على سبيل التقديم
بسم الله الرّحمن الرحيم
صاحب هذا الكتاب (الوحى المحمدى) الشيخ الجليل/ محمد رشيد رضا؛ واحد من الرموز الشوامخ الذين دافعوا عن الإسلام وتبنّوا قضايا أمتنا المسلمة في زمن كان فيه الزحف الاستعمارى لا يكتفى باستيطان أرض المسلمين وإنما كان يعمل بقواه كلّها على استيطان الأفئدة والعقول من خلال «الغزو الثقافى» لصرف أعين الأمة عن التطلع إلى الخلاص من غزاتها والقدرة على الشفاء من علتها وأدوائها وعلى رأسها الأمية الطاغية والظلمة المطبقة على الأفكار والعقول.
ومن ثم كان دور هذه الصفوة المجاهدة التى كانت تمثلها مدرسة المصلحين العظيمين جمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده، ومن تتلمذ عليهما من أمثال صاحب الكتاب كان دور هذه الصفوة عظيم الأثر فى إيقاظ وعى الأمة بما تحمله دينها من أسباب الخلاص وعوامل النهوض، ثم بما ينبغى أن تكون عليه مسلكها في مواجهة مكايد الغازين من الخارج ومضار المتخلّفين والجاهلين بحقيقة التدين من فقراء الفكر ومحدودى الرؤية ممن ينسبون إلى العلم فى الداخل.
وكان القيام بهذه المهام الكبار بحاجة إلى رجال أولى عزم وقوة، وذوى ثقافة جامعة وبصر مستنير يتيح لهم الرؤى النفاذ إلى حقائق الأحداث والأمور.
ومن هنا كان للتكوين الثقافى الشامل والمتجدد لصاحب هذا الكتاب «الشيخ محمد رشيد رضا» عاملا مؤثرّا فى تحديد الموقع الذى قام عليه في خدمة المسلمين والإسلام.
ولد الشيخ فى: «القلمون» من أعمال طرابلس الشام فى عام ١٢٨٢ هـ ١٨٦٥ م.
وفيها وفى طرابلس أخذ يدرس ويتعلم.
ثم رحل إلى مصر فى العقد الثالث من عمره (١٣١٥ هـ) حيث تتلمذ ولازم أستاذه الإمام محمد عبده وكانا قد التقيا قبل ذلك في «بيروت».
1 / 3
وهنا كان إصداره لمجلة «المنار» ذات المكانة والتأثير الثقافى الرفيع فى كلّ مكان عرفت فيه فى ديار الإسلام. حيث ضمّها آراءه الإصلاحية التى كانت ثمرة ناضجة لعلاقته بالأستاذ الإمام، ولاهتماماته الواسعة لقضايا المسلمين والإسلام، ولا سيما اهتماماته بالإصلاح الدينى الذى كان أستاذه الشيخ محمد عبده هو الرائد له فيها، وكان إطارها العام هو تخليص مناهج التعليم الأزهرى من الحشود من الحواشى والتقارير وغيرها مما يعطل ملكات الطلاب ويقف بهم عند مجرد الاستظهار والحفظ.
وظل الرجل يتدخل بين ديار الإسلام وغيرها العربية حتى استقر به المطاف فى وطنه الثانى مصر حتى لقى ربه.
أما عن هذا الكتاب فهو رسالة إلى الأمة المسلمة يشرح فيها المؤلف أسباب عجز المسلمين عن إبلاغ روعة الإسلام إلى العالم على الوجه الذى يحقق اقتناع غير المسلمين بالإسلام، ثم يؤدى إلى دخولهم فيه.
والقضية فعلا كانت وستبقى محل الاهتمام والتساؤل لأنها هى القضية المحورية للدعوة والدعاة .. وسبب التساؤل هو أنه على الرغم من كثرة وتعدد المؤسسات والهيئات التى تعمل فى حقل الدعوة الإسلامية إلّا أنّ القوى المعادية للإسلام لا تزال ممتلكة للتفوق فى إحداث التأثير المعاكس فى الإساءة إلى الإسلام وفى تنفير غير المسلمين منه وهنا تكون التساؤلات:
هل السبب فى ذلك وفرة الإمكانات المادية والتقنية التى تعطيهم من مساحة بث دعاواهم واتهاماتهم للإسلام ما لا تجده المؤسسات الإسلامية؟
وربما كان هذا- فعلا- أحد الأسباب لكنه ليس كلّ الأسباب ولا أهمها، لأنّ الأسباب الحقيقية هى فينا نحن المسلمين فهى أسباب داخلية أكثر منها خارجية.
ففي الجانب العقيدى البحت- جانب التعريف بالإسلام عقيدة وشريعة- تطفو الخلافات الفقهية المتصلة بفروع الشريعة .. وتطفو لتتخذها بعض الهيئات والمؤسسات لتعرضها وتركز عليها وكأنها هى أصل الإسلام الأمر الذى يفقد الدعوة ركنها الأهم الذى ينبغى أن يقدم إلى الناس ويتم التعريف به.
1 / 4
ليس هذا فحسب بل إنه يتحرك له أثرا سلبيا بالغ الإساءة إلى الإسلام والمسلمين بالصورة التى يتركها لدى غير المسلم من أنهم عاجزون عن الاتفاق على موقف واحد وصورة موحدة لعقيدتهم وتشريعاتهم .. ومن ناحية أخرى فإن أخطر وأهم أسباب تصورنا وعدم استجابة الآخرين لمعطيات شريعتنا هو أوضاعنا الداخلية فى أنحاء العالم الإسلامى الذى عانى من التمزق والعجز والتخلف، بينما جوهر الإسلام وصريح القرآن يدعوان إلى الوحدة، وإلى القوة وإلى التقدم، وهى المبادئ التى قامت عليها الدولة فى عصر النبوة والراشدين، وعصور ازدهار الدولة المسلمة التى شرّقت وغرّبت فيما وراء ما بين المحيط والخليج وصولا إلى آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر وتحت حكم دام قرونا فى الأندلس حتى جنوب فرنسا.
وهى الفترة التاريخية التى ازدهرت فيها حضارة الإسلام وأفرزت الشوامخ الكبار من علماء المسلمين فى كل فروع المعرفة والذين كان عطاؤهم هو المحرك والمؤثّر الأكبر فى النهضة الأوروبية فى العصور الوسطى.
ومما هو جدير بالتسجيل أن يكون هذا هو ما قال به حكيم الشرق، وباعث النهضة السيد جمال الدين الأفغانى، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده. وما سجّله الشيخ رشيد رضا فى مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب.
الأمر الذى يؤكد حقيقة بالغة الأهمية فى كيفية استعادة دور ومكانة الإسلام فى العلم، ليس اعتمادا على مجرد التبليغ بل أهم منه هو أن تكون حال المسلمين فى الداخل صورة صحيحة وصادقة عن الإسلام حتى يصدق المدعون ما ندعوهم إليه.
وهنا نصل إلى الباعث الدافع للشيخ رشيد رضا على تأليف هذا الكتاب. وهو الإسهام فى تصفية وتوضيح حقيقة الإسلام التى ينبغى أن يلتقى حولها المسلمون- كل
المسلمين- على اختلاف مشاربهم فى كل مكان من العالم.
وبعد فإن ذلك العصر الذى ازدان بهؤلاء الشوامخ من المصلحين وكبار المفكرين كان وسيبقى رجاله وأعلامه نعم القدوة والأسوة لأبناء الأمة فى هذا الزمن الذى تزحف فيه القوى
1 / 5
المعادية للإسلام على أرضنا وأهلينا، وتزحف فيه قبل ذلك وبعده على العقول والقلوب بهذا القدر الهائل من الغزو الفكرىّ.
الأمر الذى يوجب على الجميع رعاة ورعايا أن يكونوا على مستوى المسئولية فى مواجهة المخاطر، والله من وراء القصد وهو دائما حسبى.
نائب رئيس المجلس «أ. د/ عبد الصبور مرزوق»
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) [آل عمران: ١٨ - ٢٠].
ارتقاء البشر المادى، وهبوطهم الأدبى، وحاجتهم إلى الدين:
إن من المعلوم اليقينى الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تثب فى هذا العصر وثوبا يشبه الطفور، وتؤتى من الثمار اليانعة بتسخير قوى الطبيعة للإنسان ما صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة، وكأنّ أقطارها بيوت لهذه المدينة، وكأنّ شعوبها عشائر وفصائل لأمة واحدة فى هذه البيوت (الأقطار) يمكنهم أن يعيشوا فيها إخوانا متعاونين، سعداء متحابين، لو اهتدوا بالدين.
وإنّ من المعلوم اليقينى أيضا أن البشر يرجعون القهقرى فى الآداب والفضائل على نسبة عكسية مطّردة لارتقائهم فى العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها، فهم يزدادون إسرافا فى الرذائل، وجرأة على اقتراف الجرائم، وافتنانا فى الشهوات البهيمية، ونقض ميثاق الزوجية، وقطيعة وشائج الأرحام، وعقوق الوالدين، ونبذ هداية الأديان، حتى كادوا يفضّلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين وأدب وعرف وعقل بل رجع بعضهم إلى عيشة العرى فى أرقى ممالك أوروبا وأمريكا علما وحضارة، كما يعيش بعض بقايا الهمج السذج فى غابات إفريقية وبعض جزائر البحار النائية عن العمران.
وإنّ من المعلوم اليقينى أيضا أنّ الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشدّ جناية عليهم وعلى الإنسانية من جنايتهم على أنفسهم- بإغرائها أضغان التنافس بينهم، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون فى الاستعداد للحرب العالمة التى تدمر فى أشهر أو أيام معدودة صروح العمران التى شيّدتها العصور الكثيرة، وتفنى الملايين فيها من غير المحاربين
1 / 7
كالنساء والأطفال والشيوخ، وبصرفها معظم ثروات شعوبها فى هذه السبل، وفى سبيل ظلمهم للشعوب الضعيفة التى ابتليت بسلطانها، وسلبها لثروتهم وحريتهم فى دينهم ودنياهم. فالعالم البشرىّ كلّه فى شقاء من سياسة هذه الدول الباغية الخبيثة الطويّة. وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء أخطارها لم يزد نارها إلا استعارا، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التى تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم فى سبيل الإصلاح الإنسانى العام لبلغ البشر بها أعلى درجات الثراء والرخاء.
كل ما ذكر معلوم باليقين، فهو حق واقع ما له من دافع.
وإن من المعلوم من استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها، ونمت بنمائها، فكان هذا برهانا على أنّ الفنون والعلوم البشرية المحضة غير كافية لجعل البشر سعداء فى حياتهم الدنيا، فضلا عن سعادتهم فى الحياة الآخرة، وإنما تتم السعادة لهم بهداية الدين، فالإنسان مدنّى الطبع، ومتديّن بالطبع، أو بالفطرة كما يقول الإسلام.
من أجل ذلك فكّر بعض عقلاء أوروبا وغيرهم فى اللجوء إلى هداية الدين وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها، وتمنوا لو يبعث فى الغرب أو فى الشرق نبىّ جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها، لأنّ الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر وقد فسر حال جميع أهلها «١»، وكان من يسمون دينهم دين المحبة، مصداقا لقول الله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [المائدة: ١٤].
بيد أنّ هؤلاء المفكرين لا يعرفون حقيقة دين القرآن، وهو الدين الإلهى العام، والمانع لهم من معرفته ثلاثة حجب تحول دون النظر الصحيح فيه، وعدم فهمهم للقرآن كما يجب أن يفهم، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز.
الحجب الثلاثة بين حقيقة الإسلام وشعوب الإفرنج:
(الحجاب الأول): الكنيسة؛ أو الكنائس التى عادته منذ بلغتها دعوته، وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة، بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال الزور والبهتان ما لم يعهد مثله فى أهل ملة من البشر فى زمن من الأزمان، وألفت فى ذلك من الكتب والرسائل، والأغانى والأناشيد والقصائد، ما يعرف بطلانه كل مؤرخ مطلع على الحقائق، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته ركنا من أركان التربية والتعليم فى جميع مدارسها والمدارس
_________
(١) أول من نقل لنا هذا الرأى جريدة السياسة منذ سنين ثم تكرر نقله.
1 / 8
التى يتولى خريجوها تعليم الناس فيها؛ فما من أحد يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح والمسيحيين كافة. فيجب عليه عداوتهم ما استطاع.
والحق الواقع أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها، وأن محمدا ﷺ هو الفارقليط روح الحق الذى بشر به المسيح ﵇ «١».
(الحجاب الثانى): رجال السياسة الأوروبية؛ فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من الكنيسة وتلقوا مفترياتها فى الطعن عليه بالقبول، وضاعف هذه العداوة له والضراوة بحرية طمعهم فى استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم.
وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبا وافتراء على الإسلام- ومن أسس الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار- فأى شىء يكثر فعله على رجال السياسة وأساس بنائها الكذب، وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان، والقسوة والإثرة والخداع؟ وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كلّ يوم فى المستعمرات الأوروبية بل نحن نعلم أنّ سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو السياسة لا الدين نفسه، وأن قاعدتهم المشهورة (الغاية تبرّر الوسيلة) سياسية لا إنجيلية، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله وإن كانت دينية.
(الحجاب الثالث): سوء حال المسلمين فى هذه القرون الأخيرة؛ فقد فسدت حكوماتهم وشعوبهم، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم، حتى صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا فى دينهم، وأمكن هؤلاء الأعداء أن يفتنوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج فى مدارسهم السياسية الإلحادية، والدينية التنصيرية، من أبناء ملتهم أو جلدتهم ومن غيرهم، حتى نابت المسلمين أنفسهم أيضا، وهم يختارون من هذه النابتة الأفراد التى تتولى أعمال الحكومة والتعاليم فى مدارسها فى كل قطر خاضع لنفوذ دولهم الفعلى بأى اسم من أسمائه. من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب أو لنفوذهم السياسى والتعليمى، كما فعلوا فى بلاد الترك وإيران، لتساعدهم على هدم كل شىء إسلامى فيها من اعتقاد وأدب وتشريع.
وقد كان السيد جمال الدين الأفغانى- حكيم الإسلام وموقظ الشرق- يرى أن هذا الحجاب أكثف الحجب الحائلة بين شعوب أوروبا الحرة والإسلام، ونقل لى الثقة عنه أنه
_________
(١) راجع آخر الفصل ١٥ وأوائل (١٦: ١٢ - ١٤) من إنجيل يوحنا.
1 / 9
قال: «إذا أردنا أن ندعو أحرار أوروبا إلى ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين، فإنهم ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا- ورفع كفيه وفرج بين أصابعهما- فيرون وراءه أقواما فشا فيهم الجهل والتخايل والتواكل ... فيقولون لو كان هذا الكتاب حقّا مصلحا لما كان أتباعه كما نرى».
لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر المسلمين، فانصفوا فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة، ومن مباحث عامة فى العلم والحضارة والدين، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة؛ ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم يكن مبينا لحقيقته كلها، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم، وكان جل تأثيره فى أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا فى بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم آخرون، فهو لم يهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام.
وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب- وأعنى به الفهم الذى تعرف به حقيقة إعجازه وتشريعه وأدبه وإصلاحه، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذى لا يحتاج البشر معه إلى كتاب آخر ولا إلى نبى آخر- فلعله أربعة أسباب خاصة، وراء تلك الحجب العامة وهى:
الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن:
(أولها): جهل بلاغة القرآن
جهل بلاغة اللغة العربية التى بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز فى أسلوبه ونظمه وتأثيره فى أنفس المؤمنين والكافرين به جميعا، فأحدث بذلك ما أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية فى العرب، والانقلاب العام فى البشر- كما شرحناه فى هذا الكتاب- وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها أكثر علماء المسلمين موضوع تحدّى البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه، وجعلوا عجز العربى الخالص عن معارضته بها، ثم عجز المولدين الذين جمعوا بين ملكة العربية العملية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان، هو الحجة الكبرى على نبوة محمد ﷺ، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادا متفرقين منهم، فما القول فى غيرهم؟ فعلماء المسلمين فى هذه القرون يحتجّون بعجز أولئك ولا يدّعون أنهم يدركون سرّ هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه؛ بل قال بعض علماء النظر المتقدمين منهم: إن الإعجاز واقع غير معقول السبب، فما هو إلا أن الله تعالى صرف النّاس عن معارضته بقدرته. والصواب أن منهم من حاول المعارضة فعجزوا، إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التى تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا، ومن متأخرى هؤلاء
1 / 10
من ادعى النبوة كمسيح الهند القاديانى الدجال، ومن ادعى الألوهية (كالبهاء) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس؛ لئلا يفتضحوا به بين الناس وأضعف منه وأسخف بيان أستاذه الباب.
(ثانيها): قصور ترجمات القرآن وضعفها
أنّ ترجمات القرآن التى يعتمد عليها علماء الإفرنج فى فهم القرآن كلها قاصرة على أداء معانيه التى تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر، وهى إنما تؤدى بعض ما يفهمه المترجم له منهم إن كان يريد بيان ما يفهمه، وإنه لمن الثابت عندنا أن بعضهم تعمّدوا تحريف كلمه عن مواضعه، على أنه قلما يكون فهمهم تاما صحيحا، ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنا، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما: قصور فهمه، وقصور لغته، وقد اعترف لى ولغيرى بهذا مستر (محمد) مارماديوك بكتل الذى ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ ثلاث سنوات «١» فعرض على بعض علماء العربية المتقدمين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه، وصحح بمساعدتهم ماذا كرههم فيه «٢».
واعترف بذلك قبله الدكتور (ماردريس) المستشرق الفرنسى الذى كلفته وزارتا الخارجية والمعارف الفرنسيتان لدولته ترجمة ٦٢ سورة من السور الطوال والمئين والمفصل التى لا تكرار فيها ففعل، فقد قال فى مقدمة ترجمته التى صدرت سنة ١٩٢٦ ما معناه بالعربية:
«أمّا أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جلّ وعلا، فإنّ الأسلوب الذى ينطوى على كنه الكائن الذى صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيا، والحق الواقع أن أكثر الكتّاب ارتيابا وشكّا قد خضعوا لسلطان تأثيره (فى الأصل- لتأثير سحره- يعنى تأثيره الذى يشبه السحر فى كونه لا يعرف له سبب عادى) وأن سلطانه على ثلاث مائة مليون من المسلمين المنتشرين على سطح المعمورة لبالغ الحد الذى جعل أجانب «المبشرين» يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن «٣».
ذلك أن هذا الأسلوب الذى طرق فى أول عهده آذان البدو «٤» كان نثرا جد طريف،
_________
(١) هذا بالنسبة للطبعة الأولى.
(٢) ولا تزال ترجمته ناقصة وبلغنى أنه سيصححها مرة أخرى.
(٣) ما يسمع من تنصر بعض المسلمين، ما هو إلا إكراه لبعض العوام الجاهلين أو استمالة لبعض الفقراء منهم بالمال أو تربية لبعض الأطفال.
(٤) يعنى العرب الذين تغلب عليهم البداوة حتى فى حواضرهم كمكة ويثرب.
1 / 11
يفيض جزالة فى اتساق نسق، متجانسا مسجعا، لفعله أثرا عميقا فى نفس كلّ سامع يفقه العربيّة. لذلك كان من الجهد الضائع غير المثمر أن يحاول الإنسان أداء تأثير هذا النثر البديع «الذى لم يسمع بمثله» بلغة أخرى، وخاصة اللغة الفرنسية الضيقة (التى لا سعة فيها للتعبير عن الشعور) المرثة «١» «التى لا تتنازل عن حقوقها» والقاسية. وزد على ذلك أن اللغة الفرنسية ومثلها جميع اللغات العصرية ليست لغة دينية، وما استعملت قط للتعبير عن الألوهية» أهـ.
ثم تكلم عن عنايته هو مدة تسع سنوات متتالية بمحاولة نقل شىء من القرآن إلى اللغة الفرنسية على شرط المحافظة على بلاغة الأصل، وتساءل هل أمكنه التغلب على هذه الصعوبة أم لا؟ يعنى أنه يشك فى ذلك.
(ثالثها): أسلوب القرآن المخالف لجميع أساليب الكلام
إن أسلوب القرآن الغريب المخالف لجميع أساليب الكلام العربى وغيره، وطريقته فى مزج العقائد والمواعظ والحكم والأحكام والآداب بعضها ببعض فى الآيات المتفرقة فى الصور- وهو ما بينّا سببه وحكمته فى هذا الكتاب- وقد كان حائلا دون جمع كبار علماء المسلمين من المفسرين وغيرهم لكلّ نوع من أنواع علومه ومقاصده فى باب خاص به. كما فعلوا به فى آيات الأحكام العملية من العبادات والمعاملات. دون القواعد والأصوب الاجتماعية والسياسية والمالية التى يرى القارئ نموذجها فى هذا الكتاب. إذ لم يكونوا يشعرون بالحاجة إليها كما نشعر فى هذا العصر.
وقد عنى بعض الإفرنج «٢» بوضع كتاب باللغة الفرنسية جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها فى باب أو أبواب خاصة بقدر فهمه، ولكنه أخطأ فى كثير من هذه المعانى وقصر فى بعض مما علمه، وما جهله منها عظيم، ذلك بأن أخذ القواعد والأصول العامة «٣» من هذه الآيات يتوقف على العلم بسيرة النبى ﷺ وسنته فى بيان القرآن وتنفيذه لشرعه، وآثار خلفائه وعلماء أصحابه من بعده، كما يعلم من يراجع فى ذلك الكتاب الآيات الدالة على ما بيناه فى كتابنا هذا من مقاصد القرآن بالاختصار، وما فصلناه منها فى تفسير المنار.
_________
(١) مؤنث المرث كتعب: الصبور على الخصام الذى لا يتنازل عن حقه.
(٢) هو المستشرق العلامة المسيو جول لا بوم.
(٣) أى لا يكفى فى فهمها العلم بمتن اللغة العربية وقواعدها وبلاغتها وفقهها.
1 / 12
(رابعها): الإسلام ليس له دولة ولا جماعات
أن الإسلام ليس له دولة تقيم القرآن وسنة رسوله ﷺ بالحكم وتتولّى نشره بالعلم، ولا جماعات دينية تتولى بحمايتها الدعوة إليه بالحجة، وليس لأهله مجمع دينى علمى يرجع إليه فى بيان معانى القرآن وهدايته فى سياسة البشر ومصالحهم العامة التى تتجدد لهم بتجدد الحوادث ومخترعات العلوم والفنون وفيما
يتعارض بين العلوم ونصوص الدين، فيرجع إليها علماء الإفرنج فى استبانة ما خفى عليهم من نصوصهما.
وأعجب من هذا وأغرب أنّ المسلمين أنفسهم قد تركوا من بعد خير القرون الأولى أخذ دينهم من القرآن المنزل ومن بيان الرسول ﷺ له كما أمره الله تعالى فيه بقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: ٤٤]، وما زالوا يهجرون الاهتداء بهما حتى استغنوا عنهما استغناءا تامّا بأخذ عقائدهم من كتب المتكلّمين، وأخذ أحكام عباداتهم ومعاملاتهم عن كتب علماء المذاهب غير المجتهدين، وهذه الكتب لا تقوم بها حجة الله تعالى على البشر، ولا سيما أهل هذا العصر الذى ارتقت فيه جميع العلوم العقلية والتشريعية، حتى صار المسلمون منا، يأخذون عنهم العلم كما كان أجدادهم يأخذون عنّا، بل فيها من آراء المتكلمين والفقهاء، وروايات الكذابين والضعفاء ما قد يعدّ حجة على الإسلام وأهله، كما أنّ سوء حال المسلمين فى فشو الجهل فى شعوبهم، والفساد والانحلال فى حكوماتهم، قد اتخذ حجة على دينهم، فصاروا فتنة للذين كفروا به «١».
وإذا كان هذا حال المسلمين فى فهم القرآن وهدايته، فكيف يكون حال الشعوب التى نشأت على أديان أخرى ألفتها، ولها رؤساء يربونهم عليها ويصدونهم عن غيرها؟ ودول حربية قد عادت الإسلام منذ بضع قرون، بما لو وجهوه إلى جبال لاندكت وزالت من الوجود، ولكنه دين الله الحىّ القيوم، فهو باق ما دام البشر فى الأرض لا يزول أو يزولون أجمعون.
هذه أظهر الأسباب لخفاء حقيقة الإسلام الكاملة على علماء الحضارة العصرية من الأجانب والمسلمين أيضا وتمنيهم لو يبعث نبىّ جديد بهداية إلهية عامة كافية لإصلاحهم.
_________
(١) أى صاروا منفرين للكافرين عن الإسلام وصادين عنه لئلا يكونوا مثلهم، واقرأ قوله تعالى: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: ٥].
1 / 13
ولما كان الإسلام هو دين الإنسانية العام الدائم الجامع لكلّ ما تحتاج إليه جميع الشعوب من الهداية الدينية والدنيوية، وجب على العقلاء الأحرار، والعلماء المستقلين الذين يتألمون من المفاسد المادية التى تفاقم شرها فى هذا العهد أن يعنوا بهتك تلك الحجب التى تحجبهم عن النظر فيه، وإزالة الموانع التى تعوقهم عن فهم حقيقته، وأن يدعوا جميع الشعوب إلى أخوته، وتكميل الحضارة الإنسانية بهدايته.
نتيجة هذه المقدمات:
بيان هذا الكتاب لحقيقة الإسلام بما تقوم به الحجة على جميع الأنام
أما بعد فإنّنى أقدم لهم هذا الكتاب الذى صنفته فى إثبات (الوحى المحمدى) وكون القرآن كلام الله ﷿، وكونه مشتملا على جميع ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الدينى والاجتماعى والسياسى والمالى والحربى، وقد أطلت فى بيان هذه المقاصد الأساسية بعض الإطالة؛ لأنها مثار جميع الفتن والمفاسد التى يشكو منها عقلاء هذا العصر، وأما توفية هذا الموضوع حقّه فلا يكون إلا فى سفر كبير أو أسفار يجمع فيها مقاصد القرآن كلها مع بيان حاجة البشر إليها فى أمور معاشهم ومعادهم، وهو ما أبينه فى تفسير المنار بإجمال قواعد كل سورة وأصولها فى آخر تفسيرها، بعد بيانها بالتفصيل فى شرح آياتها.
على أننى لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض، وإنما بدأت منه بفصل استطرادى لتفسير آية: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يونس: ٢] إلخ، من أول سورة يونس بينت به الدلائل القطعية على أنّ القرآن وحى من الله تعالى كان محمد ﷺ يعجز كغيره من مثله بعلمه ولغته وتأثيره، وأنه ليس وحيا نفسيا نابعا من نفسه كما يزعم بعض الباحثين من الإفرنج وغيرهم، وأنه أعمّ وأكمل وأثبت من كلّ وحى كان قبله، وأن حجّته قائمة على المؤمنين بالوحى التشريعى وعلى غيرهم.
ثم بدا لى فى أثناء كتابته أن أجرّده فى كتاب خاص أدعو به شعوب الحضارة المادية من الإفرنج واليابان إلى الإسلام بتوجيهه أولا إلى علمائهم الأحرار. حتى إذا اهتدوا به تولوا دعوة شعوبهم ودولهم إليه بلغاتهم، ولهذا زدت فيه على ما كتبته فى التفسير، ووضعت له الخاتمة التى صرحت فيها بالدعوة وجعلتها هى المقصودة بالذات منه.
1 / 14
ولو أنّنى قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبا آخر يغنينى عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار بتحقيق كل مسألة فى موضعها، على أن بعض التكرار متعمد فيها، ولكننى كتبته فى أوقات متفرقة، وحالات بؤس وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله، ولا أعتمد إلا على ما أتذكره من القرآن نفسه على صعوبة استحضار المعانى المتفرقة فى سوره، وإلا بعض الأحاديث فى مواضعها من كتبها لتخريجها والثقة بصحتها، وإنى أحيل القارئ له فى كل إجمال على مراجعة تفسير المنار فى تفصيله، وفى كل إشكال على مراجعة محرره.
محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار وحررت هذه المقدمة فى ليلة ذكرى المولد المحمدى من شهر ربيع الأول سنة ١٣٥٢ هـ (وهى على الأرجح عند المحدثين التاسع من هذا الشهر- ونشر الكتاب فى اليوم ١٢ منه- وهو يوم المولد النبوى المشهور).
***
1 / 15
فاتحة الطبعة الثانية
دعوة الناس إلى الإسلام عامة وأهل الكتاب خاصة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا (١٦٤) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: ١٦٣ - ١٧٥]
1 / 17
ذكر (الوحى المحمدى) فى آيات متفرقة من السور المكية التى كانت تتلى على منكرى وحى النبوة من العرب الذين كانوا أقوى البشر استعدادا لهداية هذا الوحى إذا عقلوه وآمنوا به، لأنه لم يكن عندهم من التقاليد الدينية المسيطرة على القلوب والإرادات، ولا من أمشاج الفلسفة البشرية الشاغلة للعقول والأفكار، ولا من الاستبداد السياسى والاستعباد الروحانى السالبين لاستقلال الأفراد والجماعات ما يصرفهم عن فقهه وتدبره والاهتداء به، أو يأفكهم عن الدعوة إليه وحمايته، والجهاد بالأموال والأنفس فى سبيل إقامته.
دعوة الوحى المحمدى فى هذه الآيات:
ثم ذكر فى هذه الآيات من هذه السورة المدنية [النساء] بما لم يذكر بمثلها فى تفصيله وعموم الخطاب وخصوصه، فخاطب فى أولها محمدا رسول الله وخاتم النبيين ﷺ ثم وجه الخطاب فى بعضها إلى الناس كافة، وفى بعض آخر إلى أهل الكتاب خاصة. فبدأ خطاب النّاس كافة بأنه قد جاءهم (الرسول) الكامل الذى بشر به الأنبياء والرسل، والنبى الأعظم الذى كانت تنتظره الأقوام والأمم، ولذلك ذكر معرفا بأداة التعريف «١» وأنه جاءهم بالحق من ربهم، وهو الحق المحض الذى جهله المشركون، واختلف فيه الكتابيون، فضلوا فى هداية أنبيائهم ورسلهم، وكفّر بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا، وكتب الفريقين واحدة، وقد بين لهم ذلك فى الآيات التى قبل هذه الآيات مباشرة، وأهمها الخلاف فى رسولهم النبى الروحانى المصلح المسيح عيسى ابن مريم ﵇، ثم أعاد ذكره ونهاهم عن الغلو فيه فى هذه الآيات، وهى مشتملة على المسائل العشر الآتية:
(الأولى) أن الله تعالى أوحى إلى محمد ﷺ كما أوحى إلى نوح أول رسول أرسله إلى الأمم وقص عليه خبره فى السور المكية وإلى النبيين من بعده، فوحيه إليه كوحيه إليهم، أى مثله فى جنسه وموضوعه والغرض منه، فهو ليس بدعا من الرسل ولا أولهم، ولكنه خاتم الرسل المكمل لهدايتهم، وخص بالذكر منهم أشهر أنبياء بنى إسرائيل المعروفين عند أهل الكتاب المجاورين له فى الحجاز وما حوله، وقد كانت دعوته ﷺ بلغت اليهود والنصارى جميعا فيها، والمراد بالأسباط الأنبياء من سلالة أبناء يعقوب، عمم ثم خصص.
_________
(١) كان اليهود ينتظرون ثلاثة من الأنبياء والمصلحين، المسيح وإيلياء والنبى المطلق الذى بشر به موسى ومن بعده. ومن أدلة ذلك ما جاء فى الفصل الأول من إنجيل يوحنا وملخصه: أنه لما ظهر يوحنا المعمدان (وهو يحيى ابن زكريا ﵉؛ وصار يعمد الناس فى نهر الأردن، أرسلوا إليه وفدا ليعرفوا أى الثلاثة هو فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا. قالوا: أأنت إيليا؟ قال: لا. قالوا: أأنت النبى؟ قال: لا. «٢٥ فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد الناس إذا كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبى؟ إلخ فذكروا النبى معرفا، ولو قالوا: له أأنت نبى بالتنكير؟ لما قال لا.
1 / 18
(الثانية) أن لله تعالى رسلا آخرين منهم من قصّ عليه خبرهم فى السور المكية إجمالا كقوله فى سورة الأنعام بعد قصة إبراهيم مع أبيه وقومه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحًا هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) [الأنعام: ٨٤ - ٩٠]، وتفصيلا فى سور الأعراف وهود ويوسف وطه والطواسين (الشعراء والنمل والقصص) وما دونهن، ومنهم من لم يقص عليه خبرهم من أنبياء سائر الأمم لعدم العبرة لقومه ولجيرانهم بقصصهم، وعدم ظهور إقامة الحجة بها عليهم، وربما كان ذكر بعضها فتنة لبعضهم يدعون أنها أسماء مخترعة، وقد جاء فى بعض السور أنّه تعالى أرسل فى كل أمة رسولا.
وترى هذا فى موضع آخر من هذا الكتاب بشواهده، وهو حجة على أهل الكتاب الذين يحصرون فضل الله على البشر بالنبوة فيهم.
(الثالثة) أنّ وظيفة جميع الرسل تعليم النّاس ما به يصلح حالهم، ويستعدون لمآلهم بطريق التبشير لمن آمن وأصلح عملا بحسن الثواب، وإنذار من كفر وأفسد عملا بالعقاب وحكمة ذلك أن لا يكون للناس على الله حجة بجهلهم ما يجب عليهم من أصول الإيمان، وما تصلح به الأنفس وتتزكّى من صالح الأعمال، فتستعد لسعادة الدنيا
بقدرها، وسعادة الآخرة من بعدها. وقد فصلنا فى هذا الكتاب وجه الحاجة إلى هدايتهم، وعجز البشر عن الاستقلال بمعرفتها بعقولهم.
(الرابعة) شهادة الله تعالى وشهادة ملائكته بصحة هذا الوحى له ﷺ، وأورد هذه الشهادة مفتتحة بقوله لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ وهو استدراك على إنكار معلوم من قرينة حال الكفار به ﷺ من المشركين وأهل الكتاب ومما حكاه من قبل عن المشركين من الإنكار والمطالبة بالآية أو الآيات، كما تراه فى سورتى الأنعام ويونس وغيرهما ثم ما حكاه قريبا فى هذه السورة [النساء] عن اليهود بقوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ
1 / 19
السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٥٣] إلخ، فهو تعالى يقول له: إن أولئك المشركين ينكرون وحى الله إليك وإلى غيرك، وإنّ هؤلاء الجاحدين يكتمون الشهادة بنبوتك وبشارة أنبيائهم بها لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ [النساء: ١٦٦] إلخ.
فأما شهادته تعالى فقد بينها بيانا مستأنفا لوقوعها جوابا لسؤال مقدر، وهو قوله: (أنزله بعلمه) أى أنزل هذا القرآن الذى أوحاه إليك متلبسا بعلمه الخاص الذى لا تعلمه أنت ولا قومك من تشريع وحكم وآداب وعبر وأخبار غيب سابقة وحاضرة وآتية، بأسلوب معجز للبشر. وهو ما يفصله هذا الكتاب بالشواهد من السور العديدة، وأما شهادة الملائكة له فما أخبر به تعالى من نزول الروح الأمين جبريل ﵇ بهذا القرآن، وما أيده به يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فى غزوة بدر، وكذا غزوتا الأحزاب وحنين، وفى أحوال أخرى.
هذه الشهادة من الله بهذا القرآن الذى لا يمكن أن يكون إلّا من الله حقّ لا ريب فيه، وهى أظهر من شهادة يوحنا (يحيى) للمسيح- ﵉ إذا روى يوحنا أنه قال: (٥:
١٣ إن كنت أشهد لنفسى فليست شهادتى حقا ٣٢ الذى يشهد لى هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التى يشهدها لى هى حق ٣٣ أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق)، وكذلك هى أظهر وأقوى من شهادة المسيح لنفسه فيما رواه يوحنا أيضا، إذ دعا اليهود إلى اتباع النور الذى جاء به (٨: ١٣). فقال له الفرّيسيون: أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقّا ١٤ فأجاب يسوع وقال لهم: (وإن كنت أشهد لنفسى فشهادتى حق)، وقد صدق ﵇ فى أن شهادته لنفسه حق، ولكن لا تقوم بها الحجة على الخصم، وأما شهادة الله تعالى لنبيه فى القرآن فهى حجّة على كلّ أحد يعجز عن الإتيان بمثله، فهى إذن حجة على كل أحد.
(الخامسة) الإخبار فى الآيات ١٦٧ - ١٦٩ بحال الكفار الذين يتعدى ضررهم إلى غيرهم من الناس، بصدّهم النّاس عن سبيل الله وهى الإسلام، وبظلمهم لأنفسهم وللناس، وكون جزاؤهم بحسب سنة الله فى أنفس البشر ونظام الاجتماع أن يظلوا سائرين على طريق الباطل والشر والموصلة إلى عذاب جهنّم. إذ لا يغفر الله تعالى لهم إلا بتزكية أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح الذى يهدى إليه الوحى، وقد صاروا بضلالهم فى أشد البعد عنه خلافا لما يقوله الكفار من نيل المغفرة بجاه الشفعاء الشخصى مع بقاء الأنفس على
1 / 20
فسادها، وظلمات ظلمها وجهلها، وهو ما سرى إلى أهل الكتاب من المشركين، إلا أن بعض النصارى خصّوه بالمسيح وبعضهم جعلوه عاما لجميع القديسين.
(السادسة) مخاطبة جميع الناس (فى الآية ١٧٠) بأن هذا الرسول محمدا ﷺ قد جاءهم بالحق من ربهم حقّا محضا غير مشوب بالآراء والأهواء البشرية، ولا بالتقاليد الكهنوتية «١» التى زادها رؤساء الأديان على ما جاءهم به الرسل الأولون فلم يعد يعرف أحد ما هو من الله تعالى وما هو منهم، فإن يؤمنوا بما جاءهم به هذا الرسول يكن خيرا لهم، وإن يكفروا فالله غنى عنهم.
(السابعة) نداؤه أهل الكتاب (فى الآية ١٧١) بالنهى عن الغلو فى الدين، وعن قول غير الحق على الله تعالى، وبيانه لهم حقيقة المسيح الذى غالى اليهود منهم فى الكفر به وتكذيبه، والطعن فى صيانة أمه الطاهرة، وغالى النصارى فيه فجعلوه ربا وإلها، وأنه قد جاءهم بالحق فيه، وهو أنه بشر روحانى خلق بكلمة الله التكوينية وهى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢]، وبنفخ روح القدس فى أمه الطاهرة، وبتأييد هذا الروح له فى سائر أحوال نبوته، وأن روحه ﵇ قدّيسه من الله تعالى لا حظّ للشيطان فيها، والنصارى يقررون أن الأرواح قسمان: طاهرة قديسة، ونجسة شيطانية، والتمييز بينهما مزية تحدث بها زعيمهم بولس فى رسالته الأولى إلى أهل كورنثيوس.
(الثامنة) أمره تعالى أهل الكتاب بعد ما ذكر من حقيقة أمر المسيح أن يؤمنوا بما جاء به خاتم النبيين من الإيمان الصحيح بالله، وتوحيده والإيمان برسله، ونهيهم عن التثليث الوثنى الهندى، وعن اتخاذ الولد لله ﷿، وع لله بأنه المالك لكلّ ما فى السموات والأرض، أى كل العالم، ولو كان له ولد لكان ولده مثله لا ملكه، ولكان محتاجا كاحتياج الإنسان إلى ولده سبحانه هو الغنى عن كل ما سواه كما هو مبين فى الآيات الكثيرة الواردة فى هذا المعنى «٢».
(التاسعة) إنباؤهم فى الآية (١٧٢) بأنّ المسيح لن يستنكف، أى لن يأبى أنفة واستكبارا عن أن يكون عبدا لله، ولا الملائكة المقربون- وهم أفضل الملائكة وأعلاهم منزلة عنده تعالى- أن يكونوا عبيدا له، فإنه ما تم فى الوجود إلا رب واحد كل من عداه عبيد له،
_________
(١) الكهنوتية: نسبة إلى الكهنوت، وهى كلمة دخيلة من اصطلاح النصارى واليهود والوثنيين معناها وظيفة الكاهن، وهو الذى يتولى بعض التقاليد الدينية المختلفة عند كل منهم.
(٢) راجع سورة يونس، الآية: ٦٨، وآخر سورة مريم وغيرهما.
1 / 21
فالمؤمنون الذين يؤمنون بربوبيته ويعملون الصالحات تعبدا له يوفيهم أجورهم، ويزيدهم عليها ثوابا ونعيما، فضلا منه وإحسانا، والذين يستنكفون ويستكبرون
عنها يعذبهم عذابا أليما، ولا يجدون لهم من دونه- أى غيره- وليّا يتولى أمورهم ويغفر لهم، ولا نصيرا ينصرهم بشفاعة ولا فدية ولا غيرها، فلا يغرنهم ما يدعيه الرؤساء الذين استعبدوهم من أنّ خلاصهم وسعادتهم يكونان من غير أنفسهم.
(العاشرة) نداؤه للناس كافة فى الآيتين (١٧٤، ١٧٥) مبشرا لهم بأنه قد جاءهم البرهان العلمى العقلى من ربهم، وأنزل عليهم النور الساطع، وهو القرآن المبين لجميع الحقائق، فلا ينبغى لأحد منهم أن يصغى بعدها إلى تقليد الرؤساء والكهنة الذين استعبدوهم لرئاستهم وأهوائهم، وأثبت لهم أن الإيمان به، والاعتصام بحبله المتين، والدخول فى النور المبين، هو الذى يخرجهم من شقاء الدنيا ويدخلهم فى رحمة خاصة، وفضل عظيم، يمتازون بهما على غيرهم من البشر، ويهديهم بإرشاده وفيض نوره صراطا مستقيما من العلم والعمل، والحق والعدل والفضل، يكونون به سعداء الدنيا والآخرة.
هذا مضمون الوحى الإلهى المنزل على محمد رسول الله وخاتم النبيين المبين فى هذه الآيات، ظهر نوره فاهتدت به العرب، وحملته إلى شعوب العجم بالتبليغ له بالعلم والعمل، فاهتدى به السواد الأعظم ممن بلغتهم دعوته من المليين الكتابيين، والمجوس والوثنيين، والهمج المعطلين، لأنه دين البشر أجمعين. وقاومته الدول الدينية من نصرانية ومجوسية ووثنية، فنصره الله عليهم كلهم كما وعدهم حتى أظهره على الدين كله، ولا يزال ينصره وينشره بعد ترك دوله لدعوته، وإعراضهم عن هدايته. وما نزل بهم من عقوبته لهم كما أوعدهم، ولو ثبتوا على إقامته لعم نوره العالم، ولاستراح البشر من هذه العداوات الجنسية والوطنية والسياسية، ولو لقى غيره من الأديان مثل ما لقى من البغى والعدوان حوار مع الأستاذ بن لأصبح فى خبر كان.
ثم إن حاجة الأمم قد اشتدت فى عصرنا هذا إلى هدايته، حتى أشدها إمعانا فى عداوته، ولجاجا فى نكايته، وجهلا بحقيقته، فأخرجت هذا الكتاب من هداية القرآن، لتجديد دعوته بما يناسب ضرورة هذا الزمان، ولو أننى حين شرعت فى كتابة مباحثه فى المرة الأولى، أردت أن يكون كتابا مستقلا فى تجديد الدعوة إلى الإسلام، لافتتحته بهذه الآيات، وإن سبق لى تفسيرها المفصل فى آخر سورة النساء، ثم لنشرت بعض ما طويت من وجوه إعجازه، ولفصلت ما أجملت من مقاصد إصلاحه، ولبسطت ما قبضت من
1 / 22
دلائله. ولاجتنبت فيه الإحالة فى بسط ما طوى وتفصيل ما أجمل، على أجزاء تفسير المنار المطول، التى اختصرت جل المقاصد وشواهدها منها، لأنها مما يشغل القارئين للكتاب، وربما كان أكثرهم لا يقتنون تلك الأجزاء، ولذلك انتقد هذه الإحالة وبعض الاختصار فيه بعض من قرأه قولا وكتابة بحق، وكنت أسبقهم إلى ذلك.
رواج الكتاب وترجمته ببعض لغات:
لقد راج هذا الكتاب أضعاف ما رجونا، ونال من ثناء رجال العلوم الدينية ورجال المعارف المدنية العصرية فوق ما قدرنا، حتى قال كاتب مدنى شهير إنه لم ير كتابا عربيّا نشر فى هذا العصر وكان له من حسن القبول عند جميع أصناف القراء- حتى الذين لا يعنون بأمر الدين- مثل ما كان لهذا الكتاب (الوحى)، وقد صدق قوله، فإنه لم يمر على بدء نشره ثلاثة أشهر إلا وقد كادت تنفذ نسخه، حتى قللنا من بيعه لتجار الكتب بالجملة، لئلا تنفذ قبل التمكن من إعادة طبعه منقحا، مبسوطا مفصلا.
وقد استأذننى بعض المستنيرين ومحبى الإصلاح الإسلامى من الشعوب الإسلامية بترجمته باللغات الغربية والشرقية المختلفة، فأذنت لإمام جامع وكنج ومحرر مجلة الإسلام (ريفيو إسلاميك) فى لندن وداعية الإسلام فيها بترجمته باللغة الانكليزية ونشره فى أوروبا وأمريكا مترجما «١»، وأذنت أيضا بترجمته باللغات الأوردية والتركية والفارسية والصينية، وسأذكر ما يكون من أمر هذه الترجمات فى المقال الذى أجعله تصديرا لهذه الطبعة (الثانية).
ولقد كنت على ما أسمع وما أقرأ من تقريظه وإطرائه أحرص على العلم بما يراه أولو العلم والرأى من انتقاده، وسألت كثيرا عن هذا ولم اسألهم عن ذاك، وبعد هذا كله شرعت فى إعداده لهذه الطبعة الثانية له.
...
_________
(١) بلغنى أنه ترجم بعض الفصول والمباحث ولم يترجم الكتاب كله.
1 / 23