فكيف لنا إذا أن نتحاشى هذا التأخر الخلقي الذي يملك علينا نفوسنا والذي تقع علينا جميعا تبعته؟ كيف نحول الجماعة الراهنة إلى الجماعة المثالية التي ارتآها لنا الأنبياء والمصلحون؟ كيف يتحول الرجل الطامع إلى الرجل المتحرر الذي يستطيع وحده أن يخلق جماعة خيرا من الجماعة التي نعيش فيها؟ هذه هي الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها في هذا الكتاب.
وفي خلال الإجابة عنها سأجدني مضطرا إلى علاج موضوعات كثيرة متنوعة ليس عنها من محيص؛ لأن مناحي النشاط الإنساني معقدة، والدوافع الإنسانية مختلطة كل الاختلاط. وكثير من الكتاب لا يعرفون حق المعرفة هذا التنوع والتعقيد في آراء الناس وأغراضهم وأعمالهم. إنهم يبسطون المسألة أكثر مما ينبغي؛ ومن ثم تراهم يقدمون لها حلا غاية في البساطة والسذاجة. ومن أجل هذا رأيت من الضروري أن أبدأ موضوعات الكتاب الأساسية بمناقشة ما نعنيه من كلمة «التفسير». ماذا نعني حينما نقول إننا فسرنا موقفا معقدا؟ ماذا نعني حينما نتحدث عن حادث معين كأنه سبب في حادث آخر؟ إننا إذا لم نعرف الجواب عن هذه الأسئلة كانت نظرتنا إلى طبيعة الاضطراب الاجتماعي وطرق علاجه قاصرة ناقصة.
ومن البحث في معنى التفسير يتبين لنا أن المشكلة الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى سبب واحد، بل إن لها لأسبابا متعددة. وينجم عن ذلك أن أمراض المجتمع لا يمكن أن يكون لها علاج واحد شامل. يجب أن نبحث عن علاج الاضطراب الاجتماعي في ميادين متعددة في وقت واحد . وفي الفصول التالية من الكتاب سأبحث في هذه الميادين، بادئا بالسياسي منها والاقتصادي ثم معقبا بالسلوك الشخصي. وسوف أقترح في كل حالة أنواع الإصلاح التي يمكن إدخالها إذا كان لا بد للناس من تحقيق الأغراض السامية التي يعترفون جميعا أنهم يبتغونها. ويضطرني هذا إلى البحث في علاقة الوسائل بالغايات. وسأبين في مواضع كثيرة من الكتاب أن الأغراض الطيبة لا يمكن تحقيقها إلا بالوسائل الطيبة وحدها، ولا يمكن تحقيقها بالوسائل الخبيثة. إن الغاية لا تبرر الوسيلة؛ وذلك لأن الوسائل التي نستخدمها تحدد طبيعة الغاية التي تنجم عنها.
الفصول التالية من الفصل الثاني إلى الفصل الثاني عشر تؤلف كتابا في الإصلاح، وهي تتضمن علاجا سياسيا، وآخر اقتصاديا، وآخر تعليميا، واقتراحا لتنظيم الصناعات والجماعات، وغير ذلك من ضروب الإصلاح. وهي تتضمن كذلك وصفا للطرق التي يجب أن نتحاشاها كي نبلغ ما نصبو إليه من أهداف.
وكتاب الإصلاح هذا يبلغ غايته في القسم الأخير منه، وهو القسم الذي أناقش فيه العلاقة الكائنة بين نظريات المصلحين وأعمالهم من ناحية وطبيعة العالم من ناحية أخرى. أي نوع من أنواع العوالم عالمنا هذا الذي يطمح الناس فيه إلى الخير ولكنهم لا يحققون إلا الشر في كثير من الأحيان؟ ما معنى هذا؟ وأين يقع الإنسان من هذا العالم؟ وما العلاقة بين مثله العليا ومعاييره ومقاييسه وبين العالم الفسيح الواسع؟ سأبحث في هذه المسائل في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. وقد يرى الرجل العملي أن هذه المباحث لا محل لها هنا، ولكنها في الواقع ليست بعيدة عما نرمي إليه من هذا الكتاب. إننا في ضوء معتقداتنا عن طبيعة الحقيقة نصوغ آراءنا في الصواب والخطأ. وفي ضوء آرائنا في الصواب والخطأ نوجه سلوكنا لا في حياتنا الخاصة فحسب، ولكن كذلك في عالم السياسة والاقتصاد. فلسنا نرى إذا أن معتقداتنا الميتافيزيقية لا محل لها هنا. بل على العكس من ذلك هذه المعتقدات هي العامل البعيد الذي يحدد لنا جميع أعمالنا. ولذا فقد بدا لي من الضروري أن أختم كتابي هذا الذي أقترح فيه علاجا عمليا لأمراض المجتمع ببحث في المبادئ الأساسية والمعتقدات؛ فالفصول الثلاثة الأخيرة، قد تكون أكثر فصول الكتاب خطرا، بل إنها من ناحية عملية بحتة قد تكون أهم ما فيه.
الفصل الثاني
معنى التفسير
أحب في مستهل هذا الفصل أن أكرر القول بأننا جميعا متفقون على الفرض الأسمى للحياة من قديم الزمن، وليس بيننا من خلاف في نوع المجتمع الذي نحب أن نكون أعضاء فيه، وليس بيننا من خلاف في المثل الأعلى للرجل أو المرأة الذي نحب أن نحتذيه. ولكننا حين نحاول أن نرسم الخطة التي تعيننا على بلاغ الهدف تتضارب آراؤنا وتتناقض؛ فلكل فرد دواؤه الخاص الذي يكفل به علاج أمراض الإنسانية جميعا، وكثيرا ما تشتد الحماسة لهذا الدواء الناجع، بل كثيرا ما تتطاحن الأمم في سبيله.
وإنا لنتساءل: لماذا يتشبث الناس بالعقائد التي يخترعونها ويعتنقونها؟ ولماذا يمقتون أشد المقت غيرهم ممن يعتنقون عقائد أخرى؟ والجواب على ذلك سهل ميسور؛ ذلك أن الثقة البالغة تريح الفؤاد وتنزل الطمأنينة بالنفس، كما أن الكراهية لها فائدة كبيرة في إذكاء العاطفة. بيد أنه ليس من السهل أن نفهم لماذا تنشأ أمثال هذه العقائد التي يتعصب لها معتنقوها ولا يقبلون سواها. ولماذا يراها فريق من الناس صادقة ويتحمس لها أشد الحماسة وتسيغها عقولهم حتى حينما يكون العقل غير متأثر بالعاطفة، ويراها فريق آخر كاذبة لا تشبع ولا تقنع؟
يجدر بنا هنا في هذا المقام أن نخصص بضعة أسطر لمعنى التفسير: ما معناه؟ ومتى ترضى به العقول وتقنع؟
Page inconnue