واستفحلت هذه الدعاية حتى رأينا عددا من المفكرين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، وقصر الدين على تنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، بل وتطرف البعض فأخذ يشك في صلاحية الدين الإسلامي نفسه لأن يكون دين حضارة.
ولم تقتصر هذه التيارات المتضاربة على محيط المصريين الأصلاء، بل امتدت إلى عدد كبير من المهاجرين، واللاجئين السياسيين الذين وفدوا إلى مصر من تركيا، أو من البلاد السورية اللبنانية؛ فرارا من استبداد الأتراك، أو مما ظنوه تعصبا دينيا، واحتضن الإنجليز كل هذه العناصر الدخيلة، واستخدموها في تغليب سياستهم، ونشرها بين طبقات الشعب العميقة، وكان من بين هؤلاء النازحين أصحاب المقطم والمقتطف بنوع خاص، إذ نراهم يناصرون الاستعمار البريطاني ورجاله في مصر مناصرة علنية صريحة، بل يكونون حزبا وهميا سموه بالحزب الوطني الجديد، لمناهضة حزب مصطفى كامل، وسياسته الوطنية المتطرفة، واتجاهه العثماني الديني.
وعلى ضوء هذه الحقائق والتيارات نستطيع أن نحدد الوضع، الذي لم يكن بد من أن نجد فيه ولي الدين يكن العثماني بمولده، والساخط على الخلافة العثمانية، وحكمها الظالم الفاسد، بطبعه ومزاجه وثقافته وظروف حياته، ثم موقفه من الإنجليز، وموقف الإنجليز منه، بعد أن تيقنوا من أنه من رجال تركيا الفتاة، الذين يناهضون عبد الحميد الثاني وخلافته الفاسدة المستبدة، بل وموقفه من حركة الإصلاح في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية، وفضلا عن نزعته العنيفة نحو التحرر الفكري، والتخلص من سيطرة الكهنوت الديني، بل والتزمت الإسلامي كله، واتجاهه بكل قوته نحو النظم المدنية والحضارة الحديثة.
وهكذا تآمرت الظروف والأحداث لكي تضع ولي الدين يكن في وضع لم يكن يرضي التيار الوطني المسيطر، أو الآخذ في السيطرة عندئذ، وهو تيار مصطفى كامل وأنصاره من رجال الحزب الوطني، الذين كانوا يحاربون الإنجليز حربا لا هوادة فيها، ويتمسكون بحكومة الخلافة، ويستمدون منها العون ضد الاستعمار الإنجليزي، ويحرصون على الروح الدينية والوحدة الإسلامية. وكان هذا الوضع من الأسباب الرئيسية التي أصابت ولي الدين يكن وأدبه بالخمول حتى يومنا هذا، بالرغم من قوة نزعته التحريرية ونبلها ، وإفناء حياته في سبيل مثل الحرية والتقدم التي آمن بها، وتعصب لها، ودفع في سبيلها أبهظ الأثمان؛ من عذاب النفي، والفقر، والمرض، وإنهاك الأعصاب.
والواقع أن ولي الدين يكن قد اتهم بمناصرة الإنجليز، والإشادة بعدلهم في مصر، وتعميرهم لها؛ وذلك لأنه قد وجد فيهم حماة من الظلم التركي، حتى كانت مصر تعتبر عندئذ موئلا للأحرار من الأتراك والعرب الخاضعين للحكومة التركية المستبدة، وكان ولي الدين يجاهر بهذه الآراء، وينشرها في الصحف في مقالات أو قصائد، مثل المقال الذي نشره في جريدة المقطم، وأعاد نشره في كتابه «الصحائف السود» (ص45-51) تحت عنوان «المحتلون يخرجون من مصر» وفيه يقص حلما لموكب خروج الإنجليز من مصر، وما يترتب على ذلك من آثار مدمرة، ويختتم المقال أو الحلم برؤيته لتمثال إبراهيم باشا، وهو ينزل إلى الميدان ليمنع جيش الاحتلال من الخروج، قائلا: «تريدون اليوم أن تخرجوا من مصر؛ ليصبح عاليها سافلها، وليجري هذا النيل أحمر قانيا، كلا ثم كلا، لأصيحن صيحة تخرق حجب الأزل، وتنفذ إلى من ولجوا غابته، ولأبعثن لكم من تحت المقابر أجسادا تسد دونكم طرق الرحيل، أما والهرمين والنيل ليدخلن أهل الطيش غدا على العذارى في خدورهن، وليأخذون بغدائرهن، وليقومون بعد زماعكم من الشر أضعاف ما أتى بمقامكم من الخير، ارجعوا إلى ثكناتكم مأجورين غير مأزورين، إنما يأنس إليكم أهل الوقار وأنصار الفضل.» وهو يعترف بجميل إنجلترا على الأحرار من أعضاء تركيا الفتاة في رثائه لإدوارد السابع سنة 1910، فيقول:
أبا الأحرار لا ينساك حر
شبابهمو يجلك والكهول
رفعت بناءهم وجريت معهم
كذاك الليث يتبعه الشبول
تناديك الشعوب بكل أرض
Page inconnue