلية نفسه ولو بجريدة صباحية، التي كانت قراءتها باهتياج وانفعال قد صارت أشبه بعادة سيئة لديه، كالتدخين. كان يتخيل أنه لا يستطيع العيش دون جريدته الصباحية، لكنه أدرك في تلك اللحظة أنها ليست بهذه الأهمية الشديدة في حياته كما كان يظن، غير أنه تنهد حين تذكرها، وتمنى لو كانت لديه واحدة بتاريخ اليوم. فقد كان يستطيع في تلك اللحظة، لأول مرة منذ سنوات عديدة، أن يقرأ جريدة دون ذلك الخوف الغامض الذي دائما ما كان يهيمن عليه حين يهم بأخذ إحدى صحف المعارضة وهي ما زالت رطبة من مكبس الطباعة. فقبل أن يتمكن من الاستمتاع بقراءتها، كان من عادته أن يتفحصها بعينيه سريعا ليعرف ما إذا كانت تحوي أي خبر قد فاته في اليوم السابق. فقد كان شعور الصحفي بأنه على وشك أن يخسر «سبقا صحفيا» دائما ما يؤرق باله ويظل سيفا مسلطا على رأسه كسيف ديموقليس الذي كثيرا ما يستشهد به. فمع أن متعة التفوق على الصحف المعارضة هائلة، فإنها لا تخفف أبدا من حدة ألم أي انهزام أمامها. فلو وقعت كارثة مروعة، ونشرت صحيفة أخرى تفاصيل أكثر استيفاء مما نشرته صحيفة «أرجوس»، يجد ييتس نفسه يكاد يتمنى ألا تكون هذه الحادثة قد وقعت، مع أنه يدرك أن أمنية كهذه غير مهنية تماما.
وقد تجسدت فكرة ريتشارد عما ينبغي أن يكون عليه المراسل الحق في رجل عجوز بائس عاطل، كان يعمل لدى صحيفة صباحية، انتحر منذ فترة قريبة في ساعة متأخرة من اليوم كي يفوت على الصحف المسائية نشر خبر انتحاره المثير. وكان قبل انتحاره قد أرسل إلى الصحيفة التي كان يعمل لديها تقريرا وافيا عن وفاته بعنوان رئيسي وعنوان فرعي دقيقين، وذكر في رسالته إلى رئيس تحرير الصحيفة سبب اختياره الساعة السابعة مساء لتكون وقت رحيله عن عالم لا يقدره حق قدره.
قال ييتس لنفسه هامسا ومستجمعا رباطة جأشه فجأة: «آه حسنا، يجب ألا أفكر في نيويورك إن كنت أعتزم البقاء هنا أسبوعين. أعرف أنني سأشتاق للمدينة مبكرا جدا، ثم سأهرب إليها بأقصى سرعة. لن يكون هذا مقبولا تماما. فالجو هنا ساحر؛ إنه يملأ الإنسان بحياة جديدة. هذا هو المكان المناسب لي، وسألزمه إلى أن أستعيد عافيتي. تبا لنيويورك! ولكن يجب ألا أفكر في برودواي وإلا سأهلك.»
وصل إلى بقعة في الطريق استطاع أن يرى منها الجانب الأبيض من الخيمة تحت الأشجار الداكنة، وتسلق السياج ذا القضبان، وظل هناك بضع لحظات. كان صوت أحد طيور السمان الصادر على فترات متقطعة من حقل مجاور هو الصوت الوحيد الذي كان يكسر السكون المطبق. كانت رائحة الربيع الدافئة منتشرة في الأجواء. وكانت البراعم قد برزت من غلاف سباتها الشتوي مؤخرا، وكانت الأشجار، بلونها الأخضر الكثيف، تبدو ذات حداثة ونضارة تريحان النظر وتبهجان الحواس الأخرى. بدا العالم آنذاك كأنه لم يخلق إلا حديثا. أخذ الشاب نفسا عميقا من الهواء المنعش، وقال: «كلا، لا مشكلة إطلاقا في هذا المكان يا ديك. نيويورك مكان سخيف بالنسبة إليه.» ثم أضاف متنهدا: «سأرى إن كان بإمكاني تحمله أسبوعين. أتساءل كيف يتدبر الأولاد شئونهم من دوني.»
واصلت أفكاره وخواطره الانجراف إلى المدينة الكبرى رغما عنه، مع أنه قال لنفسه إن ذلك ليس بالأمر المقبول. حدق إلى المنظر الطبيعي الهادئ المترامي الأطراف لكن عينيه كانتا خاويتين من أي تعبير، ولم يكن يرى شيئا. كان صخب الشوارع يملأ أذنيه. وفجأة استفاق من تفكيره الحالم على صوت قادم من الغابة. «أيا ييتس، أين الخبز؟»
نظر ييتس حوله سريعا، مجفلا بعض الشيء، ورأى البروفيسور يتجه نحوه. «الخبز؟ لقد نسيته تماما. كلا، لم أنسه. كانوا لا يزالون يخبزونه، هذا كل ما في الأمر. سأذهب لإحضاره في وقت لاحق من اليوم. ما الغنيمة التي غنمتها يا بروفيسور؟» «معظمها خضراوات.» «جيد. هل حظيت بغداء طيب؟» «بل ممتاز.» «وأنا أيضا. ريني، حين قاطعتني، كنت أحصي عدد البيوت الريفية البادية في الأفق. ما رأيك في أن نتناول وجباتنا فيها تباعا كأجر لنا؟ أنت مدرس، ولا بد أنك تعرف كل شيء عن ذلك. ألا يشجعون التعليم في هذا البلد بدفع أقل أجر ممكن للمدرس، والسماح له بتقاضيه بتناول الطعام مجانا في البيوت بالتناوب؟ هل حصلت على أجرك طعاما مجانيا في البيوت من قبل يا ريني؟» «إطلاقا. لو أن هذه العادة كانت موجودة في كندا قديما، فقد عفا عليها الزمن الآن.» «هذا مؤسف. فأنا أكره أن أواجه طهيي يا ريني. فنحن نصبح أقل جرأة مع تقدمنا في السن. بالمناسبة، كيف حال بارتليت العجوز؟ أكان على أحسن ما يتوقع في ظروفه هذه؟» «بدا كعادته تماما. لقد أرسلت السيدة بارتليت كرسيين إلى الخيمة؛ إذ تخشى أن نصاب بالروماتيزم إن جلسنا على الأرض.» «إنها امرأة لطيفة يا ريني، وتراعي الآخرين. وهذا يذكرني بأن لدي أرجوحة شبكية في مكان ما بين متعلقاتي. سأعلقها. صحيح أن الكراسي مريحة، لكن الأرجوحة الشبكية ضرب من الترف والرفاهية.»
نزل ييتس تدريجيا بسلاسة من أعلى السياج، وسار الرجلان معا إلى الخيمة. بسطت الأرجوحة الشبكية وعلقت متدلية بين شجرتين. اختبرها ييتس بحذر، وأخيرا ائتمن ثناياها الشبكية المريحة على نفسه. كان يتأرجح في كسل وتراخ على ارتفاع عدة أقدام من الأرض، حين قال لرينمارك: «أسمي هذه جنة؛ جنة مستعادة؛ لكنها في الشهر المقبل ستكون جنة مفقودة. والآن، أيها البروفيسور، أنا جاهز للطهي، لكن لدي رغبة في فعل ذلك بالوكالة. الجنرال يوجه، والرجل العادي النافع ينفذ. أين خضراواتك يا ريني؟ بطاطس وجزر، أليس كذلك؟ ممتاز. الآن، هلا غسلتها يا ريني، لكن يجب أولا أن تحضر بعض المياه من النبع.»
كان البروفيسور رجلا صبورا، وامتثل إلى توجيهات صاحبه. فيما واصل ييتس التأرجح يمينا ويسارا وهو يتغزل في مباهج النهار وسكون الغابة ويتغنى بهما. لم يتكلم رينمارك سوى قليل، وكان كل اهتمامه منصبا على ما في يديه من عمل. أنهى تحضير الخضراوات، وأخذ كتابا من حقيبته، وأمال كرسيا إلى الخلف ساندا إياه إلى شجرة، وبدأ يقرأ.
ثم قال للرجل الناعس في الأرجوحة الشبكية: «سوف أعتمد عليك في إحضار الخبز.» «أنت محق يا ريني. ثقتك في محلها. سأنزل الآن في رحلة إلى عوالم الحضارة، وألبي تلك الحاجة الشديدة. سأذهب إلى آل هوارد مرورا بضيعة آل بارتليت، لكني أنذرك بأنني، إذا وجدت وجبة في أي من البيتين، فلن أكون موجودا معك هنا لأختبر أولى محاولاتك في الطهي. لذا ربما تضطر إلى الانتظار حتى الفطور لتعرف رأيي.»
حرر ييتس نفسه ببطء وعلى مضض من الأرجوحة الشبكية، ونظر إليها بأسف حين وقف مرة أخرى على الأرض. «هذا النضال المجنون من أجل الخبز يا بروفيسور هو لعنة الحياة هنا في الأسفل. فهو ما نسعى إليه جميعا. لولا ضرورة المأكل والملبس، ما أطيب الوقت الذي ربما قد يحظى به المرء. حسنا، أستودعك الرب يا ريني. إلى اللقاء.»
سار ييتس على مهل عبر الغابة حتى وصل إلى بداية درب يؤدي إلى ضيعة بارتليت. رأى المزارع وابنه يعملان في الحقول الخلفية. ومن بين البيت البعيد ومخزن الحبوب، ظهر عمود من الدخان الأزرق تصاعد مباشرة إلى الهواء الساكن، وبعدما وصل إلى ارتفاع معين، انتشر كغيمة ضبابية رقيقة فوق البيت. ظن ييتس في البداية أن بعض المباني الخارجية الملحقة بالبيت تشتعل، فأسرع الخطى وبدأ يركض، لكنه فكر للحظة فأدرك أن عمود الدخان كان ظاهرا للعاملين في الحقول، وأنهم ما كانوا ليواصلوا عملهم بهدوء لو كانت ثمة أي مشكلة. وحين وصل إلى نهاية الدرب الطويل، وانعطف بأمان عند زاوية مخزن الحبوب، رأى في المساحة المفتوحة بين ذلك المبنى والبيت نيران مخيم هائلة مشتعلة بالحطب. وكانت ثمة غلاية حديدية كبيرة معلقة فوق لهيب النيران من وتد عرضي محمول على دعامتين متفرعتين. كانت الغلاية شبه ممتلئة عن آخرها، وكان البخار قد بدأ يتصاعد بالفعل من سطحها، مع أن النيران كان من الواضح أنها لم توقد إلا منذ قليل. لم يكن الدخان كثيفا للغاية في هذه اللحظة، لكن كيتي بارتليت كانت واقفة هناك ممسكة بقبعة من القش عريضة الحواف في يديها تهوي بها لتبعد الدخان عن وجهها، فيما كانت القبعة تحمي محياها الوردي من النيران في الوقت نفسه. كان واضحا أنها لم تكن مستعدة لاستقبال ضيوف؛ إذ انتفضت حين خاطبها الشاب، واشتد تورد وجهها وسط انزعاجها الواضح من ظهوره غير المرغوب.
قال بنبرة ودية: «طاب مساؤك. أتستعدون للغسيل؟ كنت أظن أن يوم الإثنين هو يوم الغسيل.» «إنه كذلك.» «إذن، فمعلوماتي صحيحة. وأنتم لا تستعدون للغسيل إذن؟» «بل نستعد.»
ضحك ييتس من أعماق قلبه إلى حد انتزع من كيتي ابتسامة لا إرادية أنارت أساريرها. كانت دائما ما تجد صعوبة في الاحتفاظ بجديتها لأي فترة من الزمن.
قال ييتس وهو يعد النقاط على أصابعه الأربع: «من الواضح أن هذا لغز . أولا، الإثنين هو يوم الغسيل. ثانيا: اليوم ليس الإثنين. وثالثا: الغد أيضا ليس الإثنين. رابعا: نستعد للغسيل. أعلن استسلامي يا آنسة بارتليت. أرجو أن تخبريني بالحل.» «الحل أنني أصنع الصابون؛ صابونا لينا، إن كنت تعرف ماهيته.» «عمليا، لا أعرف ماهيته، لكني سمعت هذا المصطلح يستخدم في سياق متعلق بالسياسة. ففي الولايات المتحدة، نقول إن الرجل إذا كان دبلوماسيا للغاية، فهذا يعني أنه يستخدم صابونا لينا؛ لذا أظن أنه ذو خواص مزلقة. وقد استخدم سام سليك مصطلح «التملق اللين» بالطريقة نفسها، لكني لا أعرف أي شيء عن التملق، سواء أكان لينا أم صلبا.» «كنت أظنك تعرف كل شيء يا سيد ييتس.» «أنا؟ فليباركك الرب، ولكن لا. فأنا جامع متواضع في مجال المعرفة. لذا أحضرت معي أستاذا من تورنتو. أريد أن أتعلم شيئا. هلا علمتني كيفية صنع الصابون؟» «أنا مشغولة جدا الآن. حين قلت إننا نستعد للغسيل، ربما كان علي أن أخبرك بأن ثمة شيئا آخر لسنا مستعدين له اليوم.» «ما هو؟» «استقبال زائر.» «أوه، أظن يا آنسة بارتليت أنك قاسية علي قليلا. أنا لست زائرا. بل صديق للعائلة. أريد أن أساعد فحسب. ستجدينني طالبا في غاية الاجتهاد. هلا تعطيني فرصة؟» «لقد أنجز كل العمل الشاق بالفعل. لكنك ربما كنت تعرف ذلك قبل مجيئك.»
نظر ييتس إليها بنظرة توبيخ، وتنهد بعمق. «هذه نتيجة أن تكوني شخصا يساء فهمه. إذن أنت تظنين أن لدي عادة التهرب من العمل، من بين خصال سيئة أخرى؟ دعيني أخبرك يا آنسة بارتليت بأن سبب وجودي هنا أنني أفرطت في العمل الشاق. والآن، فلتعترفي باعتذارك عما قلته؛ لأنك تظلمين رجلا مضطهدا دهسته الأقدام بالفعل.»
ضحكت كيتي بابتهاج لهذا، وضحك ييتس أيضا؛ لأن حاسة استشعار الألفة والود لديه كانت قوية. «تبدو كما لو أنك لم تعمل في حياتك من قبل، لا أصدق أنك تعرف ماهية العمل.» «ولكن توجد أنواع مختلفة من العمل. ألا تسمين الكتابة عملا؟» «نعم، لا أسميها كذلك.» «أنت مخطئة في ذلك. إنها عمل، بل وعمل شاق أيضا. سأخبرك بعض المعلومات عن العمل الصحفي إذا علمتني صناعة الصابون. هذه مقايضة عادلة. أتمنى أن تقبليني تلميذا يا آنسة بارتليت، ستجدينني سريعا في التقاط المعلومات.» «حسنا، إذن فلتلتقط ذلك الدلو، وتملأ مقدار دلو من المياه.»
صاح ييتس بجدية صارمة: «سأفعل ذلك. سأفعل ذلك، مع أنه سيدمرني.»
التقط ييتس الدلو الخشبي الذي كان مطليا باللون الأزرق من الخارج ومزينا بشريط أحمر من أعلاه ومطليا من الداخل بلون قشدي. كان يطلق عليه «دلوا مبتكرا» في تلك الأيام؛ لأنه كان ابتكارا حديثا نسبيا؛ إذ كان أرخص وأخف وزنا وأقوى من الدلو الصفيحي، الذي كان يحل محله بوتيرة سريعة. كان يوجد عند البئر وتد متين مثبت من منتصفه على دعامة رأسية كان يتأرجح عليها كذراع الموازنة المتأرجحة في المحركات. وكان طرفه السميك، الذي كان مستقرا على الأرض، محملا بحجارة ثقيلة، فيما كان طرفه الرفيع، الذي كان مرتفعا عاليا في الهواء، يحمل وتدا رقيقا ذا خطاف متدليا فوق فوهة البئر. كان هذا الخطاف مزودا، في لفتة ذكية من صانعه، بزنبرك مصنوع من أخشاب شجر جوز الهند كان يغلق فورا حين يستقر مقبض الدلو على الخطاف؛ ليمنع انزلاق هذا الوعاء «المبتكر» عند إنزاله إلى سطح الماء. وسرعان ما أدرك ييتس فائدة هذا الاختراع؛ لأنه وجد أن ملء دلو خشبي من بئر عميقة لم يكن بالبساطة التي بدا بها. ظل الدلو يعلو ويهبط على سطح الماء. وحالما نسي ييتس ضرورة مواصلة إحكام قبضة قوية على الوتد، اندفع الدلو في اللحظة التالية مباشرة إلى خارج البئر اندفاعا مفاجئا مروعا. ولم ينقذ رأس ييتس سوى قفزة مفاجئة منه، كهذا الاندفاع، إلى الوراء. ابتهجت الآنسة بارتليت برؤية هذا الحادث مضحكا. وكان ييتس مصعوقا بشدة من انتفاضة الدلو المفاجئة إلى حد أن تأدبه الفطري لم يحظ بفرصة لمنع كيتي من رفع المياه بنفسها. أنزلت الوعاء، وجذبت العمود إلى أسفل بالتناوب بين يديها الاثنتين بطريقة رآها الشاب رائعة بكل تأكيد، ثم عكست نسق حركتها عكسا طفيفا يكاد يكون غير ملحوظ، فنجحت فورا في نيل مبتغاها. كان الشيء التالي الذي أدركه ييتس هو مشهد الدلو الممتلئ مستقرا على حافة البئر، والطقطقة الناتجة عن فتح الزنبرك المصنوع من خشب شجر جوز الهند وتحرر مقبض الدلو منه.
قالت كيتي محاولة كبت بهجتها: «أرأيت؟ هكذا تورد الإبل.» «أرى النتيجة النهائية يا آنسة بارتليت، لكنني لست واثقا من قدرتي على أداء الحيلة نفسها. هذه الأشياء ليست بالبساطة التي تبدو بها. ما الخطوة التالية؟» «صب المياه في المعالج.» «في ماذا؟» «قلت في المعالج. أين عساك أن تصبها إلا هناك؟» «أوه، لقد غلبتني الحيرة ووقعت في مأزق مرة أخرى. أرى أنني لا أفقه حتى أبجديات هذا العمل. فقديما كان المعالج هو الطبيب. وبالطبع لا تقصدين أن أغرق طبيبا؟»
قالت كيتي، مشيرة إلى أسطوانة خشبية رأسية مصفرة كبيرة كانت مستقرة على بعض الألواح المائلة، التي كان يسير أسفل سطحها سائل ذو لون بني خفيف يقطر في حوض: «هذا هو المعالج.»
وبينما كان ييتس يقف على دكة حاملا الدلو في يده، رأى الأسطوانة ممتلئة عن آخرها تقريبا برماد خشب مشبع بالماء. فصب فيها الماء، وسرعان ما غاص الماء داخلها وغابت عن ناظريه.
قال وهو ينزل من على الدكة: «إذن فهذا جزء من معدات صنع الصابون؟ كنت أظن أن الغلاية الحديدية المعلقة فوق النيران هي المصنع كله. أخبريني بمعلومات عن المعالج.»
قالت كيتي وهي تقلب محتويات الغلاية الحديدية بعصا طويلة: «هذا مكمن العمل الشاق في صناعة الصابون. فإبقاء المعالج مزودا بالمياه في البداية ليس رفاهية؛ لأن الرماد يجف بعد ذلك. إذا صببت فيه خمسة دلاء أخرى من المياه، فسأخبرك عنه.»
صاح ييتس مسرورا برؤية استياء الفتاة الذي كان واضحا في البداية من وجوده يتلاشى بسرعة: «حقا! الآن سترين كم أنا نشيط. فأنا رجل نافع أينما حللت.»
وحين أكمل مهمته، كانت الفتاة لا تزال تقلب السائل الذي كان يزداد كثافة في الغلاية، وتحمي وجهها من النار بقبعتها الكبيرة المصنوعة من القش. كان شعرها الأشقر المتشابك ذو الخصلات المتآلفة في عناقيد منسدلا حول كتفيها، ورأى ييتس، وهو يضع الدلو في مكانه بعدما أفرغه للمرة الخامسة، أنها تشكل صورة فاتنة وهي تقف هناك بجوار النيران، حتى وإن كانت تصنع الصابون اللين ليس إلا. «لقد أنهى الجني الشرير المهمة التي كلفته بها الأميرة الجنية. والآن حان وقت المكافأة. أريد معرفة كل التفاصيل عن المعالج. بادئ ذي بدء، من أين حصلت على هذه الأسطوانة الخشبية الضخمة التي ظللت أسكب فيها الماء دون نتيجة واضحة؟ أهي مصنعة أم طبيعية؟» «الاثنان. إنها جزء من شجرة الجميز.» «الجميز؟ لا أظنني سمعت بها من قبل. أعرف شجر الزان والقيقب وبعض أنواع البلوط، لكن معرفتي بالأشجار تتوقف عند هذا الحد. لماذا الجميز تحديدا؟» «تصادف أن شجرة الجميز مناسبة تماما لهذا الغرض. إنها شجرة جميلة جدا تسر الناظرين إليها. تبدو جيدة تماما من الخارج، لكنها ليست كذلك في العموم. فهي إما تكون نتنة أو جوفاء من الداخل، وحتى حين تكون سليمة، تكون الأخشاب المأخوذة منها قليلة القيمة؛ لأنها لا تتحمل الاستخدام. ومع ذلك، لا تستطيع معرفة ما إذا كانت تحمل أي منفعة أم لا إلا حين تبدأ في قطعها.» رمقت كيتي الشاب، الذي كان جالسا على جذع شجرة مقطوع يراقبها، بنظرة خاطفة. «أكملي يا آنسة بارتليت؛ أفهم قصدك. يوجد أناس كشجرة الجميز. الغابات مليئة بهم. لقد قابلت كثيرين من هذا النوع؛ أشخاص يسرون النظر من الخارج، لكنهم فارغون من الداخل. أنا واثق من أنك لا تقصدين أي إساءة شخصية؛ لأنك، بكل تأكيد، قد رأيت فائدتي في التزامي بنقل دلاء المياه. ولكن أكملي.»
قالت كيتي مقهقهة: «عجبا، لم أفكر في أي شيء من هذا القبيل، لكنهم يقولون إن من على رأسه ريشة ...» «بالطبع يقولون، لكن هذا القول خاطئ، كمعظم الأشياء الأخرى التي يقولونها. فالرجل الذي على رأسه ريشة هو من ينظر إليك في عينيك مباشرة. والآن، بعد أن تقطع شجرة الجميز، ماذا يحدث بعد ذلك؟» «تقطع بالمنشار بطول مناسب، على أن تكون مستوية عند أحد طرفيها ومائلة عند الطرف الآخر.» «لم الميل؟» «ألا ترى، أساس اللوح الخشبي الذي ترتكز عليه مائل؛ لذا يجب قطع طرف المعالج السفلي بميل، وإلا فلن يقف عموديا. سيسقط مع أول عاصفة.» «أرى، أرى. ثم ينقلونه وينصبونه؟» «أوه، لا يا عزيزي، ليس بعد. بل يضرمون فيه النيران حين يجف بما يكفي.» «حقا؟ أظن أنني أفهم الاستراتيجية العامة، لكني أغفل التفاصيل، كما حدث حين حاولت غمر ذلك الدلو الخشبي. ما فائدة النيران؟» «إحراق البقايا اللينة داخل الخشب، بحيث لا تبقي سوى القشرة الخارجية الصلبة. ومن ثم، من المفترض أن يسفر إحراق السطح الداخلي عن تحسين المعالج؛ أي يجعله أشد منعا لتسرب الماء.» «بالضبط. ثم ينقل وينصب؟» «نعم، ويملأ تدريجيا بالرماد. وحين يمتلئ، نصب الماء فيه، ونجمع الغسول القلوي وهو يقطر منه. ثم يوضع هذا الغسول في الغلاية مع الشحوم وجلد الخنزير وما شابه، وحين يغلي وقتا كافيا، ينتج صابونا لينا.» «وإذا غليته وقتا أطول من اللازم، فماذا ينتج؟» «صابونا صلبا، حسبما أظن. لم أجرب من قبل أن أغليه وقتا أطول من اللازم.»
قوطع حوارهما هنا بهسهسة في النيران، أحدثها الصابون الذي سقط عليها بعدما ظل يغلي غليانا مضطربا حتى فاض من الغلاية. فأسرعت كيتي تصب في الغلاية طستا من الغسول البارد، وقلبت المزيج بقوة.
قالت بنبرة توبيخ: «أرأيت نتيجة إبقائي منشغلة بالكلام الفارغ معك. سيتعين عليك الآن تعويض ذلك بجلب بعض الخشب وصب مزيد من الماء في المعالج.»
صاح ييتس، وهو يهب واقفا على قدميه: «بكل سرور. من دواعي سروري التكفير عن خطئي بإطاعة أوامرك.»
ضحكت الفتاة. وقالت: «خشب أشجار الجميز.» وقبل أن يستطيع ييتس التفكير في أي شيء يرد به على كيتي ظهرت السيدة بارتليت عند الباب الخلفي.
سألت قائلة: «ما حال الصابون يا كيتي؟ يا إلهي، أأنت هنا يا سيد ييتس؟» «أأنا هنا؟ ينبغي أن أقول إنني هنا منذ فترة. إنني هنا بالطبع. فأنا العامل الأجير. أنا قاطع الخشب وناقل المياه، أو، بالأحرى، ناقل كليهما. وفوق ذلك، كنت أتعلم كيفية صنع الصابون يا سيدة بارتليت.» «حسنا، لن يضيرك تعلم كيفية صنعه.» «بالتأكيد. فحين أعود إلى نيويورك، أول ما سأفعله هو أنني سأقطع شجرة جميز في الحديقة العامة بالفأس، إن استطعت العثور على واحدة، وسأصنع معالجا لنفسي. فالغسول يجدي نفعا في إدارة صحيفة.»
تلألأت عينا السيدة بارتليت؛ لأنها، وإن كانت لم تفهم هراءه تماما، كانت تعلم أنه محض هراء، وكانت تحب الأشخاص المرحين؛ لأن زوجها كان شخصا جادا للغاية.
قالت: «الشاي جاهز. ستبقى معنا بالطبع يا سيد ييتس.» «في الحقيقة، يا سيدة بارتليت، لا أستطيع فعل ذلك بضمير مرتاح. فأنا لم أتناول وجبة عن استحقاق منذ الوجبة الأخيرة. لا، لن يسمح لي ضميري بالقبول، لكني مع ذلك أشكرك.» «هراء؛ فضميري لن يسمح لك بالرحيل جائعا. لو لم يأكل أحد سوى أولئك الذين يحصلون على غذائهم عن استحقاق، فسيزيد عدد الجوعى في العالم. ستبقى بالطبع.» «هذا ما أوده، يا سيدة بارتليت. أود أن أحصل على فرصة لرفض دعوة أتوق إليها، ثم أجبر على قبولها. هذه هي الضيافة الحقيقية.» ثم أضاف هامسا في أذن كيتي: «إذا جرؤت على قول «جميز»، يا آنسة بارتليت، فسأتشاجر معك.»
لكن كيتي لم تقل شيئا، بعدما ظهرت أمها في المشهد، لكنها قلبت محتويات الغلاية بكل جد.
قالت الأم: «كيتي، نادي الرجال ليتناولوا العشاء.»
قالت كيتي، وقد تورد وجهها: «لا أستطيع ترك هذا، سيفور من شدة الغليان. ناديهم أنت، يا أمي.»
ومن ثم رفعت السيدة بارتليت راحتيها على جانبي فمها، وأطلقت تلك الصيحة الحادة الطويلة، التي قوبلت بصوت خافت آت من الحقول، ولاحظ ييتس، الذي كان رجلا متبصرا، برضا أضمره في داخله أن كيتي بالتأكيد رفضت فعل ذلك لأنه كان موجودا.
الفصل الثامن
قال ييتس بعد واقعة الصابون ببضعة أيام وهو يتأرجح في أرجوحته الشبكية في المخيم: «أقول لك شيئا يا ريني، إنني أتعلم شيئا جديدا كل يوم.»
سأله البروفيسور متفاجئا: «حقا؟». «نعم، حقا. كنت أعرف أن هذا سيذهلك. إن سعادتي الكبرى في الحياة أيها البروفيسور هي إدهاشك. أحيانا ما أتساءل لماذا يسعدني ذلك، فهو يحدث بسهولة تامة.» «لا تكترث بذلك. ماذا تتعلم؟» «الحكمة يا بني، الحكمة بكميات هائلة. بادئ ذي بدء، أتعلم الإعجاب بسعة حيلة أولئك الناس الذين يعيشون حولنا. فهم يصنعون كل ما يحتاجون إليه تقريبا بأيديهم. إنهم أكثر الذين رمتني الأقدار وسطهم اعتمادا على أنفسهم على الإطلاق. أرى حياتهم الحياة المثالية.» «أظنك قلت شيئا كهذا في اللحظة الأولى التي أتينا فيها إلى هنا.» «قلت هذا، أيها الأحمق، عن التخييم في العراء. أما الآن فأتحدث عن حياة الريف. إن المزارعين يستغنون عن الوسطاء من التجار والحرفيين على نحو واقعي جدا، وهذا في حد ذاته يمثل شوطا طويلا نحو السعادة التامة. سأضرب لك مثالا بصناعة الصابون، التي حدثتك عنها؛ فهكذا تحصل على صابون رخيص وجيد. وحين تصنع الصابون بنفسك، تعرف ماهية ما بداخله، ولتزهق روحي إن كنت تعرف ذلك حين تشتريه بثمن باهظ في نيويورك. هنا يصنعون كل ما يحتاجون إليه تقريبا بأنفسهم، ما عدا العربة والأواني الفخارية، ولست واثقا من ذلك، لكنهم كانوا يصنعونها أيضا قبل بضع سنوات. والآن، حين يستطيع رجل بفأس حاد جيد وسكين قابل للطي أن يفعل أي شيء من تشييد بيته إلى نحت كرسي، يكون أكثر الرجال استقلالا على وجه الأرض. لا أحد يعيش حياة أفضل من هؤلاء الناس. كل شيء طازج وحلو وطيب. ربما يكون لهواء الريف تأثير في ذلك، لكني أرى أنني لم أتذوق في حياتي وجبات كتلك التي تعدها السيدة بارتليت، على سبيل المثال. إنهم لا يشترون شيئا من المتاجر سوى الشاي، وأنا شخصيا أعترف بأني أفضل اللبن. دائما ما كانت ميولي بسيطة.» «وما الاستنتاج النهائي من ذلك؟» «عجبا لك، هذه هي الحياة كما ينبغي أن تعاش. فهيرام العجوز لديه سندان وفرن حدادة بسيط. لذا يستطيع إصلاح أي شيء معدني تقريبا، وهذا يغني عن الحداد. وهوارد لديه دكة نجارة ومناشير ومطارق وأدوات أخرى، وهذا يغني عن النجار. فيما تغني النساء عن الخباز وصانع الصابون والكثير من المتطفلين الآخرين. والآن، حين تستغني عن كل الوسطاء من التجار والحرفيين، يتحقق لك الاستقلال؛ ومن ثم السعادة التامة. حينئذ لا تستطيع أن تبعد السعادة ببندقية.» «ولكن كيف يصبح مصير الحداد والنجار وبقية هؤلاء حينئذ؟» «دعهم يحصلوا على أراض ويشتغلوا بها ويحظوا بالسعادة أيضا؛ يوجد كم وفير من الأراضي. الأرض تنتظرهم. وانظر حينئذ كيف سيزول أرباب العمل. هذا هو الخلاص الأجمل على الإطلاق. فحتى النجارون والحدادون عادة ما يضطرون إلى العمل تحت رئاسة أحدهم، وإذا لم يضطروا إلى ذلك، يضطرون إلى الاعتماد على الرجال الذين يشغلونهم. أما المزارع، فلا يضطر إلى إرضاء أحد سوى نفسه. وهذا يعزز استقلاله. وهذا هو ما يجعل هيرام العجوز مستعدا للتشاجر مع أول شخص يلتقيه من أقل استفزاز ممكن. فهو لا يكترث بهوية من يسيء إليه، ما دام شخصا آخر غير زوجته. هؤلاء الناس يعرفون كيف يصنعون ما يحتاجون إليه، أما ما لا يستطيعون صنعه، فيستطيعون تدبر أمورهم من دونه. وهذا هو السبيل إلى إقامة أمة عظيمة. فبهذه الطريقة تنشئ شعبا مكتفيا ذاتيا وقوي العزيمة ولا يقهر. فالسبب في تغلب ولايات الشمال على ولايات الجنوب أننا حشدنا معظم جيوشنا من طبقة المزارعين المعتمدين على أنفسهم، في حين أننا اضطررنا لمحاربة أناس اعتادوا تلبية احتياجاتهم بأيادي غيرهم على مدى أجيال.» «لماذا لا تشتري مزرعة إذن يا ييتس؟» «لعدة أسباب. فأنا مدلل جدا إلى حد يعجزني عن الحياة هنا. إنني كالسكير الذي يعجب بحياة عفيفة، لكنه لا يستطيع أن يمر بأي حانة دون أن يدخلها. إن فيروس المدينة يجري في دمي. وكذلك ربما لست راضيا تماما عن المنحى الذي تتخذه الحياة الريفية رغم كل شيء؛ فهي مع الأسف تمر بحالة انتقالية. إنها في مرحلة البيوت ذات الهياكل المصنوعة من عوارض خشبية، وستتطور قريبا إلى مرحلة الطوب الأحمر. وأنا أشتاق إلى زمن البيوت المبنية من جذوع الأشجار. فكل ما كان المرء يحتاج إليه آنذاك كان يصنع في المزرعة. وحين يحل عصر البيوت المبنية من الطوب، سيتفشى الوسطاء. لقد رأيت منذ بضعة أيام في بيت آل هوارد مجموعة من الأحجار القديمة أثارت اهتمامي بقدر ما قد يثير الرخام الآشوري اهتمامك. كانت أحجار رحى قديمة منزلية الصنع، ولم تستخدم منذ أن شيدت البيوت ذات العوارض الخشبية. فطاحونة القمح والحبوب جعلت الزمن يعفو عليها. ولتلاحظ هنا بالضبط دهاء الوسيط الماكر. فالمزارع يأخذ حبوبه إلى الطاحونة، ولا يفرض الطحان عليه نقودا نظير الطحن. بل يأخذ ثمن الطحن من أكياس القمح نفسها، ويتوهم المزارع أنه ينال خدمة الطحن بلا مقابل تقريبا. الطريقة القديمة كانت الأفضل يا ريني يا بني. لن يكون ابن المزارع سعيدا في البيت المشيد بالطوب الذي سيبنيه له البناء كما كان جده سعيدا في البيت المبني بجذوع الأشجار الذي بناه بنفسه. والحمقى يسمون هذا التغيير تقدم الحضارة.»
قال رينمارك موافقا إياه: «ثمة بعض المحاسن في الأوضاع الحياتية القديمة. وإذا استطاع امرؤ الجمع بين محاسن ما نسميه الحضارة ومحاسن الحياة الريفية البسيطة، فسيدشن وضعا رائعا وسارا بحق.»
صاح ييتس قائلا بحماس: «بالضبط يا رينمارك، بالضبط! قصر من الحجر الرملي الأسمر في شارع فيفث أفينيو وكوخ من جذوع الشجر على شواطئ بحيرة ليك سوبيريور! سيناسبني هذا تماما. سأقضي كل نصف من العام في أحد المكانين.»
قال البروفيسور متأملا: «نعم، كوخ من جذوع الشجر على الصخور وتحت الأشجار، وأمامه بحيرة، وسيكون من الرائع أن يلحق بالكوخ مكتبة جيدة.» «وصحيفة يومية. لا تنس الصحافة.» «كلا. هذا يتجاوز الحد الأقصى لما أسمح به هناك. فصحيفة يومية تعني وجود باخرة يومية أو قطار يومي. الأولى سترعب الأسماك وتبعدها والثاني سيعكر السكون بصافرته.»
تنهد ييتس. وقال: «لقد نسيت العقبات. هذه هي مشكلة الحضارة. لا تستطيع نيل ما تريده دون أن يجلب في أثره الكثير مما لا تريده. سأضطر إلى التخلي عن الصحيفة اليومية.» «بل وتوجد عقبة أخرى أيضا، أسوأ من الباخرة أو القطار.» «ما هي؟» «الصحيفة اليومية نفسها.»
انتصب ييتس في أرجوحته ساخطا.
صاح قائلا: «رينمارك! هذه إهانة للمقدسات. فلتقدس شيئا ما يا رجل من أجل الرب. إن كنت لا تحترم الصحافة، فماذا تحترم؟ ليس أعز مشاعري بالطبع، على أي حال، وإلا ما كنت لتتكلم بهذه الوقاحة. إذا تحدثت بلطف عن صحيفتي اليومية، فسأتقبل مكتبتك.» «وهذا يذكرني بشيء: هل أحضرت أي كتب معك يا ييتس؟ لقد طالعت معظم الكتب التي أحملها معي بالفعل، وإن كان العديد منها يستحق المطالعة مرة أخرى، ومع ذلك، لدي متسع هائل من الوقت إلى حد يجعلني أظن أنني ربما أستطيع الانغماس في قدر بسيط من القراءة العامة. فحين أرسلت إلي تطلب مني لقاءك في بافالو، ظننت أنك ربما كنت تعتزم التسكع في البلاد؛ لذا لم أحضر معي من الكتب قدر ما كان ينبغي أن أحضر لو كنت أعرف أنك ستخيم في العراء.»
هب ييتس قافزا من أرجوحته الشبكية. «كتب؟ حسنا، بالتأكيد! ربما تظن أنني لا أقرأ سوى الصحف اليومية. سأعرفك أنني قارئ مواظب على القراءة بعض الشيء. يجب ألا تتصور أنك تحتكر كل الثقافة في البلدة يا بروفيسور.»
دخل الشاب إلى الخيمة، وعاد منها بعد وقت قصير حاملا ملء ذراعيه مجلدات صغيرة ذات أغلفة ورقية صفراء أخذ يلقيها بغزارة عند قدمي الرجل الوافد من تورنتو. كان معظمها من روايات المغامرات الميلودرامية الرخيصة التي أصدرتها دار نشر «بيدل»، والتي حققت مبيعات هائلة آنذاك.
قال: «هاك، لديك الكم والكيف والتنوع، كما أشرت من قبل. «سو القاتل من كالامازوو»، هذه رواية جيدة. إنها قصة هندية ستجعل شعرك يتوقف حرفيا من فرط الرعب. وهذه التي تنظر إليها قصة عن القراصنة، بناء على صورة السفينة المحترقة الظاهرة على غلافها. ولكن إذا كنت تريد قصصا طويلة ممتازة عن قطاع الطرق، فهذه الطبعة الأخرى هي الأفضل. تلك مجموعة «سيكستين سترينج جاك». إنها ضخمة، وإن كان سعر الواحدة منها ربع دولار. يجب أن تبدأ بالمجلد الصحيح، وإلا ستندم. فكما ترى، إنها لا تنتهي أبدا في الحقيقة، مع أن كل مجلد من المفترض أن يكون تاما في حد ذاته. فالمجلدات تتوقف عند النقطة الأشد تشويقا، وتستأنف القصة في المجلد التالي. أرى هذه فكرة جيدة، لكنها مثيرة للغضب إذا بدأت من الكتاب الأخير. ستستمتع بهذا جدا. أنا سعيد بأنني أحضرتها معي.»
قال رينمارك وقد ارتسم على شفتيه شبح ابتسامة: «هذه نعمة. أستطيع القول بكل صدق إنها جديدة تماما علي.»
صاح ييتس بنبرة متعالية ملوحا بيده: «لا بأس يا بني. استخدمها كأنها ملكك.»
قام رينمارك على مهل، وأخذ كمية من الكتب.
قال: «ستكون هذه ممتازة في إشعال نيران المخيم الصباحية. وإذا كنت ستسمح لي بأن أعتبرها ملكي، فهذا هو الغرض الذي سأستخدمها من أجله. فأنت بالتأكيد لا تقصد القول إنك تقرأ هذه النفايات، أليس كذلك يا ييتس؟»
صاح ييتس ساخطا: «نفايات؟ أستحق ذلك. هذا جزاء من يعاملك بكرم وإحسان يا ريني. حسنا، لست مضطرا إلى قراءتها، ولكن إذا وضعت أحدها في النار، فستتبعه أطروحاتك البحثية الغبية، إذا لم تكن أصلب من أن تحرق. إنك لا تميز الأدب الجيد حين تراه.»
لم ير البروفيسور ضرورة للدفاع عن ذوقه الأدبي؛ إذ كان مفعما بالثقة، ربما بسبب الزهو الذي عادة ما ينتاب رجلا يحوز شهادة دبلوم حقيقية من جلد الأغنام ممنوحة من جامعة مرموقة. فشغل نفسه بتقليم عصا كان قد قطعها من إحدى أشجار الغابة وشكلها أخيرا في هيئة عصا سير. كان رجلا رياضيا، ولم يناسبه كسل حياة المخيم كما ناسب ييتس. اختبر العصا بطرق مختلفة بعدما قلمها حسب رغبته.
سأل صاحبه المسترخي في الأرجوحة الشبكية: «أمستعد للسير عشرة أميال؟» «يا إلهي، لا. فالمرء لا يريد السير هنا بالأسفل إلا قليلا، ولا يريد كذلك أن تبلغ مسافة مسيره عشرة أميال. فأنا رجل قنوع. أنت راحل، أليس كذلك؟ حسنا، وداعا. وأصغ إلي يا ريني، فلتحضر معك بعض الخبز وأنت عائد إلى المخيم. فهذا هو الشيء الوحيد الآمن الذي يمكن فعله.»
الفصل التاسع
سار رينمارك عبر الغابة ثم عبر الحقول حتى وصل إلى الطريق. تجنب مساكن البشر قدر المستطاع؛ لأنه لم يكن ذا نزعة اجتماعية قوية ولا كثير الجوع كرفيقه. سار بخطى واسعة على طول الطريق غير مبال بالوجهة التي يقود إليها. وكان كل من يقابله يتمنى له «يوما طيبا»، وفق عادات أهل الريف الودية. أما معظم أولئك الذين كانوا يسيرون في اتجاهه بعربات أو مركبات أخف، فكانوا عادة ما يعرضون عليه توصيله، ثم يمضون في طريقهم متعجبين من أن يختار رجل السير دون أن يكون مضطرا إلى ذلك. كان البروفيسور، كمعظم الرجال الصامتين، يجد في نفسه صحبة جيدة، ولم يكن يشعر بالحاجة إلى رفقة في مسيراته. لذا انتابه شعور بالارتياح وليس الإحباط حين رفض ييتس مرافقته. وكان ييتس، الذي كان يتأرجح ناعسا في أرجوحته، مستمتعا مثله تماما. فحتى حين يجمع بين الرجال صداقة قوية حميمة، تشكل الأيام القليلة الأولى من تخييمهما معا ضغطا شديدا على ما يحمله كلاهما من ود واحترام تجاه الآخر. ولو كان دامون وبيثياس قد سكنا خيمة واحدة معا طوال أسبوع، ربما كان ألد عدو لأحدهما أو كليهما سيقدم في نهاية ذلك الأسبوع على دخول الخيمة في أمان تام، وكان سيلقى ترحيبا أيضا.
جالت هذه الخواطر في بال رينمارك وهو يتمشى. فقد أظهرت له معاشرته لييتس بضعة أيام مدى البعد الذي صار قائما بينهما بسبب اتباعهما مسارين يزدادان تباعدا كلما مشيا فيهما. واتضح أن صداقة شبابهما لم تكن سوى مجرد صداقة عابرة قصيرة. فلم يكن أيهما الآن ليختار الآخر صديقا مقربا. لقد تلاشى وهم آخر.
قال رينمارك لنفسه وهو يواصل السير: «لدي بالتأكيد قدر كاف من رباطة الجأش لأتحمل تفاهته السطحية أسبوعا آخر، دون أن أدعه يعرف رأيي فيه.»
كان ييتس في الوقت نفسه مستمتعا تماما بهدوء المخيم وسكونه. «هذا الرجل مدرس مبالغ فيه؛ إذ يحمل كل عيوب الأنواع التي تطورت تطورا غير طبيعي. وإذا صارحته مرة برأيي فيه، فسيعرف حقائق عن نفسه في عشر دقائق أكثر مما سمعها طوال حياته. لقد صار متزمتا صلفا إلى حد لا يطاق.» هكذا جالت أفكار ييتس في خاطره وهو يتأرجح في أرجوحته ناظرا إلى السقف من فوقه المكون من الأوراق الخضراء.
ومع ذلك، لم يكن الوضع بهذا السوء الذي ظنه أي منهما. فلو كان كذلك، لكان الزواج حينئذ علاقة فاشلة ، بل وشبه مستحيلة. وإذا استطاع رجلان تخطي أيامهما الأولى معا في خيمة واحدة دون مشاجرة، تصير الحياة أسهل ويهدأ التوتر.
كان رينمارك يقطع أمياله العشرة بسرعة دون اكتراث كبير بمن كان يقابلهم، لكن سائق إحدى العربات المارة أوقف حصانه، ودنا من رينمارك مخاطبا إياه.
قال له: «طاب يومك. كيف حال معيشتك في الخيمة؟»
تعجب البروفيسور من السؤال. هل ذاع خبر تخييمهما الغريب في العراء في كل أنحاء الريف؟ لم يكن سريعا في تمييز هوية الآخرين، بل كان ينتمي إلى نادي «أتذكر وجهك لكني لا أستطيع تذكر اسمك»، كما حدث معه في هذا الموقف. كان يقال عنه إنه لم يكن يعرف أبدا، في أي وقت من الأوقات، أسماء أكثر من ستة طلاب في صفه الدراسي، لكن هذا كان تشهيرا كاذبا به أثناء دراسته في الجامعة. كان الشاب الذي خاطبه يقود حصانا واحدا مربوطا بعربة أسماها «الديموقراط»، وهي عربة خفيفة ذات أربع عجلات ليست صغيرة وأنيقة كالعربة البوجية الخفيفة ولا ثقيلة وخرقاء كالعربة العادية. رفع رينمارك ناظريه نحو السائق بجهل ممتزج بالحيرة، وكان منزعجا لأن شعورا غامضا خالجه بأنه قابله في مكان ما من قبل. لكن دهشته من مبادرة ذلك السائق بمخاطبته سرعان ما تحولت إلى ذهول حين انتقلت عيناه من على السائق إلى حمولته. كانت «الديموقراط» محملة بكومة من الكتب المكدسة. كانت المجلدات الأكبر متراصة بإحكام بطول جوانب العربة ملاصقة لها، وبذلك منعت الكومة المليئة بالكتب المتنوعة من السقوط على الطريق من شدة الاهتزاز. تلألأت عيناه باهتمام جديد حين وقعت على الأغلفة المتعددة الألوان، وميز من وسط الكومة الأغلفة البنية المميزة لطبعات «هنري جورج بون» من الترجمات الكلاسيكية، التي كانت متناثرة كالكثير من ثمرات اللفت فوق قمة هذه التلة الأدبية. فرك عينيه ليتيقن من أنه لا يحلم. فكيف لابن مزارع أن يقود حمولة عربة من الكتب في براري الريف بلا مبالاة كأنها كم هائل من بوشلات البطاطس؟
رأى السائق الشاب، الذي أوقف حصانه لأن الحمولة كانت ثقيلة والرمال كانت عميقة، أن السائر الغريب عجز عن تمييز هويته، بل ونسي كل شيء آخر حالما وقعت عيناه على الكتب. وبدا واضحا أنه يجب أن يخاطبه مرة أخرى.
سأله قائلا: «إذا كنت عائدا، هلا تركب معي لأوصلك؟».
قال البروفيسور هابطا من شروده إلى أرض الواقع مرة أخرى ومتسلقا العربة ليركب بجوار الشاب: «أظن ... أظن أنني سأركب.»
قال الأخير وهو ينطلق بحصانه مرة أخرى: «أرى أنك لا تتذكرني. اسمي هوارد. لقد مررت بك في عربتي حين كنت قادما بخيمتك في ذلك اليوم على طريق ريدج. ورفيقك - ماذا كان اسمه ... ييتس، أليس كذلك؟ - تناول الغداء في بيتنا منذ بضعة أيام.» «آه، نعم. تذكرتك الآن. كنت أظن أنني رأيتك من قبل، لكن اللقاء استمر بضع لحظات فقط، كما تعلم. إن ذاكرتي سيئة للغاية في تذكر الأشخاص. ودائما ما كان ذلك أحد عيوبي. هل هذه كتبك؟ وكيف حصلت على مثل هذا الكم؟»
قال هوارد الشاب: «أوه، هذه المكتبة.» «المكتبة؟» «نعم، مكتبة البلدة، كما تعلم.» «أوه، البلدة لديها مكتبة إذن؟ لم أكن أعرف.» «حسنا، هذا جزء منها. إنه الجزء الخامس. أنت على دراية بشأن مكتبات البلدات، ألست كذلك؟ لقد قال رفيقك إنك كنت جامعيا.»
تورد وجه رينمارك خجلا من جهله، لكنه لم يجد غضاضة في الاعتراف بذلك. «علي أن أخجل من الاعتراف بذلك، لكني لا أعرف شيئا عن مكتبات البلدات. فلتحدثني عنها من فضلك.»
كان هوارد الصغير متحمسا لتقديم المعلومات إلى رجل جامعي، لا سيما عن موضوع الكتب، الذي كان يعتبره جزءا من اختصاص أولئك الرجال الذين تعلموا في الجامعة. وكان سعيدا كذلك باكتشاف أن سكان المدينة لا يعرفون كل شيء. فلطالما كان يظنهم كذلك، وتأكد لديه ذلك الظن بطريقة مزعجة حين رأى الثقة المفرطة التي تصرف بها ييتس. كان واضحا أن البروفيسور رجل مهذب، لم يتظاهر بأنه ذو معرفة موسوعية شاملة. وكان هذا مشجعا. لذا أعجب الشاب برينمارك أكثر مما أعجب ببيتس، وكان سعيدا بأنه عرض عليه توصيله، صحيح أن هذا كان هو العرف السائد بالطبع، ولكن قد يعفى منه الشخص حين يقود حصانا واحدا ويجر حمولة ثقيلة على طريق رملي.
قال شارحا: «حسنا، أصغ إلي، الوضع هكذا: تقر البلدة مبلغا من المال بالتصويت، لنقل مائة دولار أو مائتين على سبيل المثال، حسب الظروف. ويخطرون الحكومة بهذا المبلغ، فتضيف الحكومة إليه المقدار نفسه. إنه أشبه باللعبة القديمة: فكر في رقم، وهم سيضاعفونه. تملك الحكومة مستودع كتب في تورنتو حسبما أظن، وتبيعها بسعر أرخص من متاجر الكتب. على أي حال، تشترى كتب بقيمة أربعمائة دولار، أو أيا كان المبلغ، وتصبح ملك البلدية. ثم يختار خمسة أشخاص في البلدة ليكونوا أمناء مكتبات، ويتولون مسئولية الحفاظ عليها. والدي هو أمين المكتبة المعني بهذا القسم من البلدة. تقسم المكتبة إلى خمسة أجزاء، ويحصل كل أمين مكتبة على حصة معينة. أذهب مرة في السنة إلى القسم التالي وآخذ كل كتبهم. وهم يذهبون بدورهم إلى القسم التالي ويأخذون كل الكتب الموجودة هناك. سيأتي رجل إلى بيتنا اليوم ويأخذ كل الكتب الموجودة لدينا. وهكذا نجري تغييرا كاملا كل عام، وفي خمس سنوات، نستعيد الدفعة الأولى من الكتب، التي نكون قد نسيناها تماما بحلول ذلك الوقت. واليوم هو يوم التغيير في كل الأقسام.»
سأله البروفيسور: «وهل تعار الكتب إلى أي من يريد قراءتها في كل قسم؟» «نعم. تحتفظ مارجريت بسجل، ويستطيع أي شخص استعارة أي كتاب لمدة أسبوعين، وتفرض عليه غرامة إذا لم يعد الكتاب بنهاية هذه المدة، لكن مارجريت لا تغرم أحدا أبدا.» «وهل يجب على الناس دفع شيء مقابل استعارة الكتب؟»
قال هوارد بازدراء طفيف رقيق: «لا بالطبع! لا تقل إنك تتصور أن يدفع الناس شيئا مقابل قراءة الكتب، أتتصور ذلك حقا؟» «كلا، لا أتصور ذلك. ومن اختار الكتب؟» «حسنا، تستطيع البلدية اختيار الكتب إن شاءت، أو يمكنها إرسال لجنة لاختيارها، لكنهم رأوا أن الأمر لا يستحق العناء والتكاليف. فقد تذمر بعض الناس آنذاك تذمرا كافيا بالفعل من إهدار المال على الكتب، إن جاز التعبير، مع أن البلدية اشترتها بنصف الثمن. ومع ذلك، قال البعض الآخر إن عدم أخذ أموال من الحكومة في ظل وجود فرصة سانحة لذلك سيكون أمرا مؤسفا. لا أظن أن أيا منهم كان مهتما كثيرا بالكتب، باستثناء أبي وبضعة أشخاص آخرين. لذا اختارت الحكومة الكتب بنفسها. سيفعلون ذلك لو تركت لهم الاختيار. وقد أرسلوا كما غريبا من النفايات، إن كنت تصدقني. أعتقد أنهم ألقوا إلينا بكل الكتب التي ما كان أي شخص آخر ليشتريها. وحتى حين انتقوا روايات، كانت صعبة ككتب التاريخ تماما. كانت إحداها هي رواية «آدم بيد». يقولون إنها رواية. لقد حاولت قراءتها، لكني أفضل قراءة تاريخ جوزيفوس عنها بأي حال من الأحوال. فهو على الأقل يحوي بعض المعارك والقتال ما دام تاريخا بالفعل. ويوجد كذلك قدر هائل من كتب السيرة الذاتية. إنها ليست جيدة. ويوجد بينها كتاب «تاريخ نابليون». لقد أخذه بارتليت العجوز، ولن يتركه. يقول إنه دفع ضرائب تكوين المكتبة رغما عنه. ويتحداهم للجوء إلى القانون في هذا الشأن، غير أن القيام بذلك من أجل كتاب واحد لا يستحق العناء. كل الأقسام الأخرى تطلب هذا الكتاب؛ ليس لأنهم يريدونه، لكن أهالي البلدة كلهم يعرفون أن بارتليت العجوز متشبث به؛ لذا يريدون بعض التسلية. لقد قرأ بارتليت هذا الكتاب أربع عشرة مرة، وهذا كل ما يعرفه. أقول لمارجريت إنها يجب أن تغرمه، وتواظب على تغريمه عن كل تأخير، لكنها لن تفعل ذلك. أتصور أن بارتليت يظن أن الكتاب صار ملكه الآن. إن مارجريت تحب كيتي والسيدة بارتليت، كما يحبهما الجميع، لكن بارتليت العجوز فظ مكروه. ها هو يجلس الآن في شرفته، ومن العجيب أنه لا يقرأ «تاريخ نابليون».»
كانا يمران بمنزل بارتليت، وصاح هوارد الصغير بعلو صوته قائلا: «أيا سيد بارتليت، نريد كتاب نابليون ذاك. فاليوم هو يوم التغيير، كما تعرف. أأصعد إليك لآخذه أم ستنزله إلي؟ إذا أحضرته إلى البوابة، فسأنقله بالعربة إلى البيت الآن.»
لم يكترث الرجل العجوز بما قيل له، لكن السيدة بارتليت أتت إلى الباب بعدما جذبها صياح الشاب.
صاحت وهي تنزل إلى البوابة حين رأت البروفيسور: «ارحل من هنا مع كتبك أيها الوغد الصغير! تلك طريقة رائعة لنقل الكتب المغلفة، كأنها حمولة هائلة من الطوب. أجزم أنك فقدت دزينة منها بين مالوري وهنا. لكن ما ينال بسهولة يزول بسهولة. يبدو واضحا أنها لم تكلفك شيئا. لا أعرف إلى أين تذهب بنا الدنيا حين تنفق البلدة أموالها على الكتب، كأن الضرائب ليست باهظة كفاية بالفعل. ألن تدخل يا سيد رينمارك؟ الشاي على الطاولة.»
قال هوارد الصغير قبل أن يحظى البروفيسور بوقت للرد: «السيد رينمارك يصحبني في هذه الرحلة يا سيدة بارتليت، ولكن إذا دعوتني، فسأدخل وأحتسي الشاي حالما أعقل الحصان.»
فقالت له: «ارحل من هنا مع هرائك؛ فأنا أعرفك.» ثم سألته بصوت أخفض: «كيف حال أمك يا هنري، ومارجريت؟» «إنهما بخير، شكرا لك.» «أخبرهما بأنني سآتي لزيارتهما يوما ما قريبا، لكن هذا يجب ألا يمنعهما من زيارتي. فالعجوز ذاهب إلى البلدة غدا»، وبعدما ألقت هذا التلميح، ودعت البروفيسور مرة أخرى إلى تناول وجبة معهم، تركت الطريق وصعدت إلى المنزل.
قال رينمارك وهو في منتصف الطريق بين البيتين: «أظنني سأنزل هنا. أنا في غاية الامتنان لك لتوصيلي، ولما أخبرتني به عن الكتب أيضا. لقد كان شائقا جدا.»
صاح هوارد الصغير قائلا: «هراء! لن أسمح لك بشيء كهذا. ستأتي معي إلى البيت. تريد أن ترى الكتب، أليس كذلك؟ حسنا جدا، إذن تعال معي؛ فمارجريت دائما ما تكون متلهفة في يوم التغيير وتنتظر رؤية الكتب بفارغ الصبر، وعادة ما يعود أبي من الحقول مبكرا للسبب نفسه.»
وبينما كانا يدنوان من ضيعة آل هوارد، أبصرا مارجريت في انتظارهما عند البوابة، ولكن حين رأت الفتاة شخصا غريبا في العربة، استدارت ودلفت إلى البيت. وعندما رأى رينمارك هذا الانسحاب، ندم على عدم قبول دعوة السيدة بارتليت. فقد كان رجلا حساسا، ولم يدرك أن ثمة آخرين أحيانا ما يكونون خجولين مثله. شعر بأنه يتطفل، بل وأنه يفعل ذلك في لحظة مقدسة؛ لحظة وصول المكتبة. فقد كان عاشقا للكتب، وكان يقدر قيمة الاختلاء بها بشدة إلى حد أنه تخيل في انسحاب مارجريت المفاجئ الاستياء نفسه الذي كان سيشعر به لو تطفل عليه زائر في خلوته المفضلة في الغرفة الجميلة التي تحوي مكتبة الجامعة.
وحين توقفت العربة في الممر المؤدي إلى بوابة البيت، قال رينمارك بتردد: «أظنني لن أستطيع البقاء، إن كنت لا تمانع. فصديقي ينتظرني في المخيم، وستؤرقه التساؤلات عما حل بي.» «من؟ ييتس؟ دعها تؤرقه. أظنه لا يشغل باله أبدا بأي شخص، ما دام هو نفسه يشعر بالراحة. هذا هو الانطباع الذي أخذته عنه على أي حال. وفوق ذلك، لن تخلف وعدك بحمل الكتب إلى الداخل أبدا، أليس كذلك؟ لقد اعتمدت على مساعدتك. فأنا لا أريد فعل ذلك، ولا يبدو من العدل ترك مارجريت لتدخلها كلها وحدها، أليس كذلك؟» «أوه، إن كنت أستطيع تقديم أي مساعدة، فسوف ...» «تستطيع بالتأكيد. وفوق ذلك، أعرف أن والدي يريد أن يراك، على أي حال. ألا تريد ذلك يا أبي؟»
كان الرجل العجوز آتيا نحوهما من جانب المنزل الخلفي لمقابلتهما.
سأل قائلا: «أريد ماذا؟» «قلت إنك تريد رؤية البروفيسور رينمارك حين أخبرتك مارجريت بما قاله لها ييتس عنه.»
احمر وجه رينمارك قليلا حين عرف أن كثيرين كانوا يتحدثون عنه، وخالجه بعض الشك في الوقت نفسه في أن الصبي كان يسخر منه. مد السيد هوارد يده بحرارة ليصافحه. «إذن، أنت البروفيسور رينمارك، ألست كذلك؟ أنا سعيد للغاية برؤيتك. نعم، كما قال هنري، كنت أود رؤيتك منذ أن تحدثت ابنتي عنك. أظن أن هنري أخبرك بأن شقيقه واحد من تلاميذك؟»
صاح رينمارك شاعرا فجأة بالحيوية والألفة: «أوه! هل آرثر هوارد ابنك؟ لم أكن أعرف ذلك. يوجد شبان كثر في الكلية، وليس لدي أدنى فكرة عن مساقط رءوسهم كلهم. صحيح أن المعلم ينبغي ألا يكون لديه تلاميذ مفضلون، ولكن علي الاعتراف بأنني معجب جدا بابنك. إنه فتى نجيب، وهذا لا يمكن أن يقال عن كل طالب في صفي.» «دائما ما كان آرثر مجتهدا؛ لذا ارتأينا أن نمنحه فرصة . أنا سعيد بسماع أنه يحسن السلوك في المدينة. فالزراعة عمل شاق، وآمل أن يحظى أولادي بحياة أسهل مما عشتها. ولكن هيا تفضل بالدخول، هيا. ستسعد زوجتي ومارجريت برؤيتك، وسماع مدى ما يحققه من تقدم في الدراسة.»
وهكذا دخلوا معا.
الفصل العاشر
«أيا أنت! أنت! استيقظ! الفطووووور! كنت أعرف أن هذا ما سيوقظك. يا إلهي! ليتني كنت أشغل وظيفتك مقابل دولار في اليوم!»
فرك ييتس عينيه، وجلس منتصبا في الأرجوحة الشبكية. شعر للوهلة الأولى بأن الغابة تتداعى من حوله، ولكن حين استجمع تركيزه، لم ير سوى أن بارتليت الصغير هو من جاء بصخب عبر أشجار الغابة على ظهر حصان، بينما كان يقود حصانا آخر بزمام مربوط برسن. كان صدى صيحاته القوية لا يزال يتردد في أعماق الغابة، وكان يرن في أذني ييتس وهو يستفيق.
سأله ييتس بهدوء: «هل ... آه ... هل قلت أي شيء؟».
أعجب الصبي بموهبة ييتس في عدم إبداء أي اندهاش أبدا. «ألا تعرف أن النوم في منتصف النهار ليس صحيا؟» «هل نحن في منتصف النهار؟ ظننت الوقت متأخرا عن ذلك. أتصور أنني أستطيع تحمل ذلك، ما دام منتصف النهار يستطيع. فأنا ذو بنيان قوي. والآن، ماذا تريد بالركض على حصانين إلى داخل غرفة نوم رجل بهذا التهور؟»
ضحك الصبي. «ظننتك ربما تريد توصيلة. كنت أعرف أنك وحدك؛ لأنني رأيت البروفيسور يتمشى هائما على الطريق منذ قليل.» «أوه! إلى أين كان ذاهبا؟» «لا أعرف إطلاقا، وبدا أنه نفسه لا يعرف. إنه رجل غريب الأطوار، أليس كذلك؟» «بلى. ليس بوسع كل شخص أن يكون راشدا ووسيما مثلنا، كما تعرف. إلى أين أنت ذاهب بهذين الحصانين أيها الشاب؟» «سأركب لهما حدوات. هلا تأتي معي؟ تستطيع امتطاء هذا الحصان الذي أمتطيه. فهو ذو لجام. وأنا سأمتطي الحصان ذا الرسن.» «كم تبعد ورشة الحداد؟» «أوه، ميلين تقريبا، في الأسفل عند كروس رودس.»
قال ييتس: «حسنا، فكرة لا بأس بها. أعتبر أنك تقدم عرضك السخي بحسن نية، وليس من أجل أن تجعلني محل عرض عام بالضرورة.» «لا أفهم. ماذا تقصد؟» «لا توجد دعابة خفية في الأمر، أليس كذلك؟ أنت لا تنوي أن تجعلني أركب على ظهر أحد هذين الوحشين كي تشهر بي أمام الناس؟ هل يعضان أو يركلان أو يقفزان فجأة بأقدامهما أو يلهوان بقلب الشخص من فوقهما عند التدحرج؟»
صاح بارتليت الصغير ساخطا: «لا. هذا ليس سيركا. عجبا، حتى الطفل الرضيع يستطيع أن يمتطي هذا الحصان.» «حسنا، هذه هي نوعية الأحصنة التي أفضلها تقريبا. فكما ترى، أنا لست متمرسا على ركوب الخيل بعض الشيء. لم أركب في حياتي شيئا أشد جموحا من الترام، وحتى الترام لم أركبه منذ أسبوع.» «أوه، تستطيع الركوب بلا أي مشكلة. فأنا أتصور أنك تستطيع فعل معظم الأشياء التي تعقد العزم على فعلها.»
شعر ييتس بالإطراء من هذا الثناء، الذي بدا صادقا، على قدرته، لذا نزل عن الأرجوحة. أما الصبي، الذي كان جالسا على ظهر الحصان مرخيا كلتا قدميه على جانب واحد منه، فأقام ظهره وانزلق من عليه إلى الأرض.
قال: «انتظر ريثما أنزل السياج أرضا.»
ارتقى ييتس ظهر الحصان ببعض الصعوبة، وانطلق الاثنان يهرولان خببا على الطريق. استطاع أن يحفظ توازنه على الحصان بقليل من عدم اليقين، لكن اهتزازه المتكرر صعودا ونزولا أقلقه. كان يبدو أنه ينزل في كل مرة على موضع مختلف من ظهر الحصان، ما جعل توازنه على الحصان به بعض الحظ، مما أشعره بالحرج. كان يتوقع أنه سينزل في إحدى هذه المرات دون أن يجد الحصان أسفل منه. ضحك الصبي على طريقة ركوبه، لكن ييتس كان أشد انشغالا بالحفاظ على توازنه من أن يكترث بذلك. «ي... ي... يقال إن ...ن من خرج من داره قل مقداره، و... و... وهذا م... م... ما ينطبق علي.» بدا كلامه متلجلجا بسبب اهتزازه على الحصان المهرول. «اسمع يا بارتليت، لم أعد أستطيع تحمل ذلك. أفضل المشي.»
فقال الصبي: «أنت تبلي حسنا، سنجعله يركض أسرع قليلا.»
ثم ضرب الحصان على خاصرته بالطرف الحر من زمام الرسن.
فصاح ييتس تاركا اللجام من يده وممسكا بعرف الحصان: «يا أنت! لا تسرع الحصان أيها الشيطان الصغير. سأقتلك حين أنزل، وسيحدث هذا قريبا.»
كرر بارتليت الشاب كلامه قائلا: «أنت تبلي حسنا»، ودهش كثيرا حين رأى أن ييتس أيضا صار مقتنعا بذلك. فحين بدأ الحصان يركض أسرع قليلا، رأى ييتس أن الحركة صارت سهلة كالتأرجح في أرجوحة ومهدئة ككرسي هزاز. «هذا أحسن. ولكن علينا الحفاظ على هذه الوتيرة؛ لأن هذا الوحش إذا عاد إلى الهرولة فجأة، فسأعاني بشدة.» «سنحافظ على هذه الوتيرة إلى حيث نرى قرية كورنرز، ثم سنبطئ سرعتنا لتصبح مشيا متمهلا. فمن المؤكد أن ورشة الحداد سيكون فيها الكثير من الرجال؛ لذا سندخلها على الحصانين بتمهل ورفق.»
قال ييتس: «أنت شاب صالح يا بارتليت. لقد شككت في البداية في أنك تدبر لي حيلة ما. يؤسفني القول إنني لو كنت مع شخص آخر واقع في مأزق كهذا، لما أخرجته منه بسهولة كما أخرجتني. كان الإغراء سيكون أشد مما يقاوم.»
وحين وصلا إلى ورشة الحداد عند كورنرز، وجدا أربعة خيول في المبنى أمامهما. ربط بارتليت حصانيه في الخارج، ثم دخل مع رفيقه إلى مدخل الورشة الواسع. كانت الورشة مبنية من ألواح خشبية غير مصقولة، وكان داخلها مسودا من أثر السخام. لم تكن جيدة الإضاءة؛ إذ كانت النافذتان محجوبتين بكم هائل من الدخان إلى حد أنهما أصبحتا بلا جدوى في تأدية الغرض الأصلي منهما، لكن المدخل، الذي كان عريضا كمدخل مخزن حبوب، كان يسمح بدخول كل الضوء الذي يحتاج إليه الحداد من أجل عمله. وفي الجانب البعيد والركن الأحلك ظلمة من الورشة، كان يوجد فرن صهر المعادن وصقلها، ومن خلفه الأكيار الضخمة، التي كانت معظم أجزائها مستترة خلف المدخنة. كانت مساحة الفرن نحو ست أقدام مربعة وكان ارتفاعه ثلاث أقدام أو أربعا تقريبا، وكان مبنيا من ألواح خشبية وممتلئا بالتراب. كان أعلاه مغطى بالرماد وهباب الفحم، بينما توهج في منتصفه لب النيران المستعر الذي كانت ألسنة اللهب الزرقاء تحوم من فوقه. كان نافخ الأكيار يمضغ التبغ، وكان بين الحين والآخر يبصق العصارة الناتجة من المضغ بدقة متناهية وسط النيران بالضبط؛ حيث كانت تحدث هسهسة مؤقتة وبقعة سوداء. كان المترددون على ورشة الحدادة يعجبون ببراعة ساندي في البصق، وحاول الكثيرون تقليدها بلا جدوى. كان الحسود يقول إن هذه البراعة ترجع إلى التكوين المميز لأسنانه الأمامية؛ إذ كان الصف العلوي بارزا وكانت السنان الوسطيان متباعدتان إحداهما عن الأخرى، كما لو كان أحدهما مفقودا. لكن هذا كان محض غيرة؛ إذ لم يكن إتقان ساندي لهذه المهارة بسبب أي محاباة من الطبيعة له، بل بفضل الممارسة المستمرة الدءوبة. كان ساندي من حين إلى آخر يسحب قضيبا حديديا خارج النيران ويتفحصه بدقة شديدة بيده اليمنى المتصلبة الجلد؛ لأن يده اليسرى لم تكن تفارق ذراع الكير قط. وكان الطرف المتوهج من القضيب يشع نورا أبيض يذهب البصر من شدته وهو يسحب برفق، ويضيء رأس الرجل جاعلا وجهه الأمرد يبدو، أمام خلفيته المظلمة، أشبه بوجه ملطخ لشيطان ساخر متوهج بنيران منبعثة من داخله. ولا شك أن الطرف الذي كان ساندي يمسكه من القضيب كان ساخنا جدا على أي مخلوق بشري عادي، كما كان كل من في الورشة يعلم؛ فكل واحد منهم، في مستهل انضمامه إلى النادي الريفي، كان يعطى قطعة حديد سوداء من يد ساندي، وهذه القطعة يكون ساندي ممسكا بها بكل ثبات، لكن الشخص البريء الذي يأخذها منه عادة ما يرميها فورا وهو يصرخ. كانت هذه هي مزحة ساندي المفضلة، وجعلته يرى الحياة تستحق العيش. وربما لم تكن هذه المزحة ترقى لمستوى الحس الدعابي للحداد نفسه، لكن آراء العامة كانت منقسمة حول هذه المسألة. فكل رجل عظيم لديه مجموعته الخاصة من المعجبين، وكان البعض يقول - سرا بالطبع - إن ساندي يستطيع أن يحني حدوة حصان بإتقان كالحداد ماكدونالد نفسه. غير أن الخبراء، وإن كانوا يعترفون ببراعة ساندي العامة، لم يصلوا إلى هذا الحد.
كان حوالي نصف دزينة من أعضاء النادي موجودين في الورشة آنذاك، وكان معظمهم يقفون متكئين على شيء ما واضعين أياديهم في جيوب سراويلهم، فيما كان أحدهم جالسا على طاولة الحداد مدليا ساقيه إلى الأسفل. كانت الأدوات متناثرة بكثافة شديدة على الدكة إلى حد أنه اضطر إلى إخلاء مكان قبل أن يستطيع الجلوس، وأثبت تصرفه بهذه الحرية أنه عضو قديم ومتميز. جلس هناك حيث ظل يبري عصا بلا هدف حتى جعلها ذات سن مدبب، وتفحصها مرارا بتمعن، كما لو كان منهمكا في عملية دقيقة تتطلب تمييزا كبيرا.
أما الحداد نفسه، فكان منحنيا وظهره إلى أحد الأحصنة، وكان حافر هذا الحصان الخلفي مستقرا، من بين ركبتي الحداد، على مئزره الجلدي. كان الحصان هائجا، وكان ينظر من فوق كتفه إلى الحداد مستاء مما يحدث. فسبه ماكدونالد بطلاقة، وأمره بالوقوف ساكنا بينما كان يمسك بساقه بإحكام كما لو كانت بين شقي منجلته الحديدية، التي كانت مثبتة على الطاولة بالقرب من سكين البري. كان يمسك بيده اليمنى حدوة حصان ساخنة متصلة بمثقاب حديدي كان مغروسا في أحد الثقوب المخصصة للمسامير، وضغط هذه الحدوة على الحافر المرفوع، كما لو كان يختم وثيقة بختم ضخم. تصاعد الدخان واللهب من تلامس الحديد الساخن مع الحافر، وامتلأ الجو برائحة قرن الحافر المحترق التي لم تكن كريهة. كان كل من صندوق أدوات الحدادة، والمطرقة والكماشات والمسامير، مستقرا على الأرضية الترابية في متناول يد الحداد. كان العرق يتصبب من جبينه المكسو بالسخام؛ لأن المهمة التي كان يؤديها كانت ساخنة، ولأن ماكدونالد كان معتادا تأدية معظم عمله بنفسه. كان يوصف بأنه أكثر العمال اجتهادا في ذاك الجزء من الريف، وكان فخورا بذلك الوصف. وكان اجتهاده دائما ما يشعر مرتادي ورشته من العاطلين المتسكعين بالخجل من أنفسهم، وكان هذا يمنحه شعورا بالسعادة حين يكون برفقتهم. وفوق ذلك، لا بد أن يكون للمرء جمهور حين يكون خبيرا في السب والألفاظ النابية. كان تفوه ماكدونالد بالألفاظ النابية تلقائيا جدا - موهبة طبيعية إن جاز القول - ولم يكن يقصد به أي إساءة. ففي الحقيقة، حين كان يستشيط غضبا، كان دائما ما ينسى أن يتفوه بألفاظ نابية، لكنها في لحظات هدوئه كانت تنساب من بين شفتيه بسلاسة وروعة، وكانت تضفي طلاقة على كلامه. كان ماكدونالد يستمتع بالسمعة الرائجة عنه بأنه رجل سيئ الخلق، مع أنه لم يكن ذلك، كل ما في الأمر أن لغته كانت عكس طبيعته. وكانت هذه السمعة محاطة بهالة من الغموض بسبب ماضيه المجهول في منطقة داون إيست الغامضة التي كانت مسقط رأسه. لم يكن أحد يعرف ما فعله ماكدونالد في ماضيه بالضبط، ولكن كان الجميع يسلمون بأنه مر ببعض التجارب الشنيعة بكل تأكيد، مع أنه كان لا يزال شابا وأعزب. فقد اعتاد أن يقول: «حين تمر بما مررت به، لن تكون مستعدا لبدء شجار مع أي شخص.»
لا شك أن هذه العبارة كانت تحمل مغزى معينا، لكن الحداد لم يكن يأتمن أي شخص على أسراره قط؛ وكانت داون إيست منطقة غامضة، أشبه بأرض قفر ليس لها حدود ولا موقع محدد، تقع في مكان ما بين تورنتو وكيبيك. وكان من الممكن أن يكون أي شيء تقريبا قد حدث في هذه المنطقة من البلدة. كانت طريقة ماكدونالد المفضلة لإحراج أي خصم يجادله أن يقول له: «حين تخوض بعضا من تجاربي أيها الشاب، ستصبح أحكم من أن تتحدث هكذا.» كل هذا أضفى بعض الجاذبية على مصادقة الحداد، وكان أبناء المزارعين يشعرون بأنهم يلعبون بالنار حين يكونون برفقته؛ إذ كانوا ينالون لمحة خاطفة عن الجانب الخطر من حياته، إن جاز القول. أما العمل، فكان الحداد يتلذذ به، وجعله آفته الوحيدة تقريبا. كان يؤدي كل شيء بأقصى جهده وطاقته، وكان اجتهاده، كما قيل سلفا، مصدر إحراج دائم للعاطلين في كل أنحاء البلدة. فحين يكون بلا عمل يؤديه، كان يختلق عملا. وحين يكون لديه عمل، كان يؤديه بكل نشاط، ماسحا العرق من على جبينه المتسخ بسبابته المعقوفة، وقاذفا قطراته على الأرض بهزة سريعة من يده اليمنى، مرخيا إياها من عند المعصم، بطريقة جعلت سبابته وإبهامه تصطدمان بعضهما ببعض بطقطقة أشبه بفرقعة سوط. ودائما ما كانت هذه الحركة مصحوبة بنفس طويل عميق أقرب إلى تنهيدة، كأن لسان حاله يقول: «ليتني أحظى بأوقات مريحة كالتي تعيشونها أيها الرجال.»
لم يرفع ناظريه حين دخل الوافدان الجديدان إلى ورشته، بل استمر بكل كد في تقليم الحافر بسكين غريب الشكل؛ إذ كان منحنيا كخطاف عند سنه، وغرس الحدوة في مكانها بالحرارة، ودق على مساميرها ليثبتها، وبرد الحافر بمبرد طويل عريض حتى ساوى أطرافه مع الحدوة. ولم يتفضل بإجابة استفسار بارتليت الشاب إلا حين ترك قدم الحصان تسقط على الأرضية الترابية، وصفع الحصان النافد الصبر على خاصرته.
قال وهو يعتصر العرق من على جبينه: «كلا، لن تنتظرا كل هذه الأحصنة، ولن تضطرا إلى المجيء الأسبوع المقبل. فهذا هو آخر حافر لآخر حصان. فلا أحد يحتاج إلى المجيء إلى ورشتي ويرد خائبا ما دمت حيا. ولا أنجز العمل أيضا بالجلوس على دكة وبري عصا.»
قال ساندي بضحكة مكتومة ونبرة إعجاب كأنه يلمح إلى أن رب العمل حين يتكلم ينطق بالحكمة: «بالضبط. بالضبط. هذه نقطة محسوبة عليك يا سام.»
فقال الشخص الذي كان يبري العصا من على الدكة في رد اعتبر أنه ينم عن حضور البديهة: «أظنني أستطيع تحمل ذلك، إن كان هو يستطيع.»
فقال بارتليت الشاب: «تقصد أنك تستطيع تحمل ذلك جالسا.» وضحك مع الآخرين على دعابته.
قال الحداد بحدة: «لكن الحدوات نفدت من عندنا، وسيتعين عليكما الانتظار ريثما نحني بعض حدوات أخرى، هذا إن كنتما لا تريدان إعادة ضبط الحدوات القديمة. أهي جيدة كفاية؟» «أظن ذلك، إن كنت تستطيع معاينتها والتحقق من ذلك بنفسك، لكن الحصانين في الساحة بالخارج. بالطبع ما كنت لأجعلهما ينتظران هنا في الداخل، أليس كذلك؟» ثم تذكر واجباته فجأة وقال مقدما رفيقه تقديما عاما إلى كل الحاضرين: «أيها السادة، هذا صديقي السيد ييتس من نيويورك.»
بدا الاسم وكأنه قد نزل كمياه باردة على مرح الحشد الحاضر وبهجته. فقد تصوروا من طراز ثيابه أنه صاحب متجر من إحدى القرى القريبة أو بائع بالمزادات من مكان بعيد؛ إذ كانت هاتان المهنتان هما أعلى ما يستطيع أن يصل إليه الرجل من مكانة اجتماعية. كانوا مستعدين لسماع أنه من ويلاند أو ربما سانت كاترينز، لكن نيويورك! كانت هذه صدمة ساحقة. ومع ذلك، لم يكن ماكدونالد رجلا يقبل أن يبدو أقل مقاما من شخص آخر في ورشته وأمام معجبيه. ما كان ليترك هيبته تتفلت منه لمجرد مجيء رجل من نيويورك. لم يكن يستطيع أن يدعي أنه يعرف المدينة؛ لأن الغريب كان سيكتشف غشه سريعا وربما يفضحه، لكن التعالي الطفيف الذي أبداه ييتس أزعجه، وأحرج الآخرين. حتى ساندي نفسه كان صامتا.
قال ماكدونالد ببرود فظ كأنه يريد إظهار أن المرء، رغم كل شيء، يمكن أن يقابل رجلا من نيويورك ولا ينهار على الأرض من شدة الانبهار: «قابلت أناسا من نيويورك في داون إيست.»
قال ييتس: «حقا؟ آمل أن تكون قد أحببتهم.»
رد الحداد ببعض الاستخفاف قائلا: «أوه، بعضهم وبعضهم. ففيهم الجيد والسيئ، كبقية البشر.»
قال ييتس: «آه، لقد لاحظت ذلك إذن. حسنا، كثيرا ما ظننت ذلك أنا أيضا. لا غضاضة في أن تدلي بتعليق كهذا؛ إذ لا يوجد خلاف عليه في العموم.»
كان تعالي النيويوركي مثيرا للغضب، وأدرك ماكدونالد أن البساط يسحب من تحت قدميه. فقد أثارت الوقاحة الهادئة التي امتزجت بنبرة ييتس سخط الحداد بشدة إلى حد أنه شعر بأن أي كلام لديه غير كاف لصدها. وحينئذ حان أوان الدعابة العملية. فكان لا بد من كسر غرور هذا الرجل. اعتزم الحداد تجربة حيلة ساندي، وإذا فشلت، فعلى الأقل ستصرف انتباه الحاضرين عنه إلى مساعده.
قال: «بما أنك من نيويورك، فربما تستطيع أن تحسم رهانا صغيرا يود ساندي هنا أن يخوضه مع شخص ما.»
وسرعان ما فهم ساندي تلميح الحداد، فأخذ القضيب الذي كان دائما ما يوضع بالقرب من النيران على نحو كاف ليكون ذا سخونة مؤلمة.
ثم قال وهو يقدر وزنه بدقة تحليلية في يده المتأرجحة: «كم يبلغ وزن هذا في رأيك؟» فعل ساندي ذلك أفضل من أي مرة سابقة. فقد بدت على وجهه الجامد الساذج نظرة براءة تامة، وكان الحاضرون يراقبون ما سيحدث حابسين أنفاسهم في ترقب.
كان بارتليت على وشك التقدم لإنقاذ صاحبه، لكن تحديقة خبيثة من ماكدونالد منعته، وفوق ذلك، خالجه شعور ما بأنه متعاطف مع جيرانه وليس مع الغريب الذي أحضره وسطهم. رأى في استياء أن ييتس ربما كان من الممكن أن يكون أقل تعاليا وتغطرسا. وفي الحقيقة، حين طلب منه المجيء، تخيل أن تألقه سيحظى بإعجاب الحاضرين في الحال، وأنه سينال ثناءهم واحترامهم. أما الآن، فشعر الصبي بأن الاحتقار العام الذي لم يبذل ييتس أي جهد لإخفائه قد شمله هو أيضا.
رمق ييتس قضيب الحديد بنظرة خاطفة، وقال بلا مبالاة دون أن يخرج يديه من جيبيه: «أوه، أظنه يزن رطلين.»
قال ساندي في توسل وهو يمد يده بالقضيب إليه: «احمله.»
رد ييتس بابتسامة: «لا، شكرا. أتظن أنني لم أمسك حدوة حصان ساخنة من قبل؟ ما دمت متلهفا لمعرفة وزنها، فلماذا لا تأخذها إلى متجر البقالة وتزنها؟»
قال ساندي بابتسامة واهية وهو يرمي القضيب معيدا إياه إلى مستقره على الفرن: «إنه ليس ساخنا. فلو كان كذلك، لما استطعت حمله وقتا طويلا.»
رد ييتس بابتسامة: «أوه لا، كلا بالطبع. أتخال أنني لا أعرف ماهية أيادي الحدادين؟ جرب شيئا جديدا.»
رأى ماكدونالد أنه لم ينهزم أمام جمهوره؛ لأنهم كلهم شعروا بأنهم تجرعوا مثله مرارة خيبة حيلة ساندي كما بدا واضحا عليهم، لكنه كان متيقنا من أنه إذا أفحم أي شخص في جدال مستقبلي، فسوف يذكره بواقعة النيويوركي ليحرجه. كان يبدي غريزة نابليونية في أوقات الأزمات.
صاح قائلا: «حسنا، أيها الشبان، اللهو مسل، ولكن علي أن أعاود العمل. يجب أن أكسب عيشي على أي حال.»
كان ييتس مستمتعا بانتصاره، وقال لنفسه إنهم لن يحاولوا «النيل منه» مرة أخرى.
سار ماكدونالد بخطوات واسعة إلى الفرن وأخرج قضيب الحديد الذي كان أبيض من شدة سخونته. ثم أومأ بإيماءة تكاد تكون غير ملحوظة إلى ساندي، الذي دائما ما كان متأهبا بعصارة التبغ، فبصق على سطح السندان العلوي مباشرة بدقة متناهية . فوضع ماكدونالد الحديد الساخن فورا على البقعة المبصوق عليها، وسرعان ما طرقه بكل قوة بالمطرقة الثقيلة. فكانت النتيجة مرعبة. فقد انتشرت على الفور مروحة من شظايا الحديد المنصهر أضاءت المكان كأنها وميض برق. وصدر صوت ارتطام قوي كانفجار قذيفة مدفعية. امتلأت الورشة للحظة بوابل من الشرر المتطاير اللامع، الذي طار منتشرا كالنيازك في كل أركانها. كان كل من في الورشة مستعدا لهذا الانفجار ما عدا ييتس. فانتفض إلى الوراء مطلقا صيحة، وتعثر، ولم يكن لديه متسع من الوقت لاستخدام يديه ليخفف وطأة سقوطه؛ لذا خر على الأرض وتدحرج إلى كعوب الخيول. فهاجت الحيوانات التي أرعبها الصوت المدوي، وظلت تضرب الأرض بأقدامها بقوة، واضطر ييتس إلى الزحف بسرعة على يديه وركبتيه حتى بلغ مأوى أأمن، مبديا سرعة وخفة على حساب هيبته. لم يبتسم الحداد قط، لكن كل من في الورشة قهقه ضحكا. فها قد صارت سمعة البلدة في مأمن بذلك. وانحنى جسد ساندي من شدة ضحكه الصاخب.
صاح قائلا: «لا أحد كالرجل العجوز! أوه، يا إلهي! يا إلهي! إنه الأصلي وفريد من نوعه.»
نهض ييتس على قدميه ونفض عن نفسه الغبار ضاحكا مع الباقين.
قال: «إذا كنت أعرف تلك الحيلة أصلا من قبل، فقد نسيتها بالتأكيد. هذه نقطة محسوبة علي، كما قال هذا الشاب الذي يتشنج من شدة الضحك منذ لحظة. أيها الحداد، فلنتصافح! سأدعو كل الحاضرين إلى مشروب على نفقتي الخاصة، إن كان يوجد مكان قريب من هنا.»
الفصل الحادي عشر
ربما يدعي الأشخاص الذين لا يملكون سوى معرفة سطحية بالحياة والأوقات التي تقضى هنا أن متجر البقالة، وليس ورشة الحدادة، كان هو النادي الريفي الحقيقي؛ أي المكان الذي تناقش فيه سياسات البلدة، وتمتدح فيه أفعال كبار المسئولين أو تستنكر، وتنتقد فيه الحكومة. صحيح أن متجر البقالة كان نادي القرية، حين يتطور مكان مثل كورنرز ليصبح قرية، لكن ورشة الحدادة عادة ما كانت أول مكان يشيد في البقعة التي يقدر لها أن تشهد إقامة قرية في نهاية المطاف. كانت هي النواة الأساسية. ومع نمو مكان ما وتسلل الرفاهية التي تنتزع نشاط الناس وطاقاتهم إليه، كان متجر البقالة يحل محل ورشة الحدادة رويدا؛ لأن الناس كانوا يجدون أن الجلوس على برميل خشبي صغير أو صندوق من المقرمشات في البقالة أكثر راحة من المقاعد القليلة المتاحة في ورشة الحدادة، وفوق ذلك، كان المتجر في فصل الشتاء، بموقده الصندوقي الأحمر الساخن مكانا للدفء والبهجة، لكن الاستمتاع بمثل هذا الجو المريح كان يقتضي أن يعيش أعضاء النادي بالقرب منه؛ لأنه لا أحد كان ليجرؤ على تحمل عواصف ليل شتوي كندي، وقطع ميل أو اثنين عبر الجليد، ليستمتع حتى بملذات متجر البقالة. لذا كان متجر البقالة في الأساس ناديا قرويا وليس نادي بلدة.
ومع تقدم الحضارة، وجد الحداد بالطبع أنه من المستحيل أن ينافس البقال. فلم يكن يستطيع تقديم إغراءات مماثلة. وصار متجر البقالة أقرب من ورشة الحدادة في تلبية الانغماس المستحب في الملذات على غرار نوادي «أثينيوم» أو «ريفورم» أو «كارلتون». فقد كان يشبع شهية الإنسان ويزوده بشحنة من التحفيز الفكري للنقاش والجدل. فعادة ما كان المتجر يضم صندوقا مفتوحا من البسكويت المملح، ومع أن هذا البسكويت دائما ما كان جافا، إلا أن مضغه كان ممتعا حين يؤكل ببطء. ودائما ما كان برميل البندق مكشوفا بلا غطاء. أما الزبيب، فكان موجودا في صندوقه المربع، الذي كان يحمل ورقة زرقاء مكتوبا عليها «ملقا»، أسفل صورة ملونة لبعض قاطفي العنب الإسبان المبتهجين على الأرفف الواقعة خلف المنضدة، وكان يوضع بزاوية مناسبة لعرض محتوياته لكل الوافدين، غير أن وضعه في هذا المكان كان يتطلب من رواد المتجر مد الذراع لمسافة طويلة جدا ووقاحة أشد من المعتاد كي يأخذوا منه بلا حساب، لكن برميل سكر موسكوفادو البني كان موضوعا حيث كان الجميع يستطيعون غمس أياديهم فيه، في حين أن من كان يجلس على برميل المسامير التي كان طولها يبلغ ثلاث بوصات كان يستطيع مد ذراعه إلى نافذة العرض من فوقه، حيث كانت السكاكر ذات الألوان العديدة تستعرض نفسها ، مع أن الشخص الذي كان يأخذ منها كثيرا دون استئذان كان يلقى استياء؛ لأن آداب الذوق العام في النادي كانت تقتضي عدم اختلاس الأشياء الباهظة. وكان البقال نفسه يضع حدودا على أخذ السكاكر، وعادة ما كان يوبخ من يأخذ منها كمية ثانية توبيخا لطيفا: «هل أضيف هذه إلى حسابك يا سام، أم ستدفع ثمنها الآن؟»
كانت كل هذه المأكولات الشهية تؤخذ بشيء من الاختلاس، وعادة ما كان مختلسوها يتصنعون قسمات شاردة كما لو أن الاختلاس لم يكن مقصودا. لكنهم كلهم كانوا زبائن جيدين لدى البقال، ولا شك أنه كان يعتبر هذه الاختلاسات جزءا من التجارة، كالظواهر التجارية التي شهدتها الأزمنة اللاحقة مثل تقديم هدية للزبون مع كل رطل من الشاي، أو تقديم ساعة مجانية مع كل حلة. ومع ذلك، لم يكن يتفوه بأي شيء إلا إذا أساء الزبائن استغلال كرمه، ونادرا ما كان هذا يحدث.
كانت ليالي الشتاء كثيرا ما تشهد إقامة وليمة مبهجة مفعمة بالصخب والمرح، وكانت مثل هذه الولائم تسهم في تخفيف حمولة الأرفف وإثقال درج النقود. فعادة ما كانت تشهد الإنفاق ببذخ على محار الخلجان الصغيرة. كان محار الخلجان يرد من بالتيمور بالطبع في علب قصدير دائرية؛ إذ كان يدخل إلى كندا قبل وقت طويل من العلب القصديرية المربعة التي صارت تأتي الآن في فصل الشتاء من المدينة نفسها الشهيرة بالقواقع ذات الصدفتين. كان محار الخلجان يطهى جزئيا قبل تعليبه، كي يحتفظ بصلاحيته في أي مناخ، كما تقول الإعلانات. ولم يكن يحتاج إلى وضع ثلج من حوله، كما يحدث مع العلب القصديرية المربعة التي تحوي المحار النيئ في العصر الحاضر. وعادة ما كان أحد الحاضرين يقترح إقامة الوليمة قائلا: «ما رأيكم في تناول وجبة من محار الخلجان؟»
ثم كان يجمع اشتراكا نقديا قيمته عشرة سنتات أو نحو ذلك من كل عضو، وكان المبلغ الإجمالي ينفق على عدة علب من محار الخلجان وبضعة أرطال من البسكويت. ثم كان المحار يطهى في طست قصديري فوق سطح الموقد. وكانت محتويات العلب تفرغ في هذا الصحن السهل الاستعمال، ثم يضاف إليها الحليب وقطع البسكويت المكسورة، لإضفاء ثخانة وتماسك على المنتج النهائي. ودائما ما كان يوجد كم وفير من الأطباق؛ إذ كان المتجر يلبي احتياجات الحي من الأواني الفخارية. وكان يوجد كذلك كم وفير من الملاعق؛ لأن متجر البقالة كان يجب أن يحوي كل شيء. ما الذي قد يحتاج إليه أكثر الرجال طمعا أكثر من ذلك؟ وفي إحدى الليالي التي شهدت إسرافا أشد تهورا من المعتاد، اختتمت الوليمة بعدة علب قصديرية من الخوخ، الذي لم يكن يحتاج إلى طهو، بل مجرد رشة من السكر. ودائما ما كان البقال خبيرا في طهو محار الخلجان وفتح علب الخوخ.
كان ثمة شعور عام بين الأعضاء بأنهم يواكبون الحياة العصرية بعض الشيء بالانغماس في هذه الولائم، وكان بعض الرجال الأكبر سنا والأكثر خبرة يحتجون احتجاجا واهيا على ما وصل إليه العصر من انغماس في الملذات، ولكن كان يلاحظ أنهم لم يمتنعوا قط عن تناول نصيبهم من هذه الولائم.
أما الرجال الأصغر والأكثر طيشا، فكانوا يقولون: «الإنسان لا يعيش سوى حياة واحدة.» وكأن ذلك يبرر الإسراف؛ إذ نادرا ما كان أحد الأعضاء يغادر المتجر بعد تلك الولائم من دون أن يكون قد أنفق خمسة عشر سنتا، لا سيما حين يتناول الخوخ بالإضافة إلى المحار.
لم يكن متجر البقالة الكائن في كورنرز قد أنشئ إلا مؤخرا، وحتى ذلك الحين، لم تكن تعتبره ورشة الحدادة منافسا. فقد كان ماكدونالد هو ملك المنطقة التي يعيش ويعمل فيها بأكملها، وكانت ورشته هي الملتقى المفضل في نطاق أميال من حولها. وكذلك كانت ورشة الحدادة هي المركز الوطني للحي، شأنها في ذلك شأن أي ورشة حدادة بالطبع ما دام يمكن أن تحل السنادين محل القذائف المدفعية في إطلاق التحيات الرسمية والعسكرية. ففي الرابع والعشرين من مايو الذي يوافق عيد ميلاد الملكة، ويحتفل به محليا باعتباره اليوم الوحيد في العام، باستثناء أيام الأحد، الذي يكون فيه وجه ماكدونالد نظيفا ولا يؤدي فيه أي عمل ، كانت أصداء السنادين تدوي في أرجاء المنطقة. وفي ذلك اليوم العظيم، كان البقال يورد البارود اللازم، الذي كانت قيمته تساوي ثلاثة من شلنات يورك، الذي يعادل الواحد منه ستة بنسات ونصف بنس. كان حمل السندان يتطلب رجلين، مع قدر كبير من أصوات الشخير من شدة المجهود، لكن ماكدونالد، حين تكون حشود الحاضرين هائلة، كان يجعل مسألة حمله تبدو تافهة؛ إذ كان يرفعه على كتفه ثم يطوحه على المرج الأخضر أمام ورشته. كان يوجد في جسم السندان الحديدي فتحة مربعة، وحين كان السندان يوضع مقلوبا على رأسه، كانت هذه الفتحة تصبح في الأعلى. كانت تملأ بالبارود، وتدق فيها بواسطة مطرقة ثقيلة سدادة خشبية، محفور بها شق. وبذلك كان البارود يتناثر من الشق على سطح السندان، ثم تتراجع حشود الحاضرين إلى الوراء حابسة الأنفاس. كانت هذه اللحظة شائقة للغاية. فقد كان ماكدونالد يخرج راكضا من ورشته حاسر الرأس، ممسكا بقضيب حديدي طويل، ثم ينزل طرفه المترجرج الشديد السخونة على السندان، بينما يصيح بصوت مرعب: «انظروا واحذروا!» ثم يصدر البارود المتناثر صوت هسهسة وفرقعة للحظة، وبعدها تنطلق القذيفة مدوية، وتتصاعد سحابة كبيرة من الدخان إلى أعلى وسط هتافات حماسية تدوي أصداؤها من الغابات المحيطة. ثم ينطلق المساعد، حاملا وعاء البارود، إلى السندان ويسكب المسحوق المتفجر الأسود في الفتحة، بينما يقف مساعد آخر جاهزا بالسدادة والمطرقة. وبعدها يمتلئ الهواء برائحة البارود المحترق الطيبة، ويستنشقها كل الصغار باستمتاع؛ لأنهم صاروا يدركون آنذاك ماهية الحرب الحقيقية. هكذا كانت التحية المدفعية تطلق، وهكذا كانوا يحتفلون بعيد الميلاد الملكي كما ينبغي.
وحين كان يتوافر لديهما سندانان، كان العرض المدفعي يصبح أشد حيوية وإثارة؛ إذ كانوا لا يحتاجون آنذاك إلى سدادة. فقد كانت فتحة السندان السفلي تملأ بالبارود، وكان السندان الآخر يوضع فوقه. وكان هذا أسرع بكثير من دق سدادة داخل فتحة السندان، وذا مفعول تفجيري مذهل يضاهيها تقريبا. كان السندان العلوي يرتعش صعودا وهبوطا كالضفدع المثقل برصاصة على ظهره في رواية مارك توين، ثم يسقط على جانبه. وبعدها يتصاعد الدخان كالمعتاد، ويكون الصوت المدوي ممتعا كدوي فرقعة السندان الواحد.
عرف ييتس كل هذه الأشياء وهو جالس في ورشة الحدادة؛ لأنهم كانوا لا يزالون في شهر مايو، وكانت الأجواء لم تصف بعد من دخان السنادين ذات الأصداء المدوية. كان كل الحاضرين متلهفين لإخباره بعظمة هذا اليوم. وكان سماعه التفاصيل من شخص أو اثنين كافيا ليجعله يبدي ندمه على أنه لم يكن حاضرا ليرى بنفسه. بعد الحادثة التي أسقطت ييتس، صار يتعامل مع الموجودين بسلاسة بالغة وأصبح واحدا منهم، إن جاز القول. فقد جاء التصريح بحقيقة أنه كندي الأصل في صالحه، وإن كانت إقامته الطويلة في الولايات المتحدة قد أفسدته.
كان ماكدونالد يعمل بكل كد في ثني القضبان الحديدية الطويلة مشكلا بها حدوات. وعادة ما كان يوجد صف ممتد من حدوات غير مكتملة تعتلي عارضة خشبية مسودة كأنهن فرسان بلا أجساد، وكانت هذه العارضة تمر عبر الورشة من الأعلى، أسفل السقف مباشرة. كانت هذه الحدوات نتاج عمل ماكدونالد في أيامه التي تشهد بعض الفراغ نسبيا، وكانت جاهزة للتركيب على حوافر أي حصان يأتي من أجل تركيب حدوات، ولكن في هذه المرة، كان هذا المخزون قد تعرض لتكالب شديد عليه إلى حد أنه نفد، وبدا أن الحداد اعتبر نفاد المخزون عارا عليه؛ لأنه أخبر ييتس مرارا بأنه كان في أغلب الأحيان يدخر حوالي ثلاثين حدوة في الأعلى من أجل اللجوء إليها وقت الحاجة.
وعندما حان وقت العمل بالمطرقة الثقيلة، تقدم أحد الحاضرين وأرجحها طارقا بها بالتناوب مع ماكدونالد، الذي كان يطرق بمطرقة خفيفة عادية، في مهمة تتطلب أذن دقيقة لديها القدرة على تمييز التوقيت المناسب للطرق. وكان من المفترض أن يتولى ساندي تقديم هذه المساعدة، لكنه لم يكن أنانيا، كما قال، وكان مسموحا لأي شخص يريد إظهار براعته بأن يؤدي هذه المهمة. وفيما بدا أن ساندي يقضي معظم وقته في نفخ الأكيار، وحين لم يكن يردد آراء الرئيس، كما كان يناديه، كان يثني على مهارة الطارق الهاوي المؤقت في استخدام المطرقة الثقيلة. كانت هذه المهمة ممتعة للهواة، وكانت قديمة ومملة لساندي؛ لذا لم يعترض قط على هذا التدخل في مهامه، مؤمنا بإعطاء الجميع فرصة، لا سيما حين يتعلق الأمر بأرجحة مطرقة ثقيلة. أعاد المشهد كله ييتس إلى أيام شبابه، خاصة حين كان ماكدونالد، وهو يضع اللمسات الأخيرة على حدوته، يترك المطرقة ترن من حين إلى آخر بقعقعة موسيقية على السندان، مصدرة رنينا متناغما يطرب الأذن، وكأن السندان يشكل جوقة مصاحبة لمهارته الحركية التلقائية. كان رجلا يتمتع بخفة يد حقيقية، وكان السندان فرقته الموسيقية.
سرعان ما بدأ ييتس يستمتع بزيارته إلى نادي البلدة. وحين بدأ الأعضاء يتعاملون معه بألفة، وجدهم كلهم رجالا من الطراز الأول، والأهم من ذلك، أنهم كانوا منصتين له بإعجاب وامتنان. كان واضحا أن حكاياته كلها جديدة عليهم، ولا شيء يجعل المرء في حالة ذهنية ودية ولطيفة أسرع من مستمعين متعاطفين ذوي آذان مصغية. لم يكن أحد يضاهي ييتس في قدرته على سرد حكاية سوى قلة قليلة من الأشخاص، لكنه كان يحتاج إلى تجاوب من مستمعين مهتمين. كان يكره أن يشرح المغزى من حكاياته، كأي راوي حكايات بالطبع! وكان أي مستمتع بارد وناقد كالبروفيسور يجمد نبع السرد من مصدره. وفوق ذلك، كان من عادات رينمارك الكريهة أنه كان يتتبع الحكاية حتى يبلغ أصلها، وكان ييتس يتضايق من أن يسرد حكاية عصرية ثم يكتشف أن أريستوفان، أو أي متصيد آخر من عصور ما قبل التاريخ للنوادر الطريفة التي سيحكيها الرجال لاحقا، قد سبقه إلى سردها بألف عام أو نحو ذلك. أما حين يكون المستمع سريعا في فهم مغزى حكاياتك، ويضحك عليها من أعماق قلبه، فستميل غالبا إلى استحسان حسه السليم وتقدير رفقته.
بعدما ألبس الحصانان حدواتهما وهم بارتليت الصغير، الذي كان سعيدا بالانطباع الذي تركه ييتس، بالرحيل، اعترض الرفاق كلهم على رحيل النيويوركي. وقد كان هذا تملقا صادقا.
سأله باري العصا: «لم العجلة يا بارتليت؟ لا يمكن أن يكون لديك أي شيء لتفعله عصر اليوم، إن عدت إلى البيت. لقد فات أوان تعويض ما ضاع من وقت العمل. وإذا بقيت، فسيبقى؛ أليس كذلك يا سيد ييتس؟ سيضبط ماكدونالد الإطارات ويحتاج إلينا جميعا كي نشاهده ونرى أنه يضبطها كما ينبغي؛ أليس كذلك يا ماك؟»
رد الحداد قائلا: «نعم، أتلقى منك عونا كثيرا حين توجد عصا تحتاج إلى بري.»
وأضاف شخص آخر، كان متلهفا لعرض كل مغريات المكان التي ينبغي عرضها: «ثم سيعقد الاجتماع المطول الليلة في مبنى المدرسة.»
فقال باري العصا: «بالضبط، لقد نسيت ذلك. إنها الليلة الأولى؛ لذا يجب أن نكون كلنا هناك لنشجع بيندرسون العجوز. ستحضر الليلة يا ماكدونالد، أليس كذلك؟»
لم يجب ماكدونالد، لكنه التفت إلى ساندي وسأله بوحشية لماذا بحق ال... وال... يقف محدقا ببلاهة هكذا. ولماذا لم يخرج ليجهز العدة لضبط الإطارات؟ ولماذا يدفع له أجرا بحق الجحيم، على أي حال؟ ألا يوجد ما يكفي من العاطلين المتسكعين لينضم إلى مصافهم؟
تلقى ساندي هذا التوبيخ برباطة جأش، وحين أدار الحداد ظهره، هز ساندي كتفيه وقضم قضمة جديدة من كتلة التبغ التي أخرجها من جيب بنطاله الأمامي، غامزا بعينه إلى الآخرين وهو يفعل ذلك. ثم تبع ماكدونالد إلى خارج الورشة على مهل، وقال هامسا للباري حين مر به: «ما كنت لأغضب العجوز لو كنت مكانك.»
ثم خرج الجمع من الورشة، ما عدا أولئك الجالسين على الدكة. وهنا سأل ييتس: «ما خطب ماكدونالد؟ ألا يحب الجلسات المطولة؟ وبالمناسبة، ما هي الجلسات المطولة؟» «إنها جلسات تجديد ديني؛ جلسات دينية، كما تعلم، لإرجاع الخطاة عن ذنوبهم.»
فقال ييتس: «حقا؟ ولكن لماذا تكون مطولة؟ هل تستمر أسبوعا أو اثنين؟» «نعم، أظن أن هذا هو السبب، وإن كنت للأمانة لا أعرف سبب التسمية الحقيقي. لطالما كانت الجلسات المطولة ترمز إلى الشيء نفسه منذ صغري، وقد اعتبرناها تعني ذاك الشيء دون التفكير في السبب.» «وماكدونالد لا يحبها؟» «حسنا، الوضع كالتالي: إنه لا يريد أبدا حضور جلسة مطولة، لكنه لا يستطيع الغياب عنها. إن حاله كحال سكير مع حانة الناصية. لا يستطيع أن يتجاهلها ، ويعلم أنه سيقع في المحظور إذا دخلها. دائما ما يكون ماكدونالد أول من يصعد إلى دكة التائب. فهذه الجلسات تجذبه إليها كل مرة. فيصبح شديد التدين طوال أسبوعين، ثم يعود إلى الذنوب. لا يبدو أنه يستطيع منع نفسه سواء من الرجوع عن الذنب أو الرجوع إليه. أظنها ستجذبه إليها في نهاية المطاف، وسيلتزم ويصبح قائد إحدى المجموعات فيها، لكنه لم يلتزم إلى الآن.» «إذن فهو لا يحب سماع الحديث عن هذا الموضوع؟» «بالطبع. وليس من الآمن استفزازه به ولو على سبيل المزاح. وللأمانة، سررت حين سمعته يوبخ ساندي بألفاظ نابية؛ إذ عرفت آنذاك أن كل شيء على ما يرام، وساندي يستطيع تحمله. فماكدونالد يصبح رجلا بشعا في التعامل معه حين يكون غاضبا. ولا يستطيع أحد في الحي التعامل معه حينئذ. أفضل تلقي ضربة بمطرقة ثقيلة على أن أواجه ماكدونالد في ساعة غضبه. ولكن ما دام يتفوه بالألفاظ النابية، فلا بأس. بالمناسبة، ستبقى حتى تحضر الجلسة؛ أليس كذلك؟» «أظنني سأبقى. سأرى ما الذي ينوي بارتليت الصغير فعله. إن المسافة ليست بعيدة على أن نمشيها، على أي حال.» «سيوجد في طريقكما الكثير من الفتيات الحسناوات الليلة بعد الجلسة. لا أعرف، لكني شخصيا سأهرول صوب هذه الناحية بعد انتهاء اللقاء. فهذه هي المنفعة الأساسية التي أجنيها من هذه الجلسات، على أي حال.»
نزل باري العصا وييتس من على الدكة، وانضما إلى الحشد في الخارج. جلس بارتليت الصغير على ظهر أحد الحصانين غير راغب في المغادرة بينما كان الحداد يضبط الإطارات.
صاح قائلا حين خرج رفيقه من الورشة: «هل ستأتي يا ييتس؟».
قال ييتس وهو يدنو منه ويربت على الحصان: «أظنني سأبقى لأحضر الجلسة.» فلم يكن يريد اعتلاء الحصان والرحيل في وجود هذا التجمع المهم.
قال بارتليت الصغير: «حسنا، أظنني سأحضر الجلسة أيضا، ثم أستطيع أن أريك طريق العودة إلى المخيم.»
قال ييتس: «شكرا لك، سأكون في انتظارك.»
ركض بارتليت الشاب بحصانه بعيدا وسرعان ما اختفى عن الأنظار وسط سحابة من الغبار. وكان الآخرون قد رحلوا أيضا بخيولهم التي ألبست حدواتها، ولكن جاء عدة وافدين جدد، وازداد الجمع بدلا من أن ينقص. جلسوا حول ساحة الورشة الخارجية على السياج أو بعض جذوع الأشجار المقطوعة الملقاة على جانب الطريق.
كان القليل منهم يدخن فيما كان الكثيرون يمضغون التبغ. فقد كانت هذه طريقة ملائمة ومريحة لتناول التبغ، ولم تكن تحتاج إلى ثقاب، فضلا عن أنها أكثر أمانا للرجال الذين كانوا يضطرون إلى التردد على مخازن الحبوب القابلة للاشتعال.
أضرمت حلقة من النيران أمام الورشة، واستخدم لحاء شجر البلوط وقودا أساسيا لإضرامها. وكانت الإطارات الحديدية لعجلات العربات الخشبية مستترة وسط هذه الحلقة النارية. كان ماكدونالد وساندي منشغلين بتجهيز العدة وبدا وجهاهما أشد بشاعة في ضوء الشمس الساطع مما كانا في ظلام الورشة المعتم نسبيا، فأضفيا عليهما مظهر روحين شريرتين على وشك حضور مشهد تعويذة سحرية كانت الحلقة النارية هي علامته المرئية. استقر بالقرب من حلقة النار أربع دعامات متقاطعة مكونة من أربع عوارض خشبية مربعة المقطع، وكانت عليها عجلة بلا إطار حديدي في وضعية مسطحة، وكان محور العجلة موضوعا في الفتحة المربعة التي تشكلت وسط هذه الدعامات. ودائما ما كان المزارعون الكسالى يمتنعون عن ضبط إطارات عجلات عرباتهم إلى أن تفسد تماما وتصبح غير قابلة للتثبيت عليها. فكانوا يؤجلون اليوم المحتوم مرارا وتكرارا بنقع العجلات من الليل حتى صباح اليوم التالي في بركة صغيرة من المياه في متناولهم دون عناء، ولكن مع اقتراب حلول الطقس الأدفأ والأشد جفافا، تصبح هذه الحيلة غير كافية، حتى وإن دعمت بحشو أسافين خشبية بين الإطار والعجلة، ويصير من الضروري ضبط الإطارات استعدادا للعمل في فصل الصيف. فكثيرا ما كان الإطار الفاسد يتدحرج على الطريق العام الرملي، ويضطر المزارع على مضض إلى استعارة قضيب خشبي من أقرب سياج، ويضعه ليسند به محور العجلات، ثم يضع العجلة العارية وإطارها على العربة، ويقودها ببطء إلى أقرب ورشة حدادة وهي «تعرج كبطة جريحة»، بينما يترك القضيب وراءه أثرا أشبه بزحف ثعبان على الطريق الترابي.
كان الحداد قد قطع الإطار ولحمه في وقت سابق مقللا محيطه، وحين صار ساخنا كفاية، رفعه مع ساندي بملقطين في يدي كل منهما من حلقة النار المستعرة. ثم ضغطاه من حول حافة العجلة الملتهبة وطرقا عليها بالمطرقة، وسرعان ما سكبا المياه الباردة حول الموضع الأحمر الساخن من دلوين كانا في متناولهما، فأحاطت بهما غيوم من البخار، وانكمش الحديد بسرعة منضغطا بإحكام على الخشب حتى التحمت وصلتا اللحام معا بطقطقة. ولم يكن ممكنا أن تشهد هذه العملية أي تلكؤ أو تباطؤ؛ إذ كان ضروريا أن يتم العمل بسرعة، وإلا تكون النتيجة عجلة فاسدة. كان ماكدونالد، الذي ظل يبصق بالتناوب وسط النار والبخار، مستمتعا بهذا العمل الذي يتقنه. وحتى ساندي اضطر إلى العمل على قدم وساق بأقصى سرعة دون أن يحظى بثانية واحدة يستطيع أن يقول فيها إن كتلة التبغ التي بحوزته ملكه. ظل ماكدونالد يعمل بصخب وحماس مهتما بأدق التفاصيل، لكنه مع ذلك أنجز قدرا هائلا من العمل في وقت قصير إلى حد لا يصدق، وكان يسب ساندي طوال الوقت، لكن هذا الرجل النافع الكفء لم يرد الشتائم بمثلها قط، مكتفيا بغمزة إلى الحشد الحاضر حين سنحت له الفرصة، قائلا في سره: «العجوز في حال ممتازة اليوم.»
وهكذا أمتع كل واحد نفسه: ماكدونالد؛ لأنه كان البطل الرئيسي في مهرجان صاخب للعمل؛ وساندي؛ لأن المرء يستطيع أن يمضغ التبغ طوال الوقت مهما كانت صعوبة عمله؛ وحشد الحاضرين؛ لأن مشهد النار والمياه والبخار كان جميلا ولم يكن عليهم فعل أي شيء سوى الجلوس حوله والمشاهدة. غربت الشمس رويدا رويدا بينما غادر المتفرجون واحدا تلو الآخر لأداء أعمالهم المنزلية والاستعداد للجلسة المسائية. وذهب ييتس مع باري العصا إلى بيته بدعوة منه، واستمتع بوجبته المسائية أيما استمتاع.
الفصل الثاني عشر
لم تقابل مارجريت في حياتها رجلا مولعا بالكتب كالبروفيسور رينمارك، سوى والدها. فمعارفها من الشبان كانوا نادرا ما يقرءون أي شيء سوى الصحف الأسبوعية، وكانوا يبدون بعض الاهتمام بمطالعة الكتيب الأصفر، الذي كان يوزع مجانا ويحمل اسم البقال مطبوعا على ظهره. صحيح أن العلاجات العجيبة المدونة في هذا الكتيب لم تكن مثيرة للاهتمام، وكان معظم قرائها من كبار السن، لكن الشباب كانوا يستمتعون بالدعابات الموجودة أسفل كل صفحة، وكان عيبها الوحيد أن المرء لم يكن بإمكانه إلقاء تلك الدعابات في تجمعات تقشير التفاح من أجل تجفيفه وحفظه أو أي تجمع اجتماعي آخر؛ لأن كل فرد في هذا الجمع يكون قد قرأها سلفا. كانت قلة قليلة من الشباب تأتي إليها على استحياء لاستعارة كتاب من المكتبة، ولكن كان واضحا أنهم ليسوا مهتمين بالكتاب قدر اهتمامهم بأمينة المكتبة، وحين كانت هذه الحقيقة تتجلى للفتاة، كانت تستاء من ذلك. كان شباب الحي يظنون مارجريت فتاة باردة ومغرورة، أو «متغطرسة»، على حد تعبيرهم.
لذا كان رجل مثل رينمارك بمثابة مفاجأة سارة لفتاة كهذه. فقد كان يستطيع التحدث عن أشياء أخرى غير الطقس والماشية والتوقعات المتعلقة بالمحاصيل. صحيح أن المحادثة في بدايتها لم تشمل مارجريت، لكنها أصغت إلى كل كلمة فيها باهتمام. كان أبوها وأمها متلهفين لسماع أخبار ابنهما، ثم سرعان ما انجرفت المحادثة من هذا الموضوع الذي حاز كل اهتمامهم إلى الحديث عن الحياة الجامعية، والاختلافات بين المدينة والريف. وأخيرا، نهض المزارع متنهدا ليرحل. فلا يوجد متسع من الوقت للأحاديث المسلية في مزرعة ما دام في ضوء النهار بقية. وبدأت مارجريت، حين تذكرت واجبات أمانة المكتبة، في نقل الكتب من العربة إلى الغرفة الأمامية. أما رينمارك، الذي كان بطيئا في معظم تصرفاته، فكان سريعا كفاية لعرض مساعدته هذه المرة، لكنه احمر خجلا بعض الشيء وهو يفعل ذلك؛ لأنه لم يكن معتادا المكوث برفقة النساء.
قال لها: «أتمنى أن تسمحي لي بنقل الكتب. وأود أن تمنحيني حق الاطلاع على هذه الكتب في بعض الأحيان، مع أنني لا أملك امتياز استعارتها؛ لأنني لست من سكان البلدة الدافعين لضرائبها.»
أجابت مارجريت بابتسامة: «يبدو أن أمينة المكتبة لديها حرية التصرف في مسألة الإعارة. ولا أحد لديه صلاحية مراجعة سجلاتها أو توبيخها إن أعارت الكتب بشيء من التهور. لذا فإن كنت تريد استعارة كتب، فكل ما عليك أن تطلبها.» «يمكنك أن تكوني على يقين من أنني سأستفيد من هذه الرخصة. لكن ضميري سيكون أكثر ارتياحا إذا سمح لي بحملها إلى الداخل.» «مسموح لك بالمساعدة في حملها. فأنا أيضا أحب حملها. فلا شيء أمتع من أن يحتضن المرء حفنة من الكتب ملء ذراعيه.»
وبينما كان رينمارك يتأمل الفتاة الحسناء، ووجهها متقد بالحماسة، خطرت بباله فجأة فكرة مربكة بأن عبارتها ربما لا تكون دقيقة. لم تخطر بباله فكرة كهذه من قبل، فملأته آنذاك بارتباك ممزوج بالذنب. قابلت عيناه نظرة عينيها الصافية الصادقة للحظة، ثم قال متلعثما تلعثما أخرق: «أنا ... أنا أيضا مغرم بالكتب.»
حملا معا الكتب التي بلغت عدة مئات، ثم شرعا في ترتيبها.
سألها قائلا: «أليس لديك فهرس بالكتب؟». «لا. لم يبد قط أننا نحتاج إليه. فالناس يأتون ويستعيرون أي كتاب يعجبهم.» «نعم. ولكن يظل من الضروري فهرسة محتويات كل مكتبة. فالفهرسة فن في حد ذاتها. لقد كنت أمنحها اهتماما جما، وسأوضح لك كيفية إجرائها، إن كنت تريدين المعرفة.» «أوه، أود ذلك.» «كيف تحتفظين بسجل الكتب المستعارة؟» «أكتفي بكتابة اسم الشخص وعنوان الكتاب والتاريخ في هذا الدفتر الفارغ. وحين يعاد الكتاب، أشطب بياناته المسجلة.»
قال رينمارك بارتياب: «فهمت.» «ليست طريقة صحيحة، أليست كذلك؟ أتوجد طريقة أفضل؟» «حسنا، في حالة مكتبة صغيرة، يفترض أن تفي هذه الطريقة بالغرض، ولكن إذا كنت تتولين مسئولية الكثير من الكتب، فأظن أن هذه الطريقة قد تحدث التباسا.» «هلا تخبرني بالطريقة الصحيحة. أود أن أعرف، حتى وإن كانت مكتبة صغيرة.» «توجد عدة طرق، لكني لست متيقنا على الإطلاق من أن طريقتك ليست الأبسط؛ ومن ثم الأفضل في هذه الحالة.»
قالت مارجريت ضاحكة: «لن تتخلص من إلحاحي هكذا. فمجموعة الكتب تبقى مجموعة من الكتب، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وتستحق الاحترام وأفضل معاملة. والآن، ما الطريقة المتبعة في المكتبات الكبيرة؟» «حسنا، أقترح نظام البطاقات، وإن كانت القصاصات الورقية ستفي بالغرض. حين يريد أي شخص استعارة كتاب، اجعليه يصنع بطاقة، ويذكر فيها التاريخ واسم الكتاب أو رقمه، ثم يجب عليه أن يوقع على البطاقة، وهكذا فقط. لن يستطيع إنكار أنه استعار الكتاب؛ لأن لديك توقيعه الذي يثبت ذلك. وترتب القصاصات في صندوق حسب التاريخ، وحين يعاد الكتاب، تمزقين ورقة التسجيل.» «أظنها فكرة ممتازة، وسأتبعها.» «إذن، دعيني أرسل إلى تورنتو وأحضر لك بضع مئات من البطاقات. ستصل إلينا هنا في غضون يوم أو اثنين.» «أوه، لا أريد أن أكبدك هذا العناء.» «لا عناء إطلاقا. والآن، وقد انتهينا من تلك المسألة، فلنشرع في الفهرسة. ألديك دفتر فارغ في أي مكان هنا؟ سنعد أولا قائمة أبجدية، ثم سنرتب الكتب تحت عناوين التاريخ والسير الذاتية والأدب القصصي، وما إلى ذلك.»
ومع أن إعداد الفهرس يبدو بسيطا، فقد استغرق وقتا طويلا. كان كلاهما منهمكا في مهمته. صحيح أن طريق الفهرسة في حد ذاته مستقيم وضيق، لكنه شهد في هذه الحالة قدرا هائلا من الانحرافات الجانبية اللطيفة جعلت التقدم السريع فيه مستبعدا. فمجرد ذكر عنوان كتاب أمام قارئ من شأنه أن يثير لديه ذكريات. كانت مارجريت تملي الأسماء على رينمارك، الذي كان يدونها بدوره على قصاصات ورقية كانت كل منها تحمل حرفا.
كان يقول رافعا ناظريه حين تذكر مارجريت عنوانا ما: «أوه، ألديك ذلك الكتاب؟ هل قرأته من قبل؟» «لا؛ لأن هذا الجزء من المكتبة كله جديد علي كما ترى. عجبا، يوجد هنا كتاب لم تفصل أوراقه عن بعضها حتى. لم يقرأه أحد. أهو كتاب جيد؟»
فيقول رينمارك آخذا الكتاب: «إنه من أفضل الكتب. نعم، أعرف هذه الطبعة. دعيني أقرأ لك فقرة منه.»
كانت مارجريت تجلس على الكرسي الهزاز بينما كان البروفيسور يفصل أوراق الكتاب الجديد ويجد مكان الفقرة المرادة. وبالطبع كانت فقرة واحدة تشير إلى أخرى وهلم جرا، وكان الوقت يمضي قبل أن يكتب عنوان الكتاب في القصاصة الورقية المناسبة. كانت هذه الانحرافات الجانبية إلى أغوار الأدب مثيرة جدا لاهتمام كلا خائضيها، لكنها كانت تتداخل مع عملية الفهرسة وتعرقلها . فكان رينمارك يقرأ باستغراق ودون توقف ليشرح نقطة ما، أو يقتبس ما قاله شخص آخر عن الموضوع نفسه، محددا موضع توقفه المؤقت عن القراءة في الكتاب بإدخال سبابته بين الصفحات. كانت مارجريت تتأرجح جيئة وذهابا في الكرسي الهزاز الوثير، وتصغي باهتمام محدقة بعينيها الداكنتين الواسعتين إليه بجدية شديدة كانت تجعله يرتبك للحظة بين الحين والآخر عندما كان يقابلهما بعينيه. لكن الفتاة لم تلاحظ ذلك. وفي نهاية إحدى أطروحاته، أسندت مرفقها إلى ذراع الكرسي واضعة وجنتها على يدها، وقالت: «أنت تجعل كل شيء واضحا للغاية يا سيد رينمارك.»
قال مبتسما: «أتظنين ذلك حقا؟ هذا عملي، كما تعرفين.» «أظن أن من العار حرمان الفتيات من الالتحاق بالجامعة؛ ألا تظن ذلك؟» «في الحقيقة لم أفكر في هذا الموضوع قط، ولست مستعدا تماما للإدلاء برأيي بشأنه.» «حسنا، أراه جائرا للغاية. فالجامعة مدعومة ماليا من الحكومة، أليس كذلك؟ فلماذا يحرم نصف السكان من مزاياها إذن؟» «يؤسفني القول إن التحاق الفتيات بالجامعات غير مقبول.» «لماذا؟»
فأجاب مراوغا: «توجد عدة أسباب.» «ما هي؟ أتظن أن الفتيات لا يستطعن التعلم، أو أنهن غير قادرات على المذاكرة بجد واجتهاد مثل ...»
فقاطعها قائلا: «الأمر ليس كذلك، يوجد الكثير من مدارس البنات في الريف، كما تعلمين. بل وتوجد بعض المدارس الممتازة في تورنتو نفسها لهذا الغرض.» «نعم، ولكن لماذا لا يحق لي الالتحاق بالجامعة مع أخي؟ يوجد الكثير من مدارس البنين أيضا، لكن الجامعة تبقى هي الجامعة. أظن أن والدي يسهم في دعمها ماليا. فلماذا إذن يسمح لأحد أبنائه بالالتحاق بها ويحرم الآخرون من ذلك؟ هذا ليس عدلا على الإطلاق.»
قال البروفيسور بحزم أكبر حين فكر مليا في الأمر: «هذا غير مقبول.» «هل ستعتبر ذلك سببا مقنعا إذا سمعته من أحد طلابك؟» «ما هو؟» «عبارة «هذا غير مقبول».»
ضحك رينمارك.
ثم قال: «لا مع الأسف، لكني على أي حال شخص شديد التدقيق في تعاملي مع الطلاب. والآن، إذا أردت أن تعرفي، فلماذا لا تسألين أباك؟» «لقد ناقشت مع أبي هذه المسألة مرارا، ويتفق معي تماما في أن ذلك الوضع جائر.»
قال رينمارك متفاجئا: «أوه، أيظن ذلك حقا؟» لكنه أدرك حين فكر قليلا أن الأب بالتأكيد لا يعرف سوى القليل عن أخطار المدينة مثل ابنته. «وما رأي والدتك؟» «أوه، أمي ترى أن الفتاة إذا كانت مدبرة منزل بارعة، فلا شيء آخر ينقصها. لذا سيتوجب عليك أن تعطيني سببا وجيها، إن وجد أصلا؛ لأنه لا أحد في هذا المنزل يؤيد رأيك في هذه المسألة.»
قال رينمارك محرجا: «حسنا، إذا لم تعرفي بحلول عامك الخامس والعشرين، أعدك بأنني سأناقش المسألة برمتها معك.»
تنهدت مارجريت وهي تتكئ إلى الوراء في كرسيها.
ثم صاحت قائلة: «الخامس والعشرين؟» وأضافت بالدقة اللاإرادية التي تميز الشباب: «هذا سيجعلني أنتظر سبع سنوات. شكرا لك، لكني أظن أنني سأعرف قبل ذلك الوقت.»
رد رينمارك: «أظنك ستنجحين في ذلك.»
قاطعهما دخول شقيقها المفاجئ بلا سابق إنذار.
صاح قائلا بالألفة الفظة التي عادة ما يتسم بها الصبية: «مرحبا بكما! يبدو أن ترتيب المكتبة يستغرق وقتا أطول من المعتاد.»
نهضت مارجريت بوقار.
وقالت بحدة: «نحن نفهرس.» «أوه، أهذا هو الاسم الذي تطلقانه على ذلك حقا؟ هل يمكنني تقديم أي مساعدة، أم إن الفهرسة تتطلب شخصين فقط؟ أتعرفين كم صار الوقت الآن؟»
قال البروفيسور وهو ينهض: «أنا مضطر إلى الرحيل مع الأسف. فرفيقي في المخيم لن يعرف ما حل بي.»
قال هنري: «أوه، إنه بخير حال! إنه في أسفل البلدة عند كورنرز، وسيبقى هناك ليحضر الجلسة الليلة. لقد مر بنا بارتليت الصغير منذ بعض الوقت؛ إذ كان يركب حدوات لحصانيه، وذهب صديقك معه. أظن أن ييتس يستطيع الاعتناء بنفسه يا سيد رينمارك. بالمناسبة يا أختاه، هل ستذهبين إلى الجلسة؟ أنا ذاهب. وبارتليت الصغير ذاهب، وكيتي أيضا. ألن تأتي أنت أيضا يا سيد رينمارك؟ إنه مسل جدا.»
قالت أخته عابسة: «لا تتحدث هكذا عن تجمع ديني يا هنري.» «حسنا، هذه هي ماهيته على أي حال.»
سأل البروفيسور ناظرا إلى الفتاة: «أهو ملتقى للصلوات؟».
صاح هنري بحماس ، حارما أي أحد سواه من فرصة التحدث: «بالطبع! إنها جلسة صلاة، وكل أنواع الجلسات الأخرى مجتمعة في جلسة واحدة. إنها جلسة تجديد ديني؛ أي جلسة مطولة، تلك هي ماهيتها. من الأفضل أن تأتي معنا يا سيد رينمارك، وتستطيع حينئذ أن ترى ماهيتها. ثم يمكنك أن تسير إلى المخيم مع ييتس.»
لم يبد أن البروفيسور استحسن هذه الخاتمة الشارحة الجذابة بالقدر الذي توقعه الصبي؛ لأنه لم يرد.
ألح الصبي قائلا: «ستأتين يا أختاه؛ أليس كذلك؟». «هل أنت متأكد من أن كيتي ذاهبة؟» «ستذهب بالتأكيد. أتظنين حقا أنها قد تفوت حضور الجلسة؟ سيأتيان إلى هنا قريبا أيضا، من الأفضل أن تذهبي وتستعدي.»
ردت مارجريت وهي تغادر الغرفة: «سآخذ رأي أمي.» ثم عادت بعد قليل مرتدية ثيابها وجاهزة للذهاب إلى الجلسة، واستقر البروفيسور في النهاية على أن يذهب أيضا.
الفصل الثالث عشر
كان أي شخص يمر بمنطقة كورنرز في ذلك المساء سرعان ما سيدرك أن ثمة شيئا مهما يحدث. فقد كانت مركبات من كل الأنواع مصطفة على الطريق، حيث سحبت ناحية السياج الذي كانت خيولها مربوطة بقضبانه. وكان واضحا أن البعض أتى من مناطق بعيدة؛ لأن القس المعني بتجديد الروح الدينية كان ذائع الصيت. كانت النساء عند وصولهن يدخلن مبنى المدرسة، الذي كان مضاء إضاءة متوهجة بمصابيح الزيت. ووقف الرجال جماعات في الخارج، فيما جلس الكثيرون منهم مصطفين على الأسيجة، وكانوا كلهم يتحدثون عن كل موضوع يمكن تخيله ما عدا الدين. يبدو أنهم تصرفوا وفق النظرية القائلة إنهم، على أي حال، سيتلقون قدرا كافيا من الدين لإشباع أشد الرجال تشددا حين يدخلون. جلس ييتس على العارضة العلوية من السياج مع باري العصا، الذي كان قد استضافه في بيته. كانت السماء تظلم بشدة إلى حد يعجز المرء عن بري العصي كما يشاء؛ لذا حاول الرجل ذو السكين القابل للطي تسلية وقته بحفر شقوق في العارضة التي كان جالسا عليها. وحتى حين فشل ذلك في تسليته، دائما ما كان يجد متعة في مجرد فتح سكين ذي زنبرك قوي في مؤخرته وقفله باستمرار، ولذة إضافية في خطر احتمال جرح أصابعه. كانوا يتحدثون عن حركة فينيان، التي كانت تشغل بال الكنديين بعض الشيء آنذاك. وكان ييتس يخبرهم بما يعرفه عن هذه الجماعة في نيويورك وعن قوتها، وبدا المستمعون إليه يميلون إلى التقليل من شأنها. فلم يكن أحد يصدق أن الفينيانيين متهورون إلى حد الإقدام على غزو كندا، لكن ييتس كان يرى أنهم لو فعلوا ذلك، فسيكبدون الكنديين عناء أشد من المتوقع.
قال أحدهم: «أوه، سنطلق بارتليت العجوز عليهم لو جاءوا إلى هنا. سيرغبون بشدة في العودة إلى بلادهم لو تعامل معهم.»
فأضاف آخر: «بلسانه.»
قال باري العصا: «بالمناسبة، هل قال بارتليت الصغير إنه سيأتي الليلة؟ آمل أن يحضر أخته إذا أتى. ألم يطلب أيكم منه أن يحضرها؟ فلن يفكر في ذلك أبدا إذا لم يطلب منه. إنه لا يراعينا إطلاقا.» «لماذا لم تطلب أنت منه ذلك؟ سمعت أنك شخصيا قد اعتدت السير في هذا الاتجاه مؤخرا.»
فقال الباري بلا مبالاة تامة: «من؟ أنا؟ لا فرصة لدي لفعل ذلك في هذا الحي، لا سيما حين يكون العجوز موجودا.»
صدر صوت ترانيم من مبنى المدرسة. وفتح بابها المزدوج على مصراعيه، وبينما كان الضوء يتدفق إلى الخارج بدأ الناس يتدفقون إلى الداخل.
سأل ييتس قائلا: «أين ماكدونالد؟». «أوه، أظنه قد ذهب إلى الغابة. إنه يغسل وجهه ثم يختفي. فمن شواهد حسه المنطقي السليم أنه يغسل وجهه أولا؛ لأنه يعرف أنه سيضطر إلى المجيء. ستراه مجددا قبل أن يبدءوا الترنيمة الثانية.»
قال أحدهم وهو ينزل من على السياج ويمدد ذراعيه فوق رأسه متثائبا: «حسنا يا أولاد! أظن أننا إن كنا نعتزم الدخول، فقد حان الوقت لذلك.»
فنزلوا واحدا تلو الآخر من على السياج، وأغلق الباري سكينه بحركة حادة مفاجئة على مضض ووضعه في جيبه بأسف واضح على قسمات وجهه. كانت المدرسة، رغم اتساع مساحتها، ممتلئة عن آخرها، وكانت النساء في إحدى جانبي الغرفة، فيما كان الرجال في الجانب الآخر، مع أن مثل هذا التقسيم لم يكن له وجود بالقرب من الباب؛ إذ كان كل شاغلي المقاعد الخلفية رجالا وصبيانا. كانت جماعة المرنمين واقفة تنشد ترنيمة حين دخل ييتس ورفاقه؛ لذا لم يلحظ أحد دخولهم الهادئ. كان مكتب المدرس قد نقل من المنصة التي عادة ما يوضع عليها، وصار يشغل آنذاك أحد الأركان في الجانب المخصص للرجال من المبنى. وقد جلس عليه شخصان أو ثلاثة كانوا يرغبون في أن يكونوا قرب المقدمة ويستطيعوا في الوقت نفسه مراقبة بقية الحاضرين. كان الواعظ المحلي واقفا على حافة المنصة، يضبط الإيقاع بكتاب الترانيم الذي يمسكه ولكن من دون إنشاد؛ لأنه لم يكن ذا أذن موسيقية ولا صوت موسيقي، وكان يعترف بهذه الحقيقة بكل سرور. وكان قائد الإنشاد رجلا واقفا في وسط الغرفة.
في الجزء الخلفي من المنصة، بالقرب من الحائط، كان يوجد كرسيان، جلس على أحدهما القس المبجل السيد بيندرسون الذي كان من المقرر أن يدير طقوس التجديد الديني. كان رجلا ممتلئا ضخم الشكل، لكن ييتس لم يستطع رؤية وجهه؛ لأنه كان مدفونا بين يديه، ولأن رأسه كان محنيا من انهماكه في صلاة صامتة. كان مفهوما بين عموم الناس أنه كان ذا شر مخيف في أيام شبابه، ودائما ما كان يصف نفسه بأنه شعلة انتشلت من وسط النيران. بل كان ثمة تلميحات إلى أنه كان يمارس لعب الورق في وقت من الأوقات، ولكن لم يكن أحد متيقنا من ذلك. كان العديد من الوعاظ المحليين يفتقرون إلى ملكة الموعظة الحسنة؛ لذا كان رجل مثل القس المبجل السيد بيندرسون، الذي طور هذه الموهبة تطويرا غير طبيعي، أنفس قيمة من أن يحصر في حدود محلية؛ ولذلك كان يقضي عامه متنقلا من مكان إلى آخر، حيث كان يعيد الأغنام الشاردة التي تحوم في الضواحي إلى الحظيرة، بالترهيب تارة والترغيب تارة، وحالما تعود إلى داخل سياج الحظيرة الدينية، كان من المفترض أن يتولى القس المحلي مهمة إبقائها هناك. وهذا الأخير، الذي كان يلقي الترنيمة، كان رجلا من نوعية مختلفة تماما . فقد كان طويلا وشاحبا ونحيفا، وكان معطفه الأسود الطويل يبدو معلقا عليه كما لو كان على عمود. وحين انتهت الترنيمة وجلس الجميع، وجد ييتس ومن معه أقرب ما استطاعوا إيجاده من مقاعد عند جانب الغرفة القريب من الباب. وكان هذا الجزء من القاعة هو الذي اجتمع فيه المتهكمون، لكنه أيضا كان الجزء الذي يحصد معظم الفائدة إذا قدر للتجديد أن يكون ناجحا. رأى ييتس المكان مكتظا جدا ولاحظ دكتين شاغرتين في المقدمة، فسأل الباري عن سبب فراغهما. «ستشغلان قريبا جدا.» «لمن حجزتا؟» «ربما أنت، وربما أنا، وربما كلانا. لا يمكن الجزم أبدا. فهذه دكة التائبين.»
جثا الواعظ المحلي على المنصة وأدى صلاة. ودعا الرب أن يبارك جهود الأخ الحاضر معهم في هذه الليلة، وأن يكلل عمله بالنجاح، ويهتدي بواسطته العديد من الخطاة الهائمين إلى الدرب القويم. وصدحت أرجاء القاعة بصيحات «آمين» و«باركي يا نفسي الرب» في أثناء أداء الصلاة. وعند قيامه، ألقى ترنيمة أخرى:
فلتعم الفرحة الدنيا، لقد أتى الرب.
دع الأرض تستقبل مليكها.
بدأ قائد الإنشاد تلاوة الترنيمة بصوت خفيض أكثر من اللازم. بدأ اللحن عاليا، وانخفض إلى أدنى السلم الموسيقي مع وصول الترنيمة إلى السطر الأول. وحين وصل المرنمون في خفض نبرتهم إلى ثلثي السلم الموسيقي، وجدوا أنهم لا يستطيعون خفضها عن ذلك، ولا حتى أولئك الذين كانوا يرنمون بطبقة القرار الصوتية. فشعر القائد ببعض الارتباك واضطر إلى رفع درجة النغم، ورأى أولئك المستهترون الجالسون في مؤخرة القاعة سوء تقديره مضحكا للغاية. فتح الباب بهدوء، والتفتوا جميعا متوقعين رؤية ماكدونالد، لكن الوافد لم يكن سوى ساندي. كان قد غسل وجهه، دون تأثير ملحوظ، وأظهر انتفاخ خده، الذي كان كالدمل، أنه لم يلق التبغ من فمه قبل دخوله مبنى المدرسة. مشى على أطراف أصابعه إلى مكان بجوار أصدقائه.
همس إلى أقرب شاب جالس بجواره قائلا وهو يضع يده بجوار فمه كي لا يسمع الآخرين صوته: «العجوز في الخارج.» وحين التقت عيناه بعيني ييتس للحظة، غمز له غمزة ودية .
ازدادت الترنيمة جهارة وحيوية مع استمرارها، وتعافت تدريجيا من سوء التقدير البسيط الذي وقع في بدايتها. وحين انتهت، جلس الواعظ المحلي بجوار المجدد. كانت مهمته قد انتهت؛ لعدم وجود تعريف رسمي بالمتحدث يلقيه إلى الحاضرين. وبقي الآخر كما هو حاني الرأس لوقت بدا طويلا جدا.
خيم صمت مطبق على كل الحاضرين. حتى الهمسات بين المتهكمين توقفت.
وأخيرا، رفع السيد بندرسون رأسه ببطء، وقام ثم تقدم إلى مقدمة المنصة. كان له وجه قوي مهيمن حليق ذو فك مشدود يوحي بأنه رجل عنيد؛ رجل لا يهزم بسهولة. قال بصوت هادئ: «افتحوا الباب.»
كان قد وجد هذه بداية فعالة في الجلسات القليلة الماضية التي عقدها. وكانت جديدة على الجمع الحاضر أمامه حاليا. فعادة ما كانت مجموعة من الأشخاص تقف بالخارج، وحين كان يجدهم هناك، كان يدعوهم، عبر فتح الباب، إلى الدخول. وحين لم يكن يجد أحدا هناك، يكون جاهزا بعبرة يقدمها، قائمة على الظلام والسكون. أما في هذه الحالة، فكان من الصعب تحديد أيهما كان أشد دهشة مما حدث عند فتح الباب: المجدد أم الحاضرون. فقد تقدم ساندي، الذي كان واقفا على قدميه، إلى الباب وفتحه فجأة. فدهش أشد دهشة مما رآه إلى حد أنه اختبأ بسرعة خلف الباب المفتوح. كان ماكدونالد واقفا أمام الباب مباشرة في الظلام الحالك في وضعية رابضة، كما لو كان على وشك الوثب. من الواضح أنه كان يحاول رؤية ما يحدث في الداخل عبر ثقب المفتاح، وحين أخذ على حين غرة بفتح الباب فجأة هكذا، لم يكن لديه متسع من الوقت ليستعيد وضعيته الطبيعية. ولم يكن التراجع ممكنا آنذاك. لذا وقف على قدميه بوجه شاحب مهزول كمن أفرط في الشراب، ودخل دون أن ينطق بكلمة واحدة. اقترب أولئك الجالسون على الدكة التي كانت أمام ييتس من بعضهم قليلا ليفسحوا مكانا للحداد، الذي جلس على المساحة الشاغرة التي تبقت على طرف الدكة. وفي خضم ارتباكه، سحب يده على جبينه وأحدث طرقعة عالية بإصبعيه وسط الصمت المطبق. تبسم بعض الجالسين في الخلف، وكانوا سيضحكون لولا أن ساندي، الذي أغلق الباب بهدوء، رمقهم بنظرة تهديد أخمدت مرحهم. فما كان ليسمح بالسخرية من «الرجل العجوز» في محنته، وكان كل الحاضرين يهابون قبضة ساندي لذا أذعنوا لنظرته كي لا يعرضوا أنفسهم لخطر مواجهتها بعد انتهاء الجلسة. صحيح أن ماكدونالد نفسه كان أولى أن يخشى من خوض عراك معه، ولكن كان من المرجح أنهم سيكونون آمنين من هذا الخطر طوال الأسبوعين القادمين أو الثلاثة إذا أتى التجديد ثماره. أما ساندي، فلم يكن قط من التائبين؛ لذا كان يخشى منه لأنه دائما ما كان متأهبا للدفاع عن رب عمله، سواء بالصوت أو بالضرب. لم يوح هذا الحادث المفاجئ الذي شهده السيد بندرسون إليه بأي كلام آنذاك؛ لذا اكتفى بالصمت لأنه كان رجلا حكيما. فيما تساءل الحاضرون متعجبين عن الكيفية التي عرف بها سلفا أن ماكدونالد كان يقف وراء الباب، ولم يكن أحد منهم أشد تعجبا من ماكدونالد نفسه. وبدا للكثيرين أن المجدد يحظى بهبة التنبؤ بالغيب التي كانوا محرومين منها، وهذا الاعتقاد جعل أذهانهم أشد استعدادا من أي وقت مضى للاستفادة من الخطبة التي كانوا على وشك سماعها.
بدأ السيد بندرسون خطبته بنبرة رتيبة خفيضة، لكن صوته تغلغل في كل شبر من الغرفة. فقد كان لديه صوت ذو طبيعة مميزة؛ عذب كنغمات إحدى طبقات التينور ويطرب الآذان كالموسيقى، وكان يحمل بين الحين والآخر رنة رجولية تثير الحماس والمتعة لدى المستمعين إليه. قال: «قبل أسبوع من الليلة، وفي مثل هذه الساعة بالضبط، كنت واقفا بجوار فراش موت شخص صار الآن وسط المباركين. كان قد وجد الخلاص منذ أربع سنوات، برحمة من الرب وبواسطة متواضعة سخرها له في أقل عباده شأنا. كان شرفا أنعم الرب به علي أن أرى هذا الشاب - أو هذا الصبي - يسلم روحه إلى يسوع. كان عمره أقل من عشرين عاما حين أسلم روحه إلى يسوع، وكانت آماله في عيش حياة طويلة في قوة آمال أصغر واحد بين الحاضرين هنا الليلة. ومع ذلك فارق الحياة في مقتبل نضارة رجولته؛ فارق الحياة دون سابق إنذار تقريبا. حين سمعت بمرضه الذي لم يدم طويلا، ومع أنني لم أكن أعلم شيئا عن خطورته، دفعني شيء ما بداخلي للذهاب إليه، وفي الحال. حين وصلت إلى بيته، أخبروني بأنه كان قد طلب رؤيتي، وأنهم أرسلوا للتو ساعيا إلى مكتب التلغراف ببرقية إلي. فقلت: «لقد بعث الرب إلي ببرقية.» أخذوني إلى جوار فراش صديقي الشاب، الذي كان في آخر مرة رأيته فيها قبل تلك مفعما بالحيوية والقوة كأي واحد هنا.»
ثم روى السيد بندرسون بصوت مرتعش من شدة الانفعال قصة مشهد لحظات الاحتضار الأخيرة. كانت ألفاظه بسيطة ومؤثرة، وكان واضحا حتى لأشد المستمعين قسوة وجمودا أنه كان يتكلم من القلب وهو يصف المشهد الذي رآه بكلمات محزنة مثيرة للشفقة. دخلت فصاحته البسيطة غير المنمقة قلب كل مستمع مباشرة، وضاقت الكثير من الأعين من شدة التدقيق وهو يعرض أمامهم صورة بيانية للسكينة التي غشيت نهاية حياة عاشها صاحبها كما ينبغي.
وتابع قائلا: «بينما كنت آتيا وسطكم الليلة، وبينما كنتم تقفون معا جماعات خارج هذا المبنى، سمعت بالصدفة جملة عابرة قالها أحدكم. كان رجل يتحدث عن جار مشغول لم يستطع نيل أي مساعدة في هذا الموسم الحافل بالعمل من العام. وأظن أن من كان يتحدث إليه هذا الرجل قد سأله عما إذا كان ذلك الرجل المشغول موجودا هنا، فكانت الإجابة: «لا؛ فليس لديه حتى دقيقة واحدة يستطيع القول إنها ملكه!» تطاردني هذه الجملة منذ أن سمعتها قبل أقل من ساعة. «ليس لديه دقيقة واحدة يستطيع القول إنها ملكه!» كنت أفكر فيها وأنا جالس أمامكم. كنت أفكر فيها وأنا أنهض لأخاطبكم. وأفكر فيها الآن. من لديه دقيقة يستطيع القول إنها ملكه؟» كانت نبرة صوت الواعظ الهادئة الرقيقة قد تبدلت إلى صيحة مدوية انعكس صداها من السقف إلى رءوس الحاضرين. «ألديكم؟ ألدي؟ ألدى أي ملك، أو أي أمير، أو أي رئيس، أو أي حاكم للبشر دقيقة أو لحظة يستطيع القول إنها ملكه؟ لا أحد . لا أحد من بين الملايين الذين تكتظ بهم هذه الأرض. الدقائق التي مضت ملككم. ففيم أفنيتموها؟ كل جهودكم، وكل صلواتكم، لن تغير أي فعل فعلتموه في أي من تلك الدقائق التي مضت، وتلك هي الدقائق الوحيدة التي تملكونها. فالأفعال التي أوتيت في الدقائق الماضية صارت أبدية راسخة كالنقش على الحجر. وهي محفوظة في كتاب إما لكم أو عليكم. أما تلك الدقائق المقبلة، تلك الدقائق التي ستستطيعون من الآن فصاعدا القول إنها ملككم حين تفنى، فأين هي الآن؟ إنها بين يدي الرب؛ إما أن يعطيها أو يمسكها. فمن يستطيع أن يحصيها وهي بين يدي الرب؟ ليس أنتم، ولا أنا، ولا أحكم إنسان على وجه الأرض. ربما يستطيع الإنسان أن يحصي الأميال من هنا إلى أبعد نجم مرئي، لكنه لا يستطيع أن يخبرك - أنت، لا أقصد جارك، بل أقصدك أنت - لا يستطيع أن يخبرك أنت بما إذا كانت دقائقك المقبلة واحدة أم ألفا. إنها موزعة عليكم، وأنتم مسئولون عنها. ولكن ستأتي لحظة - قد تكون الليلة وقد تكون بعد سنة - سيغلق فيها الرب يده وستكون قد استهلكت كل دقائقك. حينئذ سينتهي وقتك في هذه الدنيا ويبدأ الخلود. فهل أنت مستعد لتلك اللحظة الرهيبة، تلك اللحظة التي ستمنح فيها آخر دقيقة، وتمسك عنك الدقيقة التالية؟ ماذا لو جاءت الآن؟ هل أنت مستعد لها؟ هل أنت مستعد لاستقبالها بصدر رحب كأخينا الذي مات في مثل هذه الساعة منذ أسبوع فقط؟ لم يكن احتضاره هو الوحيد الذي شهدته. فقد حفرت بعض المشاهد الأخرى في ذهني برسوخ يجعلني لا أنساها أبدا. فمنذ عام، استدعيت إلى فراش رجل يحتضر، كان طاعنا في السن، وطاعنا في الخطايا. كان يوعظ مرارا، لكنه كان يصد المسيح عنه، قائلا: «عندما يحين الأوان الأنسب.» كان يعرف الدرب، لكنه لم يسر فيه. وحين نفد صبر الرب أخيرا وأصبح هذا الرجل طريح فراش الموت، لجأ، بحماقته التي لازمته حتى النهاية، إلي، أنا العبد الفقير بدلا من اللجوء إلى الرب، ملك كل شيء. وحين وصلت إلى جانبه، كان ختم الموت على وجهه. كان إصبع سكرات الموت المؤلمة الجارح قد رسم خطوطا على جبينه المنهك الشاحب. كان باديا عليه فزع هائل، وأمسك يدي بقبضة الموت الباردة نفسها. بدا لي في تلك الغرفة المظلمة أنني رأيت ملك السلام واقفا بجوار الفراش، لكنه كان واقفا منزويا، كامرئ أهين مرارا. وتراءى لي عند رأس الفراش شيطان الظلام الأبدي ينحني فوقه ويهمس في أذنه قائلا: «فات الأوان! فات الأوان!» نظر إلي الرجل المحتضر؛ ويا لها من نظرة! أرجو من الرب ألا تروا مثلها أبدا. قال لاهثا: «لقد عشت ... لقد عشت حياة مفعمة بالآثام والخطايا. فهل فات الأوان؟» قلت له مرتجفا: «لا. قل إنك مؤمن.» تحركت شفتاه، ولكن لم يصدر صوت من بينهما. لقد مات على ما عاش عليه. لقد أمسكت عنه الدقيقة الضرورية. أتسمعون؟ لقد أمسكت عنه! لم تكن لديه الدقيقة التي يستطيع القول إنها ملكه. لم تكن لديه تلك الدقيقة التي كان سيزحزح فيها عن اللعنة الأبدية. لقد ... نزل ... إلى الجحيم، ميتا على ما عاش عليه.»
ارتفع صوت الواعظ حتى بدا كنفخة بوق. لمعت عيناه، وكان وجهه متوردا من حرارة موضوع خطبته. ثم وصف بأسرع ما يمكن أن تنطق به الكلمات صورة حية رهيبة ومروعة للجحيم ويوم الدين. سمعت تنهدات وآهات في كل شبر من الغرفة. صاح قائلا: «تعال ... الآن ... الآن! الآن هو الموعد المكتوب، اليوم هو يوم الخلاص. تعال الآن، وادع الرب وأنت تقوم أن يمد لك برحمته في القوة والعمر لتصل إلى دكة التائبين.»
وفجأة سكت الواعظ عن الكلام. ثم مد يديه وصاح فجأة بطبقة صوته التينور الرائعة ملقيا الترنيمة الصاخبة بإيقاعها الحماسي الأشبه بإيقاع معزوفات المسيرات والفرق الموسيقية العسكرية: [مقطوعة موسيقية: تعالوا أيها الخطاة، والفقراء والمحتاجين،
أيها الضعفاء والجرحى والمرضى والموجوعين،
يسوع واقف مستعدا ليخلصكم،
مفعما بالشفقة والحب والقوة.]
وانضم إليه كل المرنمين. كان كل واحد منهم يعرف الكلمات واللحن. وبدا أن الغناء بأعلى صوت يخلصهم من المشاعر المكبوتة. ورفع أفراد الجوقة أصواتهم كأنهم في مسيرة نصر : [مقطوعة موسيقية: الجئوا إلى الرب، واطلبوا الخلاص،
سبحوا باسمه العزيز بعلو صوتكم،
العظمة والشرف والخلاص،
لقد أتى يسوع الرب ليسود.]
وبينما كان المصلون يرنمون، حث الواعظ بنبرة جهورية الخطاة على البحث عن الرب ما داموا لم يجدوه بعد.
شعر ييتس برعشة إثارة في الأجواء، وشد ياقته كما لو كان يختنق. لم يستطع أن يفهم هذه النشوة الروحانية الغريبة التي حلت عليه. بدا وكأنه يجب أن يصرخ بعلو صوته. وكان كل من حوله متأثرين أشد التأثر. لم يعد يوجد آنذاك أي متهكمين في مؤخرة الغرفة. فقد بدا معظمهم خائفا وظلوا ينظرون أحدهم إلى الآخر. لم يكن الأمر يحتاج إلا إلى بداية وكانت دكة التائبين ستكتظ بلا شك. كانت عيون كثيرة مسلطة على ماكدونالد. كان وجهه غاضبا، وكان جبينه يتصبب عرقا غزيرا. قبضت يده القوية على ظهر المقعد الذي أمامه، وبرزت العضلات في الجزء المكشوف من ذراعه. كان يحدق في الواعظ كرجل منوم مغناطيسيا. وكان صفا أسنانه مطبقين بعضهما على بعض، فيما كان يتنفس بصعوبة، كما يتنفس شخص منهمك في صراع. وأخيرا، بدت يد الواعظ موجهة إليه مباشرة. فنهض مرتجفا على قدميه، وسار مترنحا في الممر نحو دكة التائبين، ثم ارتمى بجوارها جاثيا وواضعا رأسه على ذراعيه، وهو يئن بعلو صوته.
فصاح الواعظ قائلا: «باركي يا نفسي الرب!».
وكانت هذه بداية الفيضان. فقد مشى الشبان والعجائز في الممر بوجوه شاحبة ودموع منهمرة من عيون الكثيرين منهم. ورأت الأمهات أبناءهن يخرون سجدا أمام دكة التائبين، بفرحة في قلوبهن ودعاء على شفاههن. وسرعان ما اضطر التائبون والنادمون إلى السجود حيث استطاعوا. كانت ترنيمة الخلاص المدوية ذات الإيقاع الحماسي تملأ الأجواء ممزوجة بصيحات الفرحة والهتافات الناطقة بالتقى والورع.
صاح ييتس وهو يفك زر ياقته بعنف: «يا إلهي! ما خطبي؟ لم يخالجني شعور كهذا من قبل. يجب أن أخرج إلى الهواء الطلق.»
واتجه إلى الباب بسرعة، وهرب دون أن يلحظه أحد في خضم الإثارة السائدة آنذاك. وقف لبعض الوقت في الخارج بجوار السياج مستنشقا الهواء البارد العليل بعمق. ثم وصل صوت الترنيمة إليه خافتا. فقبض على السياج خشية السقوط لأنه كان على وشك الإصابة بإغماء. وبعد أن استجمع بعضا من عافيته أخيرا، ركض بكل ما أوتي من قوة على الطريق، بينما كانت كلمات الترنيمة ترن في أذنيه: [مقطوعة موسيقية: الجئوا إلى الرب، واطلبوا الخلاص،
سبحوا باسمه العزيز بعلو صوتكم،
العظمة والشرف والخلاص،
لقد أتى يسوع الرب ليسود.]
الفصل الرابع عشر
حين تجمع الأقدار غريبين، نادرا ما تظل العلاقة المتبادلة بينهما على حالها، لا سيما إن كانا صغيرين. فتنجرف نحو القبول أو النفور، وقد عرفت بعض حالات تطورت فيها العلاقة إلى حب أو كراهية.
كانت الصداقة بين ستيلسون رينمارك ومارجريت هوارد صداقة أقل ما يقال عنها أنها قوية جدا. وكان كل منهما مستعدا للاعتراف بهذا مرارا. وكان لديهما أساس قوي يبنيان عليه هذه الصداقة متمثلا في كون شقيق مارجريت طالبا في الجامعة التي كان البروفيسور عضوا مهما فيها. وكان لديهما كذلك موضوع خلافي، وهذا الموضوع، حين لم يكن يؤدي إلى نقاش محتدم، بل نقاش رزين، كان يجدي نفعا أكبر في توطيد صداقتهما حتى من الموضوعات التي يتفقان فيها. فقد كانت مارجريت ترى، كما ذكر في فصل سابق، أن الجامعة مخطئة في غلق أبوابها في وجه المرأة. أما رينمارك، الذي لم يكن حتى وقت محادثتهما الأولى عن هذا الموضوع قد فكر في المسألة إلا قليلا، فتبنى رأيا مخالفا لرأي مارجريت، وكان رجلا أشد صراحة، أو أقل دبلوماسية، من أن يخفيه. وفي إحدى المرات كان ييتس حاضرا نقاشهما، وألقى بنفسه، بالحماسة التي كانت تميزه، في صف المرأة في هذا الجدال؛ إذ اتفق مع مارجريت بحرارة واستشهد ببعض الأمثلة، وسخر من أولئك الذين يرفضون التحاق المرأة بالجامعة، ووبخهم متهما إياهم بالخوف من المنافسة النسوية. التزمت مارجريت الصمت، فيما تحدث نصير قضيتها بفصاحة أكبر، ولكن ما إذا كان إعجابها بريتشارد ييتس قد ازداد بسبب دفاعه عن قضيتها، فمن يستطيع أن يجزم بذلك وهو ليس عالما بطرائق النساء؟ وبينما كان أمل ييتس في نيل احترامها هو الأساس الوحيد لآرائه الحاسمة في الموضوع، فمن المحتمل أنه قد نجح؛ لأن تجاربه مع الجنس الآخر كانت كبيرة ومتنوعة. كانت مارجريت منجذبة بلا شك إلى رينمارك، الذي لم يستطع إخفاء ثقافته العلمية العميقة تماما حتى بالإفراط في التقليل من قدر نفسه، وهو بدوره كان يشعر، بطبيعة الحال، بحماسة معلم تجاه طالبة لديها رغبة شديدة وجادة في الاغتراف من بحر المعرفة. ولو كان وصف مشاعره لييتس، الذي كان خبيرا في مسائل كثيرة، لربما كان سيعرف أن البروفيسور واقع في الحب، لكن رينمارك كان رجلا كتوما، ونادرا ما كان يتأمل أفكاره ومشاعره أو يسرف في ذكر أسراره. أما بخصوص مارجريت، فمن ذا الذي يستطيع أن يكشف ما في أعماق سريرة فتاة صغيرة دون أن تبدي بنفسها بعض الأمارات عليه؟ كل ما يستطيع المرء تدوينه بهذا الشأن أنها كانت ألطف في تعاملها مع ييتس مما كانت عليه في البداية.
أما الآنسة كيتي بارتليت، فربما لم تكن ستنكر أنها تكن إعجابا صادقا تجاه هذا الشاب النيويوركي المغرور. وقد وقع رينمارك في خطأ الاعتقاد أن الآنسة كيتي شابة تافهة، في حين أنها كانت مجرد فتاة لديها مخزون لا ينضب من المرح والحيوية، كانت تجد لذة مستهجنة في إذهال رجل جاد. وحتى ييتس قد ارتكب خطأ طفيفا في تصوراته عنها في إحدى المرات، حين كانا يتمشيان معا في نزهة مسائية، بذاك التحرر من الوصاية، الذي كان حقا أصيلا منذ الولادة لكل فتاة أمريكية، سواء أكانت تنتمي إلى بيت ريفي أم قصر مليونير.
قال ييتس في وصفه للواقعة بعد ذلك لرينمارك (لأن ييتس لم يكن لديه مثقال ذرة من تحفظ رفيقه في مثل هذه المسائل): «لقد تركت مخططا لأصابعها الأربعة على خدي بدا كأنه خريطة من تلك الخرائط الطوبوغرافية لسويسرا. شعرت من قبل بضربة خفيفة من مروحة يدوية في يد سيدة راقية من باب التوبيخ، لكني لم أواجه في حياتي توبيخا لطيفا بدا كتعنيف حاد من يد صديقنا توم سايرس.»
فقال رينمارك ببعض الحدة إنه كان يأمل ألا ينسى ييتس أنه مجرد ضيف لدى جيرانه.
قال ييتس: «أوه، حسنا. إن كان لديك أي تعاطف إضافي لتقدمه، فاحتفظ به من أجلي. فجيراني قادرون تماما على الاعتناء بأنفسهم، وعلى أهبة الاستعداد لذلك.»
والآن لنحكي عن ييتس نفسه. قد يظن المرء أن أي راو يسرد الأحداث بضمير، على الأقل، سيجد ذلك مهمة سهلة. ولكن وا أسفاه! هذا بعيد كل البعد عن الحقيقة. فحالة ييتس كانت الأشد تعقيدا وتحييرا بين الأربعة بكل المقاييس. فقد كان يشعر بحب عميق وصادق تجاه كلتا الفتاتين. والأمثلة على هذه الحالات ليست نادرة جدا مثلما قد يحاول شاب حديث الخطبة إقناع فتاته البريئة بذلك. وقد عرفت حالات شهدت الاستقرار على هوية رفيقة عمر الرجل بلقاء عابر مع فتاة دون غيرها. شعر ييتس بأن في كثرة المشورة حكمة، ولم يخف حيرته عن صديقه. كان يشتكي أحيانا من أنه لم يحصل على مساعدة كافية لحل المشكلة، لكنه عادة ما كان يقنع تماما بالجلوس تحت الأشجار مع رينمارك وتقييم المزايا المختلفة لكل فتاة منهما. كان أحيانا ما يناشد صديقه، بصفته رجلا ذا عقلية رياضية ويحوز علما واسعا يمتد إلى القطوع المخروطية والصيغ الجبرية، أن يفاضل بين قائمتي المزايا ويعطيه رأيا صريحا قائما على الإحصاءات بشأن هوية الفتاة التي ينبغي أن يفضلها عن الأخرى في طلب الزواج. وحين كان رينمارك يقابل هذه المناشدات ببرود، كان صديقه يتهمه بعدم التعاطف مع محنته، ويقول إنه رجل بلا روح، وإنه لو كان لديه قلب قبل ذلك، فقد اكتسى هذا القلب بقشرة صلبة من فضلات التعليم العالي العديمة الجدوى، ويقسم أنه لن يبوح له مرة أخرى بسر من أسراره. كان يقول إنه سيبحث عن صديق لديه شيء من الخصال البشرية. ومع ذلك، بدا أن هذا البحث عن الصديق المتعاطف كان يبوء بالفشل؛ إذ كان ييتس يعود دائما إلى رينمارك ليحظى، على حد قوله، بماء بارد على لهيب غرامه المزدوج.
كانا في عصر يوم جميل في الثلث الأخير من شهر مايو من عام 1866، وكان ييتس يتأرجح متراخيا في أرجوحته الشبكية، عاقدا يديه معا تحت رأسه، ومنهمكا في تحديق حالم إلى بقع السماء الزرقاء التي كان يراها عبر الأغصان الخضراء للأشجار الممتدة فوق رأسه، فيما كان صديقه المجتهد منهمكا بلا أي عاطفة في تقشير البطاطس بالقرب من باب الخيمة.
قال الرجل المتأرجح متأملا: «أتعرف يا ريني، قلب الإنسان عضو استثنائي، حين تفكر فيه. أظنك، من واقع قلة اهتمامك به، لم تدرس هذا الموضوع كثيرا، اللهم إلا من الناحية الفسيولوجية فقط. لكنه حاليا في رأيي هو الموضوع الوحيد الذي يستحق كل اهتمام الرجل. ربما كان هذا من تأثير الربيع كما يقول الشاعر، لكنه على أي حال يضيف إلي آفاقا جديدة كل ساعة. والآن، توصلت إلى هذا الاكتشاف المهم: إن آخر من أكون معها من الفتاتين تبدو الأحب إلى قلبي. وهذا يتعارض مع ملاحظة فلاسفة العصور الماضية. فهم يقولون إن الغياب يؤجج الغرام في القلب. لا أرى ذلك. فالحضور هو ما يلهب عذاب قلبي. والآن، كيف تفسر ذلك يا ستيلي؟»
لم يحاول البروفيسور تفسير ذلك، بل واصل الاهتمام بما في يده من عمل بصمت تام. فسحب ييتس عينيه من على السماء، وحدق بهما إلى البروفيسور، منتظرا الإجابة التي لم تأت.
ثم قال أخيرا بنبرة متشدقة: «سيد رينمارك، أنا على قناعة تامة بأنك تتعامل مع البطاطس بطريقة خاطئة. فأنا أظن أن البطاطس ينبغي ألا تقشر قبل طهيها بيوم، وتترك منقوعة في الماء البارد حتى غداء الغد. بالطبع يعجبني الكد الدءوب الذي ينهي العمل على ما يرام قبل أن تطلب نتائجه. فلا شيء أشد إزعاجا من ترك العمل حتى اللحظة الأخيرة ثم إنجازه على عجل. ومع ذلك، قد يفرط المرء في الشيء النافع إلى أن يصير ضارا، وقد يبالغ في إنجاز عمله قبل الأوان المناسب.» «حسنا، أنا على أتم استعداد لترك العمل لك. لعلك تتذكر أنني طوال اليومين السابقين كنت أؤدي مهامك إضافة إلى مهامي.»
قال المتأرجح بشهامة ورحابة صدر: «أوه، إنني لا أشكو من هذا إطلاقا. فأنت بذلك يا ريني تكتسب معرفة عملية ستمنحك نفعا أكبر من كل العلم الذي يدرس في المدارس. كل ما أريده أن تكون معرفتك كاملة قدر المستطاع، وفي سبيل هذا أنا مستعد لتجاهل رغبتي الشديدة في أداء مهمة غسل الأطباق. ينبغي أن أقترح عليك أنك، بدلا من أن تتكبد عناء إزالة قشرة البطاطس كلها بهذه الطريقة الشاقة، ينبغي أن تكتفي فقط بتقشير حزام حول أوسع جزء من محيطها. ثم، بدلا من أن تطهو البطاطس بالطريقة البطيئة المملة التي يبدو أنها تمتعك، ينبغي أن تسلقها سريعا مع وضع قليل من الملح في الماء. حينئذ سيلتوي الجزء المتبقي من القشرة وتنبعج إلى الخارج، وتكون حبة البطاطس الناتجة بيضاء وجافة ومليئة بالنشا، وليست أشبه بإسفنجة مبللة.» «جمال النصيحة يكمن في توضيحها عمليا يا ييتس. فإن لم تكن راضيا عن طريقتي في سلق البطاطس، أعطني درسا عمليا بالأمثلة.»
تنهد الرجل المتأرجح تنهيدة موبخة. «بالطبع لا يستطيع رجل عديم الخيال مثلك يا رينمارك أن يدرك فظاظة اقتراح أن يضطر رجل غارق في الحب حتى أذنيه مثلي إلى إهانة نفسه بالاهتمام بالتفاصيل المملة للشئون المنزلية. إنني واقع في غرام مزدوج، بل وأكثر بكثير؛ لذا فاقتراحك فظ ولا داعي له، كما كان ذلك الممل العجوز إقليدس يقول.» «حسنا، إذن؛ فلتكف عن النقد.» «موافق، ثمة قدر من المعقولية اللطيفة في اقتراحك الفظ. فالرجل الذي لا يستطيع، أو لا يرغب في، العمل في حقل العنب، يجب ألا ينتقد من يجمعون ثماره. والآن يا ريني، في المرة المائة التي أسألك فيها، فلتضف إلى الأفضال العديدة التي أسديتها لي بالفعل وتخبرني، بطيبتك المعهودة، ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني. أيا من هاتين الفتاتين الفاتنتين، والمختلفتين تماما، كنت ستفضل؟»
فقال الأستاذ بهدوء: «سحقا!».
صاح ييتس رافعا رأسه: «أيا ريني! هل جرحت إصبعك؟ كان ينبغي أن أحذرك من استخدام سكين حاد للغاية.»
لكن البروفيسور لم يكن قد جرح إصبعه. صحيح أن استخدامه الكلمة المذكورة أعلاه فعل لا يمكن تبريره، لكنها بدت خالية من أي صلة بالألفاظ النابية إطلاقا بطريقة تفوهه بها. فقد قالها بهدوء ورباطة جأش وشيء من البراءة. وقد دهش من نفسه حين تلفظ بها، لكن الأيام القليلة الماضية كانت قد شهدت لحظات لم تكن فيها الألفاظ العادية المستخدمة في الكتب الأكاديمية الرياضية الرفيعة مناسبة للموقف.
وقبل أن تقال أي كلمة أخرى، سمع صياح من على الطريق القريب إليهم.
صاح الصوت قائلا: «هل ريتشارد ييتس موجود؟».
فصاح ييتس وهو يثب من الأرجوحة: «نعم. من يريده؟».
فقال المنادي الذي كان شابا يمتطي حصانا: «أنا.» ارتمى من فوق ظهر حصانه المنهك، وربطه بشجيرة - مع أن ذلك لم يكن ضروريا إطلاقا، من الحالة التي كان عليها الحصان - وقفز من فوق السياج ذي القضبان، ودنا منهما عبر الأشجار. ورأى الشابان فتى طويل القامة يرتدي زي موظفي خدمة التلغراف قادما نحوهما. «أنا ييتس. ما الخطب؟»
قال الفتى: «حسنا، لقد خضت بحثا شاقا جدا عنك. هاك برقية إليك.» «كيف عرفت مكاني بحق السماء؟ لا أحد يعرف عنواني.» «هذه بالضبط هي المشكلة. كنت ستوفر على شخص ما في نيويورك كومة من الأموال لو تركت له عنوانك. الواجب ألا يذهب أحد إلى الغابة دون أن يترك عنوانه في مكتب للتلغراف، على أي حال.» كان الشاب ينظر إلى العالم من منظور موظفي التلغراف. فقد كان الناس يصنفون ما بين جيد وسيئ حسب العناء الذي يكبدون ساعي التلغراف إياه. أخذ ييتس المظروف الأصفر، الذي كان معنونا بقلم رصاص، لكنه كرر سؤاله دون أن يفتحه: «ولكن كيف وجدتني بحق السماء؟»
قال الفتى: «حسنا، لم يكن الأمر سهلا. حصاني على وشك الهلاك. أنا من بافالو. وقد أرسلوا برقية من نيويورك بألا نألو أي نفقات في سبيل إيجادك، ولم نأل بالفعل. يوجد سبعة زملاء آخرين يجوبون البلاد على ظهور الخيول بنسخ طبق الأصل من هذه البرقية، بل ويوجد زملاء آخرون ذهبوا للبحث عنك على طول شاطئ البحيرة على الجانب الأمريكي.» ثم سأل الشاب بنبرة ممزوجة بشيء من القلق: «بالمناسبة، لم يصل إلى هنا أي ساع قبلي، أليس كذلك؟». «لا، أنت الأول.» «أنا سعيد بذلك. لقد طفت كندا كلها تقريبا. حصلت على طرف أثرك منذ ساعتين، وقال أهل البيت الريفي الواقع في أسفل البلدة إنك في الأعلى هنا. أتود إرسال أي رد؟»
فتح ييتس المظروف ممزقا إياه. كانت الرسالة طويلة، وكان يقرؤها بعبوس يشتد حدة. كان موجزها كالتالي:
الفينيانيون يعبرون إلى كندا من عند بافالو. أنت قريب من موقع الحدث، اذهب إلى هناك بأسرع ما يمكن. سيغادر خمسة من رجالنا إلى بافالو الليلة. الجنرال أونيل هو قائد الجيش الفينياني. سيمنحك كل التسهيلات حين تخبره بهويتك. عندما يصل الخمسة، سيكونون تحت إشرافك. ضع منهم واحدا أو اثنين مع القوات الكندية. واجعل واحدا يلازم التلغراف، ويرسل كل ما ستحمله أسلاك التلغراف. اعتمد علينا في استرداد كل ما ستحتاج لدفعه من نقود، ولا تأل أي نفقات.
حين انتهى ييتس من قراءة ذلك، أطلق سيلا من اللعنات والألفاظ النابية التي أذهلت رينمارك وأثارت إعجابا ممزوجا بالحسد لدى فتى التلغراف القادم من بافالو. «بحق السماوات والأرض والجحيم! إنني هنا في إجازتي. لن أنتفض للعمل ولو من أجل كل الصحف في نيويورك. لماذا لا يستطيع هؤلاء الفينيانيون الحمقى أن يلزموا ديارهم؟ الأغبياء لا يفهمون أنهم في نعمة حين تكون لديهم. فلتحل اللعنة على الفينيانيين!»
فقال فتى التلغراف: «أظن أن هذا ما سوف يصيبهم. أتود إرسال أي رد يا سيدي؟» «لا. أخبرهم بأنك لم تستطع العثور علي.»
قال البروفيسور متحدثا لأول مرة: «لا تنتظر من الفتى أن يكذب.»
فصاح الفتى قائلا: «أوه، أنا لا أمانع الكذب! ولكن ليس هذه الكذبة. لا يا سيدي. لقد تكبدت عناء شديدا حتى عثرت عليك. لن أدعي كذبا أنني خائب في عملي. لقد شرعت في مهمتي عاقدا العزم على أن أجدك، وقد وجدتك. لكني سأقول أي كذبة أخرى تريدها يا سيد ييتس، إن كان في ذلك منفعة لك.»
أدرك ييتس في الفتى الرغبة التنافسية الشديدة في التفوق على زملائه نفسها التي أثرت فيه شخصيا حين كان مراسلا صغيرا ، واعترف في الحال بأن من الظلم محاولة حرمانه من ثمار روح المبادرة والمغامرة.
قال: «لا، هذا غير مقبول. لا، لقد وجدتني بالفعل، وأنت صبي واعد سيصبح رئيس شركة التلغراف يوما ما، أو ربما سيتولى منصب رئاسة الولايات المتحدة، وإن كان هذا أقل أهمية. من يعرف؟ هل لديك ورقة برقية فارغة؟»
قال الصبي وهو يخرج حزمة أوراق من الحافظة الجلدية التي كان يحملها في جانبه: «بالطبع.» فأخذ ييتس الورقة وارتمى تحت الشجرة.
قال الساعي: «هاك قلم رصاص.»
رد ييتس وهو يخرج واحدا من جيبه الداخلي: «لا تخلو حوزة الصحفي من قلم رصاص، شكرا لك.» ثم تابع قائلا: «والآن يا رينمارك، لن أكذب هذه المرة.» «أعتقد أن الصدق أفضل في كل المواقف.» «أنت محق. وها أنا سأقول الحقيقة تامة مطلقة.»
أخذ ييتس يكتب بسرعة على ورقة البرقية الفارغة وهو مستلق على الأرض. ثم نظر فجأة إلى الأعلى وقال للبروفيسور: «بالمناسبة يا رينمارك، أأنت دكتور؟»
أجاب صديقه قائلا: «في القانون.» «أوه، هذا أيضا سيفي بالغرض.» وأنهى الكتابة.
ثم صاح وهو يمد الورقة أمامه: «ما رأيكما في هذا؟»
إل إف سبنسر
مدير تحرير صحيفة «أرجوس»، نيويورك
أنا مستلق على ظهري. لم أؤد أي عمل منذ أسبوع. وأخضع لرعاية مستمرة ليلا ونهارا من أحد أبرز الدكاترة في كندا، حتى إنه يعد لي طعامي. فمنذ أن غادرت نيويورك، أصبت بمضاعفات بسبب تعب في القلب، وهذا التعب يحير الدكتور حاليا. أستشيره يوميا. لذا من المستحيل أن أنتقل من هنا إلى أن تستجيب هذه المضاعفات للعلاج.
سيكون سيمسون كفئا لتولي المسئولية في غيابي.
ييتس
ثم قال ييتس بنبرة رضا حين أنهى القراءة: «ما قولكما في ذلك؟»
عبس البروفيسور لكنه لم يرد. وابتسم الفتى، الذي أدرك جزئيا أن هذا ليس حقيقيا، لكنه لم يكن متيقنا تماما، وقال: «أهذا صحيح؟»
صاح ييتس مستاء من هذا الشك المجحف: «بالطبع صحيح! إنه أصح مما قد تظن. اسأل هذا الدكتور نفسه عما إذا كان هذا صحيحا أم لا. والآن يا بني، هلا تسلم هذه حين تعود إلى المكتب؟ فلتخبرهم أن يرسلوها على عجل إلى نيويورك. كنت أود أن أكتب عليها «عاجلة»، لكن ذلك لا يجدي أي نفع ودائما ما يثير غضب عامل التلغراف.»
أخذ الفتى الورقة ووضعها في حافظته.
وتابع ييتس: «سيتكفل المرسل إليه بثمنها.»
أجاب الفتى بشيء من التعالي كما لو كان يمنحه ائتمانا نيابة عن شركة التلغراف: «أوه، لا بأس.» وأضاف قائلا: «حسنا، وداعا. آمل أن تتحسن قريبا يا سيد ييتس.»
هب ييتس واقفا على قدميه ضاحكا، وتبعه إلى السياج. «أصغ إلي أيها الفتى، أرى أنك كفء بما فيه الكفاية. ربما سيسألونك حين تعود. فماذا ستقول؟» «أوه، سأخبرهم بمدى صعوبة المهمة التي خضتها كي أجدك، وأعرفهم أن أي أحد سواي ما كان ليقدر عليها، وسأقول إنك سقيم جدا. لن أخبرهم أنك أعطيتني دولارا!» «بالضبط يا بني، سوف تنجح. هاك خمسة دولارات، ورقة واحدة. وإذا قابلت أيا من السعاة الآخرين، أعدهم معك. فلا جدوى من إضاعة وقتهم الثمين في هذه البلدة الصغيرة.»
دس الفتى الورقة النقدية في جيب صداره بلا مبالاة كما لو كانت تساوي خمسة سنتات وليس دولارات، وامتطى حصانه المتعب، ولوح بيده مودعا الصحفي. واستدار ييتس وسار ببطء عائدا إلى الخيمة. ارتمى مرة أخرى في الأرجوحة الشبكية. وكما توقع، كان البروفيسور أشد صمتا من أي وقت مضى، ومع أن ييتس كان مهيئا لهذا الصمت، فقد انزعج منه. كان يشعر بمرارة القسوة بسبب وجوده مع رفيق غير متعاطف تماما كهذا. «اسمع يا رينمارك؛ لماذا لا تقول شيئا؟» «لا شيء يقال.» «أوه، نعم، بل يوجد. أنت لا تتقبل تصرفي، أليس كذلك؟» «لا أظن أن قبولي أو عدمه سيحدث أي فارق.» «أوه، نعم، بل سيحدث. فالمرء يحب أن يحظى باستحسان حتى أقل الناس شأنا. أصغ إلي، كم تأخذ من النقود مقابل أن تقبل تصرفي؟ يتحدث الناس عن عذاب الضمير، لكنك تسبب عذابا أشد مما يسببه أي ضمير صارم لدى أي شخص على الإطلاق. يستطيع المرء أن يتدبر شأن ضميره، ولكن حين يواجه ضميرا متجسدا في شخص إنسان آخر، يكون خارج سيطرته. أصغ إلي، الوضع كالتالي: أنا هنا من أجل الهدوء والراحة. وقد حظيت بكليهما، وأظن أن لدي ما يبرر ...» «أصغ إلي يا سيد ييتس، أرجوك أن تعفيني من أي فلسفة رخيصة بشأن هذه المسألة. لقد سئمت ذلك.» «وأظنك قد سئمتني أيضا؟» «حسنا، نعم، بعض الشيء، إن كنت تريد أن تعرف.»
هب ييتس ناهضا من الأرجوحة الشبكية. ولأول مرة منذ شجاره مع بارتليت على الطريق، رأى رينمارك أنه يستشيط غضبا. كان المراسل الصحفي واقفا بيدين مقبوضتين وعينين وامضتين، وقد بدا عليه شيء من التردد. أما الآخر، فكان عاقدا حاجبيه الكثيفين، صحيح أنه لم يكن في وضعية عدوانية، لكنه كان متأهبا بكل وضوح لهجوم من ييتس. قرر ييتس في النهاية أن يتحدث بلسانه وليس بقبضتيه. ولم يكن هذا لشعور لديه بالخوف؛ لأنه لم يكن جبانا. لقد أدرك المراسل الصحفي أنه هو الذي جر رينمارك إلى المحادثة رغما عنه، وتذكر أنه هو الذي دعاه إلى مرافقته. ومع أن هذه الذكرى كبحت يديه، فلم تؤثر إطلاقا في لسانه.
قال ببطء: «أعتقد أنك ستستفيد من أن تسمع لمرة واحدة رأيا صريحا منصفا محايدا عن شخصيتك. فمنذ فترة طويلة وأنت لا تتعامل إلا مع طلاب، يعتبرون كلمتك قانونا؛ لذا قد تكون مهتما بمعرفة رأي رجل خبير بالحياة وأمور الدنيا فيك. إن بضع سنوات من العمل في مهنة التدريس تكفي لإفساد أكابر الملائكة. والآن، أظن أنه من بين كل ال...»
قوطعت جملته بصيحة قادمة من عند السياج: «أيا أيها السيدان، هل تعرفان أين يعيش رجل يدعى ييتس؟»
سقطت يد المراسل الصحفي إلى جانبه. واعتلت وجهه نظرة فزع، وتغير سلوكه العدواني المشاكس بسرعة مفاجئة جدا إلى حد أنها انتزعت ابتسامة من شفتي رينمارك الصارمتين المزمومتين.
تراجع ييتس إلى الأرجوحة الشبكية كمن تلقى ضربة مباغتة.
قال في حسرة: «أصغ إلي يا ريني، إنه ساع آخر من سعاة التلغراف الملاعين. فلتتكرم بالذهاب إليه وتوقع على تسلم البرقية. وقع بعبارة: «د. رينمارك نيابة عن آر ييتس.» سيضفي ذلك عليها مظهر تقرير طبي رسمي. ليت هذه الفكرة خطرت ببالي حين كان الفتى الآخر هنا. أخبره بأنني راقد.» ثم ارتمى في الأرجوحة الشبكية، وسار رينمارك، بعد لحظة من التردد، نحو الفتى الواقف عند السياج، الذي كان قد كرر سؤاله بصوت أعلى. وسرعان ما عاد حاملا المظروف الأصفر، الذي ألقاه إلى الرجل المستلقي في الأرجوحة الشبكية. فأخذه ييتس بعنف، ومزقه إلى العديد من القطع، ونثر القطع التي سقطت متطايرة من حوله على الأرض. فيما ظل البروفيسور واقفا هناك لبضع لحظات في صمت.
وأخيرا قال: «ربما سيكون كرما بالغا منك أن تواصل ملاحظاتك.»
رد ييتس قائلا بضجر: «كل ما كنت سأقوله أنك رجل ممتاز يا ريني. دائما ما تنشب مشادات بين من يخيمون معا. هذه هي مشادتنا الأولى، وأظننا سنجعلها الأخيرة. في رأيي أن التخييم في العراء أشبه بالحياة الزوجية، ويتطلب بعض الصبر والتسامح من الطرفين. ربما تكون هذه الفلسفة رخيصة، لكني أظنها دقيقة. إنني قلق جدا حقا بشأن هذا الأمر المتعلق بالصحيفة. صحيح أنني يجب أن ألقي بنفسي في الشق العميق كذلك الرجل الروماني، ولكن سحقا! فأنا أرمي بنفسي في الشقوق العميقة منذ خمسة عشر عاما، وما الفائدة التي جنيتها من ذلك؟ دائما ما توجد أزمة طارئة في أي مكتب من مكاتب الصحف اليومية. وأريدهم أن يفهموا في مكتب «أرجوس» أنني في إجازتي.» «الأرجح أنهم سيفهمون من البرقية أنك على فراش الموت.»
ضحك ييتس. ثم قال: «هذا صحيح، ولكن كما ترى يا ريني، نحن سكان نيويورك نعيش في هذا الجو من المبالغة الشديدة، ولو لم أصغ الرسالة بهذه القوة، فلن تحدث أي تأثير. يجب أن تعطي رجلا يتعاطى السم طوال حياته جرعة كبيرة. لن يصدقوا تسعين في المائة من أي كلام أقوله على أي حال؛ لذا، فكما ترى، يجب أن أبالغ بقوة قبل أن تؤتي العشرة في المائة المتبقية أي نتيجة.»
قوطعت المحادثة بطقطقة الأغصان الجافة خلفهما، فاستدار ييتس الذي كان يراقب السياج بقلق. كان بارتليت الصغير يشق طريقه نحوهما عبر الشجيرات السفلية الصغيرة. كان وجهه أحمر، وبدا جليا أنه كان يركض.
قال لاهثا: «برقيتان لك يا سيد ييتس. قال الرجلان اللذان أحضراهما إنهما مهمتان؛ لذا ركضت بنفسي بهما إلى هنا، خوفا من ألا يجداك. إحداهما من بورت كولبورن، والأخرى من بافالو.»
كانت البرقيات نادرة في الريف، وكان بارتليت الصغير يعتبر تسلم واحدة حدثا مهما في حياة المرء. لذا دهش بشدة حين رأى ييتس يتلقى هذا الحدث المزدوج بفتور، ولم يستطع منع نفسه من تصور أن ييتس تظاهر بهذا الفتور لمجرد أن يبهره. أمسكهما ييتس ولم يمزقهما في الحال مراعاة لمشاعر الشاب، الذي جاء راكضا ليسلمهما إليه. «هاك دفترين أرادا منك التوقيع عليهما. لقد كانا منهكين تماما، وأعطتهما أمي شيئا ليأكلاه.»
قال ييتس: «ستوقع نيابة عني أيها البروفيسور، أليس كذلك؟».
تلكأ بارتليت للحظة على أمل أن يسمع شيئا من محتوى الرسالتين المهمتين، لكن ييتس لم يفتح المظروفين حتى، وإن شكر الشاب بحرارة لإحضارهما.
تمتم بارتليت الصغير لنفسه وهو يحشر الدفترين الموقعين في جيبه ويشق طريقه عبر الشجيرات السفلية الصغيرة مرة أخرى قائلا: «عنيد متغطرس!». مزق ييتس المظروفين ومحتواهما ببطء ونظام إلى قطع صغيرة، ونثرهما حوله كسابقهما.
قال: «بدأت الأجواء تبدو خريفية بهذه الأوراق الصفراء المتناثرة على الأرض.»
الفصل الخامس عشر
قبل حلول الليل، عثر ثلاثة سعاة آخرين على ييتس وأسهمت نثار ثلاث برقيات ممزقة أخرى في تغطية أرضية الغابة. ظلت معنويات الصحفي - التي عادة ما تكون مرتفعة - تنهار شيئا فشيئا تحت وطأة هذه الزيارات المتكررة. ولم يتفوه حتى بأي ألفاظ نابية بعد نهاية هذه الزيارات، وهذا، في حالة ييتس، دائما ما كان أمارة على اكتئاب شديد. ومع حلول الليل، قال ييتس بوهن شديد للبروفيسور إنه أشد إنهاكا مما كان طوال حياته في أي حملة انتخابية مرت عليه. ذهب إلى فراشه في الخيمة مبكرا في حالة اكتئاب تام إلى حد أن رينمارك شعر بالأسى تجاهه، وحاول بلا جدوى أن يروح عنه.
قال ييتس بمرارة: «لو كانوا قد أتوا كلهم دفعة واحدة كي يتسنى لي أن أطلق سلسلة واحدة شاملة من اللعنات تشملهم كلهم وتنهي الأمر، ما كان الوضع بهذا السوء، لكن مجيئهم تدريجيا هكذا باستمرار كرذاذ المطر الضعيف يستنفد صبر أي أحد حتى لو كان قديسا.»
وبينما كان جالسا على حافة فراشه مرتديا قميصا بلا سترة، قال رينمارك إن الدنيا ستصير أكثر إشراقا في الصباح، وقد كان هذا تعليقا منطقيا لا يقبل الجدال لأن الليل كان معتما.
جلس ييتس في صمت دافنا رأسه بين يديه لبضع لحظات. وأخيرا قال ببطء: «لا يوجد أحد في غباء الرجل الشديد الصلاح. فليس المرسال هو ما أخشاه رغم كل شيء. إنه مجرد عرض خارجي للمشكلة الداخلية. ما تراه هو مثال على يقظة ضمير في الوقت الذي كنت تظنه غائبا. فمشكلتي أنني أعرف أن الصحيفة تعتمد علي، وأن هذه ستكون المرة الأولى التي أخذلهم فيها. لقد جبلت غريزة الصحفي على أن يكون في قلب المعركة. إنه يتوق إلى الانفراد بأي سبق صحفي قبل صحف المعارضة. سأنام الليلة إن استطعت، وأعرف أنني سأستسلم غدا. أعرف أنني سأبحث عن الجنرال أونيل حتى أجده وسأجري معه حوارا صحفيا في ميدان المجزرة. سأرسل برقيات مكونة من عدة صفحات. سأجدد مفرداتي العسكرية، وسأتحدث عن النشر والحشد وإرسال سرايا استطلاعية، وما شابه. سأحرك الفصائل العسكرية والكتائب الاستطلاعية وأبتكر الاستراتيجية. ستكون لدينا حرب ضروس في أعمدة صحيفة «أرجوس»، بصرف النظر عما يحدث في حقول كندا. ولكن من وجهة نظر رجل شهد حربا حقيقية، فهذا القتال الزائف الشبيه بعرض هزلي في الأوبرا ... لا أريد قول أي شيء حاد، لكني أراه كريها ومزعجا.»
وبينما كان يقول ذلك، رفع ناظريه إلى أعلى بابتسامة باهتة نحو رفيقه، الذي كان جالسا على قعر دلو مقلوب. ثم مد يده إلى جيب بنطاله الخلفي، وسحب مسدسا سلمه إلى البروفيسور موجها إليه الجزء السميك من المقبض، فانتفض البروفيسور، الذي لم يكن يعرف أن صديقه يحمل أداة كهذه، انتفاضة غريزية إلى الوراء متفاديا الإمساك به. «ريني، خذ هذا السلاح المدمر وانقعه مع البطاطس. فإذا دخل علي ساع آخر الليلة، اعرف أنني سأجعل جسده كالغربال لو ظل هذا في متناول يدي. يخبرني حدسي بأنه بريء، ولا أريد أن أريق الدماء الوحيدة التي ستراق في أثناء هذه الحملة البغيضة.»
ثم ناما ولبثا هكذا مدة لم يعرفاها، كما في قصص الأشباح، لكنهما استيقظا فجأة على ضجة في الخارج. كان الظلام حالكا داخل الخيمة، ولكن حين انتصب الاثنان جالسين، لاحظا بصيصا ضبابيا متحركا من الضوء كان مرئيا بالكاد من خلال قماش الخيمة.
همس ييتس قائلا: «إنه أحد هؤلاء السعاة الشيطانيين. أعطني هذا المسدس.»
فقال الآخر بصوت خفيض جدا: «صه! يوجد حوالي عشرة رجال في الخارج، بناء على وقع الأقدام. لقد سمعتهم وهم قادمون.»
قال صوت في الخارج: «لنطلق النيران على من بداخل الخيمة، وننهي أمرها.»
فصاح آخر: «لا لا، لا يطلقن أحدكم النار. ستحدث ضوضاء أشد مما ينبغي، ويوجد آخرون في الأنحاء هنا بالتأكيد. هل حرابكم جميعا مثبتة على بنادقكم؟»
فصدرت تمتمة، بالإيجاب حسبما بدا. «ممتاز إذن. ميرفي وأوروريك، تعاليا إلى هذا الجانب. وأنتم الثلاثة الزموا أماكنكم. وأنت يا تيم، اذهب إلى ذاك الطرف الأبعد، أما أنت يا دولن، فتعال معي.»
همس ييتس وهو يتلمس بيديه في الظلام بحثا عن ثيابه: «الجيش الفينياني، يا إلهي! أعطني هذا المسدس يا ريني، وسأريك شيئا أقرب إلى المتعة منه إلى الجنائز.» «لا لا. فعددهم يفوقنا ثلاث مرات على الأقل. إننا عالقان في فخ هنا، وبلا حيلة.» «أوه، دعني فقط أقفز وسطهم وأطلق الألعاب النارية. وأولئك الذين لن أرديهم قتلى سيموتون من الخوف. تخيل أن جنودا استطلاعيين يجوبون الغابة بمشكاة؛ بمشكاة يا ريني! تخيل هذا! هذه لقمة سائغة! أطلقني عليهم.» «صه! الزم الصمت! سيسمعونك.» «تيم، أحضر المشكاة إلى هذا الجانب.» تحرك بصيص الضوء الضبابي على طول قماش هذا الجانب من الخيمة. «يوجد رجل ساندا ظهره إلى جدار الخيمة. المسه فقط بحربة بندقيتك يا ميرفي، واجعله يعرف أننا هنا.»
فقال ميرفي بحذر: «ربما يوجد عشرون شخصا في الخيمة .»
رد القائد قائلا: «افعل ما أمرتك به.»
فاخترق ميرفي قماش الخيمة بحربته متحسسا ما بداخلها بسنها المدبب الفتاك الذي غاص في جوال البطاطس.
قال ميرفي بارتجافة خوف في صوته حين لم تصله أي أمارة وجود من جوال البطاطس: «عجبا، إنه يغط في نوم عميق.»
وهنا دوى صوت ييتس من داخل الخيمة قائلا: «ما الذي تظنون أنكم فاعلوه أيها الرجال بحق الجحيم؟ ما خطبكم؟ ماذا تريدون؟»
حل صمت لحظي لم يكسره سوى حركة أقدام متعجلة مهتاجة وطقطقة فتح أقفال أمان البنادق.
قال القائد بصوت صارم: «كم عددكم هناك في الداخل؟». «اثنان، إذا كنت تريد أن تعرف، وكلانا أعزل، وفينا واحد مستعد لمقاتلة الكثيرين إن كنتم متلهفين للتناوش.»
فكان الأمر التالي: «اخرجوا واحدا تلو الآخر.»
قال ييتس وهو يخرج من الخيمة مرتديا قميصه بلا سترة: «سنخرج واحدا تلو الآخر، ولكن لا تتوقع أن نستمر هكذا فترة طويلة؛ لأننا اثنان فقط.»
ثم خرج البروفيسور بعده مرتديا معطفه. لم يبد الوضع مبشرا إطلاقا. فقد كانت المشكاة الموضوعة على الأرض تلقي وهجا باهتا على قسمات القائد الحادة، كما قد تنير أضواء المسرح هيئة قاطع طريق في غابة على خشبة المسرح. وبدا على وجه الضابط أنه متأثر جدا بأهمية منصبه وخطورته. نظر إليه ييتس نظرة خاطفة بابتسامة؛ إذ كان كل اكتئابه الذي انتابه مؤخرا قد تلاشى آنذاك بعدما أصبح في خضم حدث صاخب مثير.
قال: «أيكم ميرفي، وأيكم دولن؟» ثم صاح حين وقعت عيناه على رجل طويل القامة ذي شعر أحمر كان يشهر حربته استعدادا للهجوم بعزم شرس على قسمات وجهه كان من الممكن أن يجعل خصمه يرتعد خوفا: «مرحبا أيها العضو في مجلس المدينة! متى غادرت نيويورك؟ ومن يدير المدينة الآن بعد رحيلك؟»
من الواضح أن الرجال كان لديهم شيء من حس الدعابة، رغم عملهم الوحشي المتعطش للدماء؛ إذ اكتست وجوههم بابتسامة في ضوء المشكاة، وأنزلت عدة حراب لا إراديا. لكن قسمات وجه القائد الصارمة لم ترتخ إطلاقا.
قال بجدية: «أنت تضر نفسك بكلامك. فما تقوله سيستخدم ضدك.» «نعم، وما تفعله أنت سيستخدم ضدك، ولا تنس هذه الحقيقة. أنت الذي في خطر، وليس أنا. فأنت، في هذه اللحظة، تجعل من نفسك أحمق امرئ في كندا.»
صاح القائد بفظاظة: «أوثقوا هذين الرجلين!».
صاح ييتس وهو ينفض عن جسده قبضة رجل هرع إلى جانبه: «لن توثقوا أحدا إطلاقا!». ولكن سرعان ما تغلب الرجال على ييتس ورينمارك، ثم ظهرت مشكلة غير متوقعة. فقد أشار ميرفي بأسى إلى أنهم ليس لديهم حبل. غير أن القائد كان رجلا واسع الحيلة.
قال له: «اقطع حبلا كافيا من الخيمة لتربطهما.»
فقال ييتس: «وبينما تفعل ذلك يا ميرفي، اقطع حبلا آخر كافيا لتشنق نفسك به. ستحتاج إليه قريبا. وتذكر أن أي ضرر ستلحقه بتلك الخيمة ستضطر لتحمل تكلفته. فهي مستأجرة.»
كبدهم ييتس قدر ما استطاع من عناء وهم يربطون مرفقيه ومعصميه معا، بينما ظل يتفوه بتلميحات ساخرة ويلعن حماقتهم. أما رينمارك، فرضخ لهم بهدوء. وحين أنهوا وثاقهما، قال البروفيسور بثقة هادئة كأنه رجل يحظى بدعم إمبراطورية من ورائه ويعرف ذلك: «أنذرك يا سيدي بأن هذا الاعتداء يرتكب على أرض بريطانية، وبأنني، أنا المعتدى عليه، من الرعايا البريطانيين.»
قال له ييتس: «يا إلهي، لو تعذر عليك التزام الصمت يا رينمارك، فلا تستخدم كلمة «رعية»؛ بل قل «مواطن».» «إنني قانع بالكلمة، وبالحماية التي يحظى بها من يستخدمها.» «أصغ إلي يا رينمارك، من الأفضل أن تدع لي مهمة الحديث. فكلامك سيضعنا في موقف حرج ليس إلا. أعرف نوعية الرجال الذين علي أن أتعامل معهم، أما أنت فمن الواضح أنك لا تعرفها.»
وبينما كانوا يكبلون البروفيسور، وجدوا المسدس في جيب معطفه. فرفعه ميرفي إلى الضوء.
ثم قال القائد بحدة وهو يأخذ المسدس: «أظنكما قلتما إنكما أعزلان؟».
قال ييتس: «إنني أعزل. المسدس ملكي، لكن البروفيسور لم يكن ليسمح لي باستخدامه. ولو كان قد سمح لي بذلك، كنتم ستركضون جميعا بأقصى سرعة من شدة الخوف عبر الغابة.»
قال القائد لرينمارك متجاهلا ييتس: «أتعترف بأنك رعية بريطاني؟».
قال ييتس قبل أن يستطيع رينمارك الكلام: «لا يعترف بذلك، بل يتفاخر به. لا تستطيع إخافته؛ لذا كف عن هذه الحماقة، وأخبرنا كم من الوقت سنقف هنا مقيدين هكذا.»
قال الرجل ذو الشعر الأحمر: «أقترح يا كابتن أن نطلق الرصاص على هذين الرجلين حيث يقفان، ونبلغ الجنرال. إنهما جاسوسان. إنهما مسلحان وأنكرا ذلك. هذا ما تقتضيه قواعد الحرب، يا كابتن.» «قواعد الحرب؟ ماذا تعرف عن قواعد الحرب أيها السنجامبي ذو الشعر الأحمر؟ قواعد هويل! أظن أن مهمتك هي حفر المجاري. تعال أيها الكابتن، حل هذا الوثاق واتخذ قرارا سريعا. هرول بنا إلى الجنرال أونيل بأسرع ما يمكن. فكلما أسرعت في إيصالنا إلى هناك، سيكون لديك متسع من الوقت لتتأسف على ما فعلته.»
بقي القائد مترددا، وظل يتنقل بعينيه بين رجاله، كأنه يحاول أن يتبين ما إذا كانوا سيطيعونه لو اتخذ قرارا عنيفا مبالغا فيه. ولاحظ ييتس بعينه السريعة أن الأسيرين ليس لديهما أي شيء يأملان فيه إطلاقا، حتى من الرجال الذين ابتسموا. فقد كانوا يرون أن إطلاق النار على رجلين أعزلين ومقيدين هي الطريقة الصحيحة لبدء نضال عظيم من أجل الحرية.
قال القائد أخيرا: «حسنا، يجب أن نفعل ذلك بالطريقة السليمة؛ لذا أظن أننا ينبغي أن نجري محاكمة عسكرية. هل تتفقون معي في هذا؟»
وجاءت الموافقة بالإجماع.
صاح ييتس بنبرة ذات قدر من الوقار رغم استخفافه السابق قائلا: «أصغ إلي، لقد جاوزت هذه المهزلة المدى. ادخل الخيمة هناك، وستجد في جيب معطفي برقية، وهي الأولى من بين دزينة أو اثنتين من البرقيات تلقيتها في خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية. وسترى حينئذ هوية الشخص الذي تعتزم إطلاق النار عليه.»
عثر على البرقية، وقرأها القائد، بينما كان تيم يحمل له المشكاة. ثم نظر إلى الصحفي من تحت حاجبيه المعقودين.
قال له: «إذن، فأنت أحد موظفي صحيفة «أرجوس».» «أنا رئيس موظفي صحيفة «أرجوس». وكما ترى، سيكون خمسة من رجالي مع الجنرال أونيل غدا. والسؤال الأول الذي سيطرحونه عليه هو: «أين ييتس؟» ثم ستشنق بسبب غبائك، ليس بأيدي كندا ولا ولاية نيويورك، بل بأيدي جنرالك، الذي سيظل يلعن ذكراك من تلك اللحظة وإلى الأبد. فأنت لا تمارس حماقتك مع أحد الرعايا هذه المرة، بل مع مواطن، وجنرالك ليس أبله لكي يعبث مع حكومة الولايات المتحدة، فضلا عن الصحافة الأمريكية العظيمة التي ستكون عواقب العبث معها أسوأ بكثير. هلم أيها الكابتن، لقد اكتفينا من هذا. اقطع هذه الحبال بأقصى سرعة ممكنة، وخذنا إلى الجنرال. كنا سنزوره في الصباح على أي حال.» «لكن هذا الرجل يقول إنه كندي.» «لا بأس. أنا وصديقي بنيان واحد. وإذا أذيته، فأنت تؤذيني. والآن، أسرع، انزل من برجك العاجي. سأتكبد ما يكفي من العناء الآن بالفعل لأجعل الجنرال يغفر لك كل الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الليلة، دون أن تزيد الطين بلة. قل لرجالك يحلوا وثاقنا ويعيدوا الحبال إلى الخيمة. سيحل ضوء النهار قريبا. هيا أسرع وأطلق سراحنا.»
قال القائد متنهدا: «حلوا وثاقهما.»
هز ييتس جسده حين استعادت ذراعاه حريتهما.
وقال: «والآن يا تيم، اركض إلى داخل هذه الخيمة وأحضر معطفي. فالجو بارد هنا.»
نفذ تيم طلبه فورا، وساعد ييتس في ارتداء المعطف.
فقال له ييتس: «فتى مطيع! من الواضح أنك كنت حمالا في فندق.»
فابتسم تيم.
قال له ييتس متأملا: «أظن أنك لو نظرت أسفل الفراش الأيمن يا تيم، لوجدت جرة. إنها ملك البروفيسور، مع أنه أخفاها تحت فراشي ليبعد الشك عن نفسه. أخرجها من هناك وأحضرها إلى هنا. إنها ليست ممتلئة كما كانت، لكنها تحوي قدرا كافيا ليشرب منها الجميع، إذا لم يأخذ البروفيسور أكثر من نصيبه.»
لعق الجنود البواسل شفاههم ترقبا للجرة، وبدا رينمارك مشدوها لرؤيتها حين أحضرها تيم. قال ييتس: «أنت أولا، يا بروفيسور»؛ وقدم له تيم الجرة ببراءة. هز الرجل العلامة رأسه رافضا. فضحك ييتس وأخذها.
ثم قال: «حسنا، في صحتكم أيها الفتيان. وأرجو أن تعودوا كلكم سالمين إلى نيويورك كما سأعود.» مرت الجرة على طول صف الجنود، حتى أنهى تيم آخر ما تبقى من محتواها.
صاح ييتس متأبطا ذراع رينمارك: «إذن، والآن إلى معسكر الجيش الفينياني.» وبدءوا مسيرتهم عبر الغابة. ثم أضاف قائلا لصديقه: «يا إلهي! هذا قدر هائل للغاية من الراحة والهدوء، أليس كذلك يا ستيلي؟»
الفصل السادس عشر
شعر الفينيانيون بأنهم مضطرون إلى الظهور بأفضل صورة ممكنة أمام أسيريهما؛ لذا حاولوا في البداية أن يلتزموا بشيء أشبه بالنظام الإيقاعي العسكري في مسيرتهم عبر الغابة. ولكن سرعان ما اكتشفوا صعوبة ذلك. فلم تكن الغابات الكندية تشذب وتنمق باستمرار كالحدائق الإنجليزية. كان تيم يتقدمهم حاملا المشكاة، لكنه تعثر ثلاث مرات فوق عائق ما، وكان يختفي فجأة عن الأنظار متفوها بألفاظ نابية. وكللت محاولته الأخيرة في هذه السلسلة من المحاولات بإنجاز هائل. فقد سقط على المشكاة محطما إياها. وحين باءت كل جهود إصلاحها بالفشل، سار الجمع بعشوائية على طريقة كل يمشي حسب هواه، ووجدوا أنهم بدون الضوء أبلوا بلاء أحسن مما أبلوا في وجوده. وفي الحقيقة، ومع أن الوقت لم يكن قد بلغ الساعة الرابعة بعد، كان أول شعاع للفجر قد تسلل من خلال أوراق الأشجار بالفعل، وصارت الغابة أقل عتمة بقدر ملحوظ.
قال القائد: «لا بد أننا نقترب من المعسكر.»
سأله ميرفي: «هل أطلق صيحة، يا سيدي؟». «لا لا، يستحيل أن نضل الطريق إليه. واصلوا السير كما أنتم.»
كانوا أقرب إلى المعسكر مما كانوا يظنون. وبينما كانوا يتخبطون وسط الشجيرات السفلية والأغصان الجافة التي كانت تصدر طقطقة من وقع أقدامهم عليها، تردد صدى فرقعة بندقية حادة عبر الغابة، ومرت رصاصة محدثة صفيرا من فوق رءوسهم.
صاح عضو مجلس المدينة الذي عرف هوية مطلق النار، الذي كان يتراجع راكضا آنذاك، قائلا له: «على من تطلق النيران بحق الجحيم يا مايك لينش؟».
فقال الحارس متوقفا عن الفرار: «أوه، أهذا أنت حقا؟» وسار الكابتن نحوه غاضبا بخطى واسعة.
وقال له: «ماذا تقصد بإطلاق النار هكذا؟ ألست على دراية كافية لتسأل عن الإشارة السرية قبل إطلاق النار؟» «بالطبع، لقد نسيت ذلك تماما أيها الكابتن. ولكن كما ترى، لا أستطيع إصابة أي شيء أبدا ؛ لذا فلا فارق كبير.»
أيقظت الطلقة المعسكر، وحل به آنذاك هياج شديد؛ إذ ظن الجميع أن الكنديين يهاجمونهم.
وقعت أعين ييتس ورينمارك على مشهد غريب. فقد دهش كلاهما لرؤية عدد الرجال الذين كانوا تحت إمرة أونيل. ووجدا حشدا متنوعا متنافرا. فكان بعض الرجال يرتدي ثيابا رثة من زي جيش الولايات المتحدة، لكن السواد الأعظم منهم كان يرتدي ملابس مدنية عادية، وإن كانت قلة منهم لديهم جدائل خضراء من الخيوط السميكة تزين ملابسهم. كان نوم هذا الحشد ليلتين في العراء قد جعلهم بمظهر أشعث كأنهم مجموعة كبيرة من المتشردين. ولم يكن ممكنا تمييز الضباط عن الرجال العاديين في البداية، لكن ييتس لاحظ بعد ذلك أن الضباط، الذين كان معظمهم يرتدي ثيابا مدنية ويعتمر قبعات ذات حواف عريضة مرنة، كانوا يتقلدون أحزمة سيوف مثبتة حول أجسادهم بأبازيم، وكان بينهم واحد أو اثنان يحملان سيوفا كان واضحا أنها كانت تستخدم في سلاح الفرسان في جيش الولايات المتحدة.
صاح الكابتن مخاطبا الحشد المهتاج: «كل شيء على ما يرام أيها الفتيان. كل ما في الأمر أن هذا الأحمق لينش أطلق النار صوبنا. لم يتأذ أحد. أين الجنرال؟»
فقال حوالي ستة رجال في صوت واحد: «ها هو قادم.» فيما كان الحشد يفسح له الطريق.
كان الجنرال أونيل يرتدي ثياب مواطن عادي، ولم يكن يتقلد حزام سيف حتى. كان رأسه ذو الشعر الفاتح مكسوا بقبعة سوداء لينة من اللباد. وكان وجهه شاحبا ومكتسيا بالنمش. بدا أشبه بموظف في محل بقالة من قائد جيش. وكان واضحا أن عمره يتراوح بين الخامسة والثلاثين والأربعين.
قال للقائد: «أوه، أهذا أنت حقا؟ لماذا عدت؟ ألديك أي أخبار؟»
وجه إليه القائد التحية العسكرية، وأجاب قائلا: «لقد أسرنا أسيرين يا سيدي. كانا يخيمان في خيمة بالغابة. ويقول أحدهما إنه مواطن أمريكي، وإنه يعرفك؛ لذا أحضرتهما إلى هنا.»
قال الجنرال بابتسامة باهتة: «ليتك أحضرت الخيمة أيضا. كانت ستصبح أفضل من النوم في العراء. هل هذان هما الأسيران؟ لا أعرف أيا منهما.»
فقال ييتس: «الكابتن مخطئ في قوله إنني ادعيت أني أعرفك شخصيا أيها الجنرال. كل ما قلته أنك ستكون أسرع منه بعض الشيء في إدراك هويتي وأفضلية معاملتي بقدر معقول من الاحترام. فلتطلع الجنرال على البرقية التي أخذتها من جيب معطفي أيها الكابتن.»
أخرجت الورقة وقرأها أونيل مرة أو اثنتين. «أنت تعمل في صحيفة «أرجوس» بنيويورك إذن؟» «بكل تأكيد أيها الجنرال.» «آمل ألا تكون قد تعرضت لمعاملة قاسية.» «أوه، لا، كل ما فعلوه أنهم قيدوني بعقدة جامدة محكمة، وهددوني بالقتل رميا بالرصاص، هذا كل شيء.» «أوه، يؤسفني سماع ذلك. ولكن يجب أن تلتمس لهم بعض العذر في وقت كهذا. تعاليا معي وسأكتب لكما تصريحا سيمنع وقوع أي خطأ مشابه في المستقبل.» وتقدمهما الجنرال إلى جوار نيران تخييم داخنة بلا لهب، حيث أخرج أدوات الكتابة من حقيبة سفر، وبدأ يكتب على الورقة مستخدما الحقيبة كمكتب. وبعدما كتب «مقر الجيش الأعظم للجمهورية الأيرلندية»، رفع ناظريه نحو ييتس وسأله عن اسمه الأول. وبعدما أجاب، سأله عن اسم صديقه.
تدخل رينمارك قائلا: «لا أريد شيئا منك. لا تضع اسمي على الورقة.»
قال ييتس: «أوه، لا بأس. لا تكترث به أيها الجنرال. إنه رجل مثقف لا يعرف متى يتكلم ومتى يصمت. حين ستسير إلى خيمتنا، سترى جرة فارغة ستشرح كل شيء. إن رينمارك ثمل بكل صراحة، ويتخيل نفسه رعية بريطانيا.»
رفع الجنرال الفينياني ناظريه نحو البروفيسور.
سأله: «هل أنت كندي؟» «نعم، بكل تأكيد.» «حسنا، في هذه الحالة، إذا سمحت لك بمغادرة المعسكر، فيجب أن تعدني بأنك، إذا التقيت أحدا من قوات العدو، لن تعطيه أي معلومات عن موقعنا أو أعدادنا أو أي شيء آخر ربما تكون قد رأيته أثناء وجودك معنا.» «لن أعدك. بالعكس، إذا التقيت القوات الكندية، فسأخبرهم بمكانكم وبأن عددكم يتراوح بين ثمانمائة وألف جندي، وأنكم أبشع المشردين الذين رأيتهم خارج السجن مظهرا.»
عبس الجنرال أونيل، وظل ينقل ناظريه بينهما. «هل تدرك أنك بذلك تعترف بأنك جاسوس، وأن ذلك يحتم علي القضاء عليك وإعدامك رميا بالرصاص؟» «نعم ، لو كانت هذه حربا حقيقية. لكن هذه ليست سوى حماقة بلهاء. وكل من لن يهرب منكم إما سيسجن أو سيقتل بالرصاص قبل أربع وعشرين ساعة.» «حسنا، أقسم بكل الآلهة أن هذا لن ينفعك إطلاقا. سأرديك قتيلا بالرصاص في غضون عشر دقائق وليس أربع وعشرين ساعة.»
صاح ييتس حين قام الجنرال غاضبا وواجه الاثنين: «على رسلك أيها الجنرال، على رسلك! أعترف بأنه يستحق بشدة القتل بالرصاص، لو كنت قاتل الحمقى، وأنت لست كذلك. لكن قتله غير منطقي، سأتولى المسئولية عنه. كل ما عليك أن تنهي هذا التصريح من أجلي، وسأتولى أمر البروفيسور. ارمني أنا بالرصاص إن شئت، ولكن لا تلمسه. فهو ليس لديه أي عقل كما ترى، لكن هذا ليس ذنبي، وليس ذنبك. لو اعتدت إطلاق النار على كل أحمق أيها الجنرال، فلن تتبقى لديك ذخيرة لغزو كندا.»
ابتسم الجنرال لا إراديا، واستأنف كتابة التصريح. ثم قال وهو يعطي ييتس الورقة: «هاك. كما ترى، دائما ما نحب أن نرضي الصحافة. سأخاطر بترك صديقك العدواني، وآمل أن تفرض عليه سيطرة أشد مما استطعت أن تفرضها عليه هنا إذا قابلتما الكنديين. ألا ترى أن من الأفضل عموما أن تبقيا معنا؟ سنبدأ المسير في غضون ساعتين، حين يكون الرجال قد نالوا قليلا من الراحة.» وأضاف بنبرة أخفض كي لا يسمعه البروفيسور: «أظنك لم تر أي شيء من أثر القوات الكندية، أليس كذلك؟» «ولا أي أثر. كلا، لا أظن أنني سأبقى. فأنا أتوقع أن يحضر خمسة من زملائنا إلى هنا اليوم، وهذا سيكون كافيا وزيادة. إنني في إجازة هنا في الواقع. كنت أسعى إلى الراحة والهدوء. بدأت أشعر بأنني أخطأت في اختيار المكان.»
ودع ييتس القائد وسار مع صديقه إلى خارج المعسكر. شقا طريقهما وسط الرجال النائمين وأكوام من البنادق المكدسة. وعلى سن إحدى حراب البنادق علقت قبعة حريرية طويلة بدت شاذة للغاية في مكان كهذا.
قال ييتس: «أظن أننا سنذهب إلى طريق ريدج، الذي لا بد أنه يقع في مكان ما في هذا الاتجاه . سيكون المشي فيه أسهل من المشي عبر الغابة، وفوق ذلك، أريد التوقف عند أحد البيوت الريفية والحصول على بعض الفطور. فأنا جائع كدب بعد مسيرة امتدت لمسافة طويلة جدا.»
رد البروفيسور باقتضاب قائلا: «ممتاز.»
ظلا يمشيان بخطوات متعثرة إلى أن بلغا حافة الغابة، وبعد أن اجتازا بعض الحقول المفتوحة وصلا إلى الطريق بعد قليل، بالقرب من مكان الشجار الذي وقع بين ييتس وبارتليت. شعر الرفيقان آنذاك بارتياح أكبر، وسارا في صمت على طول الطريق صوب الغرب، تاركين خلفهما الشرق الذي كان يزداد احمرارا. كان المشهد كله هادئا وساكنا على نحو غريب، وبدت ذكرى المعسكر العجيب الذي تركاه في الغابة مجرد كابوس. كان نسيم الصباح عليلا، وبدأت الطيور تغرد. كان ييتس يعتزم توبيخ البروفيسور بشأن ما أبداه من انعدام للباقة والمنطق السليم في المعسكر، لكن بطريقة ما، لم يكن هذا الوقت المبكر للغاية من النهار مناسبا للجدل، فضلا عن أن السكون التام قد هدأ روح ييتس. بدأ يصفر لحن الأغنية الحربية الشعبية «سر، سر، سر، الفتية يتقدمون» بنبرة هادئة، ثم سأل فجأة قائلا: «بالمناسبة يا ريني، هل لاحظت تلك القبعة الطويلة التي كانت معلقة على سن الحربة؟»
أجاب البروفيسور قائلا: «نعم، ورأيت خمس قبعات أخرى متناثرة في أنحاء المعسكر.» «يا إلهي! كنت قوي الملاحظة. لا أستطيع أن أتخيل أي شيء مثير للسخرية كرجل يذهب إلى الحرب بقبعة حريرية طويلة.»
لم يرد البروفيسور، وغير ييتس صفيره إلى لحن أغنية «التفوا حول الراية».
ثم قال أخيرا: «أظن يا رينمارك أن محاولة إضفاء مزيد من الحسن على هذه الساعة الصباحية بأن أريك مدى الحماقة التي أبديتها في المعسكر لن تجدي نفعا، أليس كذلك؟ لقد حدت قليلا عن دبلوماسيتك الطبيعية المعتادة.» «أنا لا أعتمد الدبلوماسية في التعامل مع اللصوص والمتشردين.» «ربما يكونون متشردين، لكني أيضا كذلك. وربما يكونون رجالا مخطئين ذوي نوايا حسنة، لكني لا أظنهم لصوصا.» «بينما كنت تتحدث مع ذلك الجنرال المزعوم، جاءت جماعة إلى المعسكر ومعهم خيول مسروقة من المزارعين في الجوار ، وغادرت جماعة أخرى لجلب مزيد من الخيول.» «أوه، هذه ليست سرقة يا رينمارك، بل مصادرة. يجب ألا تستخدم هذه الألفاظ المتهورة. أظن أن الجماعة الثانية حققت مبتغاها؛ فها هم ثلاثة رجال كلهم يمتطون أحصنة.»
أوقف الفرسان الثلاثة، الذين تكلم عنهم ييتس، خيولهم حين رأوا الرجلين قادمين عند منعطف الطريق، وانتظروا اقترابهما. وكانوا كالعديد من الآخرين لا يرتدون زيا عسكريا رسميا، ولكن كان اثنان منهم يمسكان مسدسين جاهزين لإطلاق الرصاص. أما الرجل الذي لم ير معه مسدس، فحرك حصانه إلى وسط الطريق نحو ييتس ورفيقه، بينما اتخذ كلا الرجلين الآخرين موقعا على كلا جانبي الطريق المخصص للعربات.
صاح الفارس المتصدر حين صار ييتس ورفيقه على مقربة كافية للحديث معهما: «من أنتما؟ من أين جئتما وإلى أين تذهبان؟».
قال ييتس بمرح وثقة: «كل شيء على ما يرام أيها الكومودور، وطاب صباحك. نحن عابرا سبيل جائعان. لقد أتينا للتو من المعسكر، وذاهبان لنحصل على شيء نأكله.» «لا بد أن تعطيني إجابة أكثر إقناعا من تلك.»
رد ييتس وهو يخرج ورقة تصريحه المطوية ويسلمها للفارس: «حسنا، هاك إذن.» فقرأها الرجل بإمعان. ثم قال له ييتس: «أظنك تجد هذا كافيا تماما، أليس كذلك؟» «كافيا لاعتقالك فورا.» «لكن الجنرال قال إننا لن نتعرض لمزيد من المضايقات. هذا مكتوب بخط يده.» «أفترض أنه هكذا بالفعل، وهذا يزيد موقفك سوءا. فخط يده ليس نافذا كأوامر الملكة في هذه البلدة حتى الآن. أعتقلكما باسم الملكة. صوبا مسدسيكما نحو هذين الرجلين، وأطلقا عليهما النار إذا أبديا أي مقاومة.» وبعدما قال هذا، ترجل الفارس منزلقا من على ظهر حصانه، وسرعان ما استل من جيبه زوجا من الأصفاد مربوطين بسلسلة فولاذية متينة، ثم ترك حصانه واقفا وأمسك بمعصم رينمارك.
قال البروفيسور وهو يلوي معصمه مفلتا إياه من قبضة الرجل: «أنا كندي. يجب ألا تصفدني.» «بئس صحبتك إذن. أنا شرطي من هذه البلدة، وإذا كنت كما تقول حقا، فلن تقاوم الاعتقال.» «سأذهب معك، ولكن يجب ألا تقيدني.» «أوه، حقا؟» وبحركة سريعة تنم عن تمرس طويل في التعامل مع المجرمين المقاومين، فتح الشرطي أحد مشبكي الأصفاد بحركة رشيقة ثم أغلقه بطقطقة حادة والتصاق محكم كنبات شائك على إحدى يدي رينمارك.
وهنا صار رينمارك شاحبا كالموتى، ولمعت عيناه ببريق خطر. سحب يده الحرة إلى الوراء قابضا إياها، مع أن المسدسين المشهرين الجاهزين للإطلاق كانا يدنوان منه أكثر فأكثر، ومع أن الشرطي كان يقبض بعزم شرس على يده المصفدة المقاومة.
صاح ييتس مانعا البروفيسور من لكم ممثل القانون، قائلا: «مهلا!». وصرخ قائلا للرجل الذي كان يمتطي ظهر الحصان: «لا تطلق النار، كل هذا مجرد خطأ بسيط سيتدارك بسرعة. أنتم ثلاثة رجال مسلحين وركاب، ونحن اثنان أعزلان ومترجلان. فلا داعي إلى استخدام أي سلاح. أصغ إلي يا رينمارك، أنت الآن أشد تمردا من أونيل نفسه. الفارق أنه لا يدين بأي ولاء لهذا الوطن، بعكسك أنت. ألا تحترم أشكال القانون والنظام؟ أنت أناركي بداخلك، رغم كل تظاهرك بعكس ذلك. كنت تغني «ليحم الرب الملكة!» في المكان الخطأ منذ فترة؛ لذا فلتفرح الآن لأنها صارت لديك، أو بالأحرى لأنك صرت لديها. والآن أيها الشرطي، أتريد عقد الطرف الآخر من هذا الشيء حول معصمي، أم لديك زوج آخر لي؟» «سآخذ معصمك إذا سمحت.» «حسنا، ها هو.» شمر ييتس كم معطفه ومد معصمه. فأغلق الصفد المتدلي حوله بسرعة. ثم امتطى الشرطي الحصان الصبور الذي كان واقفا ينتظره مراقبا إياه طوال الوقت بعين ذكية. وقف السجينان اللذان صفدا معا في وسط الطريق وقد أحاط بهما فارس من كل جانب، فيما كان الشرطي في المؤخرة، وهكذا ساروا جميعا، وكان البروفيسور مغتما بسبب هذه الإهانة التي لحقت بهما، فيما كان الصحفي مبتهجا كالطيور التي كانت مستيقظة تماما آنذاك. قرر الجنود الاستطلاعيون عدم مواصلة التقدم نحو قوات العدو، وفضلوا العودة إلى القوات الكندية بأسيريهم. ساروا على الطريق صامتين جميعا، عدا ييتس، الذي أحيا أجواء الصباح بغناء «جون براون».
فقال له الشرطي بفظاظة: «الزم الصمت.» «حسنا، سأصمت. ولكن أصغ إلي، سنمر بعد قليل بمنزل أحد أصدقائنا . نريد أن نذهب إليه ونحصل على شيء نأكله.» «لن تنالا شيئا تأكلانه إلى حين تسليمكما إلى الضباط المسئولين عن المتطوعين.» «وأين هم، إن كان لي أن أسأل؟» «لك أن تسأل، لكني لن أجيب.»
قال ييتس لرفيقه: «أصغ إلي يا رينمارك، أصعب ما في هذه الحادثة أننا سنضطر إلى المرور بمنزل بارتليت والاكتفاء بالتلذذ بذكرى المأكولات الطيبة التي دائما ما كانت السيدة بارتليت تسعد بإغداقها على عابري السبيل. أصف هذا الشعور بالقسوة الخالصة.»
عندما اقتربا من منزل بارتليت، لمحا الآنسة كيتي في الشرفة تظلل عينيها بكفيها من الشمس المشرقة، وتحدق بإمعان إلى الجمع القادم. وحالما أدركت هوية من في هذا الجمع، اختفت داخل المنزل مطلقة صيحة. فخرجت السيدة بارتليت فورا ومن خلفها ابنها وتبعهما الرجل العجوز نفسه بخطى أبطأ.
نزلوا كلهم إلى البوابة وانتظروا.
صاح ييتس مبتهجا: «مرحبا يا سيدة بارتليت! كما ترين، لقد نال البروفيسور جزاءه المستحق أخيرا، وها أنا أشاطره مصيره كالكلب الوفي؛ لأنني عالق في صحبة سيئة.»
صاحت السيدة بارتليت قائلة: «لم كل هذا؟».
أومأ الشرطي، الذي كان يعرف المزارع وزوجته، لهما إيماءة ودية. ثم قال: «إنهما أسيران فينيانيان.»
صاحت السيدة بارتليت - فيما التزم العجوز الصمت متجهما كعادته حين تكون زوجته حاضرة لتتكفل بالكلام - قائلة: «هراء! إنهما ليسا فينيانيين. بل يخيمان في مزرعتنا منذ أسبوع أو أكثر.»
قال الشرطي بحزم: «ربما يكون هذا صحيحا، ولكن لدي دليل قاطع ضدهما، وأظن إذا لم أكن مخطئا، أنهما سيعدمان بسبب ذلك.»
أطلقت الآنسة كيتي، التي كانت ظاهرة بعض الشيء من خلال الباب، صيحة تألم عند سماع هذه الجملة، واختفت مرة أخرى. «لقد هربنا للتو من الإعدام بأيدي الفينيانيين أنفسهم يا سيدة بارتليت، وآمل أن يكون المصير نفسه في انتظارنا بأيدي الكنديين.» «ماذا! إعدام؟» «لا، لا؛ بل الهرب ليس إلا. وهذا لا يعني أني أمانع أن أعدم - فأنا آمل ألا أكون شديد الاكتراث بالتفاصيل التافهة إلى هذا الحد - ولكن يا سيدة بارتليت، ستتعاطفين معي حين أخبرك بأن العذاب الذي أعانيه الآن هو ذكرى المأكولات الشهية التي أكلتها في بيتك. فأنا أكاد أموت جوعا يا سيدة بارتليت، وهذا الشرطي القاسي يرفض السماح لي بأن أطلب منك أي شيء.»
خرجت السيدة بارتليت عبر البوابة إلى الطريق والسخط باد عليها.
صاحت قائلة للشرطي: «ستوليكر، أنا خجلة منك! ربما يحق لك أن تشنق رجلا إن شئت، ولكن لا يحق لك تجويعه.» ثم قالت للأسيرين: «ادخلا معي حالا.»
قال ستوليكر بنبرة حادة: «سيدتي، يجب ألا تعرقلي مسار القانون.»
فصاحت المرأة الغاضبة قائلة: «مسار الهراء والترهات الفارغة! أتظن أنني خائفة منك يا سام ستوليكر؟ ألم أطردك من هذا البستان نفسه حين كنت صبيا تحاول سرقة تفاحي؟ بلى، وضربتك على أذنيك أيضا حين أمسكتك، وكنت آنذاك حمقاء كفاية لأملأ جيوبك بأطيب التفاحات بعدما أعطيتك ما تستحقه من عقاب. مسار القانون، حقا! سأضربك على أذنيك الآن إذا تفوهت بكلمة أخرى. ترجل عن حصانك، وهيا لتأكل شيئا أنت أيضا. أظن أنك بحاجة إليه.»
همس ييتس لرفيقه المربوط به قائلا: «هذا ما أسميه إنقاذا.»
ما الذي يستطيع أحد حماة القانون المتشددين فعله حين تتدخل في مجرى العدالة امرأة عنيدة وغاضبة اعتادت تسيير كل شيء حسب هواها؟ نظر ستوليكر بلا حول ولا قوة إلى هيرام، بصفته رب البيت المفترض، لكن العجوز اكتفى بهز كتفيه ولسان حاله يقول: «إنك ترى الوضع بنفسك. لا حول لي ولا قوة.»
سارت السيدة بارتليت بالأسيرين عبر البوابة صعودا إلى المنزل.
قال لها ييتس: «كل ما أطلبه منك الآن أن تمنحيني أنا ورينمارك كرسيين متلاصقين عند المائدة. فنحن لا نستطيع تحمل الافتراق عن بعضنا، ولو لثانية.»
وبعدما سلمت الأسيرين إلى عهدة ابنتها، حثت إياها بكل حزم على أن تعد الفطور بأسرع ما يمكن، ثم اتجهت إلى البوابة مجددا. كان الشرطي لا يزال على حصانه. كان هيرام قد سأله، على سبيل تسليته بموضوع غير مثير للجدل، عما إذا كان هذا هو المهر الذي اشتراه من براون العجوز الذي يعيش في قطعة الأرض الثانية، ورد ستوليكر بالإيجاب. وبينما كان هيرام يقول إنه ظن أنه ميز الحصان بأبيه، قاطعتهما السيدة بارتليت.
قالت: «هيا يا سام، لا مجال للعبوس والاستياء كما تعلم. ترجل من على حصانك وادخل. كيف حال أمك؟»
قال سام في حرج وهو يترجل مجددا: «إنها بخير، شكرا لك.»
قدمت كيتي بارتليت، التي تلاشى مرحها وحيويتها واحمرت عيناها، الطعام والشراب للأسيرين، لكنها رفضت تماما أن تقدم شيئا لسام ستوليكر، الذي رمقته بازدراء شديد، دون أن تضع في حسبانها أن الشاب المسكين كان يؤدي واجبه فقط، وكان يؤديه كما ينبغي.
قالت السيدة بارتليت: «انزع عنهما هذه الأصفاد يا سام ريثما يتناولان الفطور على الأقل.»
فأخرج ستوليكر مفتاحا وحل الأصفاد، ثم دسها في جيبه.
قال ييتس وهو ينظر إلى معصمه الأحمر: «آه، الآن نستطيع التنفس بسهولة أكبر! وأنا، عن نفسي، أستطيع أن آكل قدرا أكبر.»
أما البروفيسور، فلم يقل شيئا. فالحديد لم يكن قد أحاط بمعصمه فقط، بل اخترق روحه أيضا. ومع أن ييتس حاول أن يجعل الوجبة الصباحية المبكرة مبهجة قدر المستطاع، لكن المأدبة امتزجت بشيء من الكآبة. فقد بدأ ستوليكر، ذاك المسكين، يشعر بأن دروب الواجب مكروهة بين الناس. ودائما ما كان هيرام العجوز أهلا لإضفاء كآبة وصمت على أي مأدبة حتى ولو كانت مأدبة عرس؛ أما البروفيسور، الذي لم يكن قط أكثر الرفاق مرحا وحيوية، فجلس صامتا بجبين متجهم، وضايق حتى السيدة بارتليت المرحة بفقدان شهيته الذي بدا واضحا. وحين انتهت الوجبة العاجلة، لاحظ ييتس أن الآنسة كيتي كانت قد غادرت الغرفة، فوثب من كرسيه وسار نحو باب المطبخ. فهب ستوليكر فورا وبدا أنه يهم باللحاق به.
وهنا تحدث البروفيسور لأول مرة قائلا له بحدة: «اجلس. فهو لن يهرب. لا تخف. إنه لم يفعل شيئا ولا يخشى العقاب. دائما ما تعتقلون الأبرياء أيها المسئولون الأغبياء. فكل أرجاء الغابة من حولك مليئة بفينيانيين حقيقيين، لكنك تحرص كل الحرص على الابتعاد عن طريقهم، وتسلط اهتمامك على إيذاء أشخاص مسالمين تماما.»
فصاحت السيدة بارتليت قائلة بتشديد قوي: «لا فض فوك يا بروفيسور! هذه هي الحقيقة بكل تأكيد. ولكن هل يوجد فينيانيون في الغابة؟» «ثمة مئات منهم. لقد جاءوا إلينا في الخيمة في حوالي الساعة الثالثة من صباح اليوم - أو بالأحرى جاءت إلينا إحدى السرايا الاستطلاعية - وبعدما كانوا يتحدثون عن نيتهم إطلاق الرصاص علينا حيث كنا واقفين، اقتادونا بدلا من ذلك إلى المعسكر الفينياني. وحصل ييتس على تصريح كتبه له الجنرال الفينياني كي لا نتعرض لأي مضايقات أخرى. وهذه هي الوثيقة الثمينة التي يظنها هذا الرجل دليلا قاتلا. لم يسألنا أي سؤال قط، بل أغلق الأصفاد على معصمينا، فيما سلط الأحمقان الآخران مسدسيهما على رأسينا.»
رد ستوليكر بإصرار وعناد قائلا: «ليس من مهام وظيفتي طرح الأسئلة. تستطيع إخبار الكولونيل أو قائد شرطة المنطقة بكل هذا، وإذا سمحا لكما بالرحيل، فلن أتفوه بشيء يعارض ذلك إطلاقا.»
في غضون ذلك، كان ييتس قد دخل المطبخ آخذا حذره بإغلاق الباب وراءه. فالتفتت كيتي سريعا حين سمعت صوت إغلاق الباب. وقبل أن تستطيع التفوه بكلمة واحدة، أمسكها الشاب من كتفيها الممتلئتين، مع أن ذلك لم يكن يحق له بالطبع.
قال: «كنت تبكين يا آنسة كيتي بارتليت.» «كلا، وحتى لو كنت أبكي، فهذا ليس من شأنك.» «أوه، لست متيقنا من هذا. لا تنكري. على من كنت تبكين؟ البروفيسور؟» «لا، ولا عليك أيضا، وإن كنت أظنك مغرورا كفاية لتعتقد ذلك.» «أنا مغرور؟ قد أكون أي شيء إلا ذلك. والآن أخبريني يا كيتي، على من كنت تبكين؟ لا بد أن أعرف.»
قالت كيتي محاولة بكل جهدها الحفاظ على وقارها: «دعني أذهب يا سيد ييتس من فضلك.» «اسمي ديك يا كيت.» «حسنا، واسمي ليس كيت.» «أنت محقة تماما. والآن بعدما قلت ذلك، سأناديك كيتي، فهذا أجمل كثيرا من الاسم المختصر.» «لم أقل ذلك. دعني أذهب من فضلك. لا يحق لأحد أن يناديني إلا بالآنسة بارتليت. وهذا يعني أن ذلك لا يحق لك أيضا، على أي حال.»
حسنا ألا ترين يا كيتي أن الوقت قد حان لتمنحي شخصا ما هذا الحق؟ لماذا لا ترفعين عينيك وتنظرين إلى كي أعرف يقينا ما اذا كنت تبكين أم لا؟ ارفعي عينيك وانظري لي يا آنسة بارتليت. «من فضلك دعني أذهب يا سيد ييتس. ستأتي أمي إلى هنا في غضون دقيقة.» «أمك امرأة حكيمة تراعي الآخرين. سنجازف على أمل أنها لن تأتي. وفوق ذلك، فأنا لست خائفا منها إطلاقا، وأعتقد أنك أيضا لست خائفة. أظنها توبخ السيد ستوليكر الآن، وإلا كان سيلحق بي حسبما أظن. لقد رأيت ذلك في عينيه.»
قالت كيتي منحرفة عن سياق الحديث: «أكره هذا الرجل.» «وأنا أحبه، لأنه جاء بي إلى هنا، حتى وإن كنت مصفدا. لماذا لا ترفعين عينيك وتنظرين إلي يا كيتي؟ أأنت خائفة؟»
فسألته كيتي وهي ترمقه بنظرة سريعة من عينيها الزرقاوين الجميلتين: «مم عساني أخاف؟ ليس منك بالطبع.» «حسنا، أرجو من أعماق قلبي ألا تكوني خائفة مني يا كيتي. والآن، يا آنسة بارتليت، أتعرفين لم أتيت إلى هنا؟»
قالت الفتاة بطريقة فكاهية مزعجة: «من أجل مزيد من الطعام على الأرجح.» «أوه، أرى في ذلك قسوة ووحشية على رجل أسير. وفوق ذلك، فقد تناولت فطورا ممتازا، شكرا لك. لم يأت بي إلى المطبخ سبب كهذا. لكني سأخبرك بالسبب الحقيقي. ستأخذينه من شفتي. هذا هو السبب!»
نفذ ما قاله حرفيا في الحال، وقبلها قبل أن تعرف ما سيحدث. ظن ييتس، من واقع خبرته الهائلة، على الأقل، أنه أخذها على حين غرة. وغالبا ما يخطئ الرجال في مثل هذه المسائل البسيطة. فقد دفعته كيتي والسخط باد عليها، لكنها لم تصفعه على وجهه، مثلما فعلت من قبل حين كان يحاول فقط تحقيق ما حققه الآن بالفعل. وربما كان هذا لأنها بوغتت تماما.
هددته قائلة: «سأنادي أمي.» «أوه، لا، لن تناديها. وفوق ذلك، فهي لن تأتي.» ثم بدأ هذا الشاب الطائش يغني هذا المقطع الغنائي الوقح بصوت خفيض «نخب في صحة الفتاة التي تنال قبلة وتركض لتخبر أمها.» وأنهى الغناء متمنيا أن تعيش وتموت عانسا عجوزا ولا تنال أي قبلة أخرى. لم يكن يفترض أن تبتسم كيتي، لكنها ابتسمت، وكان ينبغي أن توبخه على طيشه واستخفافه، لكنها لم تفعل. «أريد أن أتحدث إليك عن العواقب الهائلة الكارثية التي ستنجم عن العيش والموت عانسا عجوزا. لدي خطة لمنع وقوع هذه الكارثة، وأود نيل موافقتك عليها.»
أفلت ييتس الفتاة من بين يديه؛ لأنها ظلت تتلوى لتتخلص من قبضته، ولأنه سمع حركة في غرفة الطعام، وتوقع دخول ستوليكر أو أحد من الآخرين. وقفت الآنسة كيتي مولية ظهرها إلى الطاولة، محدقة إلى زهرة ربيعية أخذتها بلا وعي من مزهرية موضوعة على حافة النافذة. أخذت تملس برفق على بتلات الزهرة جيئة وذهابا، وبدت منهمكة بشدة في تفحص النبتة إلى حد أن ييتس سألها عما إذا كانت تصغي إلى ما يقوله أم لا. ولا يسعنا هنا سوى تخمين ماهية الخطة التي كان سيطرحها؛ لأن القدر حكم بأن يقاطعهما في هذه اللحظة الحاسمة الشخص الوحيد في العالم الذي كان يستطيع أن يجعل لسان ييتس يتلعثم.
فتح باب المطبخ الخارجي بقوة، ووقفت مارجريت هوارد على العتبة، فيما كان وجهها الجميل يستشيط غضبا وشعرها الداكن مسدلا على كتفيها، لتتشكل بذلك صورة جميلة حبست أنفاس ييتس. وبدا أنها لم تلاحظ وجوده.
صاحت قائلة: «كيتي، لقد سرق هؤلاء الأشقياء البائسون كل خيولنا! هل والدك هنا؟»
سألتها كيتي متجاهلة السؤال، ومندهشة من مجيء صديقتها المفاجئ: «أي أشقياء؟». «الفينيانيون. لقد أخذوا كل الخيول التي كانت في الحقول، وخيولكم أيضا. لذا ركضت إلى هنا لأخبركم.» «هل أخذوا حصانك أيضا؟» «لا. فأنا دائما ما أبقي جيبسي في الحظيرة. لم يقترب اللصوص من المنزل. أوه، سيد ييتس! لم أرك.» وبخيلاء المرأة اللاواعي، وضعت مارجريت يدها على شعرها الأشعث، الذي رأى ييتس أنه قد صار أشعث من أن يصفف مرة أخرى.
احمرت مارجريت خجلا حين أدركت، من إحراج كيتي الواضح، أنها اقتحمت خلوة ثنائية بتهور.
فقالت على عجل: «يجب أن أخبر والدك بما حدث.» وقبل أن يستطيع ييتس أن يفتح لها الباب، فتحته بنفسها. ثم ذهلت مجددا حين رأت كثيرين جالسين إلى المائدة.
خيم صمت لحظي على الاثنين الموجودين في المطبخ، لكن حالة الافتتان التي كانت بينهما قد أفسدت.
قال ييتس مترددا: «لا ... لا أظن أنه ستوجد أي مشكلة في استعادة الخيول. وإذا فقدتموها، فسيتعين على الحكومة أن تدفع تعويضا.»
ردت كيتي ببرود قائلة: «أظن ذلك.» ثم أضافت: «معذرة، يا سيد ييتس، يجب ألا أبقى هنا أكثر من ذلك.» وبعدئذ تبعت ماجريت إلى الغرفة الأخرى.
تنهد ييتس تنهيدة ارتياح طويلة. فقد كانت كل الصعوبات القديمة في تفضيل إحدى الفتاتين على الأخرى قد عاودته حين فتح الباب الخارجي فجأة. شعر بأنه قد نجا في اللحظة الأخيرة، وبدأ يتساءل عما إذا كان قد ألزم نفسه حقا بالارتباط بكيتي. ثم اعتراه الخوف من أن تكون مارجريت قد لاحظت ارتباك صديقتها الواضح، وخمنت سببه. وتساءل عما إذا كان ذلك سيساعده أم سيضره في محاولات تودده إلى مارجريت، إذا قرر أخيرا أن يفضلها على الأخرى في الارتباط الجاد بها. ومع ذلك، قال لنفسه إن الاثنتين فتاتان ريفيتان في النهاية، ولا شك أن كلتيهما ستكون متلهفة بشدة لقبول فرصة العيش في نيويورك. وهكذا استأنف عقله تدريجيا ثقته الطبيعية بنفسه، وارتأى أن شكوك مارجريت، مهما كانت ماهيتها، لا يمكن إلا أن تجعله أكثر قيمة في عينيها. فقد كان يعرف حالات مال فيها قلب المرأة إلى الرجل من بعد تردد حين شعرت بأنها على وشك فقدانه. وعندما بلغ هذا الحد، فتح باب غرفة الطعام وظهر ستوليكر.
قال الشرطي: «نحن في انتظارك.» «حسنا. أنا مستعد.»
وحين دخل الغرفة، وجد الفتاتين واقفتين معا وتتحاوران بجدية.
صاحت السيدة بارتليت قائلة: «أتمنى لو أصبحت شرطية لأربع وعشرين ساعة. كنت سأطارد لصوص الخيول بدلا من تكبيل أيادي الأبرياء.»
قال ستوليكر الجامد الشعور وهو يخرج الأصفاد من جيبه: «تعاليا معي.»
تابعت السيدة بارتليت: «إذا كنتم ثلاثة رجال لا تستطيعون أخذ هذين الرجلين إلى المعكسر أو السجن أو أي مكان آخر دون تكبيلهما، فسآتي معكم بنفسي وأحميكم وأتأكد من أنهما لن يهربا. يجب أن تخجل من نفسك يا سام ستوليكر لو كانت لديك أي رجولة، وإن كنت أشك في ذلك.» «يجب أن أؤدي واجبي.»
وهنا نهض البروفيسور من كرسيه. وقال بعزم: «سيد ستوليكر، سآتي معك أنا وصديقي بهدوء. لن نحاول الهرب إطلاقا؛ لأننا لم نفعل شيئا يجعلنا نخشى الاستجواب. لكني أنذرك سلفا بأنك إذا حاولت وضع الأصفاد على معصمي مرة أخرى، فسأسحقك.»
أطلقت إحدى الفتاتين صيحة رعب متوقعة نشوب شجار وشيك، فأدرك البروفيسور المكان الذي كان فيه. فالتفت إليها وقال بنبرة ندم: «أوه! لقد نسيت أنكما هنا. أستميحكما عذرا بكل صدق.»
فصاحت مارجريت والشرر يتطاير من عينيها قائلة: «لا تطلب العفو، بل اسحقه.»
ثم وعت ما قالته للتو، وأخفت الفتاة المنفعلة وجهها المتورد خجلا في كتف صديقتها، بينما مسدت كيتي شعرها الداكن المتشابك بحنو.
خطا رينمارك خطوة نحو الرجال الثلاثة وتوقف. فهب ييتس بسرعته المعتادة لإنقاذ الموقف، وهدأ صوته المبتهج من توتر الموقف.
قال: «كف عن هذا الهراء يا ستوليكر، لا تكن أحمق. لا أمانع إطلاقا أن تصفد يدي، وإذا كنت تتلهف لتصفيد شخص ما، فلتصفدني. يبدو أن عقلك الألمعي لم يخطر به أنك لا تملك أي دليل على صديقي، وأنني حتى لو كنت أخطر مجرم في أمريكا، فوجوده معي ليس جريمة. الحقيقة يا ستوليكر أنني لا أود أن أكون مكانك ولو أعطوني الكثير من الدولارات. تتحدث كثيرا عن أداء واجبك، لكنك تجاوزته في تعاملك مع البروفيسور. آمل ألا يكون لديك ممتلكات؛ لأن البروفيسور يستطيع، إذا شاء، أن يجعلك تدفع تعويضا باهظا عن تصفيد يده دون إذن قضائي، أو حتى مثقال ذرة من دليل.» وأضاف مخاطبا العجوز فجأة: «ما غرامة الاعتقال غير القانوني يا هيرام؟ أظنها ألف دولار.»
فقال هيرام متجهما إنه لا يدري. طرق كلام ييتس وترا حساسا لدى ستوليكر؛ لأنه كان يملك مزرعة. «من الأفضل أن تعتذر من البروفيسور، ودعنا نمضي قدما. وداعا للجميع. سيدة بارتليت، لقد كان هذا الفطور ألذ ما تذوقت في حياتي.»
ابتسمت المرأة الطيبة وصافحته. «وداعا يا سيد ييتس، وآمل أن تعود قريبا لتتناول فطورا آخر.»
وضع ستوليكر الأصفاد في جيبه مرة أخرى وامتطى حصانه. شاهدت الفتاتان من الشرفة الموكب وهو يتحرك على الطريق الترابي. كانتا صامتتين، بل ونسيتا حادث سرقة الخيول المثير.
الفصل السابع عشر
حين صار الأسيران، مع آسريهما الثلاثة، على مرمى البصر من المتطوعين الكنديين، رأوا مشهدا ذا طابع أشد عسكرية بكثير من مشهد المعسكر الفينياني. أوقفتهم سرية طوارئ خارجية فورا واستجوبتهم قبل وصولهم إلى الوحدة العسكرية الرئيسة، وكان الحارس على دراية كافية ليسألهم عن الإشارة السرية قبل أن يطلق أي رصاصة. وبعدما مروا من هذه السرية، أصبحوا على مرأى كل أفراد القوات الكندية الذين بدت ثيابهم العسكرية الموحدة في غاية النظافة والأناقة، والتي بدت جديدة إلى حد مزعج في الضوء الساطع لشمس شهر يونيو الصباحية الجميلة. كانت البنادق متراصة في أكوام بدقة متناهية في أماكن متفرقة من المعسكر وكانت كل كومة تعلوها مجموعة من الحراب المنتصبة كشعيرات الفرشاة كانت تتلألأ مع انعكاس ضوء الشمس المشرقة عليها. كان الرجال يعدون فطورهم بعدما طلبوا استراحة مؤقتة من أجل ذلك. وكان المتطوعون منتشرين على جانب الطريق وفي الحقول. ميز رينمارك ألوان كتيبة المتطوعين من مدينته، ولاحظ أن معهم جماعة غريبة عليه. ومع أنه اقتيد إليهم أسيرا، انتابه فخر متقد بالكتيبة ومظهرها المهندم، كان فخرا وطنيا ومدنيا. وبدافع غريزي نصب قامته أكثر وهو يدنو منهم.
قال له ييتس وهو ينظر إليه بابتسامة: «رينمارك، إنك ترتكب خطأ بريطانيا بحتا.» «ماذا تقصد؟ أنا لم أتفوه بكلمة واحدة.» «صحيح، لكني أراه في عينيك. أنت تستهين بالعدو. تظن أن هذه المجموعة المهندمة ستدهس تلك الزمرة من المتشردين ذوي المظهر الرث الذين رأيناهم في الغابة صباح اليوم.» «أظن ذلك بالتأكيد، هذا إن لم يهرب المتشردون قبل أن يدهسوا، وهو ما أشك فيه بشدة.» «هذا بالضبط هو الخطأ الذي ترتكبه. فمعظم هؤلاء فتية سذج قليلو الخبرة، يتعلمون كل ما يمكن تعلمه عن الحرب على ملعب كريكيت. سيتلقون قبل حلول الليل أشر هزيمة نكراء تجرعها فتيان في هذا الجزء من البلاد على الإطلاق. انتظر ريثما يرون أحد رفاقهم يسقط والدم يتدفق من جرح في صدره. وإذا لم يولوا الأدبار ويهربوا، فأنا لا أفقه شيئا. لقد رأيت مجندين قليلي الخبرة من قبل. ينبغي أن يكون معهم هنا مجموعة من رجال أكبر سنا لهم خبرة في العمل العسكري لتنظيمهم وتثبيت أقدامهم في القتال. فالرجال الذين رأيناهم صباح اليوم كانوا ينامون كجذوع أشجار مقطوعة في الغابة الرطبة بينما كنا نخطو بأقدامنا من فوقهم. إنهم محاربون محنكون. وما سيكون لهم مجرد مناوشة سيبدو لهؤلاء الصبية أفظع مأساة أصابتهم على الإطلاق. يبدو الكثيرون منهم كما لو كانوا طلابا جامعيين.»
قال رينمارك بوخزة ألم: «إنهم كذلك بالفعل.» «حسنا، لا أستطيع أن أفهم مقصد حكومتك الغبية من إرسالهم إلى هنا وحدهم. ينبغي أن تكون معهم مجموعة واحدة على الأقل من الجنود النظاميين.» «ربما يكون الجنود النظاميون قادمين في الطريق.» «ربما، ولكن سيتعين عليهم الحضور بأقصى سرعة، وإلا سينتهي القتال. وإذا لم ينه هؤلاء الأولاد وجبتهم على عجل، سيهجم عليهم الفينيانيون قبل حتى أن يدروا بذلك. فإذا نشب قتال، فلن يمر سوى بضع ساعات، بل لن تمر ساعة واحدة، وسترى نسخة مصغرة من معركة بول رن.»
احتشد بعض المتطوعين حول الوافدين، مستفسرين منهم بشغف عن أخبار العدو. فقد كان الفينيانيون قد أخذوا احتياطهم بقطع كل أسلاك التلغراف المنطلقة من فورت إيري، ومن ثم لم يعرف قادة الكتائب الكندية حتى أن العدو قد غادر ذلك المكان. كانوا في طريقهم آنذاك إلى نقطة كانوا سيلتقون فيها كتيبة من الجنود النظاميين تحت قيادة الكولونيل بيكوك؛ نقطة كان مقدرا لهم ألا يصلوا إليها أبدا. بحث ستوليكر عن ضابط وسلم إليه الأسيرين مع ورقة الإدانة التي كان ييتس قد أعطاه إياها. كان قرار الضابط مقتضبا وحادا، كما يفترض أن تكون القرارات العسكرية عموما. فقد أمر الشرطي بأخذ السجينين والزج بهما في السجن في بورت كولبورن. لم يكن لديه متسع من الوقت آنذاك لإجراء تحقيق في المسألة - من الممكن أن يجرى لاحقا - وما دام الرجلان بأمان في السجن، فإن كل شيء سيكون على ما يرام. غير أن الشرطي طرح اعتراضين على هذا الأمر بكل هدوء. أولهما أنه، كما قال، لم ينضم إلى المتطوعين بصفته شرطيا، بل بصفته مرشدا ورجلا يعرف شعاب المنطقة. وثانيهما أن بورت كولبورن ليس فيها سجن. «أين أقرب سجن إذن؟»
أجاب الشرطي: «يقع سجن البلدة في ويلاند، عاصمة المقاطعة.» «ممتاز، خذهما إلى هناك.»
فكرر ستوليكر قائلا: «لكني هنا مرشد.»
تردد الضابط لحظة. «أظنك تحمل أصفادا، أليس كذلك؟»
قال ييتس مخرجا إياها من جيبه: «بلى.» «حسنا، إذن، فلتصفدهما معا، وسأرسل أحدا من الكتيبة معهم إلى ويلاند. كم تبلغ المسافة إلى هناك عبر الريف؟»
أخبره ستوليكر بالمسافة.
فنادى الضابط أحد المتطوعين وقال له: «عليك أن تشق طريقك عبر الريف إلى ويلاند، وتسلم هذين الرجلين إلى السجان هناك. ستصفد أيديهم معا، لكن ستأخذ مسدسا معك، وإذا سببا لك أي مشكلة، أطلق النار عليهما.»
احمر وجه المتطوع ونصب قامته. وقال: «لست شرطيا. أنا جندي.» «ممتاز، إذن فواجبك الأول كجندي هو إطاعة الأوامر. آمرك بأن تأخذ هذين الرجلين إلى ويلاند.»
كان المتطوعون قد احتشدوا حولهم أثناء هذا النقاش، وارتفعت بينهم همهمة حين أصدر الضابط أمره. كان من الواضح أنهم تعاطفوا مع اعتراض رفيقهم على أداء واجبات شرطي. ثم شق أحدهم طريقه وسط الحشد وصاح قائلا: «يا إلهي! إنه البروفيسور. إنه السيد رينمارك. ليس فينيانيا.» تعرف اثنان أو ثلاثة من الطلاب الجامعيين على رينمارك، وتدافعوا نحوه ثم حيوه بحفاوة. من الواضح أنه كان الأستاذ المفضل لدى صفه الدراسي. ثم تدافع آخرون إلى الأمام، وكان بينهم هوارد الصغير.
صاح قائلا: «من الهراء الحديث عن إرسال البروفيسور رينمارك إلى السجن! إنه ليس فينيانيا مثقال ذرة، شأنه شأن الحاكم العام مونك. كلنا سنضمن البروفيسور.»
تردد الضابط. ثم قال: «إذا كنتم تعرفونه، فالوضع مختلف. لكن هذا الرجل الآخر لديه رسالة من قائد الفينيانيين يوصي فيها كل أنصار القضية الفينيانية بمراعاته. لا أستطيع إطلاق سراحه.»
سأله رينمارك: «أأنت القائد المسئول هنا؟» «لا.» «السيد ييتس صديقي، وهو هنا معي يقضي إجازته. إنه صحفي من نيويورك، ولا علاقة له بالغزاة. وإن كنت تصر على إرساله إلى ويلاند، فيجب أن أطالب بمثولنا أمام القائد المسئول. ومهما يكن، فإما أن ننجو أنا وهو معا أو نتأذى معا. إنني مثله تماما سواء أكان مذنبا أم بريئا.» «لا يمكننا إزعاج الكولونيل بكل مسألة تافهة.» «حرية الإنسان ليست مسألة تافهة. ما الذي تقاتل من أجله، بحق الحكمة، سوى الحرية؟»
قال ييتس: «شكرا لك يا رينمارك، شكرا لك، لكني لا أهتم بالمثول أمام الكولونيل، وسأقبل الذهاب إلى سجن ويلاند بصدر رحب. لقد سئمت كل هذا العناء. لقد أتيت إلى هنا من أجل الراحة والهدوء، وسأنالهما، حتى لو اضطررت إلى الذهاب إلى السجن من أجلهما. لقد بدأت أعتقد على مضض أن السجن هو المكان الأكثر راحة في كندا على أي حال.»
صاح البروفيسور ساخطا: «لكن هذا انتهاك شائن.»
رد ييتس بضجر قائلا: «إنه كذلك بالتأكيد، لكن الغابة مليئة بمثله. دائما ما تحدث انتهاكات شائنة، لا سيما فيما يسمى بالدول الحرة؛ لذا فزيادة انتهاك واحد أو نقصانه لن يحدثا فارقا. هيا أيها الضابط، من سيأخذني إلى ويلاند؟ أم سأضطر إلى الذهاب وحدي؟ إنني فينياني منذ أمد بعيد، وأتيت إلى هنا خصيصى لإسقاط العرش والعودة به إلى الوطن. فلتحسم أمرك بأي شكل، من أجل الرب، ودعنا ننهي هذا النقاش.»
استشاط الضابط غضبا. وسرعان ما أمر ستوليكر بتصفيد يد السجين بيده، وتسليمه إلى السجان في ويلاند.
اعترض ستوليكر قائلا: «لكني أريد مساعدة. فالسجين أضخم بنيانا مني.» فضحك المتطوعون حين ذكر ستوليكر هذه الحقيقة البديهية الجلية. «إذا أراد أي شخص الذهاب معك، فيمكنه الذهاب. لن أصدر أي أوامر لأحد.»
لم يتطوع أحد لمرافقة الشرطي.
فتابع الضابط قائلا: «خذ هذا المسدس معك، وإذا حاول الهرب، أطلق الرصاص عليه. وفوق ذلك، فأنت تعرف الطريق إلى ويلاند، ولا أستطيع إرسال أي شخص بدلا منك، حتى لو أردت ذلك.»
أصر ستوليكر قائلا: «هوارد يعرف الطريق.» فقال ذاك الشاب بسخط شديد: «نعم، لكن هوارد ليس شرطيا، في حين أن ستوليكر كذلك. لن أذهب.»
اتجه رينمارك إلى صديقه.
قال له: «من الذي يتصرف بحماقة الآن يا ييتس؟ لماذا لا تصر على مقابلة الكولونيل؟ فمن المرجح أن يأمر بالإفراج عنك.» «لا ترتكب أي خطأ. فمن المرجح للغاية أن يكون الكولونيل شخصا شديد الاهتمام بالتفاصيل والمغالاة في تعظيم أهميته، ويرسل فرقة من المتطوعين لمرافقتي، وأنا أريد تجنب ذلك. فهؤلاء الضباط دائما ما يدع بعضهم بعضا، هذا تصرف حتمي منهم. أريد أن أذهب مع ستوليكر وحده. بيننا حساب يجب أن أسويه معه.» «أصغ إلي، لا ترتكب أي فعل متهور. أنت لم تفعل شيئا حتى الآن، ولكن إذا اعتديت على ضابط من ممثلي القانون، فسيختلف الأمر.» «الشيطان يعظ. من الذي منعك من ضرب ستوليكر منذ وقت قصير؟» «حسنا، كنت مخطئا آنذاك. وأنت مخطئ الآن.»
همس له ييتس قائلا: «أصغ إلي يا ريني، عد إلى الخيمة وتأكد من أن كل شيء هناك على ما يرام. سأكون معك في غضون ساعة أو نحو ذلك. لا تبد مذعورا هكذا. فأنا لن أوذي ستوليكر. لكني أريد رؤية هذه المعركة، ولن أستطيع ذلك إذا أرسل معي الكولونيل فرقة مرافقة. سأستخدم ستوليكر درعا واقيا حين يبدأ الرصاص في التطاير.»
صدحت الأبواق بأصواتها لينتظم الجنود في صفوف، وأغلق ستوليكر أحد مشبكي الأصفاد حول معصمه الأيسر على مضض شديد، فيما أغلق الآخر حول المعصم الأيمن لييتس، الذي أحرجه بتعاون لطيف. سار الرجلان المصفدان على الطريق حتى غابا عن الأنظار، فيما انتظم المتطوعون بسرعة في صفوفهم لمواصلة مسيرتهم الصباحية.
نادى هوارد الصغير البروفيسور من مكانه في الصف. ثم قال: «بالمناسبة يا بروفيسور، كيف قادتك الصدف إلى هذا المكان؟» «أخيم هنا منذ أسبوع أو أكثر مع ييتس، صديقي منذ أيام الدراسة.» «يا له من عار أن تراه يقتاد هكذا! لكنه بدا معجبا بالفكرة. أظنه رجلا مرحا. ليتني كنت أعرف أنك موجود هنا في هذه المنطقة. فأهلي يعيشون بالقرب من هنا. كانوا سيسعدون جدا بمساعدتك.» «لقد ساعدوني، وكانوا لطفاء للغاية أيضا.» «ماذا؟ أتعرفهم؟ كلهم؟ هل قابلت مارجريت؟»
فقال البروفيسور ببطء: «نعم»، لكنه حاد بنظرته الخاطفة إلى الأسفل حين التقت بنظرات الشاب المتحمسة. كان واضحا أن مارجريت هي المفضلة لدى أخيها من بين أفراد أسرته.
صاح الضابط مخاطبا رينمارك: «تراجع، يا أنت!». «هل لي أن أسير معهم؟ أو هل تستطيع إعطائي مسدسا وتدعني أشارك معهم؟»
قال الضابط بشيء من العجرفة: «لا، هذا ليس مكانا مناسبا للمدنيين.» فابتسم البروفيسور مرة أخرى وهو يفكر أن أفراد الكتيبة كلهم، بالنظر إلى قدر خبرتهم الحربية، كانوا مجرد مدنيين يرتدون زيا عسكريا، لكن قسماته صارت جدية مجددا حين تذكر تنبؤات ييتس المشئومة بمصيرهم.
صاح هوارد الصغير عندما بدأت الكتيبة في التحرك: «بالمناسبة يا سيد رينمارك، إذا رأيت أيا منهم، فلا تخبره بأني هنا، وخاصة مارجريت. فربما يقلقهم ذلك. سأحصل على تصريح بإجازة حين ننتهي من هذا، وأزورهم.»
كان الفتى يتحدث بثقة الشباب المتفائلة، وكان واضحا أنه ليس قلقا إطلاقا حيال الكيفية التي سيفي بها بوعد لقائهم. ترك رينمارك الطريق وانطلق عبر الريف قاصدا الخيمة.
في هذه الأثناء، كان رجلان يمشيان بخطى ثابتة على طول الطريق الترابي نحو ويلاند: الآسر الذي كان مكتئبا وصامتا، والأسير الذي كان ثرثارا ومسليا، بل كثيرا ما كان كلام ييتس يتجاوز التسلية ويصبح تثقيفيا في بعض الأحيان. فتحدث عن شئون كلا البلدين، وأبدى حلولا لكل المآزق السياسية، وقدم أسبابا لاستخدام الحس المنطقي السليم عمليا في كل أزمة طارئة، وطرح آراء عن أساليب الزراعة المعتمدة في مختلف أنحاء البلاد، وروى قصصا عن الحرب، وطرح أمثلة لأسرى قتلوا آسريهم، واستنتج من هذه الحكايات حماقة مقاومة السلطة الشرعية التي تمارس شرعيا، وأظهر عموما أنه رجل يحترم السلطة وممارستها. ثم صاح متفرعا فجأة إلى مسائل أكثر عملية، وقال: «بالمناسبة يا ستوليكر، كم عدد الحانات الموجودة بين هذا المكان وويلاند؟»
لكن ستوليكر لم يكن قد أحصاها قط. «حسنا، هذا يدعو إلى التفاؤل على أي حال. فما دام عددها هائلا إلى حد أنه يتطلب جهدا من الذاكرة لإحصائه، فمن المرجح أننا سنحظى بشيء نشربه عما قريب.»
فقال ستوليكر باقتضاب فظ: «لا أشرب الخمر في أثناء العمل أبدا.» «أوه، حسنا، لا تتأسف على ذلك. فكل رجل له عيوبه. سأسعد جدا بإسداء بعض الإرشادات إليك. فأنا قد اكتسبت العادة النافعة المتمثلة في القدرة على شرب الخمر في أوقات العمل وخارجها. أي شيء يمكن فعله يا ستوليكر إذا وضعته نصب عينيك وعقدت العزم عليه. فأنا لا أومن بكلمة «لا أستطيع» بأي طريقة كتبت.»
لم يرد ستوليكر فيما تثاءب ييتس في ضجر. «أتمنى أن تستأجر عربة بجواد أيها الشرطي. لقد تعبت من المشي. فأنا على قدمي منذ الثالثة صباحا.» «ليس من صلاحياتي استئجار عربة بجواد.» «ولكن ماذا تفعل إذن حين يرفض أسير التحرك؟»
قال ستوليكر باقتضاب: «أجعله يتحرك.» «أوه، فهمت. هذه خطة حكيمة، وتبقي الفواتير كما هي في حظائر تأجير الخيول.»
وحين وصلا إلى تبة مغرية على جانب الطريق، صاح ييتس قائلا: «دعنا نجلس ونرتح. لقد نفدت طاقتي. الشمس حارقة والطريق مغبر. تستطيع أن تمنحني راحة نصف ساعة؛ فالنهار ما زال في بدايته.» «سأمنحك خمس عشرة دقيقة.»
وجلسا معا. قال ييتس متنهدا: «أتمنى أن تمر أي عربة بحصانين.» «هذا مستحيل، في ظل سرقة معظم خيول الحي، وتركز القوات على الطرقات.»
اتفق معه ييتس قائلا بنبرة ناعسة: «هذا صحيح.»
كان جليا أنه منهك وفي أمس الحاجة إلى الراحة؛ إذ سقط ذقنه على صدره مغمضا عينيه. كانت أنفاسه هادئة ومنتظمة، ومال جسده نحو الشرطي الذي كان منتصبا في جلسته بقوة. سقطت ذراع ييتس اليسرى على ركبتي ستوليكر، ومال بثقل جسده عليه أكثر فأكثر. لم يكن الشرطي يعرف ما إذا كان ييتس يتظاهر بالنوم أم إنه نعسان حقا، لكنه فضل عدم المخاطرة. أبقى قبضته محكمة على مؤخرة مقبض المسدس. لكنه قال لنفسه إن ييتس من المستحيل أن يفكر في سرقة سلاحه؛ لأنه روى له قبل بضع دقائق حكاية عن أسير هرب بهذه الطريقة بالضبط. كان ستوليكر متشككا في النوايا الحسنة للرجل الذي كان في عهدته؛ إذ كان أشد تأدبا ولطفا من اللازم، وفوق ذلك، راود الشرطي شعور غبي بأن الأسير كان أذكى منه بكثير.
قال له بفظاظة: «أنت، انتصب في جلستك. فأنا لا أتلقى راتبي لكي أحملك، كما تعرف.»
قال ييتس بسرعة وهو يرمش بعينيه ويعتدل في جلسته: «ما هذا؟ ماذا؟ ماذا حدث؟ أوه، أهذا أنت يا ستوليكر. ظننتك صديقي رينمارك. هل كنت نائما؟» «إما ذلك وإما أنك كنت تتظاهر بهذا، لا أعرف ولا أبالي.»
أجاب ييتس بنعاس: «أوه، لا بد أنني كنت أتظاهر؛ فمن المستحيل أن أكون قد نمت. منذ متى ونحن هنا؟» «حوالي خمس دقائق.» «حسنا.» وبدأ رأس ييتس يتدلى مرة أخرى.
لم يراود الشرطي أي شك حيال الأمر هذه المرة. فلا أحد يستطيع التظاهر بالنوم بهذا الإتقان الشديد. كاد ييتس يسقط إلى الأمام عدة مرات، وكان في كل مرة ينقذ نفسه بحسن الحظ الذي عادة ما يحالف نائما أو ثملا. ومع ذلك، لم يرفع ستوليكر يده عن مسدسه قط. وفجأة، رمى ييتس رأسه على التبة، بترنح أشد من المعتاد، ساحبا الشرطي معه. فاعتصرت العصابة الفولاذية للأصفاد معصم ستوليكر، الذي سرعان ما قبض على سلسلة الأصفاد غريزيا لينقذ معصمه وهو يتفوه بلفظ بذيء وصرخة متألمة. وكالقطة، صار ييتس فوقه مبديا خفة حركة مذهلة من رجل كان قد سقط لتوه مكوما. وفي اللحظة التالية مباشرة أخذ المسدس ورفعه عاليا وهو يصيح مبتهجا بانتصاره: «ما قولك أيها الحكم؟ لقد هزمت حسبما أظن.»
ظل الشرطي يحك معصمه الجريح مطبقا أسنانه، ومدركا أن أي محاولة للمقاومة ستكون بلا جدوى.
قال ييتس مصوبا المسدس نحوه: «والآن يا ستوليكر، ماذا تود أن تقول قبل أن أرديك قتيلا؟»
أجاب الشرطي قائلا: «لا شيء، عدا أنك ستشنق في ويلاند بدلا من أن تبقى بضعة أيام في السجن.»
ضحك ييتس. «هذا ليس سيئا يا ستوليك، وأعتقد حقا أن لديك قدرا من الشجاعة، ما دمت تعمل صائدا للرجال. ومع ذلك، لم تكن في خطر شديد، كما تعلم. والآن، إذا كنت تريد استعادة هذا المسدس، كل ما عليك أن تراقب الموضع الذي سيهبط فيه على الأرض.» وأمسك ييتس المسدس من فوهته ثم رماه إلى أبعد ما استطاع في الحقل.
راقب ستوليكر طيرانه في الهواء بانتباه، ثم وضع يده في جيبه وأخرج شيئا صغيرا ورماه بالقرب من المكان الذي سقط فيه المسدس قدر ما استطاع.
سأله ييتس قائلا: «أهذه هي الطريقة التي تميز بها المكان؟ أم إنها تعويذة ما ستساعدك في العثور على المسدس؟»
أجاب الشرطي بهدوء قائلا: «لا هذه ولا تلك. إنه مفتاح الأصفاد. فنسخته موجودة في ويلاند.»
صفر ييتس نغمة مطولة، ونظر بإعجاب إلى الرجل الضئيل. وأدرك أن الموقف ميئوس منه. فلو حاول البحث عن المفتاح وسط العشب الطويل، كان من المرجح جدا أن يعثر ستوليكر على المسدس قبل أن يعثر ييتس على المفتاح، وحينئذ كان الصحفي سيصبح تحت رحمة الشرطة مرة أخرى. «من الواضح يا ستوليكر أنك أشد ولعا برفقتي من ولعي برفقتك. لم يكن هذا تصرفا استراتيجيا سيئا منك، لكنه ربما يكبدك بعض المتاعب الشخصية قبل أن أنزع هذه الأصفاد. لن أذهب إلى ويلاند في هذه الرحلة، وقد تصيبك معرفة ذلك بخيبة أمل. لقد ذهبت معك إلى الحد الذي كنت أنويه. أما الآن، فستأتي أنت معي.»
رد الشرطي قائلا بحزم: «لن أتحرك.»
قال ييتس وهو يلوي يده حول سلسلة الأصفاد ليمسكها: «ممتاز، فلتبق مكانك إذن.» وبعدما أحكم قبضته عليها، سار على الطريق عكس الاتجاه الذي كانا سائرين نحوه قبل بضع دقائق. أطبق ستوليكر أسنانه وحاول أن يثبت في مكانه، لكنه أرغم على السير وراءه. لم يقل أيهما شيئا حتى قطعا عدة مئات من الياردات. ثم توقف ييتس.
وقال: «بعدما أثبت لك حقيقة اضطرارك إلى مرافقتي، آمل أن تبين أنك رجل رشيد يا ستوليكر وتأتي معي بهدوء. فذلك سيكون أقل إرهاقا لكلينا، والنتيجة ستكون واحدة في النهاية. لا تستطيع فعل أي شيء إلى أن تنال مساعدة. سوف أشاهد المعركة، التي أشعر يقينا بأنها ستكون قصيرة ؛ لذا لا أريد إهدار مزيد من الوقت في العودة. ومن أجل تجنب مقابلة الناس والاضطرار إلى شرح أنك سجيني، أقترح أن نسير عبر الحقول.»
أحد الفوارق بين الأحمق والحكيم أن الحكيم دائما ما يقبل المحتوم. وقد كان الشرطي حكيما. عبر الاثنان السياج ذا العوارض الأفقية إلى الحقول، وسارا معا بسلام، كان ستوليكر صامتا كعادته بثقة متجهمة لدى رجل متيقن من أنه سينتصر في النهاية، رجل يحظى بدعم أمة كاملة، وكل آلاتها تعمل في مصلحته، أما ييتس، فكان كلامه يتناوب بين الثرثرة والجدال والإفادة، وأحيانا ما كان يقطع كلامه ويشدو فجأة بأغنية حين كان عدم تجاوب الآخر يصعب الحوار معه. «يا لجمال هذه الحقول الساكنة العطرة المترامية الأطراف وهدوئها وسكينتها يا ستوليكر! يا للطمأنينة التي تبعث في روح سئمت صخب المدينة من هذه العزلة، التي لا يكسرها سوى تغريد الطيور ودندنة النحل الناعسة، التي توصف خطأ بأنها «طنين»! الحقول الخضراء والأشجار الظليلة ونسائم هواء الصيف العليلة، التي لم يلوثها دخان المدينة، وفوق كل ذلك هدوء السماء الزرقاء الصافية الأبدي، كيف يمكن للحقد والغل البشري أن يكون له وجود في جنة كهذه؟ ألا يجعلك كل هذا تشعر بأنك صرت طفلا بريئا مرة أخرى، بدوافع نقية وضمير طاهر؟»
حتى لو كان ستوليكر قد شعر بأنه طفل بريء، فلم يبد كذلك إطلاقا. فكان يتفحص الحقول الفارغة بجبين عابس ولهفة شديدة على أمل إيجاد أي مساعدة. ومع أن الشرطي لم يبد أي رد، جاءت إجابة صعقت ييتس وطردت من ذهنه كل خواطره عن جمال الريف. ففجأة، كسر الصمت بفرقعة بندقية خافتة صدرت من على بعد أمامهما، ثم تبعتها عدة طلقات متفرقة، ثم دوي وابل من الرصاص. وقوبل ذلك برد حاد من دوي بنادق من على يمينهما. فاندفع ييتس راكضا وهو يتفوه بلفظ بذيء.
صاح قائلا: «لقد بدءوها! وبسبب عنادك اللعين، ستفوتني مشاهدة العرض من بدايته. لقد بادر الفينيانيون بإطلاق النيران، ولم يتأخر الكنديون في الرد.»
ثم صار ضجيج إطلاق النيران متواصلا آنذاك. فأيقظ ذلك روح المحارب القديم داخل ييتس. كان كحصان حربي عجوز يشم رائحة دخان المعركة المسكرة من جديد. وسطع في عينيه اللامعتين جنون البارود.
صاح مخاطبا الشرطي الذي وجد صعوبة في مواكبة وتيرة ركضه: «هيا أيها الأحمق المتسكع! هيا وإلا أقسم بالآلهة! لأكسرن معصمك على سياج ذي قضبان وأقتلع هذا الحديد المؤلم منه.»
تحولت قسمات وجه الأسير الشرسة بفعل شغفه الطاغي بالحرب، وللمرة الأولى في هذا اليوم، خاف ستوليكر من وهج عينيه المجنون. ولكن حتى لو كان خائفا، فلم يبد خوفه لييتس.
صاح وهو يقفز إلى الأمام متجاوزا إياه ويلوي الأصفاد التواءة مألوفة لدى أولئك الذين يضطرون إلى التعامل مع مجرمين مقاومين: «بل هيا أنت! فأنا متلهف مثلك تماما لرؤية المعركة.»
أعاد الألم الحاد ييتس إلى رشده مجددا. ثم ضحك وقال: «هذا هو عين الصواب، أتفق معك. لكنك ربما لن تكون في عجالة من أمرك هكذا لو علمت أنني سأكون في خضم غمار المعركة وأنوي استخدامك درعا واقيا من الرصاص.»
فأجاب الشرطي الضئيل لاهثا: «لا بأس. فالجانبان يطلقان النيران. سأكون درعا واقيا لك من جانب، وستضطر إلى أن تكون درعا واقيا لي من الجانب الآخر.»
ضحك ييتس مجددا، وركضا معا في صمت. ظلا يركضان متجنبين البيوت حتى خرجا من الحقول إلى طريق ريدج. كان الدخان يتصاعد فوق الأشجار، موضحا موقع المعركة على بعد مسافة ما على الجانب الآخر منها. جعل ييتس الشرطي يعبر وراءه السياج والطريق ويدخل الحقول الواقعة على الجانب المقابل، ثم وصل به إلى مقربة من الجهة الخلفية لدار بارتليت ومخزن حبوبه. لم ير أحد بالقرب من الدار سوى كيتي بارتليت، التي كانت واقفة خلف الدار تراقب الدخان المتصاعد بوجه شاحب قلق، وكانت تغطي أذنيها بيديها بين الحين والآخر كلما هاجمهم صوت وابل مدو للغاية. رفع ستوليكر صوته وصرخ مستغيثا.
فصاح ييتس قابضا على حنجرته: «لو كررت ذلك، فسأخنقك!»
لكنه لم يكن بحاجة إلى تكرار ذلك. فقد سمعت الفتاة الصرخة والتفتت بنظرة مذعورة، وبينما كانت على وشك الفرار سريعا إلى داخل البيت، ميزت هوية الرجلين. وحينئذ اتجهت نحوهما. وأنزل ييتس يده عن حلقوم الشرطي.
سألها الشرطي: «أين أبوك أو أخوك؟». «لا أعرف.» «أين أمك؟» «إنها هناك في بيت السيدة هوارد، المصابة بوعكة صحية.» «أأنت وحدك تماما؟» «نعم.» «إذن آمرك باسم الملكة ألا تقدمي أي مساعدة لهذا الأسير، بل تفعلي ما سأخبرك به.»
فصاح ييتس قائلا للشرطي: «وأنا آمرك باسم الرئيس أن تخرس، وألا تخاطب امرأة راقية هكذا.» ثم أردف بنبرة ألطف: «كيتي، هلا تخبريني من أين أستطيع الحصول على مبرد، كي يتسنى لي كسر هذه الأساور؟ ليس عليك أن تحضريه لي. ليس عليك أن تفعلي أي شيء. كل ما عليك أن تخبريني بمكان المبرد. يجب ألا تحصل الشرطة على دليل يجعل لديها سطوة عليك، كما يبدو أن لديها سطوة علي.»
سألته كيتي: «لماذا لا تجعله يفتحها؟». «لأن الوغد رمى المفتاح بعيدا في الحقول.» «لا يمكن أن يكون قد فعل ذلك.»
حبس الشرطي أنفاسه. «بل فعل. لقد رأيته.» «وأنا رأيته يفتحها عند الفطور. كان المفتاح في طرف سلسلة ساعته. وهو لم يرم هذه السلسلة.»
همت بإخراج سلسلة ساعته لكن ييتس أوقفها.
قال لها: «لا تلمسيه. فأنا أتولى كل شيء هنا بنفسي دون مساعدة.» وانتزع السلسلة بقوة، وتدلى منها المفتاح الحقيقي.
قال: «حسنا يا ستوليكر، لا أعرف ما الذي يستحق إعجابي أكثر؛ ذكاؤك وجرأتك أم غبائي، أم قوة ملاحظة الآنسة بارتليت. هل يمكننا دخول الحظيرة يا كيتي؟» «نعم، ولكن إياك أن تؤذيه.» «اطمئني. فأنا معجب جدا به. لا تدخلي معنا. سأخرج في غضون لحظة كما يخرج الوسيط بين الأرواح من خزانة روحانية مظلمة.»
وبعدما دخلا مخزن الحبوب، ثبت ييتس الشرطي عنوة على العمود البلوطي المربع الذي كان جزءا من هيكل المبنى، وكان يشكل أحد جانبي السلم العمودي الذي كان يؤدي إلى قمة مستودع أكوام التبن.
قال بجدية: «والآن يا ستوليكر، لعلك تدرك بالطبع أني لا أريد أن أوذيك، لكنك تدرك أيضا أني مضطر إلى إيذائك إذا حاولت الإتيان بأي حيل خادعة. لا أستطيع المجازفة إطلاقا، أرجو أن تتذكر ذلك، وتتذكر أني سأكون في ولاية نيويورك بحلول الوقت الذي ستستعيد فيه حريتك. لذا لا تجبرني على تهشيم رأسك في هذا العمود.» ثم فتح قفل الصفد الذي يقيد معصمه، متكبدا بعض العناء في سبيل ذلك، ثم سحب يد ستوليكر اليمنى حول العمود، وأغلق القفل نفسه على معصمها الذي كان حرا حتى هذه اللحظة. فصار الرجل التعيس الحظ، الذي كان خده ملتصقا بالعمود، في وضعية مثيرة للضحك إذ بدا كأنه يعانق العمود بحب شديد. «سأحضر لك كرسيا من المطبخ كي تشعر بارتياح أكبر، إلا إذا كنت تستطيع هد دعامات المبنى بساعديك مثل شمشون. ثم سأضطر إلى توديعك.»
خرج ييتس إلى الفتاة التي كانت تنتظره.
وقال لها: «أريد استعارة كرسي من المطبخ كي يرتاح عليه ستوليكر المسكين يا كيتي.»
سارا نحو البيت. ولاحظ ييتس أن إطلاق النار قد توقف، باستثناء طلقة عابرة هنا وهناك عبر المنطقة.
تابع قائلا: «علي التراجع إلى الجانب الآخر من الحدود بأقصى سرعة ممكنة. فهذه البلدة صارت أخطر مما أحتمل.»
قالت الفتاة بعينين منكستين في الأرض: «لكنك أكثر أمنا بكثير هنا. لقد جاء رجل بنبأ مفاده أن زوارق الولايات المتحدة الحربية تبحر عبر النهر جيئة وذهابا، وتأخذ كل من يحاول العبور من هذا الجانب أسيرا.» «حقا! حسنا، لقد توقعت ذلك. ولكن ماذا عساني أن أفعل بستوليكر إذن؟ لا أستطيع أن أبقيه مقيدا هناك. لكني سأهلك حالما يتحرر من قيده.» «ربما تستطيع أمي أن تقنعه بعدم فعل أي شيء آخر. هل أذهب إليها؟» «لا أظن أن ذلك سيجدي أي نفع. فستوليكر حيوان عنيد. لقد ذاق على يدي معاناة أشد من أن تجعله يتسامح معي. سنجلب له كرسيا على أي حال، ونرى تأثير المعاملة الطيبة عليه.»
حين وضع الكرسي في متناول ستوليكر، جلس عليه وهو ما زال يعانق العمود بحماسة اضطرارية كادت تجعل كيتي تضحك، رغم جدية الموقف، وأضاءت عينيها بنظرة التلذذ بإزعاج الآخرين التي دائما ما كانت تسعد ييتس.
سأل الشرطي قائلا: «كم من الوقت سأضطر إلى البقاء هنا؟».
أجاب ييتس بمرح: «أوه، ليس طويلا، لن تبقى لحظة أطول من الوقت اللازم. سأرسل البرقية حين أصل سالما إلى ولاية نيويورك؛ لذا لن تبقى هنا أكثر من يوم أو اثنين.»
لم يبد أن هذه الطمأنة قد بثت الكثير من الراحة في نفس ستوليكر.
قال: «أصغ إلي، أظنني أعي الهزيمة جيدا حين أتعرض لها كأي إنسان آخر. لقد كنت أفكر مليا في الأمر برمته. إنني تحت إمرة قائد شرطة المنطقة، ولست تحت إمرة ذاك الضابط. لا أعتقد أنك قد ارتكبت أي جرم على أي حال، وإلا ما كنت لتتصرف كما تصرفت. لو كان قائد الشرطة هو من أرسلني، لكان الوضع مختلفا. ولكن بناء على الوضع الحالي، فإذا فتحت هذه الأصفاد، أعدك بأني لن أفعل شيئا آخر إلا إذا أمرت به. الأرجح أنهم سيكونون قد نسوك تماما بحلول هذا الوقت، ولا شيء مسجل على أي حال.» «أأنت صادق في قولك؟ ألن تأتي بأي خدع؟» «بالتأكيد لن آتي بأي خدع. ولا أظنك تشك في ذلك. لم أطلب أي خدمة من قبل، وفعلت كل ما بوسعي لأبقيك في عهدتي.»
فصاح ييتس قائلا: «لنكتف بهذا القدر من الحديث. سأخاطر بإطلاق سراحك.»
مد ستوليكر ذراعيه فوق رأسه بإنهاك حين حلت أصفاده.
قال وقد رحلت كيتي آنذاك: «ترى هل يوجد أي شيء يؤكل في البيت؟»
فصاح ييتس وهو يمد يده إليه: «لنتصافح! فها هو شعور متبادل وعظيم آخر يجمعنا يا ستوليكر. لنذهب ونرى.»
الفصل الثامن عشر
من المفارقات أن الرجل الذي أراد رؤية المعركة لم يرها، والرجل الذي لم يرد رؤيتها قد رآها. فقد وصل ييتس إلى ميدان القتال بعدما وضعت المعركة أوزارها، فيما وجد رينمارك رحى القتال تستعر من حوله قبل أن يدرك حتى أن الموقف قد تأزم.
حين وصل ييتس إلى الخيمة، وجدها فارغة وممزقة بالرصاص. كانت أحداث الحرب قد حطمت الجرة، وكان فتات الجرة المكسورة متناثرا أمام المدخل، وربما من نثره رجل محبط كان قد حاول تذوق ما فيها ولم يجد شيئا.
قال ييتس لنفسه: «سحقا! ترى ما الذي حل بالمساعدين الخمسة الذين أرسلتهم صحيفة «أرجوس»؟ إذا كانوا مع الفينيانيين وتقهقروا معهم، أو إذا كان الكنديون قد اعتقلوهم وهذا أسوأ، فلن يتمكنوا من الحصول على تقرير عن هذه المناوشة وإرساله إلى الصحيفة. والآن، من الواضح أن هذا أهم سبق صحفي في العام؛ إنه دولي، يا إلهي! قد تتورط إنجلترا والولايات المتحدة في حرب إذا لم يصبح الطرفان أكثر اعتدالا وحذرا. لا أستطيع أن أجازف بترك الصحيفة عالقة في مأزق. دعني أفكر دقيقة. هل من الأفضل أن ألحق بالكنديين أم الفينيانيين؟ أيهما يركض أسرع يا ترى؟ من الواضح أن رجالي مع الفينيانيين، إذا كانوا قد وصلوا إلى مسرح الأحداث أصلا. فإذا لاحقت أبناء الجمهورية الأيرلندية، سأعرض نفسي للحصول على نسخة مكررة مما حصل عليه رجالي بالفعل، ولكن إذا لاحقت الكنديين، فقد يعتقلوني. ثم إن نسبة المتعاطفين من قرائنا مع الفينيانيين أكبر من نسبة الكنديين؛ لذا فإن نشرنا التقرير وفق رواية الطرف الغازي، فسيحظى برواج أكبر. ومع ذلك، سيكون من الجيد الحصول على رواية الطرف الكندي عن الأحداث، لو كنت متيقنا من أن بقية الأولاد قد نجحوا في مهمتهم، ومن المرجح أن الصحف الأخرى لن يكون لديها أي مراسل وسط صفوف الكنديين. يا إلهي! ما الذي ينبغي فعله؟ سأجري قرعة بالعملة المعدنية لأحسم قراري. إذا ظهر الوجه ذو الصورة، فسألحق بالفينيانيين.»
رمى العملة جاعلا إياها تدور في الهواء ثم أمسكها. «الوجه ذو الصورة! إذن فالفينيانيون هم فريستي. إنني أخيم على آثار مسيرهم على أي حال. وفوق ذلك، فهذا آمن من ملاحقة الكنديين، حتى بالرغم من أن ستوليكر أخذ تصريحي.»
ومع أنه كان متعبا، سار بخفة وحيوية عبر الغابة. كانت رائحة الانفراد بسبق صحفي مهم تملأ أنفه، وكانت تحفزه كرائحة الشمبانيا. فما قيمة الحرمان من النوم مؤقتا مقارنة بفرحة التفوق على الصحافة المعارضة؟
ربما كان أي رجل، ولو أعمى، سيتمكن من اقتفاء أثر الجيش المتقهقر. فقد كانوا في أثناء مرورهم عبر الغابة يتخلصون من كل شخص يعترض طريقهم. وفجأة بينما كان ييتس ماشيا، وجد رجلا مستلقيا على بطنه ووجهه منكفئا وسط الأوراق الذابلة المنتشرة على الأرض. فقلبه على ظهره.
قال ييتس وهو يمضي قدما في طريقه: «لقد انتهت متاعبه هذا المسكين.»
ثم جاءت صيحة من أمامه قائلة: «قف! ارفع يديك!».
لم ير ييتس أحدا، لكنه سرعان ما رفع يديه؛ إذ كان رجلا سريع التكيف.
صاح قائلا: «ما المشكلة؟ أنا أيضا أتقهقر.» «إذن فلتتقهقر خمس خطوات أخرى. سأعد الخطوات. واحدة.»
خطا ييتس خطوة واسعة إلى الأمام، فرأى رجلا وراء شجرة كان يصوب نحوه بندقية. ثم أخذ خطوة ثانية فرأى آسرا ثانيا يرفع مطرقة ضخمة، كهرقل حاملا هراوته. كان السواد يخيم على وجهي الرجلين، وكانا أشبه بشيطانين من شياطين الغابة السيئي السمعة. وكان معهما نصف دزينة من الأسرى البؤساء كانوا جالسين على الأرض مشكلين نصف دائرة. تفوه حامل البندقية بألفاظ نابية بنبرة مرعبة، لكن رفيقه ذا المطرقة كان صامتا.
قال الرامي: «تعال أيها الوغد الحقير، واجلس مع رفاقك الأوغاد. وإذا حاولت الهرب أيها الحقير الفاسق، فسأملأ جسدك بالرصاص!».
صاح ييتس بعدما تعرف على هوية المتكلم، قائلا: «أوه، لن أهرب يا ساندي. فلم عساني أهرب؟ طالما استمتعت برفقتك ورفقة ماكدونالد. كيف حالك يا ماك؟ أهذه غارة صغيرة تشنها بنفسك؟ مع أي جانب تحارب؟ وبالمناسبة يا ساندي، ما وزن ذاك القضيب الحديدي القديم الذي تمسكه؟ فأنا أود أن أحسم رهانا. دعني أحمله، كما قلت في الورشة.»
قال ساندي بنبرة محبطة وهو يخفض بندقيته: «أوه، أهذا أنت حقا؟ ظننت أننا قد قبضنا على واحد آخر منهم. أريد أنا والعجوز أن نجعلهم دزينة كاملة.» «حسنا، لا أظنكما ستأسران أي شخص آخر. لم أر أحدا وأنا آت عبر الغابة. ماذا ستفعلان بهذه المجموعة؟»
فتكلم ماكدونالد للمرة الأولى قائلا باقتضاب: «سنضربهم على رءوسهم.» ثم أضاف على مضض: «إذا حاول أي منهم الهرب.»
كان جليا أن الأسرى كلهم كانوا منهكين ويائسين إلى حد يعجزهم عن الإتيان بأي محاولة لاستعادة حريتهم. غمز ساندي بعينه لييتس من فوق كتف ماكدونالد، وأومأ برأسه إيماءة جانبية طفيفة بدت تلميحا إلى أنه يريد محادثة المراسل الصحفي على انفراد.
سأل ييتس قائلا: «لست أسيرا لديكما، أليس كذلك؟».
فقال ماكدونالد: «نعم، لست أسيرا. يمكنك الذهاب إن شئت، ولكن ليس في الاتجاه الذي ذهب فيه الفينيانيون.» «أظنني لن أحتاج إلى الذهاب أبعد من هنا خطوة واحدة، إذا سمحت لي بإجراء حوار صحفي مع أسراك. كل ما أريده هو الحصول على بعض المعلومات عن المعركة.»
قال الحداد: «لا بأس، ما دمت لن تحاول مساعدتهم. وإذا حاولت، فأنذرك بأن ذلك سيحدث مشكلة.»
تبع ييتس ساندي إلى أغوار الغابة، بعيدا عن نطاق سمع الآخرين، تاركا لماكدونالد ومطرقته الثقيلة مسئولية الحراسة.
وحين صارا بعيدين بمسافة آمنة، توقف ساندي وأراح ذراعيه على بندقيته، متخذا وضعية مستكشف.
ثم استهل الكلام بقلق، قائلا: «بالمناسبة، ألا يوجد بحوزتك بعض البارود والرصاص؟» «ولا مثقال ذرة. أليس لديك أي ذخيرة؟» «لا، ولم يكن لدي طوال المعركة. كما ترى، فقد غادرنا الورشة على عجل شديد فلم يخطر ببالنا إحضار بارود ورصاص. فحالما جاء رجل على ظهر حصان صائحا بأن ثمة قتالا يدور، التقط العجوز مطرقته وأخذت هذه البندقية التي كانت متروكة في الورشة لإصلاحها، وانطلقنا. لست متيقنا مما إذا كانت ستطلق النار لو كانت لدي ذخيرة، لكني أود التجربة. لقد أخفت بها بعض الفينيانيين وكادوا يموتون رعبا، لكني دائما ما كنت أخشى أن يصوب أحدهم بندقية حقيقية نحوي، ولا أعرف بالضبط ما الذي كنت سأفعله حينئذ.»
ثم تنهد ساندي، وأضاف بنبرة رجل أدرك خطأه لكنه لم يرد الاعتراف به: «في المعركة القادمة، لن تجدني ببندقية معيبة وبلا بارود. أفضل أن آخذ مطرقة الرجل العجوز. فهي لا تخفق.» لمعت عيناه حين خطر ماكدونالد بباله. ثم أردف بعد التفاتة سريعة إلى الوراء من فوق كتفه: «بالمناسبة، الزعيم على أهبة الاستعداد للقتال في أروع حال، أليس كذلك؟»
قال ييتس: «بلى، لكنك أيضا كذلك. تستطيع أن تتفوه بالألفاظ النابية ببراعة تكاد تضاهيه. متى اكتسبت ذلك؟»
قال ساندي متأسفا: «أوه، حسنا، كما ترى، لا أستطيع فعل ذلك بتلقائية كالمضغ، ولكن في كل الأحوال يجب على أحد ما أن يتولى مسئولية السباب. والعجوز قد تاب كما تعلم.» «أوه، ألم يرجع عن توبته بعد؟» «نعم، لم يرجع. كنت أخشى أن يرجعه هذا القتال عن توبته، لكن ذلك لم يحدث، والآن أظن أنه إذا تفوه شخص على مقربة منه بالقليل من السباب - مع أنه لا أحد يقدر على السباب كالزعيم - فسيمسك عليه لسانه. أظنه سيلتزم بالتوبة هذه المرة. كان يجب أن تراه وهو ينقض على أولئك الفينيانيين مؤرجحا هراوته وهو يغني «إلى الأمام أيها الجنود المسيحيون». ثم صمد لسانه طوال النهار دون التفوه بأي لفظ بذيء؛ لأنني كنت بجواره ألفظ كلمة بذيئة بين الحين والآخر حين تحتدم الأوضاع. صدقني لقد كان منظرا جديرا بالمشاهدة. لقد طرحهم أرضا كالقناني الخشبية. كان يجب أن تكون حاضرا وترى بنفسك.»
قال ييتس بحسرة: «نعم. لقد فاتني ذلك، وكل هذا بسبب ستوليكر اللعين. حسنا، لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، لكني سأخبرك بشيء يا ساندي: مع أنني ليس لدي ذخيرة، سأعرفك ما لدي. لدي في جيبي واحدة من أفضل قطع التبغ التي ستقضمها في حياتك.»
لمعت عينا ساندي. ولم يسعه سوى قول: «فليباركك الرب!» بينما انكب على أخذ قضمة من قطعة التبغ التي أهداه ييتس إياها. «كما ترى يا ساندي، توجد تعويضات في هذه الحياة رغم كل شيء، كنت أعرف أنك في أمس الحاجة إليها.» «لم أتناول قضمة طوال النهار. هذه هي مشكلة المغادرة على عجل.» «حسنا، يمكنك الاحتفاظ بهذه القطعة، مع خالص تحياتي. والآن، أريد العودة وإجراء حوار صحفي مع أولئك الرجال. لا وقت لأضيعه.»
وحين وصلا إلى المجموعة، قال ماكدونالد: «يوجد هنا رجل يقول إنه يعرفك يا سيد ييتس. يدعي أنه مراسل صحفي، وأنك ستؤكد صحة كلامه.»
تقدم ييتس خطوة واسعة، ونظر بقلق إلى الأسرى على أمل أن يجد أحد رجاله هناك، وإن كان أمله ممزوجا ببعض الخوف من ذلك . فقد كان رجلا أنانيا وأراد الاستئثار لنفسه بكل مجد تغطية أحداث اليوم. وسرعان ما تعرف على أحد الأسرى، وكان جيمي هوكينز الذي كان يعمل لدى صحيفة «نيويورك بليد» اليومية المنافسة. وكان هذا أسوأ مما كان يتوقع.
قال: «أهلا يا جيمي! كيف وصلت إلى هنا؟» «لقد أسرني هذا الأحمق اللعين ذو الوجه غير المغسول.»
فصاح ماكدونالد بغضب وهو يمسك مطرقته: «من هو الأحمق ال...؟» تردد قليلا حين وصل إلى كلمة «اللعين»، لكنه تجاوزها بسلام. كان جليا أنه كان على وشك الوقوع في المحظور، لكن ساندي هب لينقذه وشتم هوكينز حتى اعتلى الشحوب كل الأسرى عند سماع هذا السيل الجارف من الشتائم. نظر ماكدونالد باستحسان ممزوج بالحزن إلى تلميذه، غير مدرك أنه تحت تحفيز التبغ الذي تناوله للتو، ومتسائلا كيف وصل إلى هذه البراعة في السباب؛ لأنه ككل الفنانين الحقيقيين لم يكن مدركا إطلاقا لجدارته في هذا الشأن. «قل لهذا الممسك بالمطرقة إني لست سندانا. قل له إني مراسل صحفي، وإني لم آت إلى هنا لأقاتل. فهو يقول إنه سيطلق سراحي إذا أكدت له أني لست فينيانيا.»
جلس ييتس على جذع شجرة ساقط بجبين عابس. فقد كان يود أن يسدي إلى زميله في المهنة صنيعا حين لا يكبده ذلك أي عناء شخصي، لكنه لم ينس قط أن العمل يظل عملا.
قال بنبرة مهدئة: «لا أستطيع أن أجزم له بذلك وأنا مرتاح الضمير يا جيمي. فأنى لي أن أعرف أنك لست فينيانيا؟»
صاح هوكينز غاضبا: «هراء! مرتاح الضمير؟ تفكر في الضمير كثيرا حين توجد معلومة صحفية تحتاج إلى الحصول عليها.»
أردف ييتس بنبرة حانية: «لا أحد منا يرقى إلى أحسن طباعه يا جيمي. كل ما نستطيعه أن نبذل أقصى جهدنا لنبلغها، وهذا ليس كثيرا. لأسباب قد لا تفهمها، لا أرغب في المجازفة بالكذب. أظنك تقدر ترددي يا سيد ماكدونالد، أليس كذلك؟ لن تنصحني بتأكيد شيء لست متيقنا منه، أليس كذلك؟»
قال الحداد بجدية: «كلا بالطبع.»
صاح مراسل جريدة «بليد» الساخط: «تريد أن تبقيني هنا لأنك خائف مني. تعلم علم اليقين أني لست فينيانيا.» «معذرة يا جيمي، لكني لا أعرف شيئا من هذا القبيل. حتى إني أشك في أنني ربما أكون ذا ميول فينيانية. فأنى لي إذن أن أتيقن من ميولك؟»
سأله هوكينز بمزيد من الهدوء؛ لأنه أدرك أنه نفسه ما كان ليتوانى عن استغلال محنة منافسه لو كان مكانه: «ما خطتك؟». «خطتي هي إرسال تقرير صغير متقن عن هذه الواقعة التاريخية إلى «أرجوس» عبر البرق. فكما ترى يا جيمي، اليوم هو يومي الحافل بالعمل. وحين تنتهي مهمتي، سأكرس نفسي لخدمتك وأنقذك من الإعدام، إن استطعت، مع أنني سأفعل ذلك دون محاباة، كما يقول المحامون؛ لأنني دائما ما كنت مقتنعا بأن هذا سيكون مصير كل موظفي «بليد».» «أصغ إلي يا ييتس؛ فلتتعامل بنزاهة. لا تقحم ترهات من قبيل مراعاة الضمير على حساب شخص أسير. فأنا أعرفك منذ سنوات عديدة.» «نعم، ولم تستفد من أي قدوة نبيلة إلا القليل. فمعرفتك بي هي ما تجعلني أتعجب من توقعك أنني سأخرجك من مأزقك دون أن أولي الأمر ما يلزم من التفكير.» «أترغب في إبرام صفقة؟» «دائما ما أرغب في ذلك ... حين يكون الفارق بين المكاسب والخسائر في مصلحتي.» «حسنا، إذا أعطيتني بداية عادلة، فسأمنحك بعض المعلومات الحصرية التي لا تستطيع الحصول عليها بطريقة أخرى.» «ما هي؟» «أوه، لست طفلا ساذجا يا ييتس.» «هذه معلومة مثيرة للاهتمام يا جيمي، لكني كنت أعرفها من قبل. أليس لديك شيء أكثر جاذبية لتقدمه؟» «بلى، لدي. لدي تقرير كامل مكتوب عن البعثة الحربية والمعركة، وجاهز تماما للإرسال إذا استطعت أن أضع يدي على جهاز تلغراف. سأسلمه إليك وأسمح لك بقراءته إذا أخرجتني من هذا المأزق، كما تسميه. سأمنحك إذنا باستخدام المعلومات كما تشاء، إذا خلصتني، وكل ما أطلبه هو بداية عادلة في سباقنا نحو مكتب التلغراف.»
فكر ييتس في الاقتراح لبضع لحظات.
وأخيرا قال: «سأخبرك بما سأفعله يا جيمي. سأشتري منك هذا التقرير، وأعطيك أموالا أكثر مما ستعطيك إياه صحيفة «بليد». وحين أعود إلى نيويورك، سأعينك ضمن موظفي «أرجوس» براتب أعلى مما تتقاضاه من «بليد»، ستحدد قيمته بنفسك وسأقبلها دون نقاش.» «ماذا! وأترك صحيفتي عالقة في ورطة؟ مستحيل.» «ستقع صحيفتك في ورطة على أي حال.» «ربما. لكني لن أبيعها. سأحرق تقريري قبل أن أدعك تلقي عليه ولو نظرة خاطفة. ولا داعي لأن يكون ذلك عقبة أمام عرضك منصبا أفضل علي عند العودة إلى نيويورك، ولكن في الوقت الذي تعتمد فيه صحيفتي علي، فلن أخذلها.» «كما تشاء يا جيمي. ربما كنت سأفعل الشيء نفسه. فأنا دائما ما أكون ضعيفا حين يتعلق الأمر بمصالح صحيفة «أرجوس». أليست لديك ورقة فارغة تقرضني إياها يا جيمي؟» «لدي، لكني لن أقرضها.»
أخرج ييتس قلمه الرصاص، وجذب طرف كم قميصه.
ثم قال: «والآن يا ماك، فلتخبرني بكل ما رأيته في هذه المعركة.»
تحدث الحداد وأنصت ييتس بينما كان يدون علامة على طرف كمه بين الحين والآخر. كان ساندي يتحدث من حين لآخر، لكن الغرض من معظم حديثه كان ذكر مآثر المطرقة أو تأكيد شيء قاله الزعيم. أجرى ييتس حوارات صحفية مع الأسرى واحدا تلو الآخر، وجمع كل المواد اللازمة لذلك التقرير الممتاز الذي كتب «حسب رواية شهود عيان» ونشر لاحقا في أعمدة صفحة كاملة أفردت له في صحيفة «أرجوس». كانت ذاكرته رائعة، وكان يكتفي بتدوين رموز مختصرة لم يرد أن يثقل ذهنه بها. كان هوكينز يضحك ساخرا بين الحين والآخر من الحقائق التي كانوا يذكرونها لييتس، لكن مراسل «أرجوس» لم يكن يقول شيئا، بل اكتفى بتدوين بعض الملاحظات المختصرة عن المعلومات التي سخر منها هوكينز؛ إذ اعتبرها ييتس دقيقة ومهمة على الأرجح. وحين نال كل ما يريده، نهض.
تساءل قائلا: «هل أبعث إليك بمدد يا ماك؟».
فقال الحداد: «لا، أعتقد أني سآخذ هؤلاء الرجال إلى الورشة وأحتجزهم هناك إلى أن يستدعيهم أحد. لا تستطيع أن تضمن هوكينز إذن يا سيد ييتس؟» «يا إلهي، كلا بالطبع! بل أعتبره أخطر من في هذه المجموعة. فأنا أرى أن هؤلاء المجرمين أنصاف المثقفين، المجردين من أي وازع من ضمائرهم، يشكلون دائما خطرا أكبر على المجتمع من شركائهم الأجهل المتواطئين معهم. حسنا، وداعا يا جيمي. أظنك سوف تستمتع بالحياة في ورشة ماك. إنها أفضل مكان حللت به منذ جئت إلى هذه المنطقة. أبلغ كل الفتية خالص محبتي حين يأتون للتحديق إليك. سوف أجري تحقيقات دقيقة بشأن ميولك، وحالما أقتنع بأن إطلاق سراحك سيكون آمنا على المجتمع، سآتي إليك وأفعل كل ما بوسعي. وحتى ذلك الحين، وداعا.»
كان كل ما يتمناه ييتس آنذاك هو الوصول إلى مكتب تلغراف، وكتابة مقاله تزامنا مع نقر عامل التلغراف على أزراره لإرساله. كانت لديه مخاوفه من ألا يكون عمال التلغراف في الريف بالسرعة الكافية، لكنه لم يكن يجرؤ على المخاطرة بمحاولة الوصول إلى بافالو في ظل اشتعال الوضع في البلاد آنذاك. وسرعان ما قرر أن يذهب إلى دار بارتليت ويستعير أحد الأحصنة لو لم يكن الفينيانيون قد سرقوها كلها إلى الأبد، ويركض به بأقصى سرعة ممكنة إلى أقرب مكتب تلغراف. وسرعان ما وصل إلى حافة الغابة وشق طريقه عبر الحقول وصولا إلى البيت. وهناك وجد بارتليت الشاب عند مخزن الغلال.
كان أول سؤال طرحه هو: «أتوجد أي أخبار جديدة عن الخيول؟».
فقال بارتليت الصغير مغتما: «لا، أظنهم قد رحلوا بها بعيدا.» «حسنا، يجب أن أحصل على حصان من أي مكان لأذهب به إلى مكتب التلغراف. ما أرجح مكان يمكن أن أجد فيه حصانا؟» «لا أعرف من أين تستطيع الحصول على واحد، إلا إذا سرقت الفرس الهزيل الخاص بفتى التلغراف، إنه في الحظيرة الآن يأكل.» «أي فتى تلغراف؟» «أوه، ألم تره؟ لقد ذهب إلى الخيمة ليبحث عنك، وظننته قد وجدك.» «لا، لم أذهب إلى الخيمة قط منذ وقت طويل. لعله يحمل بعض الأخبار لي. سأدخل إلى البيت كي أكتب؛ لذا أدخله حالما يعود. واحرص على ألا يرحل قبل أن أراه.»
قال بارتليت الصغير: «سأوصد باب الحظيرة، وهكذا لن يحصل على حصانه بأي حال من الأحوال.»
وجد ييتس كيتي في المطبخ، وبدا مضطربا جدا إلى حد جعل الفتاة تصيح في قلق: «هل يطاردونك مجددا يا سيد ييتس؟» «لا يا كيتي؛ بل أنا الذي أطاردهم. بالمناسبة، أريد كل ما لديك من ورق فارغ في البيت. أي ورق سيفي بالغرض ما دام سيتحمل الكتابة عليه بسن قلم رصاص.» «أيناسبك كتاب نسخ، كالذي يستخدمه التلاميذ في المدرسة؟» «ذاك هو المطلوب بالضبط.»
وفي أقل من دقيقة، كانت الفتاة قد أعدت له كل المواد التي يحتاج إليها في الغرفة الأمامية بكل همة ونشاط. خلع ييتس معطفه وانكب على العمل كما لو كان في مكتبه الخاص في مقر صحيفة «أرجوس».
تمتم قائلا لنفسه وهو يحرك قلمه بسرعة البرق على سطح الورقة: «يا لها من ... إجازة!». ولم يلاحظ الوقت حتى فرغ من الكتابة، ثم نهض وهب واقفا.
صاح قائلا: «ما الذي حل بفتى التلغراف ذاك بحق السماء؟ حسنا، لا بأس، سآخذ الحصان من دون إذنه.»
ثم لملم أوراقه وهرع إلى المطبخ. ودهش بعض الشيء حين رأى الفتى جالسا هناك يلتهم المأكولات الطيبة التي دائما ما توافرت في هذا المطبخ. «مرحبا، أيها الشاب! منذ متى وأنت هنا؟»
أجابت كيتي نيابة عن الفتى الذي كان فمه مكتظا إلى حد أعجزه عن الرد: «لم أكن لأسمح له بالدخول لئلا يزعجك وأنت تكتب.» «أوه، أحسنت صنعا. والآن يا بني، ابتلع هذا وتعال إلى الداخل، أريد أن أحدثك دقيقة.»
تبعه الفتى إلى الغرفة الأمامية. «حسنا يا بني، أريد استعارة حصانك لما تبقى من النهار.»
قال الفتى من فوره: «لا يمكنك أخذه.» «لا يمكنني أخذه؟! بل لا بد أن آخذه. سآخذه. أتتخيل حقا أنك تستطيع منعي؟»
نصب الفتى قامته، وعقد ذراعيه عبر صدره.
ثم سأل قائلا: «لماذا تريد الحصان يا سيد ييتس؟» «أريد الوصول إلى أقرب مكتب تلغراف. وسأدفع لك مبلغا مجزيا مقابل استعارته.» «وما سبب وجودي هنا إذن؟» «عجبا، لتأكل بالطبع. سيطعمونك طعاما وفيرا في أثناء انتظارك هنا.» «مكتب التلغراف الكندي؟» «بالطبع.»
قال الفتى بازدراء شديد: «لن يفلح ذلك يا سيد ييتس . فهؤلاء الكنديون لن يستطيعوا إرسال كل ما كتبته ولو في أسبوعين. أعرفهم جيدا. وفوق ذلك، فالحكومة تسيطر على كل أسلاك التلغراف، ولا يمكنك أن تبعث برسالة خاصة إلى أن تتعافى الحكومة من الرعب الذي انتابها.»
صاح ييتس مذهولا: «يا إلهي! لم يخطر ذلك ببالي. أأنت متيقن يا فتى؟» «تمام اليقين.» «ما العمل إذن؟ يجب أن أصل إلى بافالو.»
فأضاف الفتى وهو ينصب قامته كما لو كان ينعم بحظوة خاصة من قبل حكومة الولايات المتحدة: «لا تستطيع. لن تسمح لك قوات الولايات المتحدة بذلك. فهم يمنعون كل شخص، عدا أنا.» «أتستطيع أن توصل هذه البرقية؟» «بالطبع! ولهذا عدت. لقد عرفت حالما نظرت إليك أنك ستكتب برقية من عمودين أو ثلاثة، ولعلك تتذكر أن البرقية المرسلة إليك قالت: «لا تأل أي نفقات.» لذا قلت لنفسي: «سأساعد السيد ييتس على ألا يألو أي نفقات. سآخذ خمسين دولارا من ذلك الشاب؛ لأنني الشخص الوحيد الذي يستطيع المرور وإيصال البرقية في الوقت المناسب».» «إذن، كنت متيقنا من هذا، أليس كذلك؟» «بكل تأكيد. والآن، قد أطعم الحصان وصار جاهزا، وأنا قد أطعمت وصرت جاهزا، ونضيع وقتا ثمينا في انتظار هذه الدولارات الخمسين.» «لنفترض أنك قابلت صحفيا آخر يريد إرسال برقيته إلى صحيفة أخرى، ماذا ستفعل؟» «سأطلب منه الأجر نفسه الذي طلبته منك. ولو قابلت اثنين آخرين من الصحفيين، سيكون الأجر حينئذ مائة وخمسين دولارا، ولكن إذا أردت أن تضمن أني لن أقابل أي مراسلين آخرين، دعنا نجعل الأجر مائة دولار، وسأخاطر بالاستغناء عن الخمسين الأخرى مقابل الحصول على النقود الجاهزة الفورية، وحينئذ، حتى لو قابلت دزينة من المراسلين الصحفيين، سأخبرهم بأنني ساعي تلغراف في إجازة.» «موافق. أظنك ستستطيع الاعتناء بنفسك في هذا العالم القاسي الوحشي. والآن، أصغ إلي أيها الفتى، سأثق بك إذا وثقت بي. لست دارا متنقلة لسك النقود، كما تعلم. وفوق ذلك، فأنا أدفع وفق النتائج. إذا لم تستطع توصيل هذه البرقية، فلن تنال شيئا. سأعطيك إيصالا بمائة دولار، وفور وصولي إلى بافالو، سأدفع لك النقود. سوف أضطر إلى الذهاب إلى مقر «أرجوس» كي آخذ النقود من هناك حين أصل إلى بافالو، إذا وجدت مقالي هناك، فستحصل على نقودك، وإذا لم أجده، فلن تنال شيئا. أفهمت؟» «نعم، فهمت. لكن هذا غير مقبول يا سيد ييتس.» «لماذا؟» «لأنني أقول ذلك. هذه معاملة نقدية. أي المال مقدما، وإلا لن تنال غرضك. سأوصلها كما اتفقنا بالتأكيد، ولكن لو أخفقت، فلن أخسر المال.» «حسنا، سآخذها إلى مكتب التلغراف الكندي.» «حسنا يا سيد ييتس. لقد خيبت أملي فيك. كنت أظنك حكيما بعض الشيء. ليست لديك أي حكمة إطلاقا، لكني أتمنى لك التوفيق. حين كنت في خيمتك، رأيت رجلا ذا مطرقة يخرج مجموعة رجال من الغابة. وعندما رأى أحدهم زي العمل الذي أرتديه، صاح بأنه سيعطيني خمسة وعشرين دولارا لآخذ رسالته وأوصلها. فقلت إنني سأذهب إليه لاحقا، وها أنا سأفعل. وداعا يا سيد ييتس.» «رويدك! إنك وغد صغير. سينتهي بك المطاف في سجن الولاية يوما ما، ولكن ها هي نقودك. والآن، فلتركب جوادك وتنطلق بأقصى سرعة.»
وبعدما ظل يشاهد الفتى المغادر إلى أن غاب عن ناظريه، انطلق ييتس عائدا إلى الخيمة وهو يشعر بالارتياح. راوده بعض القلق حيال اللقاء الذي جمع الفتى بهوكينز، وتساءل بعد فوات الأوان عما إذا كان الفتى يحمل تقرير هوكينز في جيبه بعد كل ذلك. تمنى لو أنه فتشه. غير أن ذلك القلق لم يمنعه من النوم كجثة هامدة حالما استلقى في الخيمة.
الفصل التاسع عشر
كانت حصيلة ضحايا المعركة أشبه في الواقع بحصيلة ضحايا حادث قطار أمريكي من الدرجة الأولى. فقد قتل ضابط وخمسة مجندين من صفوف القوات الكندية، وفقد رجل، وأصيب الكثيرون. أما عدد قتلى الفينيانيين، فلن يعرف أبدا على الأرجح. فقد دفن العديد منهم في ساحة المعركة، فيما استطاع أفراد لواء الجنرال أونيل استعادة جثث آخرين في أثناء تقهقرهم.
ومع أن نهاية المعركة جاءت كما توقعها ييتس، فإنه كان مخطئا في تقديره لقوة الكنديين. فدائما ما يستخف ذوو الخبرة في الشئون العسكرية بالمتطوعين . فقد قاتل الفتية ببسالة، حتى حين رأوا حامل رايتهم يخر صريعا أمامهم. ولو كان لهم مطلق الحرية في اتخاذ القرار في المعركة، لربما اختلفت النتيجة، مثلما تبين لاحقا حين استطاع المتطوعون، عند تحررهم من عوائق المشاركة مع الجنود النظاميين، إخماد انتفاضة أقوى بكثير في الشمال الغربي بسرعة كبيرة. لكن تحركاتهم في الوضع الحالي كانت معاقة باعتمادهم على القوات البريطانية، التي كان قائدها يحركها ببطء شديد كأنه في حرب حقيقية نظامية، وكان يزحف بها نحو الجنرال أونيل كما لو كان يزحف نحو نابليون. وهكذا كان يصل متأخرا في كل مرة؛ إذ لم يبلغ المعركة التي نشبت عند قرية ريدجواي إلا بعد فوات الأوان، وكذلك فات أوان أسر أي عدد كبير من فلول الفينيانيين الهاربة في فورت إيري. صحيح أن الجانب الكندي خطط للحملة العسكرية بإتقان لكن التنفيذ كان سيئا جدا. فقد كان مقررا أن يلتقي المتطوعون والجنود النظاميون عند نقطة قريبة من موقع المعركة، لكن القائد البريطاني تحرك متأخرا ساعتين، ولم يدرك الكولونيل الكندي ذلك إلا بعد فوات الأوان. ثم بلغت هذه الأخطاء الفادحة ذروتها بخطأ شنيع في ساحة القتال. فقد أمر الكولونيل الكندي رجاله بالهجوم عبر حقل مفتوح والانقضاض على قوات الفينيانيين في الغابة، في خطوة ذكية وحمقاء في آن واحد. استجاب المتطوعون للأمر ببسالة، لكن الآلهة تقف عاجزة أمام الغباء. فقد صدم المتطوعون عند وصولهم إلى الحقل حين أمروا بتشكيل مربع وملاقاة جنود سلاح الفرسان. فحتى تلاميذ المدارس كانوا يعرفون استحالة وجود جنود فرسان لدى الفينيانيين.
وبعدما شكل الكنديون مربعهم، وجدوا أنفسهم لقمة سائغة للفينيانيين في الغابة. ولو كانت قوات أونيل قد أطلقت النيران بدقة معقولة، لكانت مزقت المتطوعين إربا بكل تأكيد. كان المتطوعون منتصرين بالفعل آنذاك لو أنهم فقط قد أدركوا حقيقة انتصارهم ذاك، لكن الذعر سيطر عليهم في هذا المربع اليائس، وجعل كل رجل منشغلا بالنجاة بنفسه؛ وفي الوقت ذاته، كان الفينيانيون يتقهقرون أيضا بأقصى سرعة ممكنة. تعرف هذه المهزلة باسم معركة ريدجواي، وكان من الممكن أن تكون كوميدية لولا أن الموت كان يحوم حولها. وكانت الكوميديا قد جسدت، من دون تراجيديا، قبل ذلك بيوم أو اثنين في مناوشة غير دموية وقعت بالقرب من قرية صغيرة تسمى واترلو، وقد عظم هذا الاشتباك في سجلات التاريخ الكندية؛ لأنه صار يحمل اسم معركة واترلو الشهيرة.
شاهد رينمارك القتال مفعما بالقلق العاجز الذي قد يشعر به أي من يشاهد معركة دون المشاركة فيها، وصحيح أنه شارك المقاتلين الكنديين إحساسهم بالخطر، لكنه لم يكن قادرا على التأثير في النتيجة النهائية، وحين تقهقروا، حاول أن يتبعهم باتخاذ منعطف جانبي واسع ليتفادى الطلقات العابرة التي كانت لا تزال تتطاير. كان متوقعا أنه سيلقى المتطوعين على الطريق، لكنه لم ينجح. فقد وقع في عدة حسابات خاطئة أعجزته عن العثور عليهم إلى أن اقترب حلول المساء. وحين وجدهم، أخبروه في البداية بأن هوارد الصغير كان مع الكتيبة ولم يصب بأي أذى، ولكن سرعان ما كشف مزيد من التحري أنه لم ير منذ المعركة. لم يكن بين القتلى أو الجرحى، وحل الظلام قبل أن يدرك رينمارك أن كلمة «مفقود» المشئومة قد وضعت أمام اسم الفتى في قائمة المتطوعين. تذكر رينمارك أن الفتى قال إنه سيزور بيته لو حصل على إجازة، ولكن لم تطلب أي إجازات. وأخيرا، اقتنع رينمارك بأن هوارد الصغير إما أصيب بجروح بالغة أو مات. ولم يخطر ببال البروفيسور للحظة أن يكون هوارد قد فر من الجندية، مع أنه اعترف لنفسه بصعوبة تحديد مدى الذعر الذي قد ينتاب فتى حين يرى الرصاص يتطاير من حوله للمرة الأولى في حياته.
استدار رينمارك بقلب مفطور واتجه إلى حقل التهلكة. لم يجد أي قتيل أو جريح من القوات الكندية. ثم توجه إلى الغابة فوجد عدة جثث مستلقية حيث خرت، لكنها كلها كانت جثث غرباء. فحتى في الظلام الحالك، لم يجد رينمارك صعوبة في تمييز زي المتطوعين الموحد الذي كان يعرفه جيدا. سار نحو مسكن آل هوارد راجيا أن يسمع صوت الفتى، وإن كان رجاء ممزوجا بالخوف من أن يسمع صوت الفتى الهارب من الجندية. كان الصمت المطبق يخيم على محيط المنزل، مع أن ضوءا داخله كان ساطعا عبر نافذة علوية وعبر نافذة سفلية أيضا. توقف عند البوابة وهو لا يدري ماذا عساه يفعل. كان واضحا أن الفتى لم يكن هناك، لكن رينمارك ظل متحيرا حيال إيجاد طريقة يلتقي بها الأب أو الأخ دون أن يزعج مارجريت أو أمها. وبينما كان واقفا هناك، فتح الباب وأبصر السيدة بارتليت ومارجريت واقفتين في الضوء. فابتعد عن البوابة وسمع المرأة العجوز تقول: «أوه، ستكون بخير في الصباح بعدما خلدت الآن إلى نوم هانئ. من الأفضل ألا تزعجي نومها الليلة. كل ما في الأمر أنها مصابة بتوتر وذعر من إطلاق النيران الرهيب. وقد انتهى كل شيء تماما الآن، حمدا للرب. تصبحين على خير يا مارجريت.»
خرجت المرأة الطيبة من البوابة، ثم هرولت نحو بيتها بسرعة فتاة في السادسة عشرة. ووقفت مارجريت في المدخل تنصت إلى تلك الخطى المتقهقرة. كانت شاحبة وقلقة، لكن رينمارك كان يرى أنه لم ير أحدا بهذا الجمال من قبل، وذهل حين شعر برغبة شديدة، لا تمت بصلة للأساتذة الجامعيين، في أن يحتضنها بين ذراعيه ويواسيها. لكنه كان يخشى أن يسوقه القدر إلى تأجيج قلقها بدلا من مواساتها، ولم تواته الجرأة على التحدث إلا حين رآها تهم بإغلاق الباب.
قال: «مارجريت.»
لم تسمع الفتاة اسمها ينطق بتلك النبرة من قبل، ودخلت رقة نبرته إلى قلبها مباشرة؛ إذ أصابتها بفزع ممزوج ببهجة مجهولة. بدت عاجزة عن الحركة أو الرد، وظلت واقفة في مكانها فاغرة عينيها وحابسة أنفاسها ومحدقة في الظلام. تقدم رينمارك إلى الجزء المضاء، ورأت وجهه منهكا من شدة التعب والقلق.
قال مرة أخرى: «مارجريت، أريد أن أحادثك لحظة. أين أخوك؟» «لقد خرج مع السيد بارتليت ليريا إن كان بإمكانهما العثور على الخيول.» ثم أضافت وهي تنزل إلى جواره: «ثمة خطب ما. أرى ذلك في قسمات وجهك. ما الأمر؟» «هل أبوك في البيت؟» «نعم. لكنه منشغل بأمي. قل لي ما المشكلة. من الأفضل أن تخبرني.»
تردد رينمارك.
فصاحت الفتاة بصوت خفيض لكنه حاد قائلة: «لا تتركني مترقبة هكذا. ينبغي أن تخبرني بكل شيء وإلا كنت لتصمت من البداية. هل أصاب هنري أي مكروه؟» «لا. بل أردت الحديث عن آرثر. لن تنزعجي، أليس كذلك؟» «أنا منزعجة بالفعل. أخبرني بسرعة.» ومن فرط انفعالها، وضعت الفتاة يديها على يديه في توسل. «لقد انضم آرثر إلى المتطوعين في تورنتو منذ فترة. هل كنت تعلمين ذلك؟» «لم يخبرني قط. لقد فهمت، أو هكذا أظن، وإن كنت أرجو ألا يكون ظني صحيحا. لقد شارك في المعركة اليوم. هل أصابه مكروه؟»
قال رينمارك على عجل بعدما اتضحت الحقيقة: «لا أعرف. أخشى ذلك»، وأدرك حين شددت الفتاة قبضتها اللاواعية على يديه من شدة توترها أنه ذكر الحقيقة بأسلوب أخرق جدا. «كان مع المتطوعين صباح اليوم. لكنه ليس معهم الآن. ولا يعرفون مكانه. لم يره أحد مصابا، لكن ثمة خوف من أن يكون قد أصيب وترك في ساحة المعركة. لقد بحثت عنه في كل شبر من المنطقة.» «حسنا، ثم ماذا؟» «لكني لم أجده. فجئت على أمل العثور عليه هنا.»
قالت وهي تنتحب: «خذني إلى حيث كان المتطوعون. أعرف ما حدث. تعال بسرعة.» «ألن تضعي شيئا على رأسك؟» «لا لا. تعال حالا.» ثم سكتت هنيهة وقالت بعدها: «هل سنحتاج إلى مشكاة؟» «لا؛ فالمنطقة مضيئة بدرجة كافية حين نخرج من ظل البيت.»
ركضت مارجريت على الطريق بسرعة شديدة إلى حد أن رينمارك تكبد بعض العناء ليواكب وتيرتها. ثم انعطفت إلى الطريق الجانبي، وسارت بسرعة على المنحدر الصاعد ذي الميل الطفيف إلى النقطة التي عبر منها المتطوعون الطريق.
قال رينمارك: «ها هو المكان.»
فصاحت لاهثة: «من المستحيل أن يكون قد أصيب في الحقل؛ لأنه حينئذ كان من الممكن أن يصل إلى البيت الواقع على مقربة منه دون أن يضطر إلى تسلق سياج. وإذا أصيب بجرح بالغ، فمن المفترض أن يكون هنا. هل بحثت في هذا الحقل؟» «كل شبر منه. ليس موجودا هنا.» «إذن فمن المؤكد أن الإصابة وقعت بعدما عبر الطريق والسياج الثاني. هل رأيت المعركة؟» «نعم.» «هل عبر الفينيانيون الحقل وراء المتطوعين؟» «كلا، لم يبرحوا الغابة.»
قالت الفتاة باعتزاز وثقة في بسالة أخيها: «إذن، لو كان قد أصيب، فلا يمكن أن تكون الإصابة قد وقعت بعيدا عن الجانب الآخر من السياج الثاني. لقد كان آخر المتقهقرين؛ لذا لم يره الآخرون.»
عبرا السياج الأول ثم الطريق ثم السياج الثاني، وكانت الفتاة تسير متقدمة بضع خطوات عن البروفيسور. توقفت واتكأت لحظة على إحدى الأشجار. ثم قالت بصوت يكاد يكون غير مسموع: «من المؤكد أن الإصابة وقعت بالقرب من هنا. هل بحثت في هذا الجانب؟» «نعم، بحثت لمسافة نصف ميل في الحقول والغابة.» «لا لا، ليس هناك، بل بمحاذاة السياج. لقد كان يعرف كل شبر من هذه المنطقة. ولو كان أصيب هنا، لكان سيحاول الوصول إلى بيتنا فورا. ابحث بمحاذاة السياج. لا ... لا أستطيع الذهاب معك.»
سار رينمارك بمحاذاة السياج، محدقا إلى الزوايا المظلمة التي شكلتها تعرجات السياج ذي العوارض الأفقية، وكان يعلم دون النظر وراءه أن مارجريت كانت تتبعه بتناقض المرأة المعتاد مع ذاتها. وفجأة اندفعت متجاوزة إياه، وألقت نفسها وسط العشب الطويل مطلقة صرخة منتحبة جرحت قلب رينمارك كسكين حاد.
كان الفتى مستلقيا على بطنه ووجهه منكبا على العشب، وكانت يده الممدودة قابضة على العارضة السفلى من السياج. بدا أنه قد جر نفسه إلى هذا الحد ووصل إلى عقبة لا تقهر.
سحب رينمارك الفتاة الباكية بعيدا برفق، ومرر يده سريعا على جسد الفتى المنبطح. ثم سرعان ما فتح أزرار سترته العسكرية، وقد سرت في جسده رعشة فرح حين شعر بنبضات خافتة في قلب الفتى.
صاح قائلا: «إنه حي! سيصبح بخير يا مارجريت.» مع أن تقرير ذلك بناء على فحص سريع جدا كهذا كان سابقا لأوانه بعض الشيء.
قام وهو ينتظر نظرة امتنان من الفتاة التي أحبها. لكنه دهش حين رأى عينيها ساطعتين في الظلام وهما تتقدان غضبا. «متى علمت أنه انضم إلى المتطوعين؟»
أجاب البروفيسور مذهولا: «صباح اليوم ... باكرا.» «لماذا لم تخبرني؟» «طلب مني ألا أفعل ذلك.» «إنه مجرد فتى صغير. في حين أنك رجل، ومن المفترض أنك تتحلى بصواب رجل راشد. لم يكن من حقك أن تلتفت لكلام صبي أغر. كان من حقي أن أعرف، وكان من واجبك أن تخبرني. ولكن بسبب إهمالك وغبائك، ظل أخي ممددا هنا طوال النهار ...» ثم أضافت بانكسار في نبرتها الغاضبة: «وهو يحتضر على الأرجح.» «لو أنك تعرفين الحقيقة ... لم أكن أعرف بوجود أي مشكلة حتى التقيت المتطوعين. ولم أضيع ثانية منذ ذلك الحين.» «كان ينبغي أن أعرف أنه مفقود، دون الذهاب إلى المتطوعين.»
ذهل رينمارك بشدة من هذا الاتهام الظالم من فتاة كان يتوهم أنها ليست متقلبة المزاج، حتى إنه عجز عن الرد. ومع ذلك، كان على موعد مع مثال آخر على التناقض مع الذات.
إذ سألته قائلة: «لماذا تقف هناك هكذا دون أن تفعل شيئا وها أنا قد وجدته؟».
كان على طرف لسانه أن يقول: «أقف هنا لأنك تقفين هناك تتشاجرين معي دون وجه حق»، لكنه لم يقل ذلك. لم يكن رينمارك رجلا سريع التصرف، لكنه فعل الصواب في هذا الموقف للمرة الأولى في حياته.
قال بصرامة: «مارجريت، اطرحي هذا السياج أرضا.»
أطاعت الفتاة هذا الأمر المقتضب الذي قيل بلهجة صارمة من فورها. صحيح أن مهمة كهذه قد تبدو صعبة على فتاة، لكنها تنجز بسهولة في بعض مناطق أمريكا. فالسياج ذو العوارض الأفقية يكون مهيأ للهدم بسهولة. أسقطت مارجريت عارضة من اليمين وعارضة من اليسار ثم عارضة أخرى من اليمين حتى حل مكان هذا الجزء من السياج فجوة مفتوحة. وفي هذه الأثناء، كان البروفيسور يتفحص الجندي الشاب ووجد ساقه مكسورة بسبب رصاصة بندقية اخترقتها. رفعه برفق بين ذراعيه، وابتهج حين سمع تأوها يتفلت من بين شفتيه. سار عبر الفجوة المفتوحة في السياج وعلى طول الطريق في اتجاه البيت، حاملا جسد تلميذه الفاقد الوعي. لازمت مارجريت جواره في صمت، وظلت تداعب خصلات شعر أخيها الرطبة المموجة بين الحين والآخر بلا وعي منها.
قالت: «علينا أن نحضر طبيبا؟» كان تساؤلا وتأكيدا في الوقت نفسه. «بالطبع.» «يجب ألا نزعج أحدا في البيت. لذا من الأفضل أن أخبرك الآن بما يجب فعله، كي لا نحتاج إلى التحدث حين نصل إلى هناك.» «لا يمكن أن نتفادى إزعاج أحد.» «لا أظننا سنضطر إلى ذلك. إذا بقيت مع آرثر، فسأذهب إلى الطبيب، وبذلك لن يكون هناك داع لأن يعرف أحد بالأمر.» «سأذهب أنا لإحضار الطبيب.» «أنت لا تعرف الطريق. إنها مسافة لا تقل عن خمسة أو ستة أميال. سأمتطي جيبسي وسأعود سريعا.» «لكن الطرق مليئة بالمجرمين المتربصين وفلول الفينيانيين الشاردين. ليس من الآمن أن تذهبي وحدك.» «بل آمن تماما. فلا يستطيع أي حصان سرقه المتسكعون أن يتفوق على جيبسي. والآن، لا تقل أي شيء آخر. من الأفضل أن أذهب. سوف أسبقك ركضا وأدخل البيت خلسة. ثم سآخذ المشكاة إلى الغرفة الجانبية التي تفتح فيها النافذة على الأرض مباشرة. احمله إلى هناك. سأنتظرك عند البوابة وأريك الطريق.»
وبذلك رحلت الفتاة وحمل رينمارك عبئه وحده. كانت تنتظره عند البوابة وقادته في صمت حول البيت إلى النافذة البابية التي كانت مطلة على المرج الأخضر الواقع تحت شجرة تفاح. تدفق الضوء منها إلى الخارج على العشب. وضع الصبي برفق على السرير الصغير الجميل. وعرف رينمارك من النظرة الأولى هوية صاحب هذه الغرفة. فكانت مزينة بتلك الحلي والدمى الصغيرة الجميلة التي تحب الفتيات اقتناءها في غرفهن الصغيرة الخاصة.
همست قائلة: «من المستبعد أن يزعجك أحد هنا إلى أن أعود. سأنقر على النافذة حين آتي مع الطبيب.» «ألا تظني أن الأفضل والآمن أن أذهب أنا؟ لا أحبذ فكرة ذهابك وحدك.» «لا لا. رجاء فلتفعل ما أقوله لك فقط. إنك لا تعرف الطريق. سأكون أسرع بكثير. وإذا ... إذا ... استفاق آرثر، فسيعرفك ولن ينزعج كما قد ينزعج لو كنت غريبا.»
ذهبت مارجريت قبل أن يستطيع قول أي شيء آخر، وجلس رينمارك راجيا من أعماق قلبه ألا يطرق أحد باب الغرفة أثناء وجوده هناك.
الفصل العشرون
تحدثت مارجريت بملاطفة إلى حصانها حين فتحت باب الحظيرة، ورد عليها جيبسي بذاك الصهيل المبحوح الخافت الحنون، الذي يصفه الأسكتلنديون ب «الصهيل الرقيق»، ذلك الوصف الذي يحمل صورة واضحة حية. ربتت برفق على الحيوان الصغير، ورغم أن جيبسي قد تفاجأ بأنها تضع عليه السرج واللجام في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فإنه لم يبد أي اعتراض، بل اكتفى بفرك أنفه صعودا ونزولا في كم مارجريت بحنو وهي تربط أحزمة السرج واللجام عليه. كان واضحا أن بينهما قدرا جيدا من التفاهم.
همست قائلة: «كلا يا جيب، لا أحمل لك شيئا الليلة، لا شيء سوى العمل الشاق والعمل السريع. والآن، يجب ألا تصدر ضوضاء إلى أن نتجاوز المنزل.»
ثم أنزلت حلقة سوط ركوب الخيل حول معصمها بانزلاقة سريعة، ومع أنها كانت تحمل هذا السوط دائما، إلا أنها لم تستخدمه قط. وبهذا لم يتعرض جيب لإهانة الجلد بالسوط قط، وكان دائما مستعدا لتنفيذ المطلوب منه بمجرد كلمة واحدة.
كانت مارجريت قد فتحت البوابة الكبيرة قبل أن تضع السرج على حصانها؛ لذلك لم تتأخر في الخروج إلى الطريق الرئيسي، مع أن لحظة مرورها بجوار المنزل بثت القلق في نفسها. كانت تخشى أن يخرج والدها لاستطلاع الوضع خارج المنزل لو سمع خطوات الفرس أو صهيله. وعند منتصف الطريق بين بيتها وبيت آل بارتليت، امتطت الحصان بخفة. «والآن، هيا يا جيب!»
لم يحتج الحصان إلى كلمة ثانية. وانطلق بها بعيدا على الطريق نحو الشرق، وكانت نسائم هواء يونيو المعتدل تأتي حلوة وباردة ومنعشة من البحيرة البعيدة، محملة بروائح الغابة والحقول. كان السكون المطبق يخيم على الأجواء، ولم يكسره سوى صفير حزين من البلبل الأمريكي، أو نغمة أشد غرابة وإخافة صادرة من طائر غواص بعيد.
كانت المنازل على طول الطريق تبدو مهجورة؛ إذ لم تظهر أضواء في أي مكان. وكانت أرجاء البلدة قد عجت بأبشع الشائعات عن مذبحة اليوم، وبدا أن السكان، وإن كانوا متناثرين في أنحاء البلدة، قد تقوقعوا على أنفسهم. خيمت على الأرض فترة من الصمت والظلام، وكان صوت نقرات حوافر الحصان السريعة واضحا وضوحا مذهلا على الأجزاء الصلبة من الطريق، وتجلى بروز الصوت بفواصل متقطعة من السكون التام حين كانت الأطراف السفلى من أقدام الحيوان الصغير المقدام تغوص في الرمال وتصعب تقدمه. ولم تسر رعشة من الرعب في جسد مارجريت في هذه الرحلة الليلية إلا حين دخلت دربا مظلما محاطا من على جانبيه بأشجار الغابة العتيقة التي تلاقت فروعها في الأعلى لتشكل فوقه قوسا وتجعله أشبه برواق كاتدرائية قاتم كبير، يمكن أن يختبئ أي شيء بين جنباته. وفجأة وثب الحصان من الخوف وانحرف جانبا وأسرع في ركضه، حينها حبست مارجريت أنفاسها حين رأت، أو تخيلت أنها رأت، العديد من الرجال ممددين على جانبي الطريق لا تعرف إن كانوا نائمين أو موتى. وحالما خرجت إلى العراء مرة أخرى، تنفست الصعداء، ولولا وثبة الحصان، لكانت قد اتهمت خيالها بخداعها. ولم تكد تطمئن نفسها تماما حتى تحرك طيف رجل من السياج إلى منتصف الطريق، وصاح صوت حاد قائلا: «قف!»
فغرس الحصان الصغير حافريه الأماميين في الأرض معا، كما لو كان يعرف معنى الكلمة، وانزلق على الأرض لحظة ثم توقف تماما بسرعة شديدة إلى حد أن مارجريت تشبثت بمقعدها بصعوبة. رأت أمامها رجلا يحمل بندقية، وكان واضحا أنه متأهب لإطلاق النار إذا حاولت عصيان أمره.
سألها قائلا: «من أنت وإلى أين تذهب؟».
فتوسلت إليه مارجريت برعشة خوف في صوتها: «أوه، دعني أمر من فضلك! أنا ذاهبة لإحضار طبيب ... من أجل أخي؛ فهو مصاب بجروح بالغة، وقد يموت إذا تأخرت عليه.»
فضحك الرجل.
ثم صاح وهو يدنو منها: «أوه! أأنت امرأة حقا؟ وشابة أيضا، وإلا فأنا جاهل. والآن، فلتترجلي من على الحصان يا آنسة أو يا سيدة. سأضطر إلى التحقق من ذلك. لن تنطلي حيلة التعلل بالأخ على جندي قديم. من المؤكد أنك ذاهبة بالحصان إلى حبيبك في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وإلا فأنا لا أفقه شيئا عن الجنس الآخر. فلتنزلي من على الحصان يا سيدتي ولتري ما إذا كنت سأعجبك أكثر منه، تذكري أن كل أشكال الرجال سواء في الظلام. هيا انزلي كما أقول لك.» «إذا كنت جنديا، فستتركني أذهب. أخي مصاب بجرح بالغ. يجب أن أذهب إلى الطبيب.» «لا «وجوب» وحربة البندقية أمامك. لو كان مصابا، فقد قتل رجال كثيرون أفضل منه اليوم. انزلي يا عزيزتي.»
جمعت مارجريت زمام اللجام في يدها، لكن الرجل استطاع، حتى في هذا الظلام الحالك، أن يرى ما تنوي فعله. «لن تستطيعي الهرب يا جميلتي. وإذا حاولت فعل ذلك، فلن تتأذي، لكني سأقتل حصانك. إذا تحركت، سأخرق جسده برصاصة.»
قالت مارجريت مرعوبة وقد غمرها خوف لم ينتبها حتى عند استشعار الخطر على حياتها: «تقتل حصاني؟».
فقال الرجل وهو يدنو منها ويضع يده على لجام جيبسي: «نعم، يا آنستي. لكننا لن نضطر إلى هذا. وفوق ذلك، سيحدث جلبة صاخبة جدا، وربما يجلب لنا رفقة تفسد هذه الخلوة وتزعجنا. لذا ترجلي بهدوء أيتها الفتاة الصغيرة اللطيفة.» «إذا سمحت لي بالذهاب وإخبار الطبيب، فسأعود إلى هنا وأصير سبيتك.»
ضحك الرجل مجددا بنبرات خفيضة تمني المرء بقرب نيل مراده دون تلبيته. وبدا أنه رأى هذه مزحة مضحكة. «أوه، لا يا حبيبتي. فأنا لست ساذجا إلى هذا الحد. فتاة في اليد خير من عشر على الطريق. والآن، انزلي من على هذا الحصان، وإلا سأنزلك عنوة. فهذا وقت حرب ولن أضيع مزيدا من الكلام الحلو عليك.»
كان الرجل، الذي رأته آنذاك، بلا قبعة، وظل يحدق إليها بشيء ما في عينيه الشريرتين جعلها ترتجف خوفا. لكنها ظلت هادئة جدا إلى حد جعله غير مستعد لأي حركة مباغتة حسبما بدا عليه. كانت يمناها المتدلية بجوارها قد أمسكت سوط الركوب القصير، وسرعان ما باغتته بجلدة لاسعة مغشية على عينيه بسرعة أعجزته عن درء الضربة، ثم نزلت بالسوط على خاصرة حصانها، وسحبت الحصان بيسراها فوق عدوها. فأطلق الحصان نخرة ذهول مسعورة، ووثب إلى الأمام فأسقط الرجل والبندقية أرضا بقعقعة دوت أصداؤها، ثم أرجع رأسه إلى الخلف ساخطا وانطلق على طول الطريق كالريح. كانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها بجلدة سوط، ولم يغفر هذه الضربة. خشيت مارجريت أن تقابل عقبات أخرى على الطريق، فأدارت رأس حصانها نحو السياج ذي العوارض الأفقية، ووثبت بالحصان من فوقه كعصفور. وحين أصبحت في الحقل، حيث قد يعرضها الركض سريعا في الظلام لمخاطر شديدة، حاولت إبطاء السرعة لكن الحصان الصغير لم يطاوعها. وظل يهز رأسه غاضبا كلما فكر في الإهانة التي أنزلتها هذه الجلدة به، بينما كانت مارجريت تميل عليه وتحاول أن تبرر له فعلتها وتطلب العفو عن إساءتها. عبرت السياج الثاني بوثبة رشيقة بلا أي تعثر، ولم يتعثر الحصان سوى مرة في الحقل التالي لكنه سرعان ما تعافى وواصل الركض بنفس السرعة الخرقاء. ثم عبرا السياج التالي بوثبة شجاعة مبهرة أوصلتهما إلى الطريق الجانبي على بعد نصف ميل من منزل الطبيب. ارتأت مارجريت عدم جدوى محاولة مصالحته إلى أن بلغت وجهتها. توقف الحصان هناك بشيء من الصعوبة، وضربت الفتاة ألواح النافذة العلوية، التي كان ساطعا من خلالها ضوء، بسوط الركوب. رفع الطبيب النافذة، وشرحت الفتاة له الموقف بسرعة.
قال لها: «سآتي معك في غضون لحظة.»
نزلت مارجريت من على السرج بانزلاقة سريعة، ووضعت ذراعيها حول عنق الحصان الذي كان يرتعش. فأعرض جيبسي عنها واستنشق الهواء بكرامة مهانة.
صاحت شبه باكية وهي تداعب العنق الناعم اللامع لصديقها المستاء: «لقد كان عارا مخزيا يا جيب، كان كذلك حقا، ولكن ما الذي كان بوسعي فعله يا جيب؟ لقد كنت أنت حامي الوحيد، وقد طرحته أرضا بطريقة رائعة، لم يكن بإمكان أي حصان آخر أن يفعل ذلك بهذه الإجادة. أعرف أن ذلك شيء شرير، لكني آمل أن تكون قد أصبته، فقط لمجرد أنني اضطررت إلى ضربك.»
ظل جيبسي غاضبا، وألقى برأسه إلى الوراء في إشارة إلى أن تودد امرأة ليس تعويضا كافيا عن ضربة سوط. كان الأشد إيلاما هو الإهانة وليس الوجع، لا سيما أنها جاءت بيديها. «أعرف ... أعرف شعورك تماما يا جيبسي العزيز، ولا ألومك على غضبك. ربما كان من المفترض أن أتحدث إليك قبلها بالطبع، ولكن لم يكن لدي وقت للتفكير، وهو من كنت أضربه في الواقع. لذا نزلت الضربة بهذه الشدة. لو كنت تفوهت بكلمة واحدة، كان سيتنحى عن الطريق لأنه كان جبانا، ثم كان سيقتلك بالرصاص ... يقتلك أنت ... أنت يا جيبسي! تخيل ذلك!»
لو كان أي رجل مستعدا لأن يتشكل في أي صورة من شأنها أن ترضي امرأة ذكية ورائعة، فكيف يتوقع المرء ألا يخضع الحصان لتأثيرها؟ أبدى جيبسي أمارات اللين وصهل برقة وبنبرة تدل على التسامح. «ولن يتكرر ذلك مرة أخرى يا جيبسي، أبدا أبدا. وحالما نعود إلى البيت سالمين، سأحرق ذلك السوط. يا عزيزي الصغير، كنت أعرف أنك ما كنت ل...»
أسند جيبسي رأسه إلى كتف مارجريت، ويجب هنا ألا نكشف تفاصيل التصالح ونبقيها طي الكتمان. فبعض الأشياء أشد قدسية من أن يتدخل فيها مجرد إنسان عادي. صار الصديقان صديقين مجددا، ومن المؤكد أن السوط الذي لم يرتكب أي ذنب قد قدم قربانا محترقا على مذبح الصداقة.
حين خرج الطبيب، شرحت له مارجريت خطورة الطريق، واقترحت أن يعودا عبر الطريق الشمالي الأطول، أو «كونسيشن» كما كان يسمى.
لم يقابلا أحدا على الطريق الذي كان الصمت يخيم عليه، وسرعان ما رأيا الضوء عبر النافذة.
ترك الطبيب والفتاة حصانيهما مربوطين على مسافة من المنزل، وسارا معا إلى النافذة خلسة كأنهما من لصوص المنازل. حاولت مارجريت التنصت عند النافذة المغلقة وهي حابسة أنفاسها، وتخيلت أنها سمعت همهمة حوار خافتة. ثم نقرت برفق على اللوح الزجاجي، ففتح البروفيسور النافذة البابية.
قال هامسا: «كنا في غاية القلق عليك.»
فيما قال الفتى بابتسامة شاحبة سقيمة وهو يرفع رأسه عن الوسادة قليلا ثم أسقطها مرة أخرى: «مرحبا يا بيجي!».
انحنت مارجريت فوقه وقبلته. «فتاي المسكين! يا للرعب الذي أصبتني به!» «آه يا مارجري، فكري في الرعب الذي أصبت به نفسي. لقد ظننتني سأموت والبيت على مرأى مني.»
أخرج الطبيب مارجريت برفق من الغرفة. وانتظر رينمارك حتى انتهى الفحص، ثم خرج ليقابلها.
فهرعت نحوه لملاقاته.
قال لها: «كل شيء على ما يرام. لا داعي إلى الخوف. إنه منهك بسبب فقدان الدم، لكنه سيتعافى من ذلك إذا ارتاح بضعة أيام. وبعدئذ سيكون كل ما عليكم مواجهته هو نفاد صبره من البقاء في غرفته، الذي قد يكون ضروريا بضعة أسابيع.» «أوه، أنا في غاية السعادة! و... وممتنة بشدة لك يا سيد رينمارك!»
رد البروفيسور بحدة أذهلتها وجرحتها قائلا: «لم أفعل شيئا ... سوى ارتكاب أخطاء غبية.» «كيف يمكنك قول ذلك؟ لقد فعلت كل شيء. نحن مدينون لك بحياته.»
سكت رينمارك هنيهة. كان اتهامها الظالم الذي وجهته إليه في أول المساء قد ترك فيه جرحا غائرا، وكان يمني نفسه بأي تلميح منها لتبرئة ذمته. ولأنه كان ينتمي إلى الجنس الأغبى من البشر، لم يدرك أن تلك الكلمات قيلت في خضم حالة من الانفعال الشديد والقلق البالغ، وأن امرأة أخرى ربما كانت ستعبر عن حالتها النفسية بالإغماء بدلا من التحدث، وأن الواقعة كلها لم تترك أي أثر لها في ذاكرة مارجريت. ثم تحدث رينمارك أخيرا: «علي العودة إلى الخيمة، إن كانت لا تزال موجودة. أظن أني كنت على موعد مع ييتس منذ حوالي اثنتي عشرة ساعة، لكني نسيته ولم أتذكره سوى الآن. طابت ليلتك.»
وقفت مارجريت وحدها بضع لحظات، متسائلة عما فعلته لتضايقه هكذا. ظل يتعثر عبر الطريق المظلم، ولم يكترث كثيرا بالاتجاه الذي سلكه، لكنه سار تلقائيا في أقرب طريق إلى الخيمة. كان التعب وقلة النوم قد اشتدا عليه، وكانت قدماه كقالبين من الرصاص. ومع أنه كان مشوش الذهن، كان واعيا بوجع خفيف في المكان الذي يفترض أن فيه قلبه، ومنى نفسه وهو شارد بألا يكون قد تصرف بحماقة. ثم دخل الخيمة وفزعه صوت ييتس: «أهلا! أهلا! أهذا أنت يا ستوليكر؟» «لا، بل رينمارك. أأنت نائم؟» «أظنني كنت كذلك. الشيء الوحيد الذي أشعر به الآن هو الجوع. هل جلبت أي شيء يؤكل خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية ؟» «يوجد هنا جوال مليء بالبطاطس، حسبما أظن. فلم أقترب من الخيمة منذ الصباح الباكر.» «حسنا، ولكن لا تنتظر مني أن أشهد لك بأنك طاه بارع. لم أصل بعد إلى الجوع الشديد الذي يجعلني أتناول بطاطس نيئة. كم يمكن أن يكون الوقت الآن؟» «أنا واثق من أني لا أعرف.» «ويكأنني كنت نائما طوال أسابيع. إنني أحدث إصدار من قصة «ريب فان وينكل»، وأتوقع أن أجد شاربي رماديا في الصباح. كنت أرى ستوليكر في حلم جميل حين تعثرت قدماك بالفراش.» «ماذا فعلت به؟» «لست مستفيقا كفاية لأتذكر. أظنني قتلته، لكني لست متيقنا من ذلك. فالعديد من قراراتي الحكيمة تحيد عن مسارها وتبوء بالفشل؛ لذا من المرجح أن يكون حيا الآن. فلتؤجل سؤالك إلى الصباح. لم كنت تتسكع طوال الليل؟»
لم تأت أي إجابة. كان واضحا أن رينمارك قد غلبه النعاس.
تمتم ييتس بنعاس قائلا: «سوف أؤجل سؤالي إلى الصباح»، ثم حل الصمت على الخيمة.
الفصل الحادي والعشرون
رفض ييتس بكل إصرار التخلي عن سعيه إلى الراحة والهدوء بالرغم من مشقة العيش في خيمة مثقوبة وممزقة من كثرة الرصاصات التي اخترقتها. وأعرب عن ندمه على أنه لم يخيم من البداية في وسط برودواي، معتبرا إياه مكانا أهدأ وأقل اضطرابا من المكان الذي اختاره، ولكن أما وقد كان هذا اختياره، فقد قرر أن يبقى حتى النهاية. أما رينمارك، فكان قد ابتعد شيئا فشيئا عما ينبغي أن يكون عليه الرفيق. فكان صامتا ومتجهما مثل هيرام بارتليت نفسه تقريبا. وحين كان ييتس يحاول أن يسري عنه بأن يوضح له أن وضعه أفضل بكثير من وضع ييتس نفسه، عادة ما كان رينمارك ينهي الحديث بالخروج إلى الغابة.
كان ييتس يقول له: «كل ما عليك أن تفكر في وضعي. فها أنا ذا أموت عشقا في حب فتاتين جميلتين، وكلتاهما تنتظر مني مجرد كلمة. لقد كدت ألزم نفسي بالارتباط بإحداهما، وهذه الحقيقة تجعل رجلا بطباعي يميل بعض الشيء إلى الأخرى. ها أنا ذا متلهف بشدة إلى أن أعهد لك بأسراري ومشكلاتي، لكني أشعر بأنك قد تتشاجر معي كلما حدثتك عن تعقد موقفي. ليس لديك أي تعاطف معي يا ريني في الوقت الذي أحتاج فيه إلى التعاطف، في حين أنني أفيض تعاطفا معك وأنت لا تملك ذرة منه. والآن، ماذا كنت ستفعل لو كنت عالقا في ورطتي؟ إذا أخذت من وقتك خمس دقائق وأوضحت لي أيا من الفتاتين ينبغي أن أتزوج، فسيساعدني ذلك كثيرا؛ لأنني سأكون متيقنا حينئذ من الاستقرار على الأخرى. فالتردد هو ما يستنزف حيويتي استنزافا بطيئا لكنه مستمر.»
بحلول هذا الوقت، يكون رينمارك قد أنزل قبعته اللبادية اللينة على عينيه، ثم يتمتم بكلمات كانت لتصدر أصداء غريبة لو قيلت في القاعات الصامتة في مبنى الجامعة، ويغوص في أغوار الغابة. وعادة ما كان ييتس يراقب هيئة صديقه المبتعد عن الخيمة بتعجب طفيف ولكن دون غضب.
كان يقول متنهدا: «حسنا، إنه الأسوأ من بين كل الأشخاص غريبي الأطوار ذوي المزاج السيئ. من المحزن أن يرى المرء معبد الصداقة يتهدم من حوله هكذا.» وفي حديثهما الأخير من هذا النوع، قرر ييتس ألا يناقش المشكلة مرة أخرى مع البروفيسور، ما لم تحدث أزمة. وقد حدثت الأزمة متجسدة في صورة ستوليكر، الذي جاء إلى ييتس حين كان ذلك الأخير مستلقيا في الأرجوحة الشبكية يدخن ويستمتع برواية رومانسية مثيرة. كان العديد من هذه الكتب الأخاذة ذات الأغلفة الورقية متناثرا على أرض المخيم، وكان ييتس قد قرأ الكثير منها على أمل أن يصادف حالة مشابهة لحالته، لكنه لم ينل مبتغاه حتى وقت مجيء ستوليكر. «مرحبا يا ستوليكر! كيف الأحوال؟ أتحمل الأصفاد في جيبك؟ هل تريد أن تذهب في جولة أخرى معي عبر البلدة؟» «لا. بل جئت لأحذرك. ستصدر مذكرة رسمية باعتقالك غدا أو بعد غد، ولو كنت مكانك، لانتقلت إلى الجانب الآخر من الحدود، ولكن يجب ألا تقول أبدا إنني أخبرتك بذلك. بالطبع إذا سلموني المذكرة فسأضطر إلى اعتقالك، ومع أنك قد لا يطالك أي ضرر في نهاية المطاف، فما زال البلد في حالة اضطراب، وقد تتعرض لبعض المضايقة على الأقل.»
صاح ييتس وهو يقفز من الأرجوحة: «ستوليكر، أنت رجل نقي السريرة! إنك شخص طيب يا ستوليكر، وأنا في غاية الامتنان لك. إذا أتيت يوما إلى نيويورك، فلتزرني في مكتب «أرجوس» - أي شخص سيرشدك إلى مكانه - وسوف أمنحك أمتع وقت ستقضيه في حياتك. ومن دون أن يكلفك ذلك سنتا واحدا أيضا.»
قال الشرطي: «حسنا. والآن، لو كنت مكانك، لغادرت غدا على أقصى تقدير.»
قال ييتس: «سأفعل.»
ثم غادر ستوليكر إلى أن اختفى بهدوء وسط الأشجار، وفكر ييتس لحظة ثم شرع بهمة في حزم أمتعته. حل عليه الظلام قبل أن ينتهي، وعاد رينمارك.
صاح المراسل بابتهاج قائلا: «ستيلي، ستصدر مذكرة رسمية باعتقالي. يجب أن أرحل غدا على أقصى تقدير!»
صاح صديقه مذعورا وقد انتابه تأنيب الضمير حين حانت لحظة الفراق؛ لأنه لم يكن لطيفا مع رفيقه القديم: «ماذا! إلى السجن؟». «لا، على حد علمي. بل إلى بافالو، التي لا تختلف كثيرا عن السجن. ومع ذلك، حمدا للرب على أنني لن أضطر إلى المكوث هناك طويلا. سأذهب إلى نيويورك قبل مرور عدة أيام أخرى من عمري. أتوق إلى الغوص بكل ما أوتيت من همة في غمار ميدان العمل مرة أخرى. فالطمأنينة الساكنة الهادئة التي غمرتني بها هذه الإجازة كلها جعلتني أشتاق إلى الإثارة مجددا، ويسعدني أن مذكرة الاعتقال قد دفعت بي في خضم الاضطرابات.» «حسنا يا ريتشارد، يؤسفني اضطرارك إلى الرحيل في مثل هذه الظروف. ويؤسفني أنني لم أكن رفيقا حسن المعشر كالذي كنت تستحقه.» «أوه، أنت شخص جيد يا ريني. مشكلتك الوحيدة أنك رسمت دائرة صغيرة حول جامعة تورنتو، وقلت لنفسك: «هذا هو العالم.» لكنها ليست كذلك، كما تعلم. توجد أشياء جديرة بالاهتمام خارج كل هذه الدائرة.» «لا شك أن كل شخص لديه دائرته الصغيرة. ودائرتك مرسومة حول مكتب «أرجوس».» «نعم، ولكن توجد أسلاك خاصة ممتدة من هذه الدائرة الصغيرة إلى بقية أنحاء العالم، وسيمتد منها كابل عبر المحيط الأطلسي قريبا.» «لا أعتقد أن دائرتي كبيرة كدائرتك، ومع ذلك توجد أشياء جديرة بالاهتمام خارج نيويورك نفسها حتى.» «بالتأكيد، والآن، وقد صرت أكثر تعاطفا معي، هذا ما أريد أن أحدثك عنه. هاتان الفتاتان خارج دائرتي الصغيرة، وأريد ضم إحداهما إليها. والآن يا رينمارك، أي الفتاتين كنت ستختار لو كنت مكاني؟»
أخذ االبروفيسور شهيقا حادا، وسكت لحظة. ثم قال أخيرا متحدثا ببطء: «يؤسفني يا سيد ييتس أنك لا تقدر وجهة نظري تماما. ولأنك ربما تظن أني قد تصرفت بطريقة غير ودية، فسأحاول للمرة الأولى والأخيرة شرح ذلك. أعتقد أن أي رجل يتزوج امرأة صالحة ينال بذلك أكثر مما يستحق، بصرف النظر عن مدى جدارته. فأنا أكن احتراما عميقا لكل النساء، وأرى أن حديثك باستخفاف عن الاختيار بين اثنتين إهانة لكلتيهما. أرى أن كلتيهما أفضل بكثير مما تستحق، أو ما أستحقه أنا أيضا.» «أوه، أترى ذلك حقا؟ ربما تظن أنك ستكون زوجا أفضل مني بكثير. إذا كان الأمر كذلك، فاسمح لي بأن أخبرك بأنك مخطئ تماما. فإذا كانت زوجتك حساسة، فستقتلها بنوبات تجهمك وكآبتك. أما أنا، فلن أنصرف إلى الغابة وألتزم الصمت الكئيب، على أي حال.» «إذا كنت تقصدني، فسأزيدك من الشعر بيتا وأقول لك إنني كنت مضطرا إما إلى الانصراف إلى الغابة أو طرحك أرضا. لقد اخترت أخف الضررين.» «أتعتقد أنك كنت تقدر على ذلك حقا؟ أنت مغرور يا ريني. لست أول رجل يرتكب خطأ كهذا ويكتشف أنه اختار الشخص الخطأ بعدما يفوت أوان حصوله على أي شيء عدا الضمادات ومسكن الآلام.» «كنت أحاول أن أوضح لك ماهية شعوري حيال هذه المسألة. ربما كان علي أن أدرك أني لن أنجح في ذلك. سننهي النقاش إذا سمحت.» «أوه لا. لقد بدأ النقاش للتو. والآن، سأخبرك بما تحتاج إليه يا ريني. أنت في أمس الحاجة من أي رجل أعرفه إلى زوجة صالحة راشدة. لم يفت أوان إنقاذك بعد، لكنه سيفوت قريبا. ستنمو عليك، عما قريب، قشرة كالحلزون أو السلطعون أو أي حيوان آخر من ذوات الدم البارد التي لديها صدفة تحيط بها. وحينئذ لن يكون ثمة شيء يمكن فعله لإنقاذك. والآن، دعني أنقذك يا ريني قبل فوات الأوان. هاك اقتراحي: اختر واحدة من هاتين الفتاتين وتزوجها. وسآخذ أنا الأخرى. وهذا لا يعني أني أوثرك على نفسي كما قد يبدو؛ لأن اختيارك سيوفر علي حيرة حسم قراري بنفسي. وحسب كلامك، فكلتا الفتاتين أفضل مما تستحق، ولأول مرة أتفق معك تماما. ولكن دعنا نتجاهل ذلك. والآن، أيهما ستختار؟» «سحقا يا رجل! أتظن أني سأعقد معك صفقة على زوجتي المستقبلية؟» «نعم يا ريني. أحب سماعك تتفوه بألفاظ نابية. فهذا يظهر أنك لست الخلوق المتزمت الذي تريد من الناس أن يعتقدوك إياه. ما زال الأمل في إنقاذك قائما أيها البروفيسور. والآن، سأذهب معك إلى أبعد من ذلك. مع أنني لا أستطيع الاستقرار على الفتاة الأنسب لي، أستطيع تحديد الفتاة الأنسب لك فورا، وبذلك نضرب عصفورين بحجر واحد. أنت تحتاج إلى زوجة تطويك تحت جناحها. تحتاج إلى زوجة لا تتحمل نوبات غضبك، وتكون مرحة، وتجعل منك رجلا. إذن، كيتي بارتليت هي الفتاة الأنسب. ستفرض سيطرتها عليك كما تسيطر أمها على الرجل العجوز. ستجعل البيت مثاليا، وتسعد بإعداد ألذ المأكولات لك. عجبا، لقد صار كل شيء واضحا تماما. وهذا يبين فائدة مناقشة أي شيء. تزوج كيتي، وسأتزوج أنا مارجريت. هيا، لنتصافح بمناسبة اتفاقنا على هذا.» رفع ييتس يده اليمنى استعدادا لصفعها على راحة يد البروفيسور، لكنه لم يتجاوب معه. فأنزل ييتس يده إلى جواره مرة أخرى، لكنه لم يفقد حماسه لاقتراحه. فكلما فكر فيه، بدا له أنسب. «مارجريت فتاة راشدة هادئة رزينة؛ لذا ستكون الزوجة الأنسب لي لو كنت شخصا تافها كما تقول. في شخصيتي أعماق لم تخطر ببالك يا رينماك.» «أوه، أنت عميق.» «أعترف بذلك. حسنا، من المؤكد أن امرأة طيبة متزنة ستخرج أفضل ما بداخلي. والآن، ما قولك يا ريني؟» «لا أقول شيئا. سأنصرف إلى الغابة مرة أخرى، مع أنها صارت مظلمة.»
قال ييتس متنهدا: «أوه، حسنا، من المستحيل فعل شيء معك أو من أجلك. لقد بذلت كل ما بوسعي، وهذا عزائي الوحيد. لا تذهب. سأترك القدر يقرر. حان وقت إجراء قرعة بالعملة المعدنية.»
سحب ييتس نصف دولار فضي من جيبه. ثم صاح قائلا: «إذا ظهر الوجه ذو الصورة، فسأختار مارجريت!» فقبض رينمارك يده وتقدم خطوة ليضربه، ثم كبح جماح نفسه متذكرا أن هذه هي آخر ليلة له مع الرجل الذي كان صديقه يوما ما على الأقل.
أدار ييتس العملة في الهواء بابتهاج، ثم أمسكها بيد واحدة وصفع اليد الأخرى عليها. «والآن، حانت لحظة التحول في حياة كائنين بريئين.» رفع اليد التي كانت تغطي العملة، وحدق إليها في الظلام المتزايد. «الوجه ذو الصورة. ستصبح مارجريت هوارد السيدة ريتشارد ييتس. فلتهنئني يا بروفيسور.»
وقف رينمارك بلا حراك كتمثال، مجسدا مثالا عمليا لرباطة الجأش. فيما اعتمر ييتس قبعته بمزيد من المرح، ووضع في جيب بنطاله العملة المعدنية الفارقة في مصيره.
ثم قال: «وداعا أيها العجوز. سألقاك لاحقا وأخبرك بكل التفاصيل.»
ومن دون أن ينتظر ييتس الجواب؛ لأنه ربما كان يعلم أن لا جدوى من التأخر، سار نحو السياج وقفز من فوقه واضعا إحدى يديه على العارضة العلوية. أما رينمارك، فوقف ساكنا بضع دقائق، ثم جمع بعض الشجيرات السفلية والعصي الكبيرة والصغيرة في صمت، وأضرم بعض النيران وجلس أمامها على جذع شجرة مقطوع دافنا رأسه بين يديه.
الفصل الثاني والعشرون
سار ييتس مبتهجا على الطريق وهو يصفر لحن أغنية «لمس جيتاره ببهجة.» ربما لا توجد لحظة في حياة الرجل يكون فيها أعمق شعورا ببهجة الحياة من اللحظة التي يذهب فيها إلى فتاة لعرض الزواج عليها وهو متيقن بدرجة كبيرة من موافقتها، إلا إذا كان في هذه اللحظة يهجر حبيبة أخرى مقبولة لقلبه. كان شيء من السحر كامنا في تلك الليلة، التي كانت واحدة من ليالي يونيو، بظلامها الناعم المخملي وهوائها اللطيف العذب المحمل بعطور الغابة والحقل. وقد ألقى سحر تلك الساعة تعويذته الفاتنة على الشاب، فقرر أن يحيا حياة أفضل، وأن يكون جديرا بالفتاة التي اختارها ، أو التي اختارها له القدر بالأحرى. توقف لحظة متكئا على السياج بالقرب من ضيعة آل هوارد؛ لأنه لم يكن قد استقر على تفاصيل اللقاء في قرارة ذهنه بعد. قرر ألا يدخل؛ لأنه كان يعلم أنه سيضطر حينئذ إلى التحدث، ربما لساعات، إلى الجميع باستثناء الفتاة التي كان يبتغي لقاءها. وإذا أعلن مجيئه وطلب لقاء مارجريت وحدها، كان بذلك سيحرجها وهما لا يزالان في البداية. كان ييتس بطبيعته أكثر لباقة من أن يستهل حواره معها ببداية خرقاء كهذه. وبينما كان يقف هناك، ممنيا نفسه بمصادفة تخرجها من البيت، ظهر ضوء في النافذة البابية للغرفة التي كان يعرف أن الفتى الذي يتماثل للشفاء راقد فيها. وشكل ظل مارجريت خيالا على الستارة. فالتقط ييتس حفنة من الرمل ورماها برفق على لوح النافذة الزجاجي. من الواضح أن صوت طقطقة الرمال الخافت قد جذب انتباه الفتاة؛ لأن النافذة فتحت بحرص، بعد سكوت لحظي، وخرجت منها مارجريت بسرعة وأغلقتها ثم وقفت هناك في هدوء تام.
قال ييتس هامسا بصوت مسموع بالكاد: «مارجريت.»
فتقدمت الفتاة نحو السياج.
وهمست بدورها قائلة: «أهذا أنت؟» بتشديد على الكلمة الأخيرة أثار ييتس. فقد بدا أن هذا التشديد يقول بوضوح تماما كالكلام إن هذه الكلمة تشير إلى حبيبها الوحيد على وجه الأرض.
فأجاب ييتس وهو يقفز من فوق السياج ويدنو منها: «نعم.»
صاحت مارجريت وهي تنتفض متراجعة: «أوه!» ثم تمالكت نفسها وقالت بسكتة لحظية في كلامها: «لقد ... لقد أفزعتني ... يا سيد ييتس.» «لا تناديني بالسيد ييتس بعد الآن يا مارجريت، بل قولي ديك. مارجريت، لقد أردت لقاءك على انفراد. وتعرفين سبب مجيئي.» حاول الإمساك بيديها، لكنها وضعتهما خلفها بإصرار، وبدا أنها تريد الانصراف وإن ظلت واقفة في مكانها. «مارجريت، لا شك أنك ترين حالي منذ فترة طويلة. أنا أحبك يا مارجريت، بكل إخلاص وصدق. ويكأنني كنت أحبك طوال حياتي. من المؤكد أني أحببتك منذ أول يوم رأيتك فيه.» «أوه، سيد ييتس، يجب ألا تحادثني هكذا.» «وأنى لي بطريقة أخرى أحادثك بها يا حبيبتي؟ من المستحيل أن يكون ذلك قد فاجأك يا مارجريت. فلا بد أنك تعرفينه منذ وقت طويل.» «لم أكن أعرف، بالطبع لم أكن أعرف ... إذا كنت جادا فيما تقول حقا.» «جادا في ذلك؟ لم أكن جادا في أي شيء قط كجديتي في ذلك. فذلك كل ما أبتغيه، ولا يهمني شيء سواه. أعترف بأنني تسكعت كثيرا في أرجاء العالم وخضت تجارب عديدة، لكني لم أقع في الحب من قبل، ولم أعرف معنى الحب قط إلى أن التقيتك. صدقيني إن ...» «من فضلك، من فضلك، لا تقل أي شيء آخر يا سيد ييتس. إذا كان ذلك صحيحا حقا، فلا أستطيع أن أخبرك بمدى أسفي. أرجو ألا يكون شيء مما قلت أو فعلت قد جعلك تعتقد أن ... أن ... أوه، لا أعرف ماذا أقول! لم أظن قط أنك من الممكن أن تأخذ أي شيء على محمل الجد.» «مستحيل أن تكوني قد أسأت الظن بي إلى هذا الحد يا مارجريت. لقد أساءه الآخرون، لكني لم أتوقع ذلك منك. أنت أفضل مني بكثير. ولا أحد يعرف ذلك جيدا كما أعرفه. لا أدعي أني جدير بك، لكني سأكون زوجا مخلصا لك.» وأردف ييتس بجدية منتحلا كلام رينمارك: «صحيح أن أي رجل يحظى بحب امرأة صالحة ينال بذلك أكثر مما يستحق، ولكن المؤكد أني لا أمنحك حبا كحبي لمجرد أن تدوسيه تحت قدميك بازدراء.» «لا أعامل حب... لا أعاملك بازدراء. كل ما أشعر به هو الأسف إذا كان كلامك حقيقيا.» «لماذا تقولين إذا كان حقيقيا؟ ألا تعرفين أنه حقيقي.» «إذن، فأنا آسفة جدا ... آسفة جدا جدا، وأرجو ألا يكون لي ذنب في ذلك. لكنك ستنساني قريبا. حين تعود إلى نيويورك ...»
قال الشاب بمرارة: «مارجريت، لن أنساك أبدا. فكري فيما تفعلينه قبل فوات الأوان. فكري في مدى أهمية ذلك لي ومدى تأثري به. إذا استقررت في النهاية على رفضي، فستدمرين حياتي. فأنا من الرجال الذين يمكن لامرأة أن تصلح حياتهم أو تفسدها. لذا أتوسل إليك ألا تفسدي حياة الرجل الذي يحبك.»
صاحت مارجريت بغضب مفاجئ قائلة: «لست مبعوثة في مهمة دينية. وإذا دمرت حياتك، فسيكون ذلك بسبب حماقتك، وليس بسبب أي من أفعالي. أرى أن قولك إني من سأتحمل مسئولية ذلك جبن منك. لا أريد التأثير في مستقبلك بطريقة أو بأخرى.»
سألها ييتس بعتاب رقيق: «ليس إلى الأبد يا مارجريت؟». «لا، بل إلى الأبد. فالرجل الذي يعتمد سلوكه الجيد أو السيئ على أي أحد سواه ليس هو الرجل المثالي الذي أتمناه.» «فلتخبريني إذن بسمات الرجل الذي تتمنين إياه، لعلني أحاول اكتسابها.»
التزمت مارجريت الصمت. «أتظنين أن محاولاتي لن تنفعني بشيء؟» «في رأيي، نعم.» «أريد أن أسألك سؤالا آخر يا مارجريت. ليس من حقي أن أسأله، لكني أتوسل إليك أن تجيبيني. أأنت واقعة في حب شخص آخر؟»
صاحت مارجريت بانفعال غاضب قائلة: «لا! كيف تجرؤ على أن تسألني سؤالا كهذا.» «أوه، هذه ليست جريمة؛ أقصد أن الوقوع في حب شخص آخر ليس كذلك. سأخبرك بالسبب الذي جرأني على هذا السؤال. أقسم بكل الآلهة أني سأفوز بك، إن لم يكن في العام الحالي، فسيكون في العام القادم إذن، وإن لم يكن القادم، فالذي يليه. لقد كان جبنا مني أن أقول ما قلته، لكني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك آنذاك حتى. وكل ما أريد معرفته أنك لا تحبين رجلا آخر.» «أرى أنك شديد القسوة في إلحاحك هكذا، في حين أنك قد عرفت الإجابة. لقد قلت لا. كلا ألبتة! أبدا! ... لا العام الحالي ولا أي عام آخر. ألا يكفي ذلك؟» «لا يكفيني. فكلمة «لا» من المرأة قد تعني «نعم» في النهاية.»
أجابت مارجريت وهي تنصب قامتها كأنها تهم بأداء غطسة أخيرة: «هذا صحيح يا سيد ييتس. هل تتذكر السؤال الذي سألته لي الآن؟ عما إذا كنت معجبة بشخص آخر؟ لقد قلت «لا». تلك ال «لا» كانت تعني «نعم».»
كان يقف بينها وبين النافذة؛ لذا لم تستطع الهرب بالطريقة التي جاءت بها. رأى أنها تفكر في الهرب، وبدا كأنه سيعترضها، لكنها كانت أسرع من رد فعله. ركضت حول المنزل، ثم سمع بابا يفتح ويغلق.
عرف أن مسعاه قد خاب. فاستدار في إحباط نحو السياج، وتسلقه ببطء من حيث قفز من فوقه بخفة شديدة قبل بضع دقائق، وسار على الطريق لاعنا قسمته ونصيبه. ومع أنه اعترف لها بأن كلامه عن تحطم حياته كان جبنا منه، فقد عرف في هذه اللحظة أن كل كلمة قالها كانت صحيحة. فما الذي يحمله المستقبل له؟ ولا حتى حافز للعيش. وجد نفسه يسير صوب الخيمة، لكنه لم يكن يريد لقاء رينمارك بحالته النفسية الحالية، فاستدار وخرج إلى طريق ريدج. كان متعبا ومحطما، وقرر البقاء في المخيم إلى أن يعتقلوه. لعلها تشفق عليه بعض الشيء حينئذ. من ذاك الرجل الآخر الذي تحبه؟ أم إنها قالت ذلك لمجرد أن تجعل رفضها نهائيا؟ وفي ظل حالة ييتس النفسية آنذاك، افترض الأسوأ، وتخيلها زوجة لأحد المزارعين من جيرانهم ... وربما ستوليكر حتى. قال لنفسه إن هؤلاء الفتيات الريفيات لم يؤمن قط بأن الرجل يستحق الإعجاب إلا إذا كان يملك مزرعة. فعزم في قرارة نفسه على أن يدخر أمواله ويشتري أراضي الحي كله، وحينئذ ستدرك أي رجل قد أضاعت من يديها. تسلق السياج ذا العوارض الأفقية المحاذي للطريق، وجلس على العارضة العلوية ساندا كعبيه على عارضة سفلية، كي يتسنى له الاستمتاع ببؤسه دون تعب المشي. تصور نفسه في خياله الخصب وقد صار يملك مساحة كبيرة من ذلك الجزء من البلاد في غضون سنوات قليلة، مع امتلاك رهون عقارية على جزء كبير من المساحة المتبقية، يشمل المزرعة المملوكة لزوج مارجريت. تصورها الآن وهي زوجة مزارع ذابلة تأتي إليه متوسلة أن يمد مهلة سداد الدين الذي تبلغ فائدته سبعة في المائة. كان يعرف أنه سيتصرف بشهامة في موقف كهذا، ويوافق بسمو مبهر على منح زوجها كل الوقت المطلوب. لعلها تدرك حينئذ الخطأ الذي ارتكبته. أو ربما ستكون الشهرة سبيله وليس الثروة. سوف يرن اسمه في كل أرجاء البلاد. فربما يصبح سياسيا بارزا، ويفلس كندا بقانون تعريفة جمركية صارم . لم يخطر بباله في هذه اللحظة ظلم تعريض كل الأبرياء للمعاناة بسبب تصرف طائش من فتاة منهم؛ لأنه كان مهانا وجريحا. لا مرارة أشد من تلك التي تظل تفتك برجل رفضته الفتاة التي يعشقها ما دامت قائمة. هامت عيناه ناحية الكتلة السوداء التي شكلها بيت آل هوارد. كان البيت مظلما كأفكاره. ثم التفت ببطء ورأى وميضا خافتا على الطريق من ضوء مرتعش صادر من نافذة غرفة الجلوس في بيت آل بارتليت، فبدا له ذلك بارقة من الأمل. ومع أنه شعر بأن الزمن قد توقف بعد ما حدث، كان مقتنعا بأن الوقت ليس متأخرا للغاية، وإلا لذهب آل بارتليت للنوم. من الصعب دائما على المرء إدراك أن أبشع الكوارث عادة ما تنتهي في بضع دقائق. بدا وكأن دهرا قد انقضى منذ أن غادر الخيمة مفعما بالتفاؤل. وحين نظر إلى الضوء، خطر بباله أن كيتي ربما تكون وحدها في غرفة الجلوس. على الأقل ما كانت لتعامله بمثل ذلك السوء الذي عاملته به الفتاة الأخرى، و... وكانت حسناء أيضا بالمناسبة. فطالما كان يفضل الشقراوات على السمراوات.
لا يعد السياج ذو العوارض الأفقية مقعدا مريحا. بل يستخدم في بعض أجزاء البلدة ليرسخ لدى الجالس عليه حقيقة ما يسببه من مشقة شديدة، وليكون تلميحا لطيفا إلى أن وجود هذا الجالس في هذا الجوار الملاصق غير مرغوب فيه. فطن ييتس إلى ذلك بابتسامة وهو ينزل منزلقا من على السياج ويتعثر في مصرف المياه المحاذي للطريق. كان باله منشغلا جدا إلى حد أنساه المصرف تماما. وبينما كان يسير على الطريق نحو بارقة الأمل التي أرشدته وسط التيه، تذكر أنه قد تهور وعرض كيتي على البروفيسور القاسي القلب. ولكن في كل الأحوال، لم يكن أحد يعرف بالواقعة التي حدثت قبل لحظات إلا هو ومارجريت، وكان على قناعة بأن مارجريت ليست بالفتاة التي تتباهى بالرجال الذين استحوذت على قلوبهم. وعلى أي حال، لم يكن ما حدث مهما. فالرجل سيد نفسه بالطبع.
حين دنا من النافذة، نظر إلى الداخل. فمن عادة أهل الريف أنهم لا يهتمون كثيرا بإسدال أستار نوافذهم. اعتراه بعض الإحباط حين رأى السيدة بارتليت جالسة هناك تحيك باجتهادها المعتاد. ومع ذلك، كان عزاؤه أنه لم يلاحظ وجود أي من رجال الأسرة، وأن كيتي كانت جالسة وشعرها المنفوش يغطي نصف وجهها وهي تقرأ كتابا كان قد أعارها إياه. طرق الباب، وفتحته السيدة بارتليت بشيء من الدهشة. «يا إلهي! أهذا أنت يا سيد ييتس؟» «نعم.» «تفضل بالدخول. عجبا، ما خطبك؟ تبدو وكأنك قد فقدت أعز أصدقائك. آه، فهمت الأمر» - وهنا انتفض ييتس من القلق - «لقد نفد زادك، ومن المؤكد أنك جائع كالدب.» «لقد أصبت عين الحقيقة من المحاولة الأولى يا سيدة بارتليت. جئت لأرى إن كان بإمكاني استعارة رغيف خبز. فنحن لن نخبز قبل الغد.»
ضحكت السيدة بارتليت. «سيكون خبزكما طيبا إذا جربتماه. سأحضر لك رغيفا في الحال. أأنت متيقن من أن واحدا سيكفي؟» «سيكفي وزيادة، شكرا لك.»
خرجت المرأة الطيبة مسرعة إلى الغرفة الأخرى لإحضار الرغيف، واستغل ييتس غيابها المؤقت.
همس قائلا: «كيتي، أريد لقاءك على انفراد بضع دقائق. سأنتظرك عند البوابة. هل بوسعك التسلل إلى الخارج؟»
احمر وجه كيتي بشدة من الخجل، وأومأت بالإيجاب. «لديهم مذكرة رسمية باعتقالي، وسأرحل غدا قبل أن يستطيعوا تنفيذها. لكني لم أستطع الرحيل دون لقائك. سوف تأتين بالتأكيد، أليس كذلك؟»
أومأت كيتي بالإيجاب مجددا بعدما نظرت إليه بقلق حين تحدث عن مذكرة الاعتقال. وقبل أن يقال أي شيء آخر، دخلت السيدة بارتليت واستغرقت كيتي في كتابها. «ألن تأكل شيئا الآن قبل أن تعود؟» «أوه، لا، شكرا لك يا سيدة بارتليت. كما ترين، فالبروفيسور ينتظرني.» «دعه ينتظر، إذا لم يكن حكيما كفاية ليأتي.» «ليس كذلك بالفعل. لقد عرضت عليه الفرصة.» «لن يستغرق منا إعداد الطاولة دقيقة واحدة. إنه أمر بسيط للغاية.» «أنت في غاية اللطف حقا يا سيدة بارتليت. لكني لست جائعا الآن على الإطلاق. أنا منشغل فقط بالتفكير في يوم الغد. لا، علي الذهاب، وشكرا جزيلا لك.»
قالت السيدة بارتليت وهي توصله إلى الباب: «حسنا، إذا أردت أي شيء، تعال إلي وسأعطيك إياه إذا كان موجودا في البيت.»
قال الشاب بشعور صادق: «أنت تعاملينني بطيبة بالغة، ولا أستحق ذلك، لكني قد أذكرك بوعدك غدا.»
ردت قائلة: «فلتحرص على ذلك. طابت ليلتك.»
انتظر ييتس عند البوابة ووضع الرغيف على عمودها، حيث نسيه، ما أدهش السيدة بارتليت بشدة في الصباح. لم يضطر إلى الانتظار طويلا؛ إذ جاءته كيتي من حول المنزل تمشي في خجل وتردد، كما لو كانت على وشك الإتيان بأخبث فعلة منذ بدء الخلق. فسارع ييتس ليلقاها ممسكا بإحدى يديها دون أن تبدي أي مقاومة.
استهل الكلام قائلا: «يجب أن أرحل غدا.»
ردت كيتي بصوت هامس: «أنا حزينة جدا.» «آه، لا يضاهي حزنك نصف حزني يا كيتي. لكني أنوي العودة، إذا سمحت لي بذلك. كيتي، هل تتذكرين الحوار الذي دار بيننا في المطبخ، حين كنا ... حين قوطعنا، وحين اضطررت إلى الرحيل مع صديقنا ستوليكر؟»
أشارت كيتي إلى أنها تتذكر ذلك. «حسنا، تعرفين بالطبع ما أردت قوله له آنذاك. وبالطبع تعرفين ما أريد قوله لك الآن.»
ولكن بدا أنه كان واهما بشأن ذلك؛ لأن كيتي لم يكن لديها أدنى فكرة، وأرادت دخول البيت لأن الوقت كان متأخرا ولأن أمها ستلاحظ غيابها. «كيتي، يا عزيزتي المخادعة الصغيرة، تعرفين أني أحبك. لا بد أنك تعرفين أني أهيم بك حبا منذ أول يوم رأيتك فيه، حين ضحكت علي. كيتي، أود أن تتزوجيني وتجعلين مني إنسانا ذا قيمة، إذا كان ذلك ممكنا. فأنا رجل تافه بلا قيمة، ولست جديرا على الإطلاق بفتاة صغيرة محبوبة مثلك، ولكن يا كيتي، إذا قلت «نعم» فقط، فسأحاول، بل وسأبذل كل ما بوسعي، لأكون إنسانا أفضل مما كنت عليه طوال حياتي.»
لم تقل كيتي «نعم»، لكنها وضعت يدها الطليقة التي كانت دافئة وناعمة على يده، وكان ييتس رجلا يعرف جيدا ما ينبغي فعله تاليا في مثل هذه المواقف. قد يرى الأشخاص العمليون أن ذلك شيء مذهل؛ لأنهم يعتقدون أن لا داعي إلى إطالة اللقاء ما دام الغرض المرجو منه قد تحقق، ومع ذلك بقي الاثنان هناك، وروى لها الكثير عن حياته الماضية، وعن مدى ما كان عليه من وحدة وحقارة خلالها لأنه كان بلا أنيس يعتني به، فاغرورقت عيناها الجميلتان بالدموع. شعرت بالفخر والسعادة لاعتقادها بأنها فازت بأول حب عظيم في حياة رجل موهوب بارع، وتمنت أن تسعده، وبقدر يعوض فراغه العاطفي فيما مضى من حياته. ورجت من أعماق قلبها أن يظل مغرما بها دائما كما كان آنذاك، وعقدت العزم على أن تكون جديرة به إن استطاعت.
ومن الغريب القول إن رغباتها قد تحققت وزيادة، وإن قلة من الزوجات يعشن في سعادة أو فخر بأزواجهن كسعادة كيتي ييتس بزوجها أو فخرها به. وحتى المرأة الوحيدة التي ربما كان بإمكانها أن تعكر صفو حياة كيتي، اكتفت بتقبيلها قبلة حانية حين أخبرتها بالبهجة العظيمة التي حلت بها، والقول إنها كانت على يقين من أن كيتي ستعيش سعيدة معه، وهكذا قالت مارجريت للمرة الثانية شيئا عكس شعورها، لكنها كانت مخطئة في مخاوفها لأول مرة.
سار ييتس إلى الخيمة مفعما بالمجد، تاركا رغيفه خلفه على عمود البوابة. لا يدرك سوى قلة من الناس أن سعادة المرء حين يحب تكاد تضاهي سعادته حين يحب. والفعل «يحب» يقترن بأشياء كثيرة. لم تكن الأرض التي يدوسها تشبه أي أرض سار عليها من قبل. ولم يكن سحر ليل يونيو بهذا السحر من قبل. سار بخطى واسعة فيما كان رأسه يحلق بأفكاره وسط السحب، واعتنت به العناية الإلهية التي ترعى السكارى، وضمنت أن الحبيبة المقبولة لم تتأذ. قفز من فوق السياج دون أن يستند إليه بيده حتى، وبعدئذ سرعان ما هبط إلى أرض الواقع مجددا برؤية منظر رجل يجلس دافنا رأسه بين يديه بجوار نيران أوشكت على الانطفاء.
الفصل الثالث والعشرون
وقف ييتس لحظة متأملا حالة صديقه المحبطة.
صاح قائلا: «أيا أيها الرجل العجوز! لم أر في حياتي من هو أشبه بالمتشائم الذي يشعر باقتراب أجله مثلك. ما الخطب؟»
رفع رينمارك ناظريه نحوه. «أوه، أهذا أنت حقا؟» «بالطبع. أكنت تتوقع مجيء أي شخص آخر؟» «لا. بل كنت أنتظرك، وأفكر في عدة أمور مختلفة.» «تبدو كذلك. حسنا يا ريني، فلتهنئني يا فتاي. لقد صارت لي وصرت لها، وهذان تعبيران مختلفان عن الحقيقة المبهجة نفسها. أكاد أحلق في السماء من السعادة يا ريني. لقد خطبت أجمل وأحلى وألذ فتاة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. ما قولك في ذلك؟ أظن يا رينمارك، أن لا شيء على وجه الأرض يضاهي ذلك. يجب أن تصلح من نفسك وتقدم على الاستمتاع بالوقوع في الحب. سيجعل منك رجلا. فحتى نشوة الشمبانيا لا تقارن بنشوته. هيا انهض وارقص، ولا تقعد هناك مثل دب يداوي يده المتألمة. هل تعي أني سأتزوج أحب فتاة في الدنيا؟» «فليعنها الرب!» «هذا ما أقوله أنا أيضا. فليباركها الرب في كل يوم من حياتها! لكني لا أقوله بهذه النبرة إطلاقا يا رينمارك. ما خطبك؟ قد يظن المرء أنك واقع في حب الفتاة نفسها، لو كان شيء كهذا ممكنا.» «ولم لا يكون ممكنا؟» «إن كانت هذه أحجية، أستطيع حلها من أول مرة. لأنك تقليدي متحجر عفا عليه الزمن. أنت أشد فضيلة مما ينبغي يا ريني، لذا فأنت رتيب وممل. والآن، لا شيء أحب إلى المرأة من إصلاح رجل. لذا دائما ما تنزعج المرأة حين تعرف أن الرجل الذي تعجب به له ماض لا تستطيع أن تفعل شيئا حياله. أما إذا كان خبيثا وكان بوسعها أن تغيره تغييرا جذريا نوعا ما، كأنه ثوب قديم، فإنها تستمتع بهذه العملية. وتفتخر بنفسها إيمانا منها بأنها تصنع منه رجلا جديدا، وتظن أنها تملك هذا الرجل الجديد بحق صنعه. نحن مدينون للجنس الآخر يا ريني بإعطائهن فرصة لإصلاحنا. لقد كنت أعرف رجالا كانوا يكرهون التبغ لكنهم بدءوا التدخين لمجرد أن يقلعوا عنه بسعادة غامرة من أجل النسوة اللواتي أحبوهن. أما لو كان الرجل مثاليا من البداية، فما الذي تستطيع امرأة ملائكية خدومة عزيزة أن تفعله معه؟ لا شيء بالطبع. ومشكلتك يا ريني أنك محكوم بضمير يقظ ومدرب جيدا، وكل النساء اللواتي تلتقيهن يلاحظن ذلك بديهيا بطبيعة الحال، فينفرن منك. فقليل من الخبث من شأنه أن يحدث فارقا إيجابيا في شخصيتك.» «إذن أنت ترى أن الرجل، إذا أوعزت إليه نزعته بفعل شيء مناف لمبادئ ضميره، عليه أن يتبع نزعته وليس ضميره؟» «أنت تصوغ المسألة بجدية لا داعي لها. أعتقد أن إطلاق الرجل العنان لرغباته بين الحين والآخر مفيد له. ولكن إذا راودتك أي نزعة من هذا النوع، أرى أنك ينبغي أن ترضخ لها مرة، وترى الشعور الذي سيبثه ذلك في نفسك. فالرجل الأشد فضيلة مما ينبغي يغتر بنفسه.»
قال البروفيسور وهو يقوم: «أظنك محقا بعض الشيء يا سيد ييتس. سأعمل بنصيحتك، وأرى الشعور الذي سيبثه ذلك في نفسي، على حد قولك. فضميري يخبرني بأني ينبغي أن أهنئك وأتمنى لك حياة طويلة سعيدة مع الفتاة التي ... لن أقول اخترتها، ولكن أجريت قرعة بالعملة المعدنية للاستقرار عليها. ولكن على الجانب الآخر، تحثني نزعتي الطبيعية على تكسير كل عظمة في جسدك العديم القيمة. اخلع معطفك يا ييتس.» «أوه، بالمناسبة، أنت مجنون يا رينمارك.» «ربما. فلتكن أكثر حذرا، إذا كنت تعتقد ذلك. فالمجنون أحيانا ما يكون خطرا.» «أوه، إليك عني. أنت تحلم. إنك تتحدث وأنت نائم. ماذا! عراك؟ والليلة؟ يا للهراء!» «أتريدني أن أضربك قبل أن تتأهب؟» «لا يا ريني، لا. فرغباتي متواضعة دائما. لا أريد العراك إطلاقا، لا سيما الليلة. قلت لك إني قد اهتديت إلى صراط الصلاح. ولا أريد توديع حبيبتي بعين متورمة غدا.» «إذن، كف عن الكلام إن استطعت، ودافع عن نفسك.» «مستحيل أن نتعارك هنا في الظلام. لا تغتر بنفسك لحظة وتتوهم أني خائف. لتبدأ التشاجر الخفيف مع نفسك وتمرينات الإحماء ريثما أؤجج النيران ببعض الحطب. هذا سخيف للغاية.»
جمع ييتس بعض الوقود، وتمكن من تأجيج الجمر الذي كان على وشك الخمود.
ثم قال: «أرأيت، هذا أفضل. والآن، دعني أنظر إليك. لماذا تريد أن تعاركني الليلة يا ريني بحق السماء؟» «أرفض ذكر السبب.» «إذن، فأنا أرفض خوض العراك. سأركض، وأستطيع أن أسبقك في الركض على الأقدام في أي وقت. عجبا، أنت أسوأ من والدها. فهو على الأقل قد أخبرني لماذا عاركني.» «والد من؟» «والد كيتي بالطبع، حماي المستقبلي. وهذا مأزق آخر في انتظاري. لم أتحدث إلى العجوز بعد بشأن هذه المسألة، وأحتاج إلى كل ما لدي من جرأة قتالية من أجل ذلك.» «عم تتحدث؟» «أليس كلامي واضحا؟ إنه عادة ما يكون كذلك.» «من التي خطبتها؟ حسبما فهمت من كلامك، فهي الآنسة بارتليت. هل أنا محق؟» «محق تماما يا ريني. هذه النيران تخمد مجددا. بالمناسبة، ألا يمكن تأجيل عراكنا حتى طلوع الفجر؟ فأنا لا أريد جمع مزيد من الحطب. وفوق ذلك، من المؤكد أن أحدنا قد يدفع بضربة ما وسط النيران، وهذا سيتلف ما تبقى من ملابسنا. ما رأيك؟» «رأيي؟ رأيي أنني أبله.» «مرحى! بدأ صوابك يعود يا ريني. أتفق معك تماما.» «شكرا لك. إذن، فأنت لم تعرض الزواج على مار... على الآنسة هوارد؟» «لقد لمست جرحا مؤلما أحاول نسيانه يا رينمارك. تتذكر القرعة المشئومة بالعملة المعدنية، أظنك أشرت إليها في كلامك منذ لحظة في الواقع، وقد كنت محقا في استيائك الغاضب منها آنذاك. حسنا، لا أرغب كثيرا في التحدث عما ترتب على ذلك من أحداث، ولكن كما عرفت البداية، فينبغي أن تعرف النهاية؛ لأني أريد أن أنتزع منك وعدا مقدسا. لن تخبر أي إنسان أبدا بواقعة القرعة، أو باعترافي لأي مخلوق. فإفشاء ذلك قد يحدث ضررا ومن المستحيل أن يأتي بأي نفع. أتعدني بذلك؟» «بالتأكيد. ولكن لا تخبرني ما لم تكن ترغب في ذلك.» «لست متلهفا إطلاقا للحديث عن ذلك، ولكن من الأفضل أن تعرف حقيقة الموقف، كي لا ترتكب أي خطأ. ليس من أجلي كما تعلم، لكني لا أريد أن يصل ما حدث إلى مسامع كيتي. نعم، عرضت الزواج على مارجريت أولا. لكنها رفضتني تماما. هل تستطيع تصديق ذلك؟» «حسنا، والآن ما دمت قد ذكرت ذلك، فأنا ...» «بالضبط. أرى أنك تستطيع تصديق ذلك. حسنا، لم أستطع ذلك في البداية، لكن مارجريت حاسمة تماما من قرارها، ولا شك في ذلك. عجبا! إنها مغرمة برجل آخر. لقد اكتشفت ذلك بالفعل.» «أظنك قد سألتها.» «حسنا، مهنتي هي اكتشاف الحقائق المستورة، وإذا كنت أفعل ذلك من أجل صحيفتي، فمن المستبعد بطبيعة الحال أن أتوانى عنه حين يتعلق الأمر بي. لقد أنكرت ذلك في البداية لكنها اعترفت به لاحقا، ثم فرت هاربة.» «لا بد أنك قد استخدمت قدرا هائلا من الذوق واللباقة.» «اسمع يا رينمارك، لن أتحمل أي سخرية منك. أخبرتك بأن هذا الموضوع قد آلمني. لا أروي لك ما حدث حبا في ذلك، بل اضطرارا. فلا تستفزني وتثير رغبتي في العراك يا سيد رينمارك. فإذا هممت بالعراك، فلن أبدأ بلا سبب ثم أتراجع بلا سبب. بل سأواصل حتى النهاية.» «سأنتقي كلماتي بحرص، واسمح لي بالرجوع عن كل ما قلته. ماذا أيضا؟» «لا شيء آخر. ألا يكفي ذلك؟ لقد كفاني وزيادة ... آنذاك. صدقني يا رينمارك، لقد أمضيت نصف ساعة عصيبة جدا وأنا جالس على السياج وأفكر فيما حدث.» «كل هذا الوقت؟»
قام ييتس من أمام النيران غاضبا.
فصاح البروفيسور على عجل قائلا: «أرجع عن ذلك أيضا. لم أقصده.» «أنا مندهش من أنك صرت مرحا جدا فجأة. ألا ترى أن الوقت قد حان لنخلد إلى فراشينا؟ لقد تأخر الوقت.»
وافقه رينمارك الرأي لكنه لم يدخل الخيمة. بل مشى إلى السياج الدافئ الجميل، واتكأ بذراعيه على طول العارضة العلوية محدقا إلى النجوم الدافئة اللطيفة. لم يكن قد لاحظ مدى جمال الليل من قبل، بما لفه من سكون رائع، وكأن العالم قد توقف كما تتوقف باخرة وسط المحيط. وبعدما سكنت روحه المضطربة برؤية النجوم التي تبعث الطمأنينة في النفس، تسلق السياج وسار على الطريق هائما بلا وجهة محددة. كان الليل الساكن رفيقا مهدئا. ثم وصل أخيرا إلى قرية نائمة من بيوت خشبية، حيث امتد في وسطها مسار واحد من قضبان سكة حديدية تربط تلك القرية الصغيرة المجهولة بكل المجتمع الحضاري. وعبر هذا المسار ومض ضوء أحمر وآخر وميضا خافتا، ليعطيا بذلك الإشارة الوحيدة إلى أن قطارا قد سار على هذا المسار من قبل. وحين قطع رينمارك ميلا أو اثنين، بدأ يشعر بنسيم البحيرة الكبيرة البارد، وبعدما عبر أحد الحقول، وصل إلى مشارف المياه فجأة ليجد أنه لا يستطيع مواصلة المسير في هذا الاتجاه. فقد كان الشاطئ مشكلا من كثبان رملية ضخمة مغطاة بأشجار صنوبر كانت تصدر حفيفا. وعند سفح الكثبان الرملية، امتد شاطئ عريض من الرمال الثابتة، وكان يبدو خافتا في مقابلة المياه المعتمة، وعلى فترات متباعدة، كان سطح المياه يشهد تموجا رقيقا لأمواج الصيف الضعيفة ينساب إلى الشاطئ بهمس شبه نائم، ثم يتلاشى هذا الهمس شيئا فشيئا إلى أن يذوب وسط الصمت المطبق وراء الشاطئ. وبعيدا في وسط سطح المياه المظلمة، تجلت نقطة ضوء، كنجمة عائمة، حيث كانت إحدى البواخر تشق طريقها ببطء، وكان سكون الليل مطبقا إلى حد أن رينمارك لم يكد يسمع ذبذبات محركاتها بل شعر بها. وكانت هذه العلامة الوحيدة على الحياة التي يمكن رؤيتها من هذا الخليج الساحر؛ خليج الشاطئ الفضي.
ألقى رينمارك بنفسه على الرمال الناعمة عند سفح أحد الكثبان. وتحركت نقطة الضوء تدريجيا إلى الغرب، متبعة نجم الإمبراطورية، لا شعوريا بالطبع، وتلاشت وراء اللسان البري آخذة معها شعورا غامضا بالرفقة. لكن العالم صغير جدا، والمرء لا يكون أبدا وحيدا تماما فيها حين يظن ذلك. فقد سمع رينمارك صوت بومة خفيضا بين الأشجار، وذهل حين سمع الماء يرد على صياحها. فانتصب في جلسته وأنصت. وبعد قليل رسا قارب على الشاطئ وأحدثت عارضة قعره صريرا على الرمال، وترجل منه شخص ما على البر. فخرج من بين الأشجار ثلاثة رجال كانت هيئاتهم مبهمة في الظلام. لم يقل أحد منهم أي شيء، بل صعدوا في صمت إلى متن القارب، الذي ربما كان قارب «خارون» بناء على أقصى ما استطاع رينمارك أن يراه منه. ثم تبع ذلك صوت قعقعة مساند ارتكاز المجاديف وصوت ارتطام المجاديف بسطح المياه، فيما كان صوت أحد الرجال يحذر المجدفين موصيا إياهم بخفض الضجيج. كان جليا أن هؤلاء كانوا هاربين متخلفين يحاولون الهرب من سلطات البلدين. خطر ببال رينمارك وهو يبتسم أن ييتس، لو كان في مكانه، لكان سيخيفهم على الأقل. كان التظاهر بإصدار أمر حاد إلى فرقة عسكرية من وحي خياله بتذخير أسلحتهم وإطلاق النيران كفيلا بأن يبلغ آفاقا بعيدة في ليلة ساكنة كهذا، ويثير انزعاجا شديدا في نفوس المجدفين لبضع لحظات. غير أن رينمارك لم يصدر أي صيحات، بل اعتبر هذه الواقعة جزءا من الحلم الروحاني الغامض، واستلقى على الرمال مجددا. لاحظ أن المياه في الشرق بدت وكأنها تشعر باقتراب حلول الصباح قبل السماء نفسها حتى. طلع الفجر تدريجيا، واكتسى ضوءه في البداية رويدا بلون رمادي، إلى أن نثرت الشمس الآتية أشعتها الذهبية والقرمزية على سحابة رقيقة شفافة. شاهد رينمارك روعة شروق الشمس، وألقى نظرة واحدة طويلة على حسن شاطئ الخليج المنحني، ثم نفض الرمال عن ثيابه، وانطلق عائدا إلى القرية ثم المخيم من بعدها.
كانت القرية في حالة هياج حين وصل إليها. وفوجئ برؤية ستوليكر على ظهر حصان أمام إحدى الحانات. وكان معه مساعدان يمتطيان حصانين أيضا. بدا الشرطي منزعجا حين رأى رينمارك، لكنه كان هناك لأداء واجبه.
صاح قائلا: «مرحبا! أراك قد استيقظت باكرا. لدي مذكرة رسمية باعتقال صديقك، أظنك لن تخبرني بمكانه؟» «لا يمكن أن تنتظر مني معلومات ستضع صديقي في مأزق، أليس كذلك؟ لا سيما أنه لم يفعل أي شيء.»
فقال أحد المساعدين بجدية حادة: «ربما تتبين صحة ذلك أمام هيئة محلفين.»
صدق ستوليكر على كلامه وهو يغمز خلسة للبروفيسور: «نعم. تقرير ذلك من اختصاص القاضي وهيئة المحلفين، وليس أنت.»
قال رينمارك: «حسنا، لن أفشي معلومات عن أي شخص، إلا إذا أجبرت على ذلك، لكني أستطيع توفير بعض العناء عليكم بإخباركم بالمكان الذي كنت فيه، وما رأيته هناك. أنا عائد الآن من عند البحيرة. إذا نزلتم إلى هناك، فسترون أثر عارضة قعر قارب في الرمال، وربما آثار أقدام. لقد جاء قارب من الشاطئ الآخر في جنح الليل، وصعد رجل إلى متنه. لا أجزم بهوية الرجل، ولا علاقة لي بالمسألة إطلاقا سوى أنني شاهدتها. هذا كل ما أستطيع الإدلاء به من معلومات.»
التفت ستوليكر إلى مساعديه وأومأ برأسه. سألهما قائلا: «ماذا قلت لكما؟ لقد كنا في أثره بالضبط.»
فصاح المساعد، الذي تحدث من قبل، مزمجرا: «قلت السكة الحديدية.» «حسنا، كنا على بعد حوالي ميلين منه. هيا ننزل إلى البحيرة ونتفحص الآثار. ثم يمكننا استئناف تنفيذ مذكرة الاعتقال.»
وجد رينمارك أن ييتس ما زال نائما في الخيمة. فأعد الفطور دون أن يزعجه. وحين انتهى من إعداده، أيقظ الصحفي وأخبره بلقائه مع ستوليكر، ناصحا إياه بالعودة إلى نيويورك بلا تأخير.
تثاءب ييتس بنعاس.
وقال: «نعم، كنت أحلم بذلك. سأجعل حماي يوصلني إلى فورت إيري الليلة.» «أتظن أن تأجيل الرحيل طويلا هكذا سيكون آمنا؟» «سيكون أكثر أمنا من محاولة الهروب في وضح النهار. سأذهب إلى دار آل بارتليت بعد الفطور. يجب أن أتحدث إلى والديها، كما تعلم. وسأقضي بقية النهار في تعويض ما عانيته في هذا اللقاء بالحديث مع كيتي. لن يبحث ستوليكر عني هناك أبدا، وأما وقد صار يظن الآن أني رحلت، فمن المرجح أن يقوم بزيارة إلى الخيمة. ستوليكر رجل طيب، لكنه شديد التشبث بالواجب كما تعلم، وإذا تيقن من أني رحلت، فسيبحث عني كي يكون جديرا بالأموال التي يتقاضاها من بلاده. لن أعود على الغداء؛ لذا يمكنك استغلال وقتك في قراءة رواياتي الشعبية الرخيصة. لا أقصد الانتقاص من طهيك يا ريني وقد انتهت الإجازة، ولكن لدي تفضيلات، وهي تميل إلى تناول وجبة أخيرة مع آل بارتليت. لو كنت مكانك، لأخذت قيلولة. فأنت تبدو منهكا بشدة.»
قال البروفيسور: «أنا كذلك بالفعل.»
كان رينمارك ينوي الاستلقاء على الفراش بضع لحظات ريثما يرحل ييتس عن المخيم؛ لأنه كان يعتزم إجراء زيارة ما بعد ذلك، لكن الطبيعة ثأرت منه حين ألقت به في نوم عميق. فلم يسمع ستوليكر ومساعديه وهم يفتشون المخيم، تماما كما توقع ييتس أن يفعلوا، وحين استيقظ أخيرا، دهش عندما رأى الظلام كاد يحل على الأجواء. لكنه كان أحسن حالا بكثير بفضل النوم، وتأنق بعناية أكثر من المعتاد.
تقبل هيرام العجوز الوضع ببلادة صبورة متجهمة كمن تلقى صفعة من التدابير الإلهية التي كان يعرف أنها مستعصية على الفهم. فقد عجز عن فهم ما الذي اقترفه في حياته ليستحق هذا المصير. ربط حصانيه بالعربة في صمت، ولأول مرة في حياته، ساقهما إلى فورت إيري بلا أي حجة منطقية للذهاب إلى هناك. عقل الحصانين في الركن المعتاد، وجلس بعدئذ في إحدى الحانات حيث شرب عدة أقداح من خمر مسكر بشدة لم يحدث فيه تأثيرا واضحا. بل بلغ به الأمر أنه دخن سيجارين يحويان مواد غير شرعية، ومن يفعل ذلك يستطع فعل أي شيء. كان يرى أن قبول ابنته التي رباها بزواج رجل من «الولايات المتحدة» بمحض إرادتها، وأن تأييد زوجته فعلا كهذا وتحريضها عليه، مانحة العدو بذلك كل الراحة والتأييد، بمثابة خيانة لكل تقاليد عام 1812، أو أي عام آخر في تاريخ البلدين. راودته في بعض اللحظات أفكار جامحة بأن يثمل إلى أن يفقد صوابه ويعود إلى البيت فيكسر كل ما هو قابل للكسر، لكن صوت الحكمة كان يهمس له بأنه مضطر إلى العيش بقية حياته مع زوجته، فكان يدرك أن تلك الخطة الانتقامية لها عيوبها. وأخيرا، فك رباط حصانيه الصبورين بعدما دفع فاتورته، وقاد عربته إلى البيت في صمت دون أن يرد أيا من التحيات التي حيي بها في هذا اليوم، ولا بإيماءة حتى. شعر ببعض الارتياح لأنه لم يسأل عن أي شيء، ولأن زوجته أدركت أنه كان يمر بأزمة. ومع ذلك، لمع بريق فولاذي في عينيها بث الخوف والقلق في نفسه؛ إذ بدا لسان حالها يخبره أنه قد بلغ حدا سيلقى عواقب وخيمة إذا تخطاه. صحيح أنها سامحته، ولكن عليه ألا يتجاوز أكثر من ذلك.
حين قبل ييتس كيتي عند البوابة متمنيا لها ليلة طيبة، سألها بشيء من الخوف عما إذا كانت قد أخبرت أي شخص بأمر خطبتهما.
قالت كيتي: «لا أحد سوى مارجريت.»
فسألها ييتس متظاهرا بأن رأي مارجريت غير مهم في كل الأحوال: «وماذا قالت؟». «قالت إنها متيقنة من أني سأكون سعيدة، وتعلم أنك ستكون زوجا صالحا.»
قال ييتس بنبرة رجل مستعد للتنازل والاعتراف بمحاسن فتاة أخرى غير فتاته، ولكن مع تأكيد أنه لا يعشق إلا واحدة في الدنيا كلها: «إنها فتاة لطيفة بعض الشيء.»
قالت كيتي بحماس: «إنها فتاة جميلة. أتساءل يا ديك عن السبب الذي جعلك تحبني أصلا في حين أنك تعرفها.» «عجبا! لا أرى عيبا في مارجريت، ولكن مقارنة بفتاتي ...»
وأنهى عبارته بتوضيح عملي لمشاعره.
وبينما كان يسير وحده على الطريق، خطر بباله أن مارجريت قد تصرفت بنبل كبير، وقرر أن يمر عليها ويودعها. ولكن حين دنا من المنزل، بدأت شجاعته تخذله، وارتأى أنه من الأفضل أن يجلس على السياج، بالقرب من المكان الذي جلس فيه في الليلة السابقة، وفكر في الأمر. ظل يفكر فيه مليا. ولكن بينما كان جالسا هناك، قدر له أن يعرف معلومة كان من شأنها أن تسهل عليه فهم كل شيء. فقد خرج شخصان من البوابة ببطء وسط الظلام المتزايد. تمشيا معا على الطريق ومرا به لكنهما كانا منشغلين بأنفسهما. فحين صارا أمام الصحفي مباشرة، أحاط رينمارك خصر مارجريت بذراعه، وكاد ييتس يسقط من فوق السياج. حبس أنفاسه حتى ابتعدت مسامعهما عنه بسلام، ثم نزل منزلقا من فوق السياج ومشى في الظل متثاقلا يجر قدميه حتى بلغ الطريق الجانبي، ثم سار عليه، متوقفا كل بضع لحظات منهمكا في التفكير، ليقول: «حسنا، سوف ...» ولكن بدا أن قدرته على النطق خذلته، فعجز عن التفوه بأي حرف بعد ذلك.
توقف عند السياج واتكأ عليه، محدقا للمرة الأخيرة إلى الخيمة، التي اكتست ببريق أبيض خافت، كشبح مشوه، وسط الأشجار القاتمة. لم يكن لديه طاقة متبقية لتسلق السياج.
تمتم قائلا لنفسه أخيرا: «حسنا، لست سوى قرد. يستطيع أعلى مزايد أن يشتريني بلا تحديد سعر أدنى حتى. آه يا ديك ييتس، ما كنت لأصدق ذلك عنك. أأنت رجل صحافة حقا؟ أأنت مراسل ذو خبرة كبيرة؟ أأنت بارع كفاية؟ إنني خجلان من أن يراني أحد برفقتك يا ييتس! عد إلى نيويورك، ودع أصغر مراسل آت من صحيفة ريفية يتفوق عليك ويسرق منك الأضواء. ما أشد دهشتي من أن ذلك الشيء كان يحدث أمام عينيك القويتين مباشرة، ولم تره قط! والأدهى أنك لم تشك فيه مثقال ذرة في حين أنه كان يدفع إليك دفعا عشرين مرة في اليوم، بل كاد رأسك الغبي يهشم بسببه، لكنك كنت تصيح باستمرار كالحمل الصغير الساذج الذي لا تختلف عنه إطلاقا، ولم تشك قط حتى! ديك، إن بلاهتك تكفي ملصقا كبيرا بالحبر الملون. ويا للعجب من أن كليهما يعرف كل شيء عن عرض الزواج الأول! كليهما! حسنا، حمدا للرب على أن تورنتو بعيدة كل البعد عن نيويورك.»
Page inconnue