وفي أثناء الحديث سأل سليم أحدهم: بلغنا من الترجمان أن مسز (كلدن) مريضة، وهذا سبب سياحتها مع زوجها المكرم، ولكن ما مرضها؟ فضحك المخاطب وأجاب: «مرض الوطن.» فاستغرب سليم وكليم ذلك، فقال صاحبهما: نعم، أنا أخبركم الآن شيئا جديدا، وهو يسركما ولا شك، فإن مسز كلدن أصلها من بر الشام، ولم تنفك عن الاشتياق إلى وطنها الأول، فجاء بها المستر كلدن في هذا العام لعل صحتها تعود إليها في هذه السياحة التي هي متعبة، وإن كانت جميلة.
هوامش
الفصل الخامس
قصة مجنون ليلى
هل أخطأت حبيبته أم أصابت في سفرها؟
وفي ذلك الليل نام كليم وسليم نوم الهناء بعد تعب السفر، ونهضا في صباح اليوم التالي نشيطين مسرورين، إلا أنهما شعرا قبل شروق الشمس بشيء من البرودة لم يتعوداه في آب لقياسهما الجبل على السهل. لكن ما طلعت الشمس وامتزجت ذرات نورها الحار بذرات الهواء البارد حتى شعرا بارتياح شديد لم يشعرا بمثله في حياتهما كلها، ومنذ هذه الساعة بدأت الحدث تكون جميلة في عيونهما.
ولما تعالت الشمس فوق المشرق، واشتدت حرارتها قليلا، انتبه أمين من النوم، وأوعز إلى أبويه أن يستعدا للذهاب إلى حرش الصنوبر القريب من القرية؛ ليتناولوا طعام الصباح هناك مع ضيفيهما. فبعد نصف ساعة سار سليم وكليم نحو الحرش وركب أمين حمارا؛ لأنه كان عاجزا عن المشي لضعفه، وسار أبواه وراءه، والمسافة بين القرية والحرش نحو 4 أو 5 دقائق، وهذا الحرش قائم بين القرية القديمة وبضعة منازل جديدة بنيت وراءه إلى الجنوب، وهو مغروس فوق أودية مختلفة تنفرج من الحدث إلى السهل، فيرى من ورائه بحر الكورة والبترون وما وراءه من الأفق.
فجلس الرفاق هناك في أجمل مجلس وتناولوا طعام الصباح، وقد جعل أمين مجلسه بعيدا عن مجلس صديقيه وفصل طعامه عن طعامهما، فكان هذا الشعور اللطيف منه يزيد صديقيه رغبة في محو ذلك الأثر من نفسه، ولكن - وا أسفاه - ما الفائدة من محو ذلك الأثر من النفس ما دام باديا في الوجه؟! فإن أمين كان في تلك الجمعية التي كانت تتمتع بالصحة والعافية في ذلك المكان المشرف على مناظر الجبال والمعطر الهواء برائحة الصنوبر الطيبة - عبارة عن شبح وخيال، فإن العلة الهائلة أكلت وشربت لحمه ودمه، والهزال أفنى قواه وأخمد نار عينيه وصبغ وجهه اللطيف بلون الموت، ولم يبق من قوة لتلك الروح الصبورة في ذلك الجسم النحيف الذي صار كأجسام الأولاد سوى قوة الابتسام بشفتيه الرقيقتين تحت شاربيه الأشقرين الدقيقين اللذين صارا لا يظهران كثيرا لامتزاج لونهما بلون الوجه.
فبالابتسام فقط كانت تظهر حياة أمين وعواطفه وإرادته، وكان يجود بالابتسام دائما إظهارا للقوة وإيناسا لجلاسه، فهنا نقول مرة ثانية أيضا: ما رأى الممرضون قط مريضا شجاعا مثل الفتى أمين، والعجب من نفس قوية صبورة كهذه النفس، كيف استطاعت العلة أن تقوى عليها؟!
وكان لا ينغص عيش سليم وكليم شيء في ذلك المكان الجميل سوى هذه الأفكار التي تتردد عليهما، ورغبة في طردها وتسلية المريض دخلا في الحديث معه، فقال كليم: ألا تذهب معنا إلى الأرز أيها الصديق؟ فضحك أمين وقال: أنت ترى أنني لا أقدر على الركوب من القرية إلى هنا. فقال سليم: لا تبالغ، فإنك بخير والحمد لله، وإنك تستطيع الذهاب معنا إلى الأرز إذا أردته، ولك علينا إذا سرت معنا نريك (فرجة) لم ترها في حياتك. فقال أمين: وما هي؟ فقال سليم: نريك مجنون ليلى. فقال أمين: ومن هو مجنون ليلى؟ فقال سليم: هو رجل جن من الحب. فصاح أمين: لعلك تريد بهذا الرجل المسيو مخلوف، فدهش سليم وكليم وقالا: هل تعرفه؟! فقال أمين: هذا أمر بسيط؛ فإن كل الناس هنا يعرفونه ويعرفون قصته. فقال سليم: وهل تعرفها بالتفصيل؟ فقال: نعم، ولكن أين شاهدتموه؟
Page inconnue