Révélation des Quarante
وحي الأربعين
Genres
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
الشعر العصري
تناول بعضهم ديوانا من الشعر، فقال: هذا شعر عصري! هذا ديوان خلا من باب المدح وباب الهجاء، فهو شعر جديد وليس بشعر قديم.
ذلك مثل من أمثلة التقليد في إنكار التقليد، فالشعر لا يكون عصريا مبتكرا لأنه خلا من المدح ولا يكون قديما محكيا لأنه يشمل عليه، وإنما يخرج «المدح» من الشعر لأنه كلام يضطر الناظم إليه اضطرارا ولا يعبر فيه عن عقيدة صادقة أو عاطفة صحيحة، ولولا الحاجة إلى نوال الممدوح لما نظمه ولا أجاله في خاطره، فمن هنا كان المدح كلاما لا شعر فيه ولا دلالة على شعور، أما المادح الذي يقول ما يعتقد أو يحس أو يتمثل أو يتخيل فلا فرق بينه وبين شاعر الوصف والغزل والحماسة من حيث القدرة الشاعرة، ولا سيما إذا هو أثنى بما يوجب الثناء في رأيه وضميره.
ولنضرب لذلك مثلا من التصوير بالريشة، وهو كالشعر، أحد الفنون الجميلة التي يقع فيها الابتكار والتقليد، فلا نعرف ناقدا يزعم أن المصور الذي يرسم رجلا من أجل ثمن مقدور لا يعد من المصورين «العصريين»؛ إذ كل ما يطلب منه هنا أن يجيد نقل الشبه والدلالة على الملامح والأطوار النفسية، فإن أجاد في عمله هذا فهو مصور كأحسن المصورين، وإن لم يجد فليس بمصور وإن كان يرسم الأشخاص متبرعا غير مأجور، أو كان يشغل نفسه بمناظر الطبيعة وما شابهها من الموضوعات التي تقابل الوصف والغزل في القصائد. وكذلك المدح في دلالته، على الشاعرية أو في انتظامه بين أبواب الشعر الصحيحة، فإنما يعاب بيع الثناء من وجهة الخلق والعرف لا من وجهة الفن والتعبير، أما الذين «يقلدون» في إنكار القديم فقد اختلط عليهم الأمر؛ فحسبوا المدح منفيا من عالم الشعر لذاته لا لما قدمناه. •••
وقرأ بعضهم قصيدة في وصف الصحراء والإبل، فأنكر أن تكون من المذهب الجديد وعدها بابا من الشعر لا يجوز أن يطرقه العصريون!
ذلك مثل آخر من أمثلة التقليد في إنكار التقليد؛ لأن وصف الصحراء والإبل إنما يحسب تقليدا لا ابتكار فيه إذا نظمه الناظم مجاراة للأقدمين واقتياسا على الدواوين، أما الرجل الذي يعيش في الصحراء أو على مقربة منها، ويركب الإبل وتجيش نفسه بالشعر والتخيل عند ركوبها ورؤيتها فليس بشاعر إن لم ينظم في هذا المعنى مخافة الاتهام بالتقليد أو جريا على رأي الآخرين.
إذ هذا هو التقليد بعينه في التصور واختيار الموضوعات، وما المقلد إلا من ينسى شعوره ويأخذ برأي الآخرين على غير بصيرة أو بغير نظر إلى دليل.
Page inconnue