رحب به الطقس على الأقل ترحيبا حارا. ففي اليوم الأخير من الرحلة عصفت الريح وهطلت الأمطار، لكنه كان رجلا لا يكترث كثيرا بأمر العواصف، فحنى جسده في وجه العاصفة وراح يتقدم في قوة وثبات. وكان المساء قد حل حين بدأ يتعرف على بعض الأشياء المألوفة له والموجودة على جانب الطريق، وقد تفاجأ حين رأى أن التغيير الذي شهده المكان لم يكن كبيرا بعد مرور كل تلك السنوات على غيابه. توقف الملاكم عند إحدى الحانات لتناول وجبة العشاء، وبعد أن استعاد نشاطه، قرر أن يكسر القاعدة التي وضعها لنفسه طوال الرحلة. قرر أنه سيستمر في مسيره أثناء الليل، وأنه سيبيت ليلته في قريته الأم.
أصبحت العاصفة أكثر قسوة بينما تقدم هو، ووجد نفسه يتعاطف مع تلك المخلوقات البائسة التي كانت مجبرة على الوجود في الخارج في ظل تلك العاصفة، لكنه لم يكن يشعر بذلك تجاه نفسه.
كانت الساعة قد قاربت على منتصف الليل حين رأى برج الكنيسة الراسخ وهو يقف معتما مقابل السماء المظلمة، وعندما بدأ ينزل الوادي الذي كانت البلدة تقع على الجانب الآخر منه، استحوذ عليه الخوف وسرت قشعريرة في جسده حيث تذكر ما كان قد نسيه لفترة طويلة، وهو أن هذا الوادي مسكون، وأنه مكان خطر ولا سيما في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل. ولكي يحول أفكاره عن هذا الأمر بدأ يفكر في المرأة التي سيتزوج بها. لا شك أنها الآن نائمة في هدوء في القرية أعلى التل، ولا تعلم بقرب وصول حبيبها وزوجها. ولم يستطع أن يخفي عن نفسه حقيقة أن من شأنه أن يتخذ لنفسه زوجة مناسبة كثيرا إذا عرف الناس بأمر ثروته؛ ذلك أنه سيكون أثرى رجل في القرية على الأرجح، باستثناء الإقطاعي هناك. لكنه قرر أن يكتم أمر ثروته هذه، حتى لا تنشغل الفتاة التي سيتزوجها بالسعة ورغد العيش اللذين ينتظرانها. وراح يضحك بصوت مرتفع وهو يفكر في السعادة التي سيشعر بها وهو يخبر زوجته عن حسن حظها، لكن توقفت تلك الضحكة فجأة حين رأى - أو خيل إليه أنه يرى - شيئا يتحرك خلسة على طول السياج النباتي.
كان الملاكم الآن في أعماق الوادي وفي أكثر بقاعه وحشة ورهبة. كانت الأشجار العملاقة على كلا الجانبين تشكل ما يشبه قوسا يغطي الطريق ويحميه جزئيا من المطر.
تسمر الملاكم في مكانه وتمسك بعصاه وصاح في شجاعة: «من هناك؟»
لم يكن هناك أي رد، لكن في الصمت الذي تبع ذلك ظن الملاكم أنه سمع صوت امرأة تنشج.
فصاح قائلا: «اخرجي إلى الطريق، وإلا فسأطلق النار.»
كان خوفه من المسدسات كبيرا حتى إنه توقع أن الجميع سيشعرون بالرعب من التهديد باستخدامها، لكنه لم يسبق له في حياته أن امتلك مسدسا أو حمله معه.
ومن قلب الظلام جاء صوت مرتعش يبكي قائلا: «أرجوك، أرجوك لا تطلق النار. سأفعل ما تمليه علي.» وهنا تحرك الجسم نحو الطريق.
حدق إليه ترينشن وسط الظلام، لكنه لم يستطع أن يتبين ما إذا كان امرأة متقدمة في السن أم امرأة شابة. لكن صوتها كان يدل على أنها شابة.
Page inconnue