ـ[وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود]ـ
المؤلف: دعبل بن علي الخزاعي الشاعر المشهور (المتوفى: ٢٤٦هـ)
رواية: علي محمد بن دعبل الخزاعي
[الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]
Page inconnue
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده. وصلواته على محمد النبي وآله وسلم.
حدثنا علي بن محمد بن الدعبل بن علي بجميع هذا الحديث المذكور في هذا الكتاب، عن جده الدعبل بن علي الخزاعي، أنه قال: رويت علم الأوائل وأنساب العرب عن جماعة ممن أدركت من أهل العلم والمعرفة بذلك، وحفظت عنهم وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود النبي ﷺ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح النبي ﷺ ابن لمك بن المتوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس النبي ﷺ بن يرد بن مملايل بن قينان بن أنوش بن شيث النبي ﷺ ابن آدم الماء والطين ﷺ.
قال علي بن محمد، قال الدعبل بن علي: فتوافق جميع من أدركت من أهل العلم والمعرفة على أن أول من بعثه الله تعالى من بعد نوح ﷺ واصطفاه وانتخبه وأمنه على وحيه ورسالته هود النبي ﷺ، وهو أب العرب العاربة، وهو الذي يقول فيه علقمة ذو جدن:
أبونَا نبيُّ الله هودُ بن شالخٍ ... فنحنُ بنو هودِ النبيِ المُطهَّرِ
لنا المُلكُ في شرقِ البلادِ وغربِها ... ومفخرُنَا يسمو على كلِّ مفخرِ
فمنْ مثلُ كهلانِ القواضبِ والقنا ... ومن مثلُ أملاكِ البريةِ حميرِ
وصية هود النبي ﵇
وحدثنا علي بن محمد، وأسند الحديث عن جده الدعبل بن علي الخزاعي مجال الاختصار، وذكر الدعبل بن علي أن هود النبي ﷺ قد وصى بنيه، فقال لهم: يا بني أوصيكم بتقوى الله وطاعته والإقرار بالوحدانية له، وأحذركم الدنيا، فإنها غرارة خداعة غير باقية عليكم ولا أنتم باقون عليها، فاتقوا الله الذي إليه تحشرون، ولا يفتننكم الشيطان، إنه لكم عدو مبين.
قال: ثم أقبل على قومه عاد، يوصيهم بما وصى به بنيه، ويعظهم بما حكى الله ﷿ عنه، فقال: " وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله " إلى قوله: " ولا تتولوا مجرمين ". قال: فكان من ردهم عليه " يا هود ما جئتنا ببينه وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ". " وقالوا من أشدّ منّا قوة " إلى قوله: " ولعذاب الآخرة أخرى وهم لا ينصرون ".
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن قحطان بن هود النبي ﷺ أنشد شعرًا يسلّي به بعض ما كان فيه هود النبي ﷺ من الكآبة والجزع والقلق والارتماض والحرب على قومه عاد فقال: " البسيط "
إني رأيتُ أبي هودًا يؤرقهُ ... همٌّ دخيلٌ وبلبالّ وتسهادُ
لا يحزننَّك أن خُصَّت بداهيةٍ ... عادُ بن لاوى، فعادٌ بئسَ ما عادُ
عادٌ عصَوا ربَّهم واستكبروا وعتَوا ... عمَّا نُهُوا عنهُ لا سادوا ولا قادوا
بُعدًا لعادٍ فما أوهى حُلُومَهُمُ ... في كلِ ما ابتدعوا أو كلِّ ما اعتادوا
قاموا يُعيدون عنهم من سَفَاهتهمْ ... ركابها، أُهلِكوا أيام ما حادوا
ألا يظُنُّون أنَّ اللهَ غالبُهُمْ ... وأنَّ كُلًا لأمرِ اللهِ ينقادُ
يا ليتَ شعريْ وليتَ الطَّيرَ تُخبرني ... أسالمٌ ليَ لقمانٌ وشدَّادُ!
ويقال: إن لقمانًا كان على دين النبي هود. وهو صاحب النسور السبعة. وخبره وخبر شداد يطول الشرح فيه.
وصية قحطان بن هود
وحدثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن قحطان بن هود النبي ﷺ وصى بنيه، فقال لهم: يا بني إنكم لم تجهلوا ما نزل بعاد دون غيرهم حين عتوا على ربهم وأعدوا آلهة يعبدونها من دونه وعصوا أمر ربهم، وأمر نبيهم هود وهو أبوكم الذي علمكم الهدى وعرفكم سواء السبيل. وما بكم من نعمة فمن الله ﷿. وأوصيكم بذي الرحم خيرًا. وإياكم والحسد فإنه داعية القطيعة فيما بينكم. وأخوكم يعرب أميني عليكم وخليفتي بينكم، فاسمعوا له، وأطيعوا، واحفظوا وصيتي، واثبتوا عليها، واعملوا بها ترشدوا.
ثم أنشأ يقول:
أبا يشجُبٍ أنتَ المرجى وأنتَ لي ... أمينٌ على سِرِّيْ وجهريَ حافظُ
عليكَ بدينٍ ليسَ ينكرُ فضلُهُ ... فقد سبقتْ فيهِ إليكَ المواعظُ
وواصلْ ذوي القُربى وحطهُمْ فإنَّهم ... ملاذُكَ إن حامتْ عليكَ البواهظُ
1 / 1
ولفظُك عرِّبهُ بأحسنِ منطقٍ ... فإنكَ مرهونٌ بما أنت لافظُ
وكُنْ كاتمًا للغيظِ في كُلِّ بدوةٍ ... إذا أُسِخطتْ تلك العيونُ الجواحظُ
بغيضٌ على الأعداء سرًا وجهرةً ... بحِلمِكَ ها تلك النفوس الغوائظُ
وما سادَ من قد شادَ إلا بحلمهِ ... إذا لم يلاحِظهُ من البخلِ لاحظُ
فكن ذا حِجىً محضَ الشمائلِ ماجدًا ... حفيًَّا حميًا إنني لكَ واعظُ
وصية يعرب بن قحطان
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن يعرب بن قحطان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها. ويقال: إنه أول من تبحبح بالعربية الواسعة، ونطق بأفصحها، وأوجزها، وأبلغها. والعربية منسوبة إليه مشتقة من اسمه. وهو الذي ذكره حسان بن ثابت الأنصاري في شعره الذي يقول فيه:
تعلمتمُ من منطق الشيخ يعرب ... أبينا فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديمًا ما لكم غير عجمة ... كلام وكنتم كالبهائم في القفر
تقولون مانونخ ودونخ وكنتم ... إذا ما التقينا كالرصاص على الجمر
منازلكم كوثى ومنها درجتمُ ... إلينا كأفراخ درجن من الوكر
فنحن وأنتم كالذي قال لم أزل ... أعلمه رميًا ليمنع لي ظهري
فلما نشا واشتد ساعده رمى ... فلم يُخطِ ظهري إذ رمى لا ولا نحري
وفي ذلك يقول علقمة ذو جدن:
ومِنّا الذي لم يُعربِ الناسُ مثله ... وأعربَ في نجدٍ هناكَ وغارا
وحدثنا علي بن محمد عن جده الدعبل بن علي، أن يعرب بن قحطان وصَّى بنيه مما وصاه به أبوه، فقال لهم: يا بني احفظوا مني خصالًا عشرًا تكون كذا لكم ذكرًا وذخرًا. يا بني تعلموا العلم واعملوا به. واتركوا الحسد عنكم ولا تلتفتوا إليه، فإنه داعية القطيعة فيما بينكم، وتجنبوا الشر وأهله، فإن الشر لا يجلب عليكم خيرًا. وأنصفوا الناس من أنفسكم لينصفوكم من أنفسهم. وإياكم والكبر؛ فإنه يبعد قلوب الرجال عنكم. وعليكم بالتواضع، فإنه يقربكم من الناس ويحببكم إليهم. واصفحوا عن المسيء إليكم، فإن الصفح عن المسيء يجنبكم العداء ويزيد مع السؤدد سؤددًا ومع الفضل فضلًا. وآثروا الجار الدخيل على أنفسكم، فإن جماله جمالكم. ولأن يسوء حال أحدكم خير له من أن يسوء حال جاره، لأن تفقد الناس للمقتدي أكثر من تفقدهم للمقتدى به. وانصروا مواليكم، فإن مواليكم في السلم والحرب منكم ولكم. وابن مولاكم من أنفسكم، وحقه عليكم مثل حق أحدكم على سائركم. وإذا استشاركم مستشير فأشيروا عليه بمثل ما تشيرون به على أنفسكم في مثل ما استشاركم فيه، فإنها أمانة ألقاها في أعناقكم، والأمانة ما قد علمتم. وتمسكوا باصطناع الرجال أجدر أن تسودوا به عليهم، وأحرى أن يزيدكم ذلك شرفًا وفخرًا إلى آخر الدهر. ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
بنيَّ أبوكمُ لم يعدُ عمَّا ... بهِ وصَّاهُ قحطانُ بن هودِ
فوصاكم بما وصى أباكم ... أبوه عن الإله عن الجدودِ
أذيعوا العلمَ ثمَّ تعلموه ... فما ذو العِلم كالطِفل البليدِ
ولا تُصُغوا إلى حسدٍ فتغوُوا ... غوايةَ كلِّ مختلٍّ حسودِ
وذُودوا الشرَّ عنكُمْ ما استطعتم ... فليسَ الشرُّ من خُلُقِ الرشيدِ
وكونُوا منصفينَ لكلِّ دانٍ ... لينصفكُمْ مع القاصي البعيدِ
وبابُ الكِبرْ عنكمْ فاتركُوهُ ... فإنَّ الكِبرَ من شِيَمِ العنيدِ
عليكمْ بالتواضُع، لا تزيدوا ... على فضلِ التواضُع من مزيدِ
وإنَّ الصَّفح أفضلُ ما ابتغيتمْ ... به شرفًا مع المُلكِ العتيدِ
وحقُّ الجارِ لا تنسوه فيكمْ ... فإنَّ الجارَ ذو الحقِّ الوكيدِ
عليكمْ باصطناعِ الخيرِ حتَّى ... تنالوا كُلَّ مكرمةٍ وجودِ
وصية يشجب بن يعرب
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن يشجب بن يعرب ثبت على وصية أبيه دون غيره من سائر إخوته وعشيرته، فساد الجميع بثباته على هذه الوصية، وحفظه إياها وعمله بها.
1 / 2
قال وسألت بعض النَّسابين عن إخوته بني يعرب، فقال: العمالقة إخوته فئتان؛ أما الفئة الأولى فمن ولد إرم بن سام بن نوح النبي ﷺ، وأما الفئة الأخرى الذين كانوا سكان مكة وما حولها فمن ولد يعرب بن قحطان إخوتهم طسم وجديس والحي جرهم الأولى وعاد الصغرى. فكأن يشجب سادها ولاء من إخوته، وساد عشيرته التي منها آباؤه من ولد سام بن نوح النبي ﷺ.
وحدّثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن يشجب بن يعرب بن قحطان وصى بنيه، فقال لهم: بني إني لم أسُد إخوتي وعشيرتي إلا بحفظي وصية أبي يعرب بن قحطان وبعملي بها وثباتي عليها. وإن أبي يعرب بن قحطان لم يسد إخوته وعشيرته إلا بحفظه وصية أبيه قحطان بن هود النبي ﷺ وبعمله بها وثباته عليها، وإن جدي قحطان بن هود النبي ﷺ لم يسد قومه وإخوته إلا بحفظه وصية أبيه هود النبي ﷺ وبعمله بها وثباته عليها. فابقوا على ما وجدتموني عليه، وهو الذي أنهيته إليكم كلامًا وشعرًا مما وصاني به أبي. وقد حفظتم الكل، فاثبتوا علي، واعملوا به، والله يخلفني عليكم، ثم الرشيد المهتدي منكم. وأنشأ يقول: " من البسيط "
أوصى النبي ابنه قحطان جدِّي بما ... وصَّى بنيه أبي من بعدِ قحطانِ
علمٌ حواهُ أبي من دونِ إخوتهِ ... وحُزتُه بعدَه من دونِ إخواني
وزادَني يعربٌ من بعدِهِ شيمًا ... وصّى بنيه بها يومًا ووصَّاني
حفظتُها حينما غيري استهان بها ... وحفظُها آخرَ الأيامِ من شاني
أعبدَ شمسٍ أبيتَ اللعنَ من خلفٍ ... هل أنتَ بعدي لنا في مُلكنا ثانِ
هل أنتَ تحفظُ عنِّي ما حفظتُ وما ... بهِ ثبتتُ لكم مُلكي وسُلطاني
بلى رأيتك هشًا ماجدًا فطنًا ... وقد إخالُكَ ظنًا غيرَ إعلانِ
قال علي بن محمد، قال الدعبل بن علي: فيقال إن عبد شمس بن يشجب حفظ وصية أبيه وثبت عليها وعمل بها، فساد الجميع من إخوته وعشيرته وأهل بيته، وكان ملك الجميع وعمادهم، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود النبي ﷺ، واسمه عبد شمس بن يشجب. ويقال: إنه أول من سبى السبايا وأسر الأعادي فلذلك سمي سبأ، وهو عبد شمس بن يشجب بن يعرب، وهو أبو حمير وكهلان. ويقال: إنه أغار على بابل بالخيل والرجال، ففتحها، وأخذ إتاوتها، وضرب بالخيل في الأرض، فكان لا يذكر له بلد إلا قصدها بالخيل والرجال وفتحها. وهو أول من فتح البلاد، وأخذ الإتاوة من أهلها.
وفيه يقول بعض أهل زمانه:
لقد مَلَكَ الآفاقَ من حيثُ شرقها ... إلى الغربِ منها عبدُ شمسِ بن يشجبِ
لهُ مُلكُ قحطان بنِ هودٍ وراثةً ... عن اسلاف صدق من جدود ومرأبِ
فما مِثلُ قحطان السماحةِ والندى ... ولا كابنهِ ربِّ الفصاحةِ يعربِ
ومن كالمُصفَّى عبدِ شمسِ بن يشجُبٍ ... إذا عُدَّ خيرُ الناس من خيرِ منصبِ
سما بالجيادِ الأعوجيةِ والقَنَا ... إلى بابلٍ في مقنبٍ بعد مقنبِ
فآب بأبكارٍ وحُورٍ أوانسٍ ... مع الخَرجِ منها في الخميسِ العصبصبِ
ورعَّلَ فيها الخيلَ شرقًا ومغرِبًا ... فمَشرِقُها يُجبى له بعد مغربِ
وحدّثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عبد شمس وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود النبي ﷺ جمع أهل مملكته ووجوه أهل بيته وعشيره، وأجلس ابنه حمير عن يمينه، وأجلس ابنه كهلان عن شماله، ثم قال لهم: أيها الناس، هل يصلح ليميني أن تقطع شمالي، أو يصلح لشمالي أن تقطع يميني؟ فقالوا بأجمعهم: أيها الملك، إنه لا يصلح شيء مما ذكرت. فقال لهم: إن أنتم إن همت يميني لقطع شمالي أو همت شمالي لقطع يمين وأكون غافلًا عنهما لا أسُدُّ الشِّمال عن اليمين ولا أسُدُّ اليمين عن الشمال فما أنتم صانعون؟ قالوا: نمنع اليمين عن الشمال، ونمنع الشمال عن اليمين. فقال لهم أعطوني العهود والمواثيق على وفائكم بما تكلمتم به وقلتم إنكم تفعلونه في يميني وشمالي. قال: فأعطوه العهود والمواثيق على ذلك.
1 / 3
ثم قال: أيها الناس إني لم أرد بيميني وشمالي إلا حمير وكهلان، وإني لن آمن أن يختلفا بعدي في الأمر، ولم آخذ العهود والمواثيق عليكم إلا لتحولوا بين من يروم من هذين لصاحبه سوءًا أو خلافًا، وأن لا يطلب أحدهما بعدي أكثر مما يقسم له في مجلسنا هذا.
ثم قال لهم: أيها الناس، إن حمير أكبر من كهلان، وحقه أن يكون عن يميني، وإن كهلان أصغر من حمير، وحقه أن يكون عن شمالي، وإن نصيب حمير من ملكي مثل نصيب يميني من بدني، فانظروا - معشر الناس - ما يصلح لليمين، فادفعوه إلى اليمين، وما يصلح للشمال فادفعوه إلى الشمال.
قال: فدفعوا إلى اليمين السيف والقلم والسَّوط، وحكموا لليمين بذلك. وقالوا: هذه ثلاثة أشياء تعمل بها اليمين، ولا تعمل بها الشمال. ودفعوا إلى الشمال العنان والترس والقوس. وقالوا: هذه ثلاثة أشياء تعمل بها الشمال دون اليمين؛ أما القوس فإنه لا بد للشمال من معونة اليمين في القوس. قال: ثم حكموا بأن صاحب السيف لا يصلح له إلا الثبات والوقوف في موضعه، وحكموا أن صاحب القلم لا يكون إلا مدبرًا فاتقًا راتقًا. وحكموا أن صاحب السوط لا يكون إلا رابضًا سائسًا. ثم حكموا أن الفتق والرتق والثبات والوقوف والتدبير والرياضة والسياسة لا يكون إلا للملك الأعظم الراقد في دار المملكة، وهو حمير. قال: ثم حكموا أن العنان يقود أعنة الخيل للذب عن الملك ومكابدة الأعداء حيث كانوا. وحكموا أن الترس يرد به البأس، ويدرأ به الحد وتقهر به الحروب عند التلاقي، وتتجشم به المعارك. وحكموا أن القوس ينال بها المناوئ والمناصي على البعد منها. ثم حكموا قيادة أعنة الخيل والمكابدة للأعداء حيث كانوا ورد البأس ودفع الحد وقهر الحروب عند التلاقي ومناوأة الأعداء ومناصاتها لا يصلح إلا لصاحب الدولة والذاب عنها والرامي عن جمرتها والساد لخللها والقائم بحروبها وفتوحاتها وإصلاح الثغور وسدها عنها، وهو كهلان.
قال: فتقلد حمير الملك الراتب في دار المملكة وسمي أيمن، لجلوسه عن يمين أبيه، وتقلد كهلان الأطراف وأعمالها وثغورها ومناوأة العدو حيث كان. على أن لكهلان على حمير المعونة في ذلك مثل معونة اليمين للشمال بالرمي بالقوس، وحكموا أن معونة اليمين للشمال بالرمي بالقوس والنزع والنبل، وهما في غير القوس المال والنجدة، وكان لحمير على كهلان الطاعة وكفاية ما تقلده كهلان.
ففي ذلك يقول هي بن بيّ بن جرهم: " من البسيط "
ما سادَ هذا الورى أبناءُ قحطانِ ... إلا لفضلٍ لهم قِدمًا وإحسانِ
ما في الأنام لهم حيٌّ يشاكلهمْ ... ولا لواحدهمْ في الأرضِ من ثانِ
لم يشهدوا الناس في بدو ولا حضر ... حكمًا كحكم عظيمِ المُلكِ والشانِ
سبا بن يشجب لابنيه وإنَّهما ... للسيدانِ الرفيعانِ العظيمانِ
أعطى ابنه حميرًا منهُ اليمينَ وقد ... أعطى الشِّمالَ ابنه المُسمى بكهلانِ
وقال يُقسمُ ملكي اليوم بينهما ... وقسمةُ الملكِ للاثنان سهمانِ
تُعطى اليمينُ الذي تسطو اليمينُ به ... فيما تعانيهِ من سرٍّ وإعلانِ
وللشِّمال الذي تسطوا الشمال بهِ ... عندَ النوائبِ من بأسٍ وسلطانِ
والسَّيفُ والسَّوطُ صارا لليمينِ معًا ... وذلك القلمُ الجاري ببرهانِ
والقوسُ والتُّرسُ صارا للشِّمالِ وقد ... صار العنانُ لهما والمُلكُ نصفانِ
فصار هذا بتاج المُلكِ مُعتصبًا ... دونَ الجحاجحِ من أولادِ قحطانِ
وصارَتِ الخيلُ تحمي الأرضَ قاطبةً ... ومن عليها لهذا الآخرِ الثَّاني
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك وأولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما لحمير على كهلان بالطاعة، ولكهلان على حمير المال والنجدة، والملوك الرَّاتبة في دار المملكة من حمير، والملوك في الأطراف والثغور من كهلان.
وصية حمير بن سبأ
1 / 4
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وصى بنيه - وكانوا اثني عشر رجلًا - فقال: يا بني، ما اجتمع اثنان متآزران متعاضدان على أربعة نفر أو خمسة من أشتات الناس إلا غلباهم وملكا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع خمسة نفر متآزرون متعاضدون على عشرة أنفار من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم، وما اجتمع عشر أنفار متآزرون متعاضدون على الجماعة التي يكون ميلهم عدد أوزان الأنفس من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم وقيادهم. وأيُّما عصابة غلبت أربعين رجلًا يوشك لها أن تغلب الثمانين والمائة وما فوق ذلك، وغلاب المائة حريُّون أن يغلبوا المائتين. وغلاب المائتين حريون أن يغلبوا الألف. ومنتهى العز للفرقة أن لا يطمع فيها الألف ألف رجل. وما من رجل أطاعه رجل فقام بالمجازاة له على ذلك إلا أطاعه عشرة، وما من رجل أطاعه عشرة أنفار فقام بالمجازاة لهم على طاعتهم له إلا أطاعه مائة رجل، ومن أطاعه مائة رجل فقام لهم بالمجازاة على طاعتهم له إلا أطاعه ألف رجل، وما من رجل أطاعه ألف رجل إلا وقد ساد لا محالة..
يا بني، أطيعوا الأرشد فالأرشد منكم، ولا تعصوا أخاكم الهميسع فإنه خليفتي بعد الله فيكم وأميني فيما بينكم، وإنه لسيفكم وأنتم حد ذلك السيف، وإنه لرمحكم، وأنتم سنان ذلك الرمح وما السيف لولا الحد، وما الحد لولا السيف، وما السنان لولا الرمح، وما الرمح لولا السنان، أنتم بالهميسع وله، والهميسع بكم ولكم. ثم أنشد يقول:
هميسعُ لم تجهلْ معَ الناسِ سيرتي ... فسرْ لي بِها في النَّاسِ بعدي هميسعُ
بنيَّ بهمْ أوصيكَ خيرًا فإنَّهمْ ... تضرُّ بهم من شئتَ يومًا وتنفعُ
وعمك وابن العمِّ دونكَ بعده ... مردُّ الأعادي الكاشحينَ ومدفعُ
همُ لكَ كهفٌ بل هُمُ لكَ موئلٌ ... وهمْ لكَ من دونِ البريةِ مفزعُ
وليسَ عُقابُ الطير يومًا وإن لها ... يذِلُّ وتنقادُ البغاثُ وتخضعُ
تؤولُ إلى وكرٍ سوى وكرهَا الذي ... تؤولُ إليهِ للمبيتِ وترجعُ
هميسعُ إنَّ الناسَ وحشٌ وإنهم ... إلى الرِّفق من خمس القوارب أسرعُ
هميسعُ جُدْ بالخيرِ تُجز بمثلهِ ... فكُلُّ امرئٍ يُجزى بما هو يصنعُ
هميسعُ دارِ الناسَ تُعطَ قيادَهُمْ ... فحظُّكَ منهم أن يُطيعوا ويسمعوا
هميسعُ لا والله إن أنتَ حاصد ... طوالَ الليالي غيرَ ما أنتَ تزرعُ
فأُوصيكَ بالإفضالِ مثلَ وصيَّتي ... بإخوتِكَ القُربى فهلْ أَنتَ تسمعُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن الهميسع حفظ وصية أبيه حمير، وثبت عليها، وعمل بها، وأجرى الناس على ما كان يجريهم أبوه حمير حين ولي الملك بعده، وسار فيهم بسيرته، وكذلك ابنه أيمن بن الهميسع الذي يقول فيه عمه مالك بن حمير:
نطيعُ ولا نعصي أخانا الهميسعا ... وأيمنَ ما غنَّى الحمامُ وسَجَّعا
لقد سادَ أملاكَ البلادِ هميسعٌ ... وما كَملتْ خمسًا سنوهُ وأَربعا
وأيمنُ شِمنا فيهِ ما في هميسعٍ ... ربَتْهُ بنو هُودٍ فطيمًا ومرضعا
فوالله لا ينفكُّ يجمعُ أمرنا ... على ما عليهِ الرأيُ والأمرُ أجمعا
ونُوصي بَنِينا أن تكونَ جموعُهُمْ ... لأيمنَ ما عاشُوا وما عاشَ تُبَّعا
وحدثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن أيمن بن الهميسع لما ولي الملك بعد أبيه الهميسع بن حمير سار في الناس بسيرة أبيه وجده، وحفظ جميع ما تناهى إليه من وصايا آبائه وأسلافه التي يعملون عليها ويوصون بها ويحفظونها لسياسة الملك وصيانة الدولة.
وولي الملك بعده زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير الأكبر، وهو الذي يقول أخوه الغوث بن أيمن فيه:
أبى المُلكُ إلا أن يكونَ وليُّهُ ... ومالِكُهُ بعدَ الهميسعِ أيمنُ
وأن يتلقَّاهُ زُهيرٌ وراثةً ... وللتِّبرِ في مبسوطةِ الأرضِ معدنُ
قد استوطنَ المُلكَ الأثيلَ محلُّهُ ... وللجذر أغصان وللملك موطنُ
أرى لزُهيرٍ أذعنَ الناسُ كلُّهمْ ... كما لأبيهِ أو لِجدَّيهِ أذعنُوا
وصية زهير بن أيمن
1 / 5
وحدثنا علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زهير بن أيمن بن الهميسع وصى ابنه عريب بن زهير ولم يكن له ولد غيره، فقال: يا بني، قد انتهى إليك ما كان من وصية جدك سبأ بن يشجب بن يعرب، وما افترق عليه ابناه يوم الوصية والقسمة، وهما جداك حمير وكهلان فلا تجرين الأمر إلا على ما جرت به الرسوم من لدنهما إلى هذه الغاية. وأوصِ بعدك من يصلح لهذا الأمر من ولدك ومن إخوتك. وأوصيك بالثبات على ما وجدتني عليه من العدل في الرعية والتجاوز عن المسيء والكف عن أذى العشيرة، والتحفظ بها والتحبب إليها، فما المرء إلا بقومه ولو عز. وأنشأ يقول: " من البسيط "
عَريبُ لا تنسَ ما وصَّى أبُوكَ بهِ ... إنَّ الوصية لمَّا يعدُها الرَّشَدُ
كلُّ امرئٍ عِزُّهُ ... فاعلم عشيرتُهُ وفي العشيرةِ يُلغى العِزُّ والعددُ
ما البيتُ لو لمْ يكنْ فوقَ الأساسِ ولم ... تقلّه دعمٌ للسعف والعَمَدُ
لولا الغَريفُ ولولا خيسُ غابَتهِ ... لما سطا موهِنًا بالقُدرةِ الأسدُ
فضيلة المرء تؤويه وتعضدُهُ ... إن الذليلَ الذي ليست لهُ عَضُدُ
والمرءُ تسلمُ دُنياهُ ونعِمتُهُ ... ما ليسَ يأتيهِ من إخوانِهِ الحسدُ
وصية عريب بن زهير
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير وصى بنيه وهم أربعة نفر؛ الصباح وجنادة وأبرهة وقطن بنو عريب بن زهير فقال لهم: يا بني، إني وجدت الشرف والسؤدد والعز والنجدة والطاعة والملك يدل على ستة أشياء. إني وجدت السؤدد لا يزايل الكرم، ولا يسود من لا كرم له. وإني وجدت العز مع العدد حيثما كان، ولا عز لمن لا عدد له، ولا عدد لمن لا عشيرة له، وإني وجدت النجدة في الأيادي، ولا نجدة لمن لا أيادي له، وإني وجدت الطاعة مع العدل، ولا طاعة لمن لا عدل له، وإني وجدت الملك في اصطناع الرجال، ولا ملك لمن لا يصطنع الرجال، يا بني، احفظوا وصيتي واثبتوا عليها، واعملوا بها، ولا تعصوا أخاكم قطنًا فإنه خليفتي فيكم بعد الله وولي الملك بعدي دون أي أحد. وأنشأ يقول: " من البسيط "
مضتْ لأسلافنا فيمنْ مضى سُنَنٌ ... ساسُوا بها لَهمُ مُلكًا فما وَهنُوا
فَسُسْتُ بعدهُمُ المُلكَ الذي مَلكُوا ... وأنتَ سائسُ ذاكَ المُلكَ يا قَطَنُ
لم أعدُ سِيرتهُمْ يومًا وأنتَ لهمْ ... لا تعدُ عن سيرتي ما أورقَ الفَننُ
بالأصلِ تُمرعُ لا بالفَرعِ مونقةٌ ... وكيفَ يخضرُّ لولا أصلُهُ الغُصنُ
ذَرِ التغافُل عن نيلٍ تجُودُ بهِ ... إن التغافلَ غيٌّ والهُدى فِطَنُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن قطن بن عريب ولي الملك بعد أبيه، وسار في الناس بسيرته وسيرة أسلافه، وقلد الملك في حياته ابنه الغوث بن قطن بن عريب، وقال له: يا بني إني لم أقلدك الملك ارتفاعًا عنه ولا رغبة في أجل منه، إلا أني أردت أن أقف على سيرك بالناس وسياستك للملك بينهم، وأن أعلم كيف طاعتهم لك كيلا أخرج من الدنيا ولي غصة في ذلك من أمرك وأمر الناس. يا بني، أوصيك بإخوتك أن تفعل لهم ما فعلته لك، وأن تبذل لهم نصيحتك، وتخفض لهم جناحك. وأسألك أن تفعل للعشيرة ما سألتك أن تفعله لهم ولإخوتك، فما الراحة إلا بالأصابع، وما الساعد إلا بالعضُد.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
وصَّيتُ غوثًا بما وصَّى أوائلُهُ ... وللوصيَّة إمهالٌ وإمكاثُ
قلَّدتُه المُلكَ لما أن رأيتُ به ... خصائلًا نحوها للمُلك إحثاثُ
ورَّثتهُ سُننًا قد كنتُ وارِثها ... وللملوكِ مواريثٌ وورَّاثُ
قد يُنعشُ المُلكَ ذُو الرأي الأصيلِ كما ... يحييْ زراعتهُ بالرأيِ حراثُ
كُلُّ امرئٍ والذي كانتْ عليهِ لهُ ... اباؤُهُ ولكُلٍّ منهُ ميراثُ
والشَّريُ شريٌ ولو أبصرته عسلًا ... والأريُ أريٌ ولو غَالتهُ أحداثُ
وفي الزّواعب خطِّيٌ وذُو خورٍ ... وفي القواضبِ مِذكارٌ ومِئناثُ
وفي السحاب صبير هويُهُ دلسٌ ... ومطبقٌ مسبِلٌ بالجُودِ لثاثُ
1 / 6
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن الغوث بن قطن ولي الملك في حياة أبيه، وبعد وفاته دهرًا طويلًا، فكان من أحسن الملوك سيرًا، وأثبتهم على سنن آبائه وأجداده، وكذلك كان ابنه وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعده.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الغوث بن قطن كان وصى ابنه وائل بن الغوث، فقال له: يا بني، إن الملك دار بناها الله لأسلافك، فعمروها بالعدل والإحسان، فكانت الروائح إليها تروح، والسوام منها تسرح، كذلك ورثتها عمن قبلي، وكذلك أخلفها لك، فعليك بعمارتها كما كان يعمرها من أسلافك. واعلم أن الدار دار بنيت لها، مبنية حيطانها، ومشيدة أركانها. وما لم يقع فيها أو في شيء من بنيانها ثلمة، فإن الثلمة تتبعها مثلها، ولا يستقر إلا في حجرتها. وأوصيك بالرعاة خيرًا، فإن السوام لا يصلح إلا بمراعاة المسيم.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
المُلكُ دارٌ لمن بالمُلكِ يعمرها ... فمن يفوزُ بها من آلِ قحطانِ
مَنْ كان مِنهُم لهُ الإحسانُ يملكُها ... بما لها من عماراتٍ وسُكانِ
هل ساكن الدار لولا الدار يحفظُها ... إلا كَمَنْ حلَّ في صحراءَ غِيطانِ
وما عسى الدَّارُ لولا ما أحاطَ بها ... لعامرِ الدَّارِ من باب وبنيان
فإن تعاورها ثلمُ فساكنُها ... وساكنُ الفَدفدِ الفيفيِّ سيَّانِ
ما الدَّارُ إلا بِمَنْ يَحتلُّها وبِمَنْ ... توصِيه يَعهدُهَا مِنْهُ بعُمرانِ
وما عَسَى يجمعُ الرَّاعي إذا افترقتْ ... ليلًا عن الحِجرةِ المِعزَا مع الضَّانِ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب ساس الملك بعد أبيه سياسة حمده فيها أهل زمانه، وكذلك ابنه عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعد أبيه وائل بن الغوث، وسار بالناس بسيرة أبيه، وأجراهم على سنن أجداده وأسلافه. وعبد شمس بن وائل هو جد بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، واسم عمرو معاوية بن المعترف، واسم المعترف علاق بن شدد بن القطاط بن عمرو، وعمرو دوانس بن عبد شمس، فما من هؤلاء القوم المسمين أحد إلا وقد ملك ما ملك عبد شمس وآباؤه من قبله. وأخبارهم تطول عند الشرح.
ثم انتقل الملك من هؤلاء القوم إلى حمير الأصغر وهو زرعة بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث. وأخو زرعة سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس وكان حسن السيرة في الناس حين ولي الملك، وكذلك كان ابنه شدد بن زرعة.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زرعة بن كعب بن زيد بن سهل وصى ابنه شداد، فقال: يا بني، لو أن ملكًا يستغني بثاقب رأيه دون رأي الناس لفضل عقله وكمال معرفته وبارع أدبه وفطنته وعلمه بما تقدم من التجارب لأسلافه مع ما حفظه ورواه وأحاط به من سنن الأوائل من الآباء والملوك من قومه وسنن الماضين من الأجداد من أغنى الملوك عن مشاركة أهل الآراء ومشاورة الأقيال، ووصية الموصين، إلا أنه لا بد للملك من يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك. ولا بد للولد من وصية الوالد، قلَّت الوصية أم كثرت.
ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
جرَّبت قَبلكَ أسبابًا عَمِلتُ بها ... في المُلكِ بيني وبينَ النَّاس يا شددُ
فلمْ أجِدْ نجدةً في المُلكِ تكلؤهُ ... مثلَ النَّوالِ إذا ما قلَّتِ العُددُ
ولمْ أجِدْ طاعةً كالعدلِ إن نزعتْ ... عن طاعةٍ لمليكٍ في الأنامِ يدُ
والناسُ كالوحشِ إن دارأتم شرعوا ... وإن دنيت لهم عافُوا وما وَرَدُوا
متى أطاعكَ ساداتُ العشيرةِ لا ... يعصيكَ في الناسِ فاعلم بعدها أَحَدُ
دارِ الورى وذوي القُربى وجُدْ لهمُ ... بالخيرِ إنَّكَ مطلوبٌ بما تَجِدُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن شداد بن زرعة بن كعب بن زيد ولي الملك دهرًا طويلًا لم يعصه أحد من حمير ولا كهلان في ملكه الذي أحاط به بأكثر الأرض ومن فيها. ويقال إنه سار في الناس بسيرة آبائه، وأجراهم على سنن أجداده، وحفظ وصايا الأوائل من أسلافه، وعمل بها، وثبت عليها إلى أن توفي.
1 / 7
وانتقل الملك إلى ابن عمه الحارث الرائش بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. فالرائش أبو التبابعة السبعة. ويقال: إنه أول ملك استعمل الدروع لأصحابه وألبسهم إياها. ويقال: إنه قسم بلدان اليمن سهلها وجبالها وأوديتها بين عشائره، وأعانهم على عمارتها، وأخرج لهم فيها المستغلات، فارتاشت العشيرة واستغنى بعضها من بعض عن كثير مما كانوا محتاجين إلى الملك مما في يده، ولارتياشهم معه سموه الرائس، وإلا فاسمه الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الرائش وصى ابنه ذا المنار بن الرائش فقال له: إن أباك حوى لك الملك، وأقره في محتد أنت أوسط الناس فيه، وأولاهم به. وإنه ليوصيك بزيادة ما نالت يدك من الخير أن تفعله إلى من سمع لك وأطاع. واجعل العدل ناصرًا، واتخذ الأحساب لك تجده، واصطنع العشيرة ليوم.
وأنشأ يقول:
حويتُ لكَ المُلكَ الذي كانَ حازَهُ ... لأولادِهِ في سلفِ الدَّهر حِميرُ
فكُنْ حافظًا للمُلكِ بعدي عامرًا ... فقدْ يُحفظُ المُلكُ الأثيلُ ويعمرُ
وعِمرانُهُ أن يُبسطَ العدلُ دُونهُ ... وبالعدلِ تنهى ما نهيتَ وتأمرُ
وثابِرْ على الأحسابِ إنك لن ترى ... فتىً محسنًا إلا يُعانُ ويُنصرُ
وقومكَ واصِلهُم وحِطُهُمْ وإنَّما ... بقومِكَ تعلُو منْ أردتَ فتقهرُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن أبرهة ذا المنار بن الرائش ولي الملك بعد أبيه الحارث الرائش، وثبت على ما وصاه به أبوه الرائش وعمل به وحفظه، وهو أول ملك نصب الأعلام وبنى الأميال والعلامات على الطرق والمناهل، ولذلك سمي ذا المنار، وذلك أنه ضرب في الأرض يطلب بلاد في شرقها وغربها ليفتحها، وليأخذ إتاوتها واسمه أبرهة ذو المنار بن الرائش، وهو الذي ذكره صلاءة بن عمرو الأودي في شعره الذي ذكر التبابعة والمثامنة حيث يقول: " من الوافر "
فلَو دامَ البقاءُ إذًا جُدودي ... وأسلافي بنو قحطانَ دامُوا
ودامَ لهم تبابُعُهمْ ملوكًا ... ولم تَمُتِ المثامنةُ الكرامُ
وعاشَ الملكُ ذو الأذغارِ عمروٌ ... وعمروٌ حَولَه النُّجُبُ اللُهامُ
وخُلِّد ذو المنارِ وما تردَّى ... أبُوهُ الرَّائِشُ المَلِكُ الهُمامُ
مُلُوكٌ أدَّتِ الدُّنيا إليهمْ ... إتاوتها ودانَ لها الأنامُ
ولمَّا يَعصِهِم حَامٌ وسَامٌ ... ويافثُ حيثُ ما حَلَّتْ ولامُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: أما سام فأبو العرب، وأما حام فأبو النوبة والحبش والزنج والبجاة والبازة. قال: وقرأت في بعض الكتب أن خراسان أخو فارس، وأخوهما كرمان والكرد الأكبر، أبوهم يافث بن نوح النبي ﷺ، وقال: إن الروم منه من ولد لام بن نوح النبي ﷺ، وفيه من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم ﷺ. قال: فأما الروم الأولى فمن ولد لام بن نوح النبي ﷺ، إخوتهم الصقالبة والخزر والغورط والكابل والصين والسند والهند.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي أن أبرهة ذا المنار وصى ابنه عمرًا ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار، فقال له: يا بني، إن الملك زرع، والملك قيِّمٌ ملك الزرع، فإن أحسن القيم قيامه عليه في سقائه عند حاجته إليه، وفي إجلابه غرائب النبات مما نبته وتعاهده إياه بالكرم وحمايته عن المؤذيات من البهائم والطير زكا حصاده، وكثر محصوله، وحمد القيم، واستكرمت الأرض، وإن كان القيم غير متفقد لذلك الزرع ولا متيقظ لمثابرته على سقياه وكرمه وحمايته وحفظه أوهنه العطش، وأيبسه الخلى، وأكلته الطير، وداسته البهائم، فلا الزرع زاك، ولا الأرض معمورة، ولا القيم محمود.
ثم أنشأ يقول:
يا عمروُ إنَّكَ ما جهلتَ وصيَّتي ... إيَّاكَ فاحفظها فإنَّكَ ترشُدُ
يا عمروُ لا واللهِ ما سادَ الورى ... فيما مضى إلا المعينُ المُرفِدُ
كلُّ امرئٍ يا عمرو حاصدُ زرعِهِ ... والزَّرعُ شيءٌ لا محالةَ يُحصَدُ
إن كانَ مذمُومًا فيعرفُ دُونَهُ ... بالذَّم فيه الزَّارعُ المُتقلِّدُ
أو كانَ محمودًا فَتُحمدُ أَرضُهُ ... والزَّرعُ والزَّرَّاع كلٌ يحمدُ
1 / 8
يا عمروُ من نشرَ العلا بنوالِهِ ... كَرَمًا يُقالُ له الجواد السيدُ
يا عمرُو أنتَ لكَ المهابةُ والعُلا ... في النَّاسِ والمُلكُ اللقاحُ الأتلدُ
واصِلْ ذوي القُربى وحُطهُم إنَّهمْ ... بِهِمُ تَغَمُّ الأبعدينَ وتصمدُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن عمرًا ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر خرج يطوف للإعمال من شرق البلاد وغربها، فكان لا يسمع به قوم إلا وولوا الأدبار رهبة منه خائفين مذعورين، فلذلك سمي عمرًا ذا الأذعار وهو أبو التُبَّع الأول.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عمرًا ذا الأذعار وصى ابنيه تبعًا ورفيدة فقال لهما: غيركما يجهل الملك وسياسته ورعايته وكلاءته وما يحتاج إليه الملك من التيقظ والتدبير والحزم والحلم والموالجة والمحاماة والمناوأة، وما الملك إلا رحى تدور على قطب، فإن جعل لها مع ذلك القطب قطب آخر وقفت الرحى منها. وهذا لتعلما أن الملك لا يستوي لاثنين إلا أن يكون أحدهما المقتدي والآخر المقتدى به. وقد علمتما أن التاج لا يسع الرأسين، ولا يجمع الرأسان في تاج أبدًا، كما لا يصلح السيفان في غمد.
ثم أنشأ يقول شعرًا يأمر فيه ابنه رفيدة بطاعة أخيه تبع بن عمرو ذي الأذعار وهو التبع الأول:
رُفيدةُ لا تعصِ أباكَ فإنَّهُ ... رأى رأيهُ أن يُعطي المُلكَ تُبَّعَا
ليُعطيكَ الخيلَ المُغيرةَ تُبَّعٌ ... فترعى لهُ المُلكَ اللَّقاحَ المُمنَّعا
ينالُ بكَ العليَا وأنتَ كمِثلِهِ ... تنالُ به طودًا من العِزِّ ميفعا
وتصبحُ ركنًا دُونهُ ووزيرَهُ ... منيعًا ويُمسي مؤئلًا لكَ مفزعا
فما عَزَمَ ابنا سيِّدٍ وتعاضدا ... على سَبَبٍ رأيًا هُما فيهِ أجمعا
وقاما لهُ إلا ونالاهُ جهرةً ... وفازا بِهِ منْ دونِ من ذاقهُ معا
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن تبع بن عمرو ذي الأذعار ولي الملك بعد أبيه، وقلد أخاه رفيدة بن عمرو الوزارة، فكان إلى التبع ما يكون إلى الملك، وكان إلى رفيدة ما يكون إلى الوزير، فبقيا في ذلك دهرًا طويلًا على وصيته أبيهما عمرو ذي الأذعار، وسار الملك تبع في الناس سيرة أبيه ذي الأذعار، وبسط العدل والإحسان في الأرض، ورزق من الهيبة، وأعطي من الطاعة ما لم يعط أحد قبله. وهو الذي يقول فيه الموثبان بن ذي حارث: " من السريع "
مَنْ ذا الذي يسألُ عن تُبَّعٍ ... كأنَّهُ لم يدْرِ ما تُبَّعُ
وتُبَّعٌ في الأرضِ سُلطَانُهُ ... كالشَّمسِ في آفاقها تسطعُ
المَلِكُ المحمُودُ في مُلكِهِ ... والماجِدُ المُهرُ الذي يَمرَعُ
قد ملكَ النَّاس فأحياهُمُ ... ناهيكَ من تُبَّعٍ مُستمتعُ
ذُو الغارةِ السَّوداءِ تجري لهُ ... أوارد العُصْم فلا تُمنعُ
وَخَيلُهُ مُرسلَةٌ في العدا ... زُهوًا رِعالًا تمرَعُ
إتاوةُ الأرضِ وَمَنْ حلَّها ... طوعًا إلى تُبَّعٍ تُدفعُ
ما رَفَعَ التُبَّعُ لم يُوهِهِ ... مُوهٍ وما أوهاهُ لا يُرفَعُ
وصية تبع بن عمرو
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن التبع بن عمرو ذي الأذعار وصى ابنه حسان ملك يكرب، وهو الثاني من التبابعة، فقال له: يا بني، إن الملك صنعة والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته استجادها الناس له، واستحكم أمره فيها فكسب بها المال والجاه وكانت له عدة وذخيرة. وإن استهان بها ولم يقم حق قيامه عليها ذهبت الصنعة عن يده، وانقطعت منافعها عنه، واكتسب الذم لنفسه والحرمان، وكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
ما زِلتُ بعدَ أبي بالمُلكِ مُنفرِدًا ... أسُوسُهُ بعد أسلافي وأجداديْ
أَحميْ محاسِنَهُ جهدي وأكلؤُهُ ... دَهرِيْ وأحكمهُ بعديْ لأولاديْ
وقدْ ضربتُ لكَ الأمثالَ فِيهِ وقدْ ... عَرفَتَ في المُلكِ إصداريْ وإيراديْ
فاعمَلْ بما لم أَزَلْ مُذْ كُنتُ أَعمَلُهُ ... في المُلكِ يرشِدكَ يا حَسَّانُ إرشاديْ
1 / 9
ويقال: إن حسان هو الأقرن. توفي بأرض المغرب، فولي الملك بعده إفريقيس. ويقال: إنه اسمه إفريقيش، كل ذلك قد قيل. ويقال إنه هو الذي بنى بالمغرب مدينة، يقال لها إفريقية، منسوبة إلى اسمه. وهو الثالث من التبابعة.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن إفريقيس وصى أخاه أسعد أبا كرب، فقال له: قد علمت ما عهد إلي أبونا مما عهد إليه أبوه من وصايا الآباء والأجداد في سياسة هذا الملك الذي أوتينا من دون غيرنا، فعليك بالتمسك بما وجدتني عليه من بث العدل واصطناع الرجال ومكابدة العدو والصفح عند الاقتدار وسد الثغور وإتقاء الخلل.
وأنشأ يقول:
لمْ يروِ عنكَ ذخيرةً ممَّا بها ... مَلِكُ البلادِ أَخوكَ إفريقيسُ
لا تعدِلَنَّ وَصِيَّةً وَصَّاكَهَا ... إن الوصيَّةَ مَقصَدُ مأنوسُ
كُلَّ امرئٍ وبُلُوغُهُ في قومِهِ ... الكُلُّ كُلٌّ والرَّئِيسُ رئيسُ
والنَّاسُ كالأغصانِ غُصنٌ ناضِرٌ ... مِنها وذاوٍ قد علاهُ البُوْسُ
أَوصِيكَ خيرًا بالأنامِ فإنَّما ... لَكَ مُلكُهُمْ والمنصِبُ القُدمُوسُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن أسعد وهو الرابع من التبابعة ولي الملك بعد أخيه إقريقيس بن حسان بن تبع بن عمرو ذي الأذعار، فسار في الناس سيرة الأوائل من آبائه وأجداده، وملك من البلاد ما لم يملك أحد قبله، وأعطي من العدد والعدد ما لم يعط ملك، وهو الذي يقول: " من السريع "
يا أَيُّها السَّائِلُ عن خَيلِنَا ... ما العَالِمُ المُخبِرُ كالجاهلِ
تسعُونَ ألفًا عَددًا بُلقُها ... وَدُهمُها كالعارضِ الوابلِ
عن مُلكِنَا النَّاس لم تَعصِنَا ... في الأرضِ من حافٍ ومن ناعلِ
أَدَّتْ لنا الخَرجَ أحابيشُها ... والسِّندُ والهِندُ مع كابُلِ
والصِّينُ قد أدَّتْ لنا خرجَهَا ... في عاجِلٍ مِنْهَا وفي آجلِ
وكَمْ لنا في الشَّرقِ والغَربِ مِنْ ... مُستخرِجٍ جابٍ وَمِنْ عَامِلِ
في أرضِ كرمانَ وفي فارسٍ ... وفي خُراسانَ وفي بابلِ
كُلًا فتحناها لَنَا عُنوةً ... تحفِلُ مِثلَ الدَّبَى السَّائلِ
ويقال: إن أسعد الكامل مرض مرضة أشرف منها على التلف، وذلك عند انصرافه من سفره الذي سافر فيه حين دخل الظلمات، وكان له ولد يقال له حسان الأصغر، سماه باسم أبيه، ويقال: إنه لم يملك شيئًا، وهو الذي ذكره أبوه أسعد الكامل في شعره، يوصيه فيه عند مرضته تلك، حيث يقول:
حَضَرتْ وفاةُ أَبِيكَ يا حَسَّانُ ... فانظُر لِنَفسِك والزَّمانُ زمانُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن أسعد الكامل وصى، وهو عم أبيه، وهو المعمر من التبابعة، وهو تبع بن زيد بن رفيدة بن عمرو ذي الأذعار، وهو الخامس من التبابعة، فقال له: ما من شيء إلا وله أصل وأساس، وأصل الملك وأساسه الرجال، وأساسها الاحسان إليها، ومن أحسن إلى الرجال أطاعته وسمعت له، ومن سمعت له الرجال دانت له البلاد ومن فيها، وما دانت البلاد ومن فيها إلا لمالكها بعد الله ﷿، وحكم لمالكها أن يستديم له الملك فيها بالعدل والإحسان، فإنه لا طاعة لمن لا عدل له، ولا ملك لمن لا إحسان له. ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
لا مُلكَ إلا الرِّجالُ المُحضِرُونَ لَهُ ... بالمَشرَفيَّةِ والصُّمِّ المَدَاعِيسِ
في الخافقينِ لهُمْ ضربٌ تَطِيُر لَهُ ... أيديْ الحُماةِ وهَامَاتُ القناعيسِ
فَهُمْ أساسُ العُلا والمكرُمَاتِ ... وهُمْ لرائِم المُلكِ عِزٌّ غيرُ مَنْكوسِ
متى أَطاعوهُ وانهَلَّتْ تبابِعَةٌ ... في الرَّحلِ منها وفي الخيلِ الكراديسِ
نالَ العُلا وحوى المُلكَ العظيمَ بهِمْ ... والحظُّ في المُلكَ جاءَ غيرَ منحُوسِ
وَمَنْ عَصَوهُ فمدحُورٌ وَمُنَكشفُ ... ومَنْ أطاعُوهُ عالٍ غيرَ مَنخُوسِ
وعدة المَرءِ دُونَ النَّاس أُسرتُهُ ... وهَلْ تُشادُ العُلا إلا بتأسيسِ
1 / 10
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: ابن التبع بن زيد بن رفيدة بن عمرو بن أبرهة بن الرائش، ولي الملك بعد أسعد بن حسان المعروف بملكيكرب الأقرن، فأحسن سيرته في الناس، وملك ما ملك الأوائل من آبائه وأجداده، ويقال إنه وصى ابنه ياسر ينعم بن تبع بن زيد بن رفيدة بن ذي الأذعار، وهو السادس من التبابعة، فقال له: يا بني إن الملك مصباح، والملك واقد ذلك المصباح، فإن حفظه من ريح يطفئه أو من ذبالة لا تساعفه أو من وقود يقطع به منه أو من مستوقد لا يخونه دام له ذلك المصباح وسلم ضياؤه ونوره ما شاء أن يضيء له، وإن هو غفل عنه بعد أن أوقده، ولم يقم حق قيامه عليه أطفأته الريح، فإن سلم من الريح لم يسلم أن يطفأ عند انقطاع الوقود عنه، فإن سلم من انقطاع الوقود لم يسلم من أن يطفأ عند احتراق الذبالة، ولا يؤمن عند احتراق الذبالة من مستوقد الصباح أن يطير المستوقد قلقًا؛ فلا النور ساطع، ولا المستوقد صحيح، ولا الذبالة سالمة، ولا الواقد محمود. ثم أنشأ يقول:
ضَربتُ لكَ الأمثالَ ياسرُ ينعمُ ... وأنتَ بما يُوحى إليكَ خبيرُ
وأنت غدًا للمُلكِ مِنْ دونِ كُلِّ من ... يُحاولُ مُلكًا في البلادِ جديرُ
أَعِنْ واستَعِنْ ما دُمتَ للعِزِّ راكِبًا ... وفي كفِّكَ المُلكُ اللَّقاحُ جَريرُ
فإنِّيْ رأيتُ المُلكَ مِصبَاحَ سامرٍ ... إذا نالَهَ أمرٌ فليسَ ينيرُ
فإن لم يخنه بُؤسُهُ ووقُودُهُ ... ويسلمَ مِنْ ريحٍ عليهِ تدورُ
يُضِيُء ومِنْ تحتِ الظَّلامِ سِرَاجُهُ ... يُضيءُ له الديجور فهو بصيرُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن ياسر ينعم بن تبع بن زيد بن ذي الأذعار بن ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر ثبت بعد أبيه على وصايا آبائه وأجداده، وحفظها، وعمل بها في سياسة الملك ما ثبته بين الناس، ولم يتعد سيرة أسلافه وسنن أوائله.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ياسر ينعم بن تبع بن زيد بن رفيدة بن عمرو وصى ابنه شمر ذا الجناح، فقال له: يا بني، دبر الملك، فإن التدبير ثباته، والإحسان أساسه، والعدل قوامه والرجال عزه، والمال نجدته، والعشيرة عدته. ولا ملك لمن لا تدبير له، ولا ثبات لمن لا إحسان له، ولا إحسان لمن لا عدل له، ولا عدل لمن لا قوام له، ولا قوام لمن لا رجال له، ولا رجال لمن لا بذل له.
ثم أنشأ يقول:
أُوصِيكَ شَمَّرُ ذا الجناحِ وصيَّةً ... ما زِلتُ أحفظُها لِجَدِّك تُبَّعِ
ما لاحَ لي دَرْكُ العُلا إلا بِهَا ... وبها اهتديتَ إلى السبيل المهيعِ
ولقد ملكتُ بها البلادَ وحُزتُها ... ما بينَ مغربِ شمسِها والمَطلعِ
فاحفظْ لِملكِكَ ذا الجناحِ وصيَّتي ... وعليكَ شَمَّرُ بالخِصالِ الأرفعِ
حشد الرِّجال وإنهُم لكَ عُدَّةٌ ... وبِهِم تُدافِعُ كلَّ أمرٍ مُفظِع
وعليهمُ وبهِمْ تدورُ رحى العُلا ... والمكرُمَاتُ وَكُلُّ أمرٍ ميفعِ
واعدِلْ فإنَّ العدلَ يُحمدُ غِبُّهُ ... والخيرُ مهما اسطَعتَ مِنهُ فاصنعِ
كُلُّ امرئٍ يُجزَى بما سَبَقتْ لهُ ... فإذا أردتَ حصادَ زَرعِكَ فازرعِ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن شمر ذا الجناح ولي الملك بعد أبيه، وهو آخر التبابع وأعظمهم ملكًا وسلطانًا، وهو الذي يقال له الُتَّبع الأكبر، وهو الذي سار في الظلمات بعد أسعد الكامل في منقطع الأرض، يطلب فيها ما طلب ذو القرنين وأسعد الكامل، وهو الذي بنى مدينة سمرقند وإليه نسبت. وكتب على باب مدينة مرو كتابه الذي يعرف به وله إلى اليوم، وكذلك كتب على صنم المغرب الذي ليس وراءه إلا الرمل الذي تتغطمط أمواجه كما تتغطمط أمواج البحر، ويجري كما تجري السيول الطامة في أوديتها. وقد ذكر ذلك الدعبل بن علي الخزاعي في شعره الذي يقول فيه: " من الوافر "
وهُمْ سمَّوا سمرقندًا بِشِمرٍ ... وهُم غَرَسُوا هُناك التُّبتينا
وَهُم كتبُوا الكتابَ ببابِ مروٍ ... وباب الصِّين كانُوا كاتِبينا
وفي صنمِ المغاربِ فوقَ رملٍ ... مسيلُ تُلُولهِ تحكي السَّفِينا
1 / 11
وهذا الُتَّبع المذكور هو أول ملك بشَّر بمحمد النبي ﷺ بعد أسعد الكامل وآمن به، وحج واعتمر وطاف بالبيت سبوعًا، ونحر البدن، وكسا الكعبة، وجعل لها بابًا وحلقًا. وقد ذكر ذلك في شعر له حيث يقول: " من الخفيف "
وكسونا البيتَ الَّذي حَرَّمَ الل ... هُ ملاءً مُعضَّدًا وبُرُودا
ثُمَّ طُفنا بهِ من السَّيرِ سبعًا ... وجعلنا لبابهِ إقليدا
ونحرنَا بالشِّعب تسعينَ ألفًا ... فترى النَّاسَ حولهُنَّ وُرُودا
وقد ذكر ذلك حكم بن عباس الكلبي في شعره الذي يقول فيه: " من الوافر "
وتُبَّعُنا الَّذي قد طافَ سبعًا ... وزارَ البيتَ قبلَ الزَّائرينا
وآمنَ بالنَّبيِّ وما رآهُ ... فكانَ من الهُداةِ الفائزينا
ويقال: إنه زين الملوك وأبناء الملوك من قومه من قبائل العرب والعجم ومدائنها وأمصارها. فكان لكل قبيلة من العرب ولكل حي من العجم ملك من قومه إما حميري وإما كهلاني، يسمع له ويطاع. ويقال إنه جمع الملوك وأبناء الملوك الأوائل وأبناء المقاول من قومه فقال لهم: أيها الناس، إن الدهر قد نفد أكثره، ولم يبق إلا أقله، وإن الكثير إذا قل إلى نقصان أحرى منه إلى زيادة، فسارعوا إلى المكارم، فإنها تقربكم إلى الفلاح، واعملوا على أن من سلم من يومه لم يسلم من غده، ومن سلم من غده لم يسلم مما بعده. وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد، وتصيرون إلى ما صاروا إليه الأولون، وكل يوم الموت أقرب إلى المرء من حياته منه، ولكل زمان أهل، ولكل دائرة سبب، وسبب عطلان هذه الفترة التي من عزَّ فيها بزمن هو دونه ظهور نبي، يعزُّ الله به دينه، ويخصه بالكتاب المبين على يأس من المرسلين، رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين، فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم من بعدكم وأبناء أبنائكم قرنًا فقرنًا وجيلًا فجيلًا، لتتوقعوا ظهوره، ولتؤمنوا به، ولتجتهدوا في نصرته على كافة الأحياء، حتى يفيء الناس له إلى أمر الله.
ثم أنشأ يقول: " من المتقارب "
شَهِدتُ على أحمدٍ أنَّهُ ... رسولُ منَ اللهِ باري النَّسمْ
فلو مُدَّ دهري إلى دهرِهِ ... لكُنُتُ وزيرًا لهُ وابنَ عمْ
وَألزمتُ طَاعتَهُ كُلَّ مَنْ ... على الأرضِ منْ عَرَبٍ أو عجمْ
فأَحمَدُنا سَيَّدُ المُرسَلِين ... وأُمَّتهُ تلكَ خيرُ الأممْ
هو المُرتَضَى وهُو المُصطَفَى ... وأكرَمُ مَنْ حملتْهُ القَدَمْ
ويقال: إن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبي ﷺ، وتبشر به، وتوصي بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصرته من ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله ﷺ، فكانوا له حين بعث من أحرص الناس على نصرته وطاعته؛ فمنهم من سمع له وأطاعه وآمن به قبل أن يراه، ومنهم من وصل به كتابه فسمع له وأطاع وآمن وصدق، ومنهم من وازره ونصره وأيَّده وجاهد في سبيل الله دونه حتى أتاه اليقين. نطق بذلك كتاب رب العالمين في قوله جلَّ شأنه: " والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". وقوله ﵎: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ". يقال إنهم همدان. وقد كان من خبر سيف بن ذي يزن الحميري في أمر النبي ﷺ وكلامه وإلقائه إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عند وفوده على سيف بن ذي يزن ما كان. ويقال: إنه لم يكن لسيف بن ذي يزن ذلك العلم في أمر النبي ﷺ إلا من جهة تبع، وما تناهى إليه مما كان ألقاه إليهم تُبَّع وعرّفهم به من أمر النبي ﷺ.
1 / 12
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن يوسف ذا نواس لما انتقل الملك إليه ظهر له الحسد من بعض قومه وبلغه عنهم قوارص مما يلفظون به ويخوضون فيه من أمره، قال فأقبل عليهم وقال: يا أيها الناس، ما من رئيس حقد فأفلح، ولا من رائم أمر يستعجل فيه فأنجح، ألا وكأني بمن يقول: إن يوسف ذا نواس ملك هذا الأمر وليس من ورثته ولا من أبناء من حازه من قبله. وكلا، ليس الأمر كما زعم الزاعم، ولكن للملك أساس، من حازه حاز الملك.
ثم أنشأ يقول: " من الوافر "
أساسُ المُلكِ ويحكُمُ رِجَالٌ ... إذا ما المُلكُ زالَ عنِ الأساسِ
بلِ المُلكُ الأثيلُ لهُم مُثنَّى ... وفيهم كل ذي عزٍّ وباسِ
ومنْ يُعطِ الرِّجالَ ... ويُطعنَ دونهُ يومَ الحماسِ
ينالُ بها من الدُّنيا الذِي قد ... حواهُ المرءُ يوسفُ ذُو نُواسِ
فَكَمْ من تاجِ مُلكٍ قد رأيتُمْ ... تحوَّلَ من أُناسٍ في أناسِ
ألا يا للقبائِلِ أنصِتُوا ليْ ... لأُخبركُم فإنَّ الطَّبَّ آسِ
وإنَّ وصيتيْ ما زِلتُ قِدمًا ... لها يا للقبائلِ غيرَ ناسِ
أطيعُوا الرَّأسَ مِنكُمْ كي تسُودُوا ... وهل ذنبٌ يَسُودُ بغيرِ راسِ
فإنَّ النَّاس مِثلُ الأرضِ أرضٌ ... وإنَّ مُلُوكهمْ مثلُ الرَّواسيْ
ولولا الرَّاسياتُ إذًا لمادتْ ... روابيْ الأرضِ حقًَّا
وأجناسُ الرَّواسي الشُّمِ ستٌّ ... فذو تبرٍ يصانُ وذو نُحاسِ
وذو ماءٍ وذُو زرعٍ وضرعٍ ... وذو ثقلٍ كأمثالِ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا رعين واسمه يريم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس أقبل على أهل بيته وولده، وكان عُمِّر عمرًا طويلًا حتى ضعف بصره وقصر خطاه وكلَّ سمعه، فقال لهم: يا بني، قد حفظت من وصايا الأوائل من أسلافي، وسلكت مسلك آبائي وأجدادي، وأفادني الدهر بالكبر والشباب من الأدب والزيادة في المعرفة ما يصلح به المرء دنياه ومعيشته فيما اشتهى فيها، وما يحيي به المآثر والمفاخر والمكارم أكثر مما أورثني الآباء والأجداد من ذلك.
وأنشأ يقول: " من الوافر "
لئن أمسيتُ لا آلو نهوضًا ... وأنَّي يا بنيَّ كما تروني
كبرتُ وهدّني مرُّ الليالي ... وصرتُ من الزَّمانِ إلى الرمين
وودّعني الشبابُ ودقَّ عظمي ... فلستُ أنوءُ إلا باليدينِ
وأصبحَ كالمُبيردِ عظمُ ساقي ... ولازمني ارتعاشُ الركبتينِ
وأظلَم ما على عينيَّ مما ... تهدّلَ من سُقوطِ الحاجبينِ
فما ذمَّتْ بنو قحطان يومًا ... إذا ذكرتْ مساعي ذي رُعينِ
نشأتُ مع الملوكِ وكنتُ فيهم ... أسوسُ لهم أمورَ الخافقينِ
وكنتُ لمعشري إذ كنتُ ركنًا ... وزينًا في الحوادثِ غيرَ شينِ
بنيَّ وإخوتي إن حانَ يوميْ ... وشاهدتمْ مع الأشهادِ حيني
سبيلي في العشيرةِ فاسلكوهُ ... لتحمدهُ العشيرةُ بعد عيني
ولا تسمُوا لمجهلةٍ فتغووُا ... غوايةَ ساقطٍ ما بينَ بينِ
فإنَّ العقلَ مفتاحُ المعالي ... وإن الجهلَ شينُ غيرُ زينِ
وحدثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا مقار أقبل على عشيرته وولده، فقال لهم: ما الاثنان منكم وإن قرب أمرهما مثل الواحد وإن عظم أمره، اجتمعوا تعزُّوا، ولا تتفرقوا فتذِلُّوا، فإن القداح واحدها يهون كسره، والاثنان منها يصعب أمرهما وكسرهما، والثلاثة منها يمتنع عن الكسر، ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
ما يغلِبُ الواحدُ الاثنينِ في سببٍ ... ولا يحيدُ عن النَّجدِ الضعيفانِ
ما ساعدٌ أبدًا كالساعدينِ وإنْ ... لم يبلُغاهُ ولا كالقدحِ قدحانِ
فردُ الرِّجالِ ذليلٌ لا نصيرَ له ... وذُو الشَّراكة في عزٍّ وسلطانِ
إن القِداح إذا لا ويتهُنَّ معًا ... عزَّتْ ولما تحُكْ فيها الذِّراعانِ
ولا تقرَّ إذا ما إن فرَقتَ لها ... تحتَ الرَّواجبِ من مثنى ووحِدانِ
هاتا ضزبتُ لكُمْ قومي بِها مثلًا ... وقد عِلمتم لكُمْ سِرِّيْ وإعلاني
أُوصيكُمُ بالَّذي ما للرِّجال بهِ ... أوصى الأوائِلُ من أملاكِ قحطانِ
1 / 13
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا جوال واسمه عامر بن حرب بن ذي مقار أقبل على إخوته وولده، فقال لهم: ما كل موصٍ يبلغ فيما يوصي. ولا كل موميء يصيب فيما يوميء. للبلاغة دليل، وللإصابة مواقع والحكم لا يعدو المهيع ولا يضل النهج السوي. أطيعوا الأرشد منكم تعزوا، ولا تعصوا أمره فتذلوا، واجتمعوا تهابوا وترجوا، ولا تتفرقوا فتعادوا وتجووا. وأنصفوا الناس واعدلوا فيما يفضى إليكم من أمورهم تحمدوا وأحسنوا أخلاقكم معهم تسودوا، فالشرف مع الحمد حيث كان، والعفو في الإنصاف حيث استبان، والطاعة مع السؤدد.
ثم أنشأ يقول:
متى ما اجتمعتُمْ نِلتُمُ العزَّ كُلَّهُ ... وأُعطِيتُمُ المُلكَ اللقاح المؤثلا
وأضحَى مُواليكُم عزِيزًا مُؤيدًا ... وأمسى مُعادِيكُم مُهانًا مُذلَّلًا
وصارَ لكُمْ أمرُ الأنامِ ونهيهُمْ ... وصِرتُمْ لهُمْ رُكنًا وكهفًا وموئلا
بكُمْ يهتدي من يطلُبُ القَصدَ مِنهُمُ ... ويسطو بِكُمْ منهُمُ على من تطوَّلا
وما يستوي السَّيفانِ ماضٍ يهُزُّهُ ... شجاعٌ ومُلقى صار جُنحًا مُفَلَّلا
وما القاهِرُ المخصُوصُ بالنَّصرِ كالذي ... يَضِلُّ ويُمسيْ خائِفًا مُتوجِّلا
وما مَنْ يُنادي قَومَهُ فَتُجِيبهُ ... ثمانونَ ألفًا جحفلًا ثم جحفلا
كَمَن لو تنادى آخِرَ الدَّهرِ لم يَجِدْ ... لهُ ناصرًا إلا غوِيًَّا مُذلَّلا
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي أن ذا مناخ دعا إخوته وقومه من بني عبد شمس فقال لهم: لا يسود المرء إلا بكرمه ولا ينال منتهى العز إلا بقومه، ولا يرزق محبته الناس إلا بإحسانه، ولا ينال الملك إلا ببذله المال للخاصة والكافة من نصرته ورجاله، ولا يدوم له الملك إلا بعدله فيهم وإنصافه لهم، ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
ما سادَ فيمنْ مضى من قبِلنا أحدٌ ... إلا المُشَهَّرُ والمعروفُ بالكرمِ
ولا حوى المُلكَ مأمولٌ ومُرتغِبٌ ... إلا بمعشرِةِ العالين في الفخم
ومحسنُ القومِ لم يعدِمْ مودَّتهُمْ ... ومنْ ودادهمُ المذمومُ في العدمِ
ولا ينالُ امرؤٌ مُلكَ الملوكِ إذا ... لم يبذُلِ المالَ للأشياعِ والخدمِ
ولا يدومُ لهُ مُلكٌ ولا شرفٌ ... إلا بإنصافِهِ والعدلِ في الأُممِ
وصية يزيد بن هاشم
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا الكلاع واسمه يزيد بن هاشم أقبل على بني عمه وإخوته وولده فقال لهم: معشر الجماعة من ولدي وإخوتي وبني عمي، لو كان الملك يدوم لأحد لدام لأسلافكم الذين ملكوا البلاد، فأحسنوا السيرة في أهلها وأخذوا للضعيف من القوي وأمنوا السبل وأذلوا الجبابرة، وأبادوا المفسدين، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وعمروا الأرض شرقها وغربها، وعندكم مما أنا باثٌّ لكم شارح عليكم من أخبارهم ومآثرهم ومفاخرهم مما تجتزئون به عما بعده. ثم أنشأ يقول: " من المتقارب "
شهدتُ الملوكَ وعاشرتهمْ ... وكنتُ وزيرًا لَهُم وابن عمْ
فحازُوا البلادَ ومن حلَّها ... منَ النَّاسِ من عربٍ أو عجمْ
وقد أخذُوا الخَرجَ في شرقها ... وفي غربها من جميعِ الأممْ
ودانتْ لهُم سُوقةُ العالمِين ... وأهلُ العُلا والملوكُ القِدمْ
بنيَّ وإخوتي الأقربين ... ومن بينكُمْ لِيَ من ذي رحمْ
عليكم...... من المجدِ ما اسطعتُمُ والكرمْ
فإنَّ النَّوالَ يُعزُّ الرِّجالَ ... وينزِلُهُم في الذُّرى والقِمَمْ
بهِ فُضِّلَ الأجودونَ الكرامْ ... على كلِّ من حملتهُ القدمْ
بهِ كملَ المالكُ المالكينَ ... من أبناءِ قحطانَ قدمًا وتمْ
وصاتي ها، فبها فاعملُوا ... وصونُوا بها المُلُكَ بعدَ النعمْ
وإنَّ يزيدًا لكمْ ذا الكلاعِ ... لفي النُّصحِ والوُّدِ لا يُتَّهمْ
ومهما قضى ربُّكُم كائنٌ ... من الأمرِ فيهِ وجفَّ القَلمْ
1 / 14
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن سيف بن ذي يزن بن أسلم بن زيد بن الغوث الأصغر بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شدد بن زرعه وهو حمير الأصغر بن كعب بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس لما وفد إليه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس القرشي وخويلد بن أسد بن عبد العزى في النفر الذين وفدوا بهم من قريش، فاستأذن عبد المطلب له ولمن معه بالوصول إلى سيف بن ذي يزن واسمه النعمان بن معد يكرب بن أسلم بن زيد بن الغوث الأصغر. قال: فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه، فاستأذن عبد المطلب بن هاشم في الكلام، فقال له وزير سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فقد أذنَّا لك. قال: فقام عبد المطلب بين يديه وحوله الملوك وأبناء الملوك، وعن يمينه وشماله الأقاول وأبناء الأقاول وسيفه مجرد بين يديه، وهو مضمخ بالعنبر، ووبيص المسك في مفرقه. فقال له عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلًا رفيعًا صعبًا منيعًا شامخًا باذخًا، وأنبتك منبتًا طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن، فأنت - أبيت اللعن - رأس العرب الذي تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، وربيعها الذي تخضب منه البلاد، سلفك خير سلف، وأنت من بعدهم خير خلف، فلن يخمل ذكر من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه. أيها الملك نحن أهل حرم الله وسكنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
1 / 15
قال: فلما سمع سيف بن ذي يزن هذا الكلام من عبد المطلب بن هاشم أقبل عليه بوجهه، فقال له: أيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. قال: فقال سيف بن ذي يزن: ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: فقال سيف بن ذي يزن: ادن إلي يا عبد المطلب بن هاشم. ثم أقبل عليهم جميعًا فقال لهم: مرحبًا وأهلًا، وناقة ورحلًا، ومستناخًا سهلًا، وملكًا رِبحلًا يعطي عطاء جزلًا. قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم. ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود. قال: فأقاموا شهرًا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف. قال: وأجريت عليهم الأنزال. فلما كان بعد فراغ ذلك الشهر انتبه لهم سيف بن ذي يزن انتباهة، فأرسل على عبد المطلب بن هاشم فأدناه وأخلى مجلسه. ثم قال له: يا عبد المطلب، إني مفضٍ إليك من سر علمي أثرًا لو يكون غيرك لم أبُح له به، ولكني وجدتك معدنه، فأطلعتك عليه، فليكن ذلك عندك مطويًا حتى يأذن الله فيه، فإنه بالغ فيه أمره، فإني وجدت في الكتاب المكتوب والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرًا جسيمًا وخطرًا عظيمًا، فيه شرف الحياة وفضل الممات، للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة. فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر والمدر، زمرًا بعد زمر؟ قال: فقال سيف بن ذي يزن: إذًا ولد بتهامة غلام به علامة، له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة. قال: فقال عبد المطلب بن هاشم: أبيت اللعن لقد أبت بخبر ما آب به وفد قوم، ولولا هابة الملك وإعظامه وجلالته لسألته من إشارة إياي ما أزداد به شرفًا، فإن رأى الملك أن يخبرني بإفصاح فقد وضح لي بعض الإيضاح. قال: فقال سيف بن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه، ويكلفه جده وعمه، قد ولدناه مرارًا، والله باعثه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا، تعز لهم أنصاره، وتذل بهم أعداؤه، ويضرب بهم الناس عن عرض، وتستفتح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويزجر الشيطان، ويكسر الأوثان، ويخمد النيران، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله. قال: فخرَّ عبد المطلب ساجدًا. فقال: له سيف بن ذي يزن: ارفع رأسك، فقد ثلج صدرك وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئًا؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ولد، وكنت به معجبًا جذلًا، وعليه رفيقًا، فزوجته كريمة من كرائم قومي، يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمدًا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة، وفيه كلُّ ما ذكرت من العلامة. قال: فقال سيف بن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب، وإن الذي قلت لك ما قلت فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له عدو، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلًا. واطوا ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لك الرئاسة، فيبغون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهو فاعلون ذلك وأبناؤهم، ولولا أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أُصَّير يثرب دار مملكتي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن مدينة يثرب استحكام أمره فيها، وأهل نصره وموضع قبره. ولولا أني أقيه الآفات وأبقي عليه العاهات لأوطأت أسنان العرب كعبه ولأعلنت على حداثة سنه ذكره، ولكني صارف ذلك إليك بغير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر جوار وعشرة أرطال تبر وعشرة أرطال فضة وكرش مملوء عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بن هاشم بعشرة أضعاف ذلك. ثم قال له: ائتني بخبره وما يكون من أمره بعد رأس الحول.
قال: فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول الحول. فكان عبد المطلب يقول: يا أيها الناس، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، فإنه إلى نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ويعقبني من بعدي من شرفه وذكره وفخره. قال: فإذا قيل له ما ذلك؟ قال: ستبلغن ولو بعد حين.
وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس القرشي: " من الوافر "
جَلَبْنَا المدحَ تحقبه المطايا ... إلى أكوارِ أجمالٍ ونوقِ
1 / 16
مُغلغلةً مَرَابعُها ثِقالًا ... إلى صنعاءَ من فجٍّ عميقِ
تؤمُّ بنا ابن ذي يزنٍ وتفري ... ذوات بُطُونِها أُمَّ الطَّريقِ
وترعى في مخايلِه بُرُوقًا ... مُوافقةَ الوميضِ إلى بُروقِ
فلمّا وافقتْ صنعاءَ صارتْ ... بِدان المُلكِ والحسبِ العريقِ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا أصبح، واسمه الحارث بن زيد بن سعد بن عدي بن ملك بن مسدد بن أسد بن حنظلة بن زرعة، وهو حمير الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس لما اجتمعت حمير وكهلان أمرها على طاعتها له واتباعها إياه وقبولها منه عند الأمر والنهي والسلم والحرب أقبل على بنيه، فقال لهم: يا بني، إن حمير وكهلان لم تجمع أمرها على طاعتها لي واتباعها إياي وقبولها مني على أني أشرفها منصبًا، ولا أني أحق بالملك فيها دون غيري منها، ولكنها وزنت رجالها المعدودة، فألفتني أرجحها عند الأمر والنهي، فقلدتني أمرها، وآثرتني بالملك على غيري منها. ثم أنشأ يقول: " من الرجز "
بنيَّ ما إن جهلتْ حميرٌ ... والحيُّ من كهلانَ ذا أصبحِ
إذ قلَّدوني أمرهُمْ واهتدوا ... في طاعتي بالطائرِ الأفلحِ
حتى اصطبحنا بالخُيُولِ العِدا ... في كُلِّ ما هصت وما أفتح
إنَّا لنا مُلكُ بني يعربٍ ... وزانهُ الإصلاحُ للمُصلِح
أما تروني فانيًا شاحبًا ... أسمطَ مثلَ الوقع في صردحِ
فقد حلبتُ الدَّهرَ أشطارهُ ... ولم أردُّ الطرفَ عن مطمحِ
بنيَّ سيرُوا سيرتي إنّهَا ... كما علمتُمْ سيرةُ المُفلحِ
واتخذُوا الإحسانَ ما بينكُم ... تجارةَ الرَّابحِ والمربحِ
بُثُّوا عطاياكُمْ وجُودُوا بها ... للأعجمِ الضَّاوي وللمُفصِحِ
بها لكُمْ يُفتحُ بابُ العلا ... إذا العلا بالبأسِ لم يُفتحِ
وصَّيتكُمُ فاغتنِمُوا نُصحَ من ... عساهُ إن أَمسَى فلمْ يُصبِحِ
وصية كهلان بن سبأ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن حمير وكهلان لما قسم بينهما أبوهما سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ملكه، فجعل سياسة الملك لحمير، وجعل أعنة الخيل وملك الأطراف والثغور لكهلان - وقد تقدم شرح خبرهما في أول كتابنا هذا - قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك، وكذلك أولادهما وأولاد أولادهما، لحمير على كهلان الطاعة، ولكهلان على حمير المال والنجدة، والملوك الراتبة في دار المملكة من حمير، والملوك في الأطراف والثغور من كهلان. ويقال: إن كهلان لما تقلد الأطراف وثغورها وأعمالها واستقام أمره وأمر أخيه حمير على ذلك قال لأخيه حمير: إني قد عزمت على أن أبعث العساكر إلى الأطراف والثغور، فأمر بالمصالح لذلك. قال: فأمر حمير بالمال والخيل والإبل والطعام والروايا وتقدم إلى أهل المملكة أن يمتثلوا ما يومئ إليهم به كهلان. قال: فجرّد كهلان إلى أرض الحجاز جرهمًا ومن لف لفها، وولى عليهم رجلًا منهم يقال له هيّ بن بي بن جرهم بن سعد بن جرهم، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا أمره، وقسم عليهم الخيل والعدد والسلاح والزاد والروايا وأعطاهم الأدلاء. وكتب لهيّ بن بي بن جرهم إلى ساكن الحجاز من العمالقة بالسمع والطاعة له ودفع الإتاوة إليه.
وكان كتابه الذي كتب لهي بن بي بن جرهم:
ألائكُ من كهلانَ عن أمرِ حميرٍ ... لعامِلِهِ هيِّ بن بيِّ بنِ جُرهُمِ
إلى مَن بأعراضِ الحجازِ محلُّهُ ... من الناسِ طُرًَّا من فصيح وأعجمِ
على أنَّ هيَّأ ليسَ يُعصى وإنَّهُ ... لديهم لذُو أمنٍ أثيرٍ مقدمِ
وإلاَّ فلا يلحونَ إلا نفوسَهُمْ ... إذا ما مُنُوا بالقسطلانِ العرمرمِ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن هي بن بي بن جرهم خرج إلى الحجاز فيمن معه من قومه وتباعهم، فأقام بها واليًا عليها، وغلب العمالقة عليها، وكتب كتاب ولايته على جبل من جبال مكة، وهي هذه الأبيات:
ألائك من كهلان عن أمر حمير ... لعامله هيِّ بن بيِّ بن جرهم
1 / 17
ويقال: إن كهلان لما فرغ من تجهيز هي بن بي بن جرهم وتجريده للحجاز، جرد إلى أرض نجد رجلًا يقال له: الهميم بن عاصم بن جلهمة الجديسي في جديس ومن لحقها من التباع، وولاه عليهم، وأمره لهم بالسمع والطاعة، وكتب إلى سكان نجد كتابًا، وهو: باسمك اللهم:
من ابن سَبَا كهلانَ عنْ أمرِ حِميرٍ ... إلى أهل نجدٍ للهميم بن عاصمِ
على أنه من ليسَ يُعصى وأنَّه ... يُطاع ويُعطى الخرجَ خرجَ السَّوائمِ
وإلا فلا يلحون إلا نُفُوسَهُم ... إذا ما مُنُوا بالخَيل تحتَ الضَّراغمِ
قال: فتجهز الهميم واليًا على أهل نجد، وسار إليهم في جديس وتباعهم بالخيل والعدة من الروايا والأزواد وسارت الأدلاء بين يديه حتى توسط بلاد نجد وملكها، وأخذ الإتاوة من أهلها وأنفذها إلى كهلان.
ثم إن كهلان دعا عمرو بن جحدر جد ثمود، ويقال: إنه جد صالح النبي ﷺ، فجرده إلى الوادي، وهو فيما بين الشام والحجاز، وعقد له الولاية على ساكن الوادي، وأمر قومه ثمودًا له بالطاعة والسمع والمسير بين يديه، وكتب له كتابًا إلى ساكن الوادي، وكان شاكته قوم يقال لهم زهرة بن عملاق.
وكان كتابه الذي كتبه لعمرو بن جحدر:
من ابن سَبَا كهلانَ عن أمرِ حِميرٍ ... إلى ساكِنِ الوادي لعمرو بنِ جحدرِ
على طاعةٍ مِنهُم لعمرو بن جحدرٍ ... وللقيلِ كهلانٍ وللمَلكِ حميرِ
ودفعِ الإتاواتِ الَّتي يُسألُونَهَا ... إلى عامِلي مِنْ كُلِّ بدوٍ ومُحضِرِ
وإلاّ فلا يلحونَ إلا نُفُوسهُم ... إذا زارهُمْ بالبيضِ والسُّمرِ عسكري
قال: فتجهز عمرو بن جحدر واليًا على ساكن الوادي، وسار إليهم في قومه وعشيرته ثمود بالخيل والإبل والعدة، ومضى قاصدًا حتى أتى الوادي، فخرج سكان الوادي منه إلا من سمع له وأطاع منهم.
ويقال: إن كهلان لما فرغ من تجهيز عمرو بن جحدر إلى الوادي الذي ذكر الله ﷿ في محكم كتابه: " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " أقبل على ابنه زيد بن كهلان، وقد مات أخوه حمير، وولي الملك من بعده ابنه الهميسع بن حمير فقال: بني، العم قد ولى، والأب على الأثر. ثم أنشأ يقول:
يا زَيدُ إنَّ أباكَ أصبحَ نَسرُهُ ... لا يستطيعُ إلى النُهُوضِ سبيلا
اليومَ عَمُّكَ خفَّ عنَّا آفِلا ... وغدًا ستشهَدُ من أبيكَ أُفُولا
يا زيدُ لا تعصِ الهميسعَ وانتظِر ... ما عُونَهُ لكَ بُكرةً وأَصِيلا
يا زيدُ إنَّ لكَ الحجازَ ونجدَهَا ... وإليكَ أصبحَ خَرجُهَا محمُولا
وإليكَ يرفعُ عن ثمُود وغَيرِها ... عمروُ بنُ جحدرَ خرجَهَا المسؤولا
وإليكَ عُدَّتْ بالهميمِ رواحلٌ ... بالخَرجِ تُعِلنُ بالمسِيْرِ ذميلا
كُنْ للهَميسعِ طائِعًا كيما يَكُنْ ... لكُمُ الهَمَيسعُ ناصِرًا وكفِيلا
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن زيد بن كهلان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها، وتقلد للهميسع ما كان يتقلده كهلان لأخيه حمير.
ويقال: إن زيد بن كهلان أرسل إلى عمَّال أبيه في الأطراف والثغور بتجديد العهد منه لهم، فسمعوا وأطاعوا ودفعوا إليه الإتاوة التي كانوا يدفعونها إلى أبيه.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زيد بن كهلان جرد ابنه عمرو بن زيد بن كهلان - وهو أبو جذام - إلى مدين وما حولها في الخيل والرجال، وعقد له الولاية على مدين، وأمرهم له بالسمع والطاعة ودفع الإتاوة إليه، وكتب كتابًا إلى أهل مدين يقول فيه:
لِعمرِو بن زيدٍ مِنْ أبيهِ وعَمِّهِ ... ألوكٌ إلى الأحياءِ مِنْ أهلِ مدينِ
بطاعتِهِمْ عَمرًا وتسليمِ خرجِهِم ... إليه جَهَارًا عن مُسِرٍّ ومُعلِنِ
وإلا فإنّ الخيل تعبط مدينًا ... وتسرَحُ أُخرَاها بِلحجٍ وأَبينِ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن عمرو بن زيد بن كهلان سار إلى مدين بالخيل والرجال واليًا عليهم حتى نزل بها، وملكها، وأطاعه أهلها، وأخذ إتاوتها.
ويقال: إن شعيب النبي ﷺ من نسله وذريته، وإنه جد بني جذام، ثم أحد بني وائل منها.
ويقال: إن زيد بن كهلان لما مات الهميسع بن حمير أقبل على ابنه مالك بن زيد بن كهلان وهو يقول: " من الوافر "
1 / 18
أتى يومُ الهَميسَعِ فاحتواهُ ... وزَيدٌ يومُهُ لا بُدَّ آتِ
وَكُلٌّ لا محالَةَ مُستقِلٌّ ... يؤُولُ مِنَ الحياةِ إلى المماتِ
وَكُلُّ جماعةٍ لا بُدَّ يومًا ... تصِيرُ إلى التَّفرُّقِ والشَّتاتِ
فمالِكُ سِرْ لأيمن في مسيري ... لوالِدِهِ إذا حانَتْ وفاتِي
أَطِعْهُ يُطِعكَ أيمنُ مِثلَ ما قَد ... أطاعِنيَ الهميسعُ في هَنَاتِ
هُوَ المَلِكُ العظِيمُ وأَنتَ فاعلَمْ ... على أعمالِهِ وعلى الوُلاةِ
إليكَ إتاوةُ الأطرافِ تُجبَى ... وتأمُرُ في الجُيُوشِ المُعلَمَاتِ
فيقال: إن مالك بن زيد بن كهلان حفظ وصية أبيه، وثبت عليها، وعمل بها، وولي بعد أبيه ما كان يتولاه أبوه زيد بن كهلان من الثغور والأطراف وتدبير العساكر في طاعة الملك أيمن بن الهميسع. وكتب إلى عمال أبيه، فأجابوه بالسمع والطاعة ودفع الإتاوة إلى ما قبله.
وصية زيد بن كهلان
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن مالك بن زيد بن كهلان جرد ابنه ربيعة بن مالك - وهو جد همدان - في الخيل والرجال والعدد، وعقد له الولاية على من معه، وكتب له كتابًا إلى ساكن الأجواف أهل سهولها وجبالها، وهم بقية عاد الصغرى التي تعرف إلى اليوم قبورهم وآثارهم في الجبال والسهول بها. وكان كتابه لربيعة بن مالك: باسمك اللهم،
إلى ساكِنِ الأجوافِ من أيمَن العُلا ... ومِنْ مالك القيلِ بن زيدِ بنِ كهلانِ
رَبيعةُ لا يُعصَى لديِهم ويُتَّقى ... ربيعةُ ما غالى بِهِ الملوانِ
وَيُجبَى إليهِ الخرجُ عِندَ وُجُوبِهِ ... على طاعةٍ تُرضِيهِ مِنهُمْ وإذعانِ
وإلاَّ فلا يلحونَ إلاَّ نُفُوسَهُمْ ... إذا داسَتهُمُ رجلي هُناكَ وفُرساني
قال: فلما فرغ من تجهيز ولده الربيعة بن مالك جرد ابنه أدد بن مالك إلى الأعراض والأسواد من نجران وتثليث والشَّروم وبيشة والحنو وما حولها من البلاد المسكونة في الخيل والعدد. وكتب له إلى ساكنها، وهم بقايا إرم بن حام بن نوح النبي ﷺ، آثارهم بها إلى اليوم، وقبورهم تعرف بالإرميات، وذلك أنها مبنية على هيئة الآكام والقنان. وكان كتابه الذي كتب لأدد إليهم حيث يقول: " من الرمل "
باسمِكَ اللهُمَّ مِنْ أيمنَها بنِ ... مالكِ الخيلِ إلى الحَيِّ إرمْ
لِسَاكنِ الأسوادِ والأعراضِ منْ ... بطنِ نجرانٍ إلى ما حَيثُ هُمْ
أن يُطيعُوا أُددًا بينهُم ... ما نهارٌ لاحَ أو ليلٌ هَجَمْ
ويُوفُّوا أُددًا مسألةً ... من ثِمارِ النَّخل والخُور النَّعمْ
أو فلا يلحَونَ يومًا غيرهُم ... إنْ علاهُم قَسطلانٌ مُدْلَهِمْ
قال: فسار أدد بن مالك بن زيد بن كهلان حتى نزل فيما بينهم واليًا عليهم، فسمعوا له وأطاعوا، ودفعوا إليه إتاوتهم، وهو أبو مذحج.
ثم إن مالك بن زيد بن كهلان توفي، وولي ابنه نبت بن مالك ما كان يتولاه أبوه مالك بن زيد بن كهلان في طاعة الملك أيمن بن الهميسع بن حمير.
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن أيمن بن الهميسع رثى مالكًا بهذه الأبيات، وأنشأ يقول:
تولَّيتَ عَنَّي مالِك غَيرَ قافلِ ... وإنِّي غَدًَا لا شَكَّ نحوكَ قافِلُ
أواخِرُنَا لا شكَّ أنَّ مصيرَهُمْ ... مصيرٌ إليهِ صَارَ مِنَّا الأوائلُ
كَذلكُمُ تِلكَ النُّجُومُ إذا بدتْ ... طَوالِعُهُنَّ التَّاليات الأوافلُ
فَلَو كانَ يجدي اليومَ شيئًا بُكاؤُنا ... لما رقأتْ مِنَّا الدُّمُوعُ الهواملُ
سيَخلُفُكَ المأمُولُ نبتٌ وإنَّه ... لما قد كُنتَ تَحمِلُ حاملُ
شمائِلُهُ الحُسنى شَمَائلُكِ الَّتِي ... إذا ذُكِرتْ لم تعلُهُنَّ شمائِلُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن نبت بن مالك جرد ابنه ثور بن نبت - وهو أبو كندة - إلى الأحقاف بالخيل والرجال، وعقد له الولاية على من بالأحقاف من سائر ولد هود النبي ﷺ وعشيرته، وأمرهم بالسمع والطاعة له، وكتب إليهم كتابًا يقول فيه:
إلى ساكِنِ الأحقافِ من أيمنِ العُلا ... لِثورِ بن نبتٍ عن أَبيهِ ابنِ مالِكِ
1 / 19