Héritiers des royaumes oubliés : religions déclinantes au Moyen-Orient
ورثة الممالك المنسية: ديانات آفلة في الشرق الأوسط
Genres
نتجت عن ذلك حقبة من الإيمان الديني المتشدد والجدل الفكري المتطرف الذي يجعل العالم الحديث، الذي يبلغ عمر أكبر خمس ديانات فيه الآن أكثر من ألف عام، يبدو بالمقارنة جامدا. دخلت الهندوسية والبوذية الإمبراطورية الفارسية. ووصلت معتقدات الشرق الأوسط إلى روما، مثل الطائفة العشائرية للإله ميثرا وعبادة الإلهة المصرية إيزيس (كانت الأخيرة سيئة السمعة لأنه كان يزعم أن طقوس اعتناقها كانت تتضمن ممارسة الجنس الشعائري). وأصبح رجل يدعى إيل جبل من مدينة حمص السورية إمبراطورا في القرن الثالث، وأحل عبادة إله الشمس الخاص ببلاد الشام محل عبادة الإله جوبيتر القديمة، وركب حجرا نيزكيا أسود من مسقط رأسه ليكون حجر الأساس لأكبر معبد في روما. في الاتجاه الآخر، انتشرت جماعة أتباع الفلاسفة اليونانيين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وكانت اليهودية من الديانات الأخرى التي انتقلت من الغرب إلى الشرق. ربما بقي بعض اليهود بالقرب من مياه بابل بعد نفيهم هناك في القرن السادس قبل الميلاد؛ وبالتأكيد كان يوجد مجتمع يهودي راسخ في العراق في أوائل القرن الأول الميلادي، عندما اعتنق ملك مقاطعة حدياب الشمالية، وزوجته، ووالدته الديانة اليهودية كل على حدة. سنة 70 ميلادية، انضم إلى يهود العراق يهود آخرون ممن كانوا يفرون شرقا من الجيوش الرومانية التي نهبت القدس وهدمت هيكلها. وأصبحت بابل (المنطقة التي كانت تقع فيها بابل يوما ما، والتي احتفظت باسمها: فالمدينة نفسها كانت مدمرة بحلول هذا الوقت) معقل الديانة اليهودية. وتصل تقديرات عدد السكان اليهود في العراق إلى مليوني نسمة في سنة 500 ميلادية؛ ربما نحو أربعين بالمائة من تعداد سكانها.
كتبت أقدم الكتب المندائية المقدسة الباقية بلغة قريبة جدا من تلك التي استخدمها العلماء اليهود الذين جمعوا التلمود البابلي، أحد أهم مجموعات الشريعة اليهودية، والذي جمع بين القرنين الثالث والخامس الميلاديين. تظهر الكتب المندائية اهتماما باليهودية ومعرفة وثيقة بممارساتها، ولكنها تظهر أيضا الكثير من العداء. فقد اتبع المندائيون يوحنا المعمدان لكنهم يكرهون إبراهيم. وهم يرفضون رفضا تاما ممارسة الختان؛ وهي ممارسة ميزت اليهود عن البابليين حتى أثناء النفي اليهودي في بابل. ويقدس المندائيون يوم الأحد، وليس السبت. وتدور أسطورة ميرياي حول امرأة يهودية تترك ملتها من أجل الزواج من رجل مندائي. كان اليهود والمندائيون يعرف بعضهم بعضا لكنهم كانوا غرماء.
لم تكن المندائية الديانة الوحيدة التي تأثرت بشدة باليهودية: فالعديد من ملل المسيحية تأثرت بها أيضا. وحاول البعض الالتزام بالشريعة اليهودية مع اتباع يسوع، بينما كان البعض الآخر أكثر عدائية. على سبيل المثال، قبلت جماعة مسيحية منشقة تسمى المرقيونية، تأسست في المنطقة التي هي حاليا شمال تركيا في نحو سنة 144 ميلادية، أن الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس العبراني (الذي يطلق عليه المسيحيون العهد القديم) كانت صحيحة، ولكنها كانت صادمة لبعض منهم. لماذا، على سبيل المثال، ينهى الرب آدم عن أن يأكل من شجرة المعرفة في جنة عدن؟ لماذا يطلب من إبراهيم أن يقتل ابنه؟ لذلك اعتقدوا أن الرب المذكور في ذلك الكتاب هو في الواقع إله أدنى، لا يستحق العبادة. وكان العالم المادي الذي خلقه هذا الإله الأدنى شيئا يجب الهروب منه بما في ذلك جسد الإنسان وغرائزه؛ فقد كان نخبة المرقيونيين غير متزوجين وليس لديهم أطفال. لم تتضمن الكتب المرقيونية المقدسة سوى إنجيل لوقا ورسائل بولس، وحتى تلك جرى تغييرها نوعا ما. على سبيل المثال، حذف اسم إبراهيم في كل مكان كان يظهر فيه تقريبا؛ لأن إبراهيم لم يكن فقط على استعداد لقتل ابنه، بل أيضا عاشر خادمته وسمح لفرعون بمعاشرة زوجته.
في تلك البيئة - حيث كثر عدد اليهود ، وانتشرت الجماعات المسيحية، ونحيت الديانات القديمة لتحل محلها أيديولوجيات جديدة - استعد رجل يدعى باتيك لتقديم قربان لأحد الآلهة القديمة في معبد بإحدى المدن جنوب المكان الذي تقع فيه بغداد حاليا. كان يمكن أن يكون أمرا دمويا، مثل ذبح ماعز أو شاة ربما، وبعد ذلك قد يحصل على جزء من اللحم ليأكله. لكنه فجأة سمع صوتا خارقا للطبيعة يخبره ألا يأكل اللحم مرة أخرى. وألا يمارس الجنس. ولا يشرب الكحول. كان ذلك نحو سنة 215 ميلادية.
كان الزهد مسألة مشتركة في الأديان الجديدة في الشرق الأوسط. ربما كان هذا في جانب منه انعكاسا للتأثير الهندي أو رد فعل للانغماس في الملذات الذي اتسمت به الأديان القديمة (فسوريا، حيث كانت المعابد الوثنية يوما ما تئوي عاهرات مقدسات، كانت أيضا البلد الذي عاش فيه قديس مسيحي على قمة عمود لمدة ثلاثين سنة دون أن ينزل مرة واحدة). وكانت توجد فلسفة وراء إنكار الذات أيضا. فقد كان المجتمع متقدما تكنولوجيا؛ ففي القرن الثاني الميلادي، رسم بطليموس خريطة للعالم استخدمت بعد ذلك أكثر من ألف عام، وكتب جالينوس كتابا طبيا استخدم حتى القرن التاسع عشر. ومع ذلك، كان لا بد من تنظيف البالوعات يدويا، وكانت أمراض مثل التيفود شائعة، وقد تتطور الجروح بسهولة إلى غرغرينا. كان ضعف الجسد والقذارة في تناقض غريب مع الإنجازات الفكرية المدهشة. وحيث إنه في ذلك الوقت لم يكن مفهوما بشكل عام أن الفكر له أي صلة بالمخ (أدرك جالينوس ذلك، لكن أرسطو كان يظن أن المخ موجود فقط لتصريف الحرارة من الجسم)، كان من السهل افتراض أن العقل، أو الروح، يمكن أن تعيش دون فوضى الجسد.
غالبا ما كان يطلق على الديانات، التي كانت تأمر أتباعها بمعاقبة الجسد أو إخضاعه حتى يتحرر العقل، تسمية «الغنوصية»، وكان يوجد العديد من هذه الديانات في هذا الوقت. اكتشف باتيك أن طوائف متشددة كثيرة قد نشأت مؤخرا في الأهوار العراقية. وكان المندائيون إحدى تلك الطوائف، لكن ربما لم تكن قواعدهم صارمة بما يكفي لباتيك. (على الرغم من أنه ربما كان المندائيون نباتيين في مرحلة ما من تاريخهم، فلم يفضلوا الامتناع عن الزواج أبدا.) تلاءمت طائفة قريبة على نحو أفضل مع التعليمات التي أعطاه الصوت إياها. ولم يقتصر الأمر على الامتناع التام عن أكل اللحوم، أو ممارسة الجنس، أو شرب الكحول، بل كانوا أيضا يجتنبون الفن والموسيقى. وعلاوة على ذلك، حاولوا أن يتبعوا بصرامة كلا من الشريعة اليهودية والأناجيل المسيحية. كان يبدو أن كل عائلة كانت تمتلك قطعة أرض تزرع فيها الخضار والفاكهة ليأكلها أفرادها. فيما بعد أطلق عليهم الكتاب اسم المغتسلة، التي تعني في اللغة العربية «من يغتسلون»، بسبب ممارستهم للتعميد في أنهار الأهوار. كان المغتسلة هم من انضم إليهم بالفعل باتيك وزوجته الحامل، وبعد ذلك بوقت قصير ولد طفلهما الوحيد. وأطلقا عليه اسم ماني.
بينما كان ماني يكبر، كان يمر بمرحلة تمرد. لم يكن تمرده متعلقا بالجنس أو الكحول. وإنما غضب من القيود المفروضة على الفن. فقد كان فنانا موهوبا وكان يتوق إلى التعبير عن أفكاره بصورة مرئية وكذلك بالترانيم الموسيقية. كان المندائيون، الذين كانوا يعيشون بالجوار في الأهوار، مصدرا للإلهام؛ فعلى الرغم من رفضهم ليسوع، الذي أعجب به ماني، استحسن موسيقاهم واقتبس واحدة من ترانيمهم. ومع ذلك، فمن نواح أخرى، وجد أن قواعد طائفته مفرطة في التساهل. وقال إن الامتناع عن اللحوم لم يكن كافيا. فقد كان قتل الخضروات وأكلها قاسيا على النباتات، بل كان بإمكانه سماع شجرة التين تبكي على الثمار التي قطعت من أغصانها. واشتكت ينابيع المياه العذبة، على حد قوله، عند استحمام المغتسلة فيها؛ لأنهم كانوا يلوثون المياه. (على ما يبدو كان أتباعه في السنوات اللاحقة يغتسلون ببولهم بدلا من الماء.) في النهاية زعم ماني أنه تلقى وحيا جديدا؛ سردا لمعركة كونية بين النور والظلام.
رسم حديث لماني، مؤسس من القرن الثالث لديانة نافست المسيحية المبكرة، أدى تقسيمه للكون بين الخير والشر إلى ظهور مصطلح «المانوي». سبقه المندائيون وتأثر بهم.
فبحسب القديس أغسطينوس، الذي اتبع تعاليم ماني بعض الوقت قبل أن يصبح مسيحيا، قال ماني إن الكون يحتوي على «كتلتين متعارضتين، وكلتاهما غير محدودة»؛ إحداهما صالحة، والأخرى شريرة. «كان الشر ... نوعا من المادة، كتلة عديمة الشكل، بشعة ... نوعا من عقل شرير يتغلغل في المادة التي يسمونها الأرض.» وكان الشر مصدرا لكل الظلام في الكون، بما في ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر وتعاقب الليل والنهار. وعند ماني، أن تعاقب الليل والنهار كان دلالة على معركة مستمرة بين النور والظلام. وحتى يومنا هذا، نتحدث عن «المنظور المانوي للعالم» بحيث يعني ذلك المنظور الذي يقسم العالم إلى قوى الخير وقوى الشر. («ماني تشاي» كانت العبارة التي يصرخ به أتباع ماني باللغة الآرامية: وهي تعني «ماني حي». لذلك صار يطلق على أتباعه اسم المانويين.)
كان المانويون المستنيرون دينيا يرون أن الدعوة الأسمى هي تحرير الروح من قيود المادة. أما عند الملتزمين حقا - «الشيوخ»، كما كان يطلق عليهم (تستخدم الكلمة ذاتها، «شيخ» باللغة العربية، مع الكهنة المندائيين) - فكان هذا يعني الامتناع نهائيا عن إنجاب الأطفال، وتناول الفاكهة فقط، والتكفير عن قطف تلك الفاكهة. كان إهدار الماء خطيئة. وكانت مسألة قتل الحيوانات مسألة لا يمكن تصورها. فالمانوي المتزمت لن يقتل ذبابة. وورد في إحدى الصلوات المانوية: «دع [البلد] ... الذي تنبعث منه رائحة الدماء يتحول إلى بلد يأكل فيه الناس الخضروات.» ومع ذلك كان الدين يقدم أيضا فرصة للخلاص للأشخاص الذين أرادوا اتباع ماني دون مراعاة جميع مبادئه؛ ففي نهاية الأمر، كان يتعين أن يرتكب شخص ما خطيئة قطف الثمار ليأكلها الشيوخ. وأبرأ الشيوخ أتباعهم من هذه الخطيئة بهضم طعامهم وفق طقس صارم، كان الهدف منه تحرير نتف الضوء المحتبسة داخل الطعام. كان هذا الهيكل المكون من الشيوخ والأتباع يعني أن للدين أشخاصا يتقشفون تقشفا مثاليا وقادرون على طلب الشفاعة من الله نيابة عن الطائفة بأسرها، مما يترك لأتباعهم حرية العيش حسب اختيارهم؛ بشرط أن يعتنوا بالشيوخ ويوقروهم. وكما سنرى، لا تزال بعض العقائد في الشرق الأوسط تستخدم هذا الهيكل حتى يومنا هذا.
Page inconnue