إهداء الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
نصيحة ختامية
تقريظ الرواية
إهداء الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
نصيحة ختامية
تقريظ الرواية
الوحش الضاري
الوحش الضاري
تعريب
توفيق عزوز
سعادة الفاضل سليم باشا حموي الأفخم صاحب جريدة الفلاح الغراء.
إهداء الرواية
إلى صاحب السعادة المفضال، الكاتب النحرير، والصحافي الشهير سليم باشا حموي الأفخم صاحب جريدة الفلاح الغراء.
سيدي الفاضل
هذه - حفظك الله وأبقاك - رواية أدبية تهذيبية تنتقل بالقارئ في مدارج الآداب؛ فتمثل أشرف العواطف الإنسانية والأميال النبيلة، وتحث على التحلي بها وتشخص أشنع الرذائل والمساوئ القبيحة في صورتها الحقيقية، وتحرض على اجتنابها والإقلاع عنها، وقد استصوبت أن أزفها إلى سعادتكم وأقدمها هدية بين يديكم؛ لأني أعلم علم اليقين أنكم من أقدم الصحافيين بمصر، وأكبر نصراء الآداب في هذا العصر، وناهيك أن بيننا من دالة الصداقة القديمة وجامعة المهنة الشريفة ما يحدو بي إلى ذلك، وأني لا أعتبر هديتي هذه إلا اعترافا مني بسابق فضلكم وكريم شيمكم، ومكارم أخلاقكم، ولي الأمل الوطيد بأنها تصادف لديكم ما أرجوه لها من الإقبال والقبول؛ لأن هذا منتهى القصد وغاية المأمول.
توفيق عزوز
الفصل الأول
روي أنه حدث في البحيرة التي تفصل ناحية سان مالو عن سان سيرفان بفرنسا فيضان عظيم منذ بضع سنين؛ فغمرت الطريق الموصل بين هاتين الناحيتين حتى اضطر الأهالي إلى استعمال الصنادل والمراكب الصغيرة للمرور بها في الطرق العمومية عوضا عن العربات والعجلات.
ففي مساء أحد الأيام، بينما كان الطقس معتدلا والنسيم معتلا، وقد اختالت الطبيعة في مطارف البهاء والجمال، خرج الناس زرافات ووحدانا لترويح النفس من عناء الأشغال.
وكان في جملة هؤلاء المتنزهين رجل يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، كان يمشي الهوينا قاصدا تلك البقعة الملأى بالصنادل والمراكب حتى إذا دنا منها ركب صندلا صغيرا، وطلب من صاحبه أن يسرع الخطى إلى ناحية سان سيرفان؛ فلم يمض بضع دقائق حتى وصل إلى ذلك المكان، فهم بالنزول بعد أن أنقد المراكبي أجرته وسار توا قاصدا تلك البقعة الجبلية الملأى بالصخور والرمال، وقبل أن يتقدم بضع خطوات لاحت منه التفاتة فرأى في أحد جوانب هذا الخلاء الفسيح امرأة متكئة على إحدى الصخور في هذا المكان المقفر، وسمات الكآبة والحزن تلوح على وجهها.
فسأل السائح المراكبي قائلا: من تكون هذه المرأة؟
أجاب الرجل: يقال يا سيدي: إن هذه امرأة اعتراها داء الجنون وهي تهيم على وجهها في هذه الفيافي والقفار. قال: ولماذا تركوها وشأنها هكذا بلا معالجة؟ وهل تعرف اسمها؟ - تدعى مادلين يا سيدي، وهي تجلس كل مساء في هذا المحل بعينه تتسول الصدقة، ولا تظهر في غير ذلك الوقت؛ لأنها كثيرة الحياء على ما يقال، فلا تستعطي إلا تحت جنح الظلام.
وعند ذلك انقطع الحديث وترك السائح صاحب المركب، ثم سار متقدما إلى الأمام، فدنت منه تلك المرأة المسكينة، ومدت إليه يدها تطلب الصدقة حسب عادتها، فأمعن فيها نظره وأخذته الشفقة عليها، وحدثته نفسه بأن يقف على سبب جنونها واختيارها لهذه العزلة والانفراد.
فدنت منه تلك المرأة المسكينة.
فحينذاك قبض على يدها النحيفة بلطف، وأوعز إليها أن تتبعه إلى أحد جوانب هذه البقعة، فلم تظهر أدنى معارضة في ذلك واقتفت أثره بلا ممانعة، حتى وصلا إلى صخرة عالية في وسط هذا الخلاء فجلسا عليها، ومن ثم نظر السائح إلى تلك المرأة الغريبة الزي ليستطلع أخبارها فرآها تنظر حولها يمنة ويسرة، ثم تحدق بأمواج البحر التي كانت تزداد تلاطما واصطداما، فتهيج فيها عوامل الحزن وتزداد قلقا واضطرابا، كأن هذه المناظر الطبيعية كانت تثير في قلبها تلك العوامل الخفية، وتذكرها بحوادث فظيعة جرت لها في سالف أيامها، فيظهر على وجهها ذلك التهيج والانقباض، فاقترب منها السائح وسألها عن سبب حزنها واكتئابها، فنظرت إليه محملقة وأجابته قائلة: تسألني ماذا اعتراني؟! كأنك لا تعرف حقيقة حالي؛ فانظر إلى هذا البحر المتلاطم بالأمواج؛ فهو ينبئك بما جرى لي؛ فهنا ماتا، بل هنا قتلتهما تلك اليد الظالمة.
أجاب السائح: ومن هذان اللذان تقولين أنهما قتلا هنا؟ - عجبا، وهل تجهل ما جرى لولدي العزيزين في هذه الصحراء المقفرة أمام هذه الأمواج المتلاطمة؟ فهنا، هنا قد جرت تلك المذبحة الهائلة والفظائع الوحشية المنكرة، فأواه يا سيدي، لماذا أتيت بي إلى هذا المكان؟ حتى تثير في قلبي هذا التذكار المؤلم! فهلا كفاني ما أقاسيه من الشقاء والعذاب حتى جئت تزيدني هما وحزنا! فماذا فعلت يا مولاي حتى أستحق كل هذا العقاب؟ ولماذا تناصبني العداء كأنك من ألد أعدائي؟ فوا عجبا! كيف يريد العالم كله أن يكون ضد امرأة مسكينة عاكسها الدهر وخانتها صروف الأيام؟! فقد كنت أظن أن لي عدوا واحدا، وهو ذلك الظالم القاسي القلب الذي هد عزائمي، وأوهن قواي، وغادرني أتقلب على مضض التعاسة والشقاء، ولكن أين هو ذلك العدو الآن، فلا أخاله يستطيع الرجوع إلي بعد أن تخلصت من مظالمه الفظيعة وأعماله الوحشية، وقتلته بيدي شر قتلة.
قالت ذلك، ثم استسلمت لعوامل اليأس والقنوط، وعلى إثر ذلك ساد الهدوء والسكون في هذا المكان، ولم يعد يسمع الإنسان غير خرير الماء وحفيف الأشجار، فأحدق السائح نظره بهذه المرأة ليتبين هيأتها، فإذا هي لم تزل في شرخ الشباب وريعان الصبا، ولو أن ما قاسته من تباريح الوجد والحزن كان قد أثر في ملامحها تأثيرا ظاهرا وأفقدها ما جادت به عليها الطبيعة من آثار الحسن والجمال.
وبعد أن مضت على هذه الحال برهة من الزمان رفعت المرأة رأسها ونظرت إلى السائح نظرة العجب والاندهاش، ونادت بصوت خافت ورشاقة غريبة: ولكن من تكون أنت يا سيدي، وماذا تريد مني الآن؟ أجاب الرجل: تقولين من أنا يا مادلين؟ - إذن أنت تعرف اسمي؟ - نعم؛ فأنت مادلين دي راعول على ما أظن. - لا يا سيدي، فأنا أدعى مادلين فقط، فلا تذكرني بذلك اللقب اللعين، ولا تذكر لي اسم «راعول» لئلا ترتعد فرائصي ويقشعر بدني؛ فإن هذا الاسم ليس هو إلا عنوان الشقاء ورمز التعاسة والبلاء، فلا يذكر إلا مردفا بعبارات الشتائم واللعنات؛ فأنا أدعى مادلين، نعم أدعى مادلين فقط؛ لأن هذا هو الاسم المحبوب الذي دعاني به جدي، وكان يدعوني به أيضا جميع سكان قريتي، وهو الذي كان يدعوني به أيضا رفيق حياتي وحبيب قلبي «موريس»، فآه يا حبيبي موريس، أين أنت الآن لترى ما تقاسيه أختك مادلين من أنواع الذل والعذاب، ولكن من أين لك أن تعرفها الآن، وقد غير الحزن هيأتها وأذهبت يد الزمان ملامح جمالها.
قال السائح: يظهر أنك تجشمت أهوالا كثيرة يا مادلين؟ - حياة الإنسان كلها يا سيدي مصائب وأتعاب، ولكني لا أظن أن إنسانا خانه الزمان ولعبت به صروف الأيام وجرعته كئوس الرزايا والأحزان؛ فذاق منها صنوفا وألوانا بقدر ما ذقت أنا الشقية المسكينة التي تراها أمامك الآن. - ربما كنت يا مادلين أكثر من غيرك ميلا إلى الشر؛ فأراد الله أن يعاقبك على سوء تصرفك.
ربما صح هذا الفكر يا مولاي، ولكن كم من الخطاة يمرحون في بحبوحة العز والهناء، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الفصل الثاني
جرى كل هذا الحديث بين ذلك السائح المجهول وتلك المرأة المتسولة عند غروب الشمس؛ فلما انتهى بهما الكلام إلى هذا الحد كان الليل وقتئذ قد أرخى سدوله، وازدادت الطبيعة هدوءا وسكونا؛ فتقدمت المرأة إلى السائح واقتربت منه بلطف، واستأنفت الكلام ثانيا فقالت: اسمع يا سيدي ما أقصه عليك الآن؛ لتعلم كيف أنه يوجد في العالم من الغرائب والعبر ما يفوق حد التصور، ثم احكم بعد ذلك إما لي وإما علي؛ لأني توسمت فيك الصدق والنزاهة؛ فأنا - التعيسة الشقية - لم أحرم في أول حياتي من لذة العيش والهناء، وإذا صح ما يقوله الحكماء من أن تذكر أيام السعادة ينسي المرء ما يصادفه من التعاسة ومتاعب الحياة؛ فأنا أريد أن أذكر شيئا من سابق أيامي وماضي حياتي؛ لأني أرى في ذلك بعض التعزية والسلوى؛ فلقد ولدت يا سيدي في قرية فوجير، وكان أبي يتاجر في الأصواف، وهو رجل نشيط شديد العزم، ولكنه أصيب بزواج امرأة كان لا يحبها ولا يميل إليها، وقد فعل ذلك مضطرا لا مختارا؛ لأنه كانت توجد هناك روابط عائلية، وأسباب مالية حدت به إلى التزوج بهذه المرأة القاسية المستبدة التي نغصت عيشه وحرمته لذة الراحة والهناء، فلم يلبث أن شعر بخطئه؛ لأنه لم يذعن إلى نداء إحساساته وعواطفه، فألقى بنفسه بين يدي امرأة تخالفه في المبدأ والمشرب على خط مستقيم، ولعل هذه أعظم بلية يصادفها الإنسان في حياته، فمادلين التعيسة الشقية يا سيدي كانت ثمرة هذا الزواج الإجباري والارتباط المشئوم.
فلما ولدت وترعرعت كنت أرى من والدي الحب والحنان، ومن والدتي الضغط والإرهاب؛ فرأيت نفسي مضطرة إلى مجاراة هذين التيارين المتعاكسين؛ فإذا زجرتني والدتي بادرت مسرعة إلى والدي؛ فألقيت بنفسي بين ذراعيه فيقبلني قبلة الحنو والشفقة؛ فعند ذلك أنسى معاملة والدتي وصعوبة مراسها وشدة استبدادها، وبعد مضي خمسة سنوات من تاريخ ولادتي توفي أحد العمال المشتغلين مع والدي في تجارته، وكان رجلا غيورا على مصلحته ومتهالكا في خدمته، وأمينا في كل أعماله وتصرفاته، وترك المتوفى بعده ابنا لا يزيد سنه عني غير سنة واحدة، وهو شاب جميل الصورة حسن الخلق، ورث من والده كل صفاته ومكارم أخلاقه؛ فرأى والدي أن من الواجب عليه إعالة هذا الابن المسكين والاعتناء بأمره، ولا سيما لأن والدته كانت قد انتقلت أيضا من عالم الأحياء؛ فأصبح وحيدا فريدا، وهذا الابن المسكين يدعى «موريس»، وهو وإن كان حديث السن، إلا أنه كان كثير الشعور والإحساس، أبي النفس عفيفا، وعلى جانب عظيم من اللطف والوداعة؛ فكان بعد وفاة والده لا يهنأ له حال ولا يهدأ بال، بل يقضي أغلب ساعات النهار في البكاء والنحيب؛ فكنت أنا ووالدي نبذل كل ما في وسعنا لتسكين روعه وتسلية خاطره؛ لأنه أصبح من أعضاء عائلتنا وأهل بيتنا فيشق علينا أن نراه في هذه الحالة التعيسة.
أما والدتي القاسية القلب؛ فكانت تظهر التململ والتذمر من وجود هذا الطفل الحزين بيننا، وتقول: إنه جاء ليكون حملا ثقيلا على كاهلنا، فكان والدي يحاول إقناعها بحقيقة خطئها، ويظهر لها أن ما فعلناه مع هذا الطفل اليتيم إن هو إلا أول واجب تقضي به علينا قواعد الإنسانية والمروءة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
على أن هذا الحال لم يلبث أن تغير بعد مضي مدة من الزمان؛ فإن هذا الطفل لما أظهرناه له من دلائل الشفقة والحنان نسي جميع أحزانه ورأى في وجوده معنا كل التعزية والسلوى.
ومن ثم ابتدأت عوامل المحبة والألفة تتولد في قلبينا؛ فكنت أنا أشعر بميل شديد وانعطاف زائد إلى أخي «موريس»، وهو يظهر لي هذا الميل عينه، وكلما شببنا شب هذا الحب معنا حتى أصبح ميلا غريزيا وطبعا فطريا فينا، وكنت أرى أن هذا الاتحاد الطبيعي موضوع سعادتنا ومصدر سرورنا وتعزيتنا، وأقسم لك يا سيدي أني لم أر في أيام حياتي كلها أسعد من هذا الوقت الذي توفرت فيه لدينا جميع معدات السرور والصفاء، وأطلق لنا العنان لنمرح في بحبوحة العز والهناء.
وأية سعادة أفضل من أن يرى الإنسان نفسه في مقتبل العمر وريعان الشباب، وبجانبه شخص هو موضوع حبه وانعطافه، وقد امتلأت رأسه بالآمال والأحلام اللذيذة.
فهذا كان حالي يا سيدي مع حبيبي موريس، ذلك الحبيب المخلص الذي أبى الدهر إلا أن يفصلني عنه ظلما وعدوانا، ويجرعني بعد فراقه من الذل والعذاب صنوفا وألوانا.
وماذا عساني أصف لك يا مولاي عن حقيقة هذا الحب الطاهر والهوى العذري، وأنت تعلم أن فيه لذة يشعر بها القلب، ويعجز عن وصفها اللسان.
ففي أيام الربيع الجميلة كنت أضع يدي تحت ذراع حبيبي موريس ونخرج كل مساء لترويح النفس واغتنام فرصة اللهو والسرور، فتسير بنا الأقدام ونحن لا نشعر ولا ندري، حتى إذا انتهينا وجدنا أنفسنا في وسط الخلا الفسيح والرياض الغنا، ولا نرى حولنا من الأمام والوراء إلا الخضرة والماء، وهناك ينطلق اللسان فيبث لواعج الحب، ويعبر عن عواطف القلب، وقصارى القول: إني يا سيدي كنت أشعر في ذلك الحين بلذة السعادة الحقيقية والعيشة الهنية، وأذوق طعم الحب الخالص، الحب الذي تشعر به فتاة قد ناهزت السابعة عشر من عمرها، وما أحلى هذا العمر، وما أطيبه؛ فإنه زهرة الحياة ونضارتها، ومحط رحال الصفاء والهناء؛ إذ فيه تتوفر شروط الصحة والعافية، وتمتلئ الرءوس من الآمال والأحلام، فآه يا سيدي، إني كلما تذكرت هذه الأمور ضاقت في وجهي سعة الفضاء، وتعجبت كيف أني إلى الآن لم أزل في عالم الأحياء!
الفصل الثالث
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
يا أيها الناس من كان الزمان له
مسالما فليكن من دأبه الحذر
بعد أن أتمت مادلين هذا الكلام ظهرت على وجهها علامات الانقباض واليأس؛ فوضعت رأسها بين يديها وغرقت في بحار التخيلات والأوهام، ولم تنتبه إلى استئناف حديثها واستطراد قصتها، ودام الصمت أكثر من عشرة دقائق، والسائح ينظر إليها بعين الشفقة والحنان، وقد أخذ منه الحزن كل مأخذ؛ لأنه رأى في حالة هذه المرأة المسكينة ما يثير الأشجان ويهيج العواطف.
وبعد برهة قصيرة رفعت الأرملة رأسها وعادت إلى إتمام قصتها بلهجتها المعهودة فقالت: وبينما كنت يا مولاي أتمتع بلذة هذا العيش الهنيء، وأذوق طعم الراحة والحب، ما أشعر إلا وقد هبت عواصف الانقلاب، فأبادت كل ما بنيته من الآمال والأحلام، وهدمت دعائم الهناء والسعادة التي كنت أعلل بها النفس في مستقبل الأيام، ذلك أنه بينما كنت أنا وموريس ووالدي جالسين ذات ليلة في حديقة القصر بعد تناول العشاء تحت ظل شجرة كثيفة الأغصان، وقد ساد السكون والهدوء، وهبت نسيم الشمال تملأ النفوس انتعاشا، وتفعم القلوب فرحا وابتهاجا، وحبيبي موريس قد قبض بيديه على يدي وطفق يداعبني بلطفه المعهود، وأنا أنظر تارة إليه وطورا أرفع رأسي إلى السماء، فأرى الجو صافيا والنجوم تتلألأ في القبة الزرقاء، والطيور تملأ بغنائها الفضاء، فلم أشعر إلا وقد أقبلت علينا والدتي مهرولة وعلى وجهها سمات الحيرة والاندهاش؛ فنظر إليها والدي على بعد نظرة الحزن والانقباض، ونهض حبيبي موريس على قدميه لاستقبالها، فتبعته أنا وسرت مسرعة نحوها، وبعد أن استقر بوالدتي المقام التفتت إلى والدي فقالت: ألعلك أخبرت مادلين وموريس بما اتفقنا عليه اليوم؟ - إني لم أفاتحهما في هذا الأمر بعد؛ لأني لم أشأ أن أكدر صفاءهما في هذه الفرصة السعيدة.
إذن؛ فالواجب علي أنا أن أخبرهما بحقيقة الحال؛ لأنه لا فائدة في الصمت والانتظار.
قالت ذلك ثم التفتت إلينا ووجهت لنا الحديث قائلة: اسمعي يا مادلين ما أقصه عليك الآن؛ لأن كلامي لا يخلو من الخطارة والأهمية كما تعلمين فأنتما قد بلغتما سن الرشد، وعرفتما حلو العيش ومره؛ فيجب عليكما أن لا تضيعا الزمن سدى، وتقتلا الوقت فيما لا يفيد ولا يجدي؛ لأن من كان مثلكما عليه أن يوجه نظره دائما إلى مستقبله ويبذل جهده في تدبير شئونه وأحواله؛ ليضمن لنفسه الراحة والسعادة في المستقبل، وإني أعذركما على إغفال هذه الواجبات إلى الآن؛ لأنكما تعتمدان على والديكما وتكفيان نفسكما مئونة هذا التعب والاشتغال؛ ولذا كان من الواجب علينا نحن أن نذكركم بهذه الأمور، ونسعى فيما يعود عليكم بالنفع والفائدة.
فلما انتهت والدتي في كلامها إلى هذا الحد خفق فؤادي واصفر وجه موريس؛ لأن قلبنا كان يحدثنا بوقوع خطر قريب.
واستمرت والدتي في الحديث؛ فقالت: والنتيجة أني يا مادلين قد دبرت لكما ما يضمن راحتكما وسعادتكما في المستقبل، وذلك أننا عولنا على إرسال موريس إلى جهة «دي جانيريو» بوظيفة كاتب أول في إحدى المحلات التجارية الشهيرة، وإني أؤمل أنه سوف يصل بجده واجتهاده وحسن تصرفه إلى درجة عظيمة من التقدم إن شاء الآن كل شيء من هذا القبيل؛ فلما سمعنا هذا الكلام انقضت على رأسنا صواعق الدهشة والانزعاج، وصرخت أنا بحزن مستغيثة بوالدي.
أما موريس فتقدم إلى والدتي فجثا أمامها على ركبتيه وناداها بلطف: رحماك يا أماه ؛ فأنا أحب ابنتك مادلين، ولا أستطيع فراقها، وعند ذلك تشددت قواي وانتعشت في روح الأمل؛ فاندفعت أمام والدتي وناديتها بصوت جهير: وأنا أحب موريس يا أماه؛ فارحمينا يرحمك الله.
فلم تهتز والدتي لكل هذه الاستغاثة، مع أن والدي الشفوق تأثر من هذا المنظر المريع، وسالت من عينه العبرات رغما عن كثرة محاولته في إخفائها، فالتفتت إلينا تلك الأم القاسية وصرخت في وجهنا بصوت مخيف، ثم التفتت إلى موريس فقالت له بوجه عبوس: ما هذا الحال يا موريس، إني أعلم أنكما تحبان بعضكما، ولكن ما الفائدة من هذا الحب الموهوم، وأنت تعلم أن لا فائدة لك من ذلك ما دمت لا تنتظر التزوج بها؛ فإنك في حالة من الفاقة والفقر لا يرجى معها إتمام هذا الزواج، وابنتي ليست غنية بهذا المقدار حتى يسوغ لك أن تطمع في الحصول عليها؟
أجاب موريس: إني يا سيدتي سأتجشم المصاعب وأشق عباب المخاطر والأهوال، وأركب البحار، وأشتغل آناء الليل وأطراف النهار، وأدك الجبال إذا لزم الحال حتى أصبح في حالة من السعة واليسار تخول لي حق الاقتران بحبيبتي مادلين. - إن الغنى يا موريس لا يأتي دفعة واحدة، ولا بد من الصبر الطويل حتى تنال ما تريد، ولا يصح أن تبقي ابنتي رهينة إشارتك طول هذه المدة على غير جدوى.
فأجبت والدتي بكل جسارة وحماسة: إني يا أماه لا رغبة لي في الزواج على الإطلاق، وحينئذ تقدم والدي وأراد أن يتداخل في الأمر ويحسم هذه النازلة بالتي هي أحسن، ولكن والدتي القاسية انتهرته، وقالت لنا: هذا ما عولت عليه، ولا بد من تنفيذه طوعا أو كرها، وعليك يا موريس بأن تستعد للسفر من الغد.
الفصل الرابع
وفي اليوم الثاني أخذتني والدتي إلى بيت إحدى صديقاتها على بعد بضعة أميال من قرية فوجير، وبعد أن لبثت هناك يومين كنت في خلالهما لا أذوق طعاما ولا ترى أجفاني لذة الكرى عدت مع والدتي إلى دارنا؛ فوجدت أن حبيبي موريس قد غادر تلك الديار وسلم والدي جوابا كان قد تركه لي قبل سفره؛ فلما فتحته ووقع نظري على اسمه اشتعلت في قلبي نيران الوجد والحزن، وكانت هذه أول مرة شعرت فيها بمرارة العيش وحلول الشقاء.
وقد كتب إلي موريس في هذه الرسالة يقول:
أستودعك الله يا حبيبتي مادلين؛ فقد قضت إرادة والدتك بأن أبارح الدار التي عشنا تحت سقفها وتمتعنا فيها بلذة الحب الخالص والهوى العذري، ولعلني لا أراك مرة أخرى بعد الآن.
فهل يرضى الله يا ترى أن تعيشي سعيدة قريرة العين، وإن كنت أنا أشعر منذ الآن بأني فقدت لذة الحياة ولم يعد لي مطمع في البقاء؛ فإذا من الله عليك بهذه السعادة بعد ذلك الشقاء فاذكري أن لك في العالم حبيبا يفديك بالنفس والنفيس، وقد ملأ حبك قلبه وسرى في كل أعضائه ومفاصله، وقد أحبك وسيحبك إلى آخر نسمة من حياته، فناشدتك هذا الحب الطاهر أن لا تنسي هذا المحب التعيس.
موريس
ولا تسألني يا سيدي عما أذرفته من العبرات وأصعدته من الزفرات على إثر قراءة هذه الرسالة، حتى أصابني مرض عضال فلازمت الفراش، وكنت أتمنى أن ينقضي أجلي فأتخلص من هذا الشقاء والعذاب، ولكن التعساء لسوء الحظ لا يموتون.
وقد كنت صممت على رفض الزواج قطعيا مهما كانت الحالة، ولكن إرادة والدتي تغلبت علي وظهرت في عوامل الضعف النسائي بعد مضي مدة من الزمان، فتزوجت رغما عني بذلك الشقي الذي انتخبته لي والدتي، وهو المسيو راعول الذي كان من زمرة الأغنياء، ولكنه اشتهر بفساد السيرة والسريرة، وكنت أسمع الناس يقولون: إنه ملأ الأرض بفسقه وفجوره ومفاسده وشروره، ولكن والدتي عميت عن كل هذه المساوئ؛ لأنها قالت: «إنه رجل غني والسلام»، ولم ألبث أن بارحت قرية «فوجير» مسقط رأسي ومنبت شعبتي، وفارقت بيت والدي المسكين الذي كان يزرف الدموع السخينة لانفصالي عنه؛ لأني كنت موضوع تعزيته وسلوانه.
أما عن حالة معيشتي مع هذا الزوج الجديد فحدث عنها ولا حرج؛ لأن مثل هذا الزواج الإجباري ليس وراءه في الغالب إلا المصائب والأخطار، إن زوجي راعول لم يكن يظهر في مبدأ الأمر إلا الحب والإخلاص، ولكني لم أكن أجد في نفسي أقل ميل إليه، فاحتمل مني هذا الجفاء أولا وثانيا، ولكنه أخيرا نزع هو أيضا إلى العداء، ومن ثم أصبحت معيشتنا مهددة بالخطر، وغدونا أشبه شيء بعدوين يطلبان أخذ الثأر، لا زوجين يتعاونان على مصاعب العيش ومتاعب الحياة.
وكانت عداوة زوجي راعول ممزوجة بالدناءة وحب الانتقام، وأما أنا فلم أكن أطلب له الأذى، ولكني كنت لا أحبه فقط؛ لأن مبادئنا ومشاربنا لم تتفق.
وهناك جلست على صخرة عالية.
وكان راعول يتذكر في ذلك الوقت أنه طلب التزوج بي أكثر من مرة فقابلت طلبه بالرفض والإباء؛ لأني كنت أحب موريس، ولا أرضى بغيره لي خليلا؛ فحينذاك يزداد غضبه وتشتعل في قلبه نيران الحنق وحب الانتقام.
أما أنا فكنت لا أرى طريقة لإزالة غصتي وتفريج كربتي غير الخروج إلى الخلاء واستنشاق هواء الصحراء، وملازمة العزلة والانفراد.
فخرجت ذات يوم إلى الخلاء (وهناك جلست على صخرة عالية)، وكنت أرى أمامي أمواج البحر تتلاطم بشدة؛ فيدوي صدى صوتها في الآفاق، وهناك أطلقت لذاكرتي العنان لتجول في عالم التخيلات والتأملات؛ فتذكرت تلك الأيام السعيدة التي قضيتها مع حبيبي موريس، وكيف أن الدهر أبى إلا حرماننا من التمتع بها، وألوم نفسي من الجهة الأخرى؛ لأنني نكثت عهد محبته ورضيت الاقتران بهذا الزوج اللئيم، وفي ذلك الوقت كان يتمثل أمامي حبيبي موريس جالسا مثلي على صخرة أخرى يبكي على فراقي ويندب سوء حظه؛ لأنه لم يحظ بقربي، ويلومني على هذه الخيانة الفظيعة، فعند ذلك ارتعدت فرائصي واقشعر بدني؛ لأني شعرت بجسامة ذنبي وعظيم خطئي.
الفصل الخامس
وبينما أنا على هذا الحال ما أشعر إلا ويد قوية هزت كتفي وناداني صوت مملوء من الغضب والحنق: يظهر أنك لا تطلبين النزهة يا سيدتي إلا في واسع الخلاء.
فهذا الذي كان يكلمني هو زوجي راعول، وقد جاء يفتش علي ويقتفي أثري.
أما أنا فنهضت واقفة على قدمي ولم أفه ببنت شفة، فاندفع راعول في تيار غضبه وطفق يوسعني لوما وتوبيخا، وأنا لا أزداد إلا صمتا ورضوخا، ثم التفت إليه وقلت له بلطف: هيا بنا نرجع إلى الدار يا راعول.
فنظر إلي شزرا وأجابني بلهجة العدو الماقت: إنك يا مادلين تتظاهرين أمامي كل يوم بالعداء والجفاء، وقد عيل صبري وضاق صدري من سوء معاملتك؛ فالأفضل لك أن تجاهري بكراهتك لي حتى أصبح على بصيرة من حقيقة مستقبلنا، فأجبته بجأش قوي وجنان ثابت: إني لا أحبك يا راعول، ولكني لا أبغضك أيضا. - حسنا تقولين، ولكن هل تظنين أني أصدق أنه يوجد في العالم كله امرأة واحدة يخلو قلبها من الحب؛ فمن تحبين إذن يا مادلين؟
ومن هو ذلك الشقي الذي أخذ حبه بمجامع قلبك وجاء يزاحمني على حبك؟ - إن من كانت زوجة مثلي ليس لها الحق أن تحب أو تذوق لذة العشق. - دعينا من هذه المراوغة يا مادلين واعترفي بالحق؛ لأن دموعك وعزلتك يشهدان عليك؛ فمن العبث أن تكتمي عني حقيقة حبك وغرامك، ألم تهبي قلبك لذلك الشريد الطريد الذي كان يئويه والدك في داره ويعيش من فضلات صدقتكم. - إن كنت تعني بهذا الكلام أخي «موريس» فهو أجل من أن يوجه إليه هذا الهجاء؛ لأنه رجل شريف أبي النفس، وقلبه مملوء من العواطف الشريفة والإحساسات الحرة، وهذا القلب هو أفضل من كنوز العالم كلها.
فلما سمع راعول مني هذا الكلام صعد الدم في رأسه ولاحت على وجهه علامات التهيج والاضطراب، وصرخ في وجهي بغضب شديد قائلا: كفى يا مادلين؛ فأنا لا أريد أن أحتمل منك أكثر من ذلك، ولا يمكنني أن أعيش مع امرأة لا هم لها إلا سكب العبرات وإصعاد الزفرات، وتذكر أيام اللهو والصبا. - وأنا لا أستطيع أن أعيش إلا كذلك يا سيدي.
فعند ذلك ازداد تهيجه وغضبه، ودنا مني رافعا يده ليضربني فناديته بأعلى صوتي: عار عليك يا راعول أن تهين فتاة مسكينة مثلي وتتطاول عليها بالضرب؛ فلم يصغ راعول لكلامي ولم أشعر إلا وقد انقض علي وطفق يوسعني لكما وضربا، ولما أردت أن أتناول حجرا من الأرض لأدافع به عن نفسي قبض على يدي وناداني بصوت منخفض: إياك أن تقولي كلمة أو تبدي حركة، وإلا قتلتك خنقا، وأرحت نفسي من شر أعمالك. وفي ذلك الوقت خارت قواي وضعفت عزائمي؛ فنظرت إليه نظرة المستغيث؛ فإذا به قد تقطب وجهه وانقلبت سحنته، وتطاير الشرر من عينيه، وأصبح منظره هائلا ومخيفا؛ فارتعدت حينذاك فرائصي، وسقطت على الأرض مغشيا علي.
الفصل السادس
ولما أفقت من غشيتي وجدت نفسي على فراشي في غرفتي، وبجانبي الطبيب يمرضني، وأمامي خادمتي «دانيز» ترمقني بعين الخداع والرياء؛ فجمعت حواسي، وتذكرت ما حل بي قبل هذا الإغماء، وابتدأت أفكر في كيفية التخلص من هذا «الزوج القاسي أو الوحش الضاري»؛ لأنه أكد لي أن حياتي معه أصبحت مهددة بالخطر، ولا شك فخطر على بالي أن أهجر هذه الدار التي استحكمت فيها حلقات الشر وأرجع إلى بيت والدي؛ فأقضي به ما بقي من أيام حياتي، ولو أني أعلم أن نير والدتي ثقيل، وضغطها شديد، ولكن الحكمة تقضي على العاقل بأنه إذا وقع بين شرين يجب عليه أن يختار أخفهما ضررا، ومن ثم عزمت على تنفيذ هذا الفكر وشرعت في التأهب والاستعداد.
ولكن الدهر إذا أخنى على أحد وأبى إلا معاكسته لم يترك أمامه بابا للفرج والخلاص؛ فإني بينما كنت أفكر في هذا الأمر ورد إلي نبأ مفجع ينعي لي وفاة والدي ووالدتي اللذين ذهبا فريسة النار على إثر حريقة هائلة التهمت دارنا فصيرتها رمادا ولم تبق فيها حجرا على حجر.
وقد هالني هذا الخبر المفجع والخطب الجلل؛ فأذرفت الدمع السخين، وبكيت بكاء الخنساء، ولكن ماذا ينفع هذا العويل والنحيب، وقد نفذ القضاء، وسبق السيف العذل.
ولا حاجة لي الآن يا سيدي أن أنبئك بما وصلت إليه حالتي من الشقاء والتعاسة بعد حلول هذا المصاب العظيم؛ فقد أصبحت تتنازعني عوامل الحيرة واليأس، وعدمت كل ساعد ونصير، ولكني كنت كلما شعرت بهذه المصائب علمت أني أستحقها أنا التي جنيت على نفسي، وسلمت لإرادة والدتي، ورضيت بهذا الزواج المشئوم؛ فيلزمني أن أتحمل تبعة خطئي وأكفر عن ذنبي.
وعلى ذلك رضيت البقاء تحت هذا النير القاسي، وحمدت الله على هذه الدرجة التي وصلت إليها، ثم أخذت أعتني بتربية ولدي اللذين رزقت بهما بعد مضي ثماني سنوات من تزوجي راعول، وهكذا تركت الأمور تجري في أعنتها، على أني رأيت بعد ذلك في سلوك راعول تغيرا عظيما، وانقلابا كليا؛ فبعد أن كان يلازم الدار ولا يغيب عني طرفة عين أخذ يتغيب كثيرا، ويقضي أوقاته خارجا عنها، وربما مضت عليه الأيام والليالي الطوال، وأنا لا أرى وجهه ولا أنكر عليك يا سيدي، إن هذا ما كنت أتمناه لأنفرد بنفسي، وألازم عزلتي، وأقتل الوقت بتذكر أيام النعيم والهناء التي مرت علي كأضغاث الأحلام؛ لأن هذا كان منتهى سلوتي وعزائي.
الفصل السابع
قلت لك يا سيدي: إني رزقت من زوجي بولدين؛ فسميت أحدهما روبير، والآخر جيلبير، وكان أولهما رقيق الطباع، جميل الخلق والخلق، كثير الفطنة والذكاء، وثانيهما عنيدا مستبدا حاد الطباع، شديد العارضة، صعب المراس.
وكان راعول يبغض الأول رغما عن كل هذه المبادئ والمزايا؛ لأنه على زعمه كان يشبه حبيبي موريس في هيئته وصفاته، ويخص الثاني بحبه وانعطافه، وهذه طبيعة غريبة لا أخالها موجودة في كل الآباء.
ففي إحدى الليالي احتفل راعول بإقامة ليلة ساهرة في القصر، ولما حان وقت الاجتماع أوعزت إلى خادمتي دانيز في أن تأخذ الأولاد إلى غرفة النوم ليستريحوا؛ فما كان من راعول إلا أنه وجه الكلام إلى روبير وقال له: اذهب أنت يا روبير إلى غرفة النوم؛ فما كان مني إلا أن قلت لأخيه الثاني: واذهب أنت أيضا يا جيلبير مع أخيك.
فاعترضني زوجي على ذلك وأمرني بأن أترك جيلبير ليكون معنا وحده في تلك الحفلة، زاعما أن وجوده يسرنا ويسلينا.
فعندئذ نهضت على قدمي وحملت روبير بين ذراعي وقبلته قبلة المحبة والحنان، وأخذته إلى غرفة النوم، ولكن هذا الطفل كان على جانب عظيم من الأنفة وعزة النفس؛ فتأثر من هذه المعاملة القاسية التي أظهرها له والده واستلم لعوامل البكاء والنحيب ؛ فطفقت ألاطفه وأسكن روعه، ولكن على غير جدوى.
ثم انسحبت من الغرفة بعد أن وعدته بأني سأحضر له هدية نفيسة.
ولما عدت إلى قاعة الاجتماع لم أر راعول بين الحاضرين، فسألت جيلبير عنه فأجابني: أنه تذمر من سماع بكاء أخيه روبير وبادر إلى غرفته لإسكاته، وطلب إلي جيلبير أن أدخله إلى سريره؛ لأنه يريد هو أيضا أن ينام، أما أنا فحدثتني نفسي بوقوع مصاب قريب؛ فهرولت مسرعة إلى غرفة النوم، فاندهشت لما رأيت ابني روبير يخبط في دمائه، وقد وضع أبوه يده على فمه لكي لا يسمع أحد نداءه، وقد كاد يموت الطفل المسكين مخنوقا، فتحركت في قلبي عوامل الغيظ ودواعي الشفقة؛ فتقدمت إلى راعول ولطمته وناديت بأعلى صوتي: يا لك من وحش قاس، ونذل لئيم، كيف سولت لك نفسك الشريرة أن ترتكب هذا الإثم الفظيع، وكانت هذه أول مرة تظاهرت فيها أمام زوجي بالتمرد والعصيان؛ فما كان من ذلك القاسي القلب إلا أنه قبض على شعري ودفعني بقدمه إلى الأمام، فوقعت مغشيا علي. وحينذاك هرع الحاضرون إلي وخلصوني منه، وعادوا كلهم يندبون سوء حظي لوجودي مع رجل هو من جنس الوحوش الضارية والحيوانات المفترسة، وليس فيه شيء من صفات الآدميين.
ووردت إلي على إثر هذه الحادثة الرسائل والمكاتيب تترى من كثير من المعارف والأصدقاء يطلبون بها مني أن أقيم الحجة أمام مواقف القضاء على ما أتاه زوجي من المنكر، وهم مستعدون لتقديم أنفسهم للشهادة، ولكني كظمت غيظي، وصبرت على بلواي، ولم أذعن لهذه النصائح والإرشادات، ومن ثم أخذ زوجي يزداد اندفاعا وتهورا، ويرتكب أعظم الجرائم وأكبر الآثام جهرا، ويمتطي صهوة الشرور والمفاسد بلا خجل ولا حياء؛ فلم يترك بابا من أبواب الفسق والفجور إلا ولجه، ولم يغادر بيتا من بيوت المقامرة إلا ودخله، ولم يكن يكدرني من سلوكه بنوع خاص غير تبديده لثروة أولاده المساكين التي صارت على وشك الزوال.
الفصل الثامن
ويا ليت مفاسد زوجي وشروره وصلت إلى هذا الحد، بل إنه قد فعل ما هو أعجب وأغرب من ذلك كله؛ فاسمع يا سيدي ما أقصه عليك، وتعجب كيف تصل الدناءة والسفالة ببعض الناس إلى درجة تفوق حد التصور.
دخل علي زوجي ذات يوم وهو يتبسم تبسم الدهاء والمكر، وقال لي: اسمعي يا مادلين ما أقوله لك؛ فأنا قد عزمت على الذهاب الآن، وربما لا أعود قبل الغد، ولكني وعدت صديقي «فوستر» بأن يتناول عندي الغداء في هذا النهار؛ فعليك أن تقابليه بكل لطف وبشاشة، وتقومي بكل ما يلزم له من مظاهر الاحتفاء والإكرام، وإني أؤمل أنك تجدين فيه من اللطف والدعة ما يحبب إليك مجالسته؛ لأنه حلو الشمائل، جذاب الملامح، وقد أوقع كثيرات من النساء الجميلات في أشراك حبه.
فتعجبت من كلام زوجي وقلت له: وماذا يهمني يا راعول من أمر هذا الرجل حتى تطنب لي في وصف أخلاقه ومحاسنه؛ فأنا - والحق يقال - لا أجد في نفسي ميلا إلى مقابلته ومحادثته. - هذا ما تقوله النساء دائما عن كل رجل يحبونه، وأنا أبشرك بأن فوستر هو أيضا عاشق متيم، ومحب ولهان. - إني أراه في سن الرشد والكمال؛ فكيف يكون هذا حاله؟ - إن الإنسان لا تنتهي مطامعه أو تقف شهواته عند حد، ولا يغيرها السن أو تؤثر فيها تقلبات الأيام. - ولكن ماذا يهمني أنا من كل ذلك؟ - إذا كان لا يهمك هذا الأمر؛ فأنا أرى أنه يهمني كثيرا. - إني لا أفهم معنى كلامك يا راعول. - وأنا أريد أن تفهمي كل شيء الآن، قلت لك: إن فوستر عاشق ولهان، والذي يحبه هو أنت يا مادلين! - يظهر أن هذا الرجل فاسد الأخلاق دنيء النفس؛ فأنا أبغضه وأحتقره منذ هذه الساعة. - ولكن سها عنك يا مادلين أن فوستير هو من أعز أصدقائي، وعلى كل حال؛ فأنا أطلب إليك أن تحسني مقابلته وتسعي جهدك في إرضائه؛ لأن لذلك أسبابا سوف تعلمينها.
قال ذلك: ثم خرج مهرولا وأقفل وراءه الباب بشدة، وبعد برهة اندفع الباب فدخل فوستر يميس هجبا ويتمايل طربا، وهو رجل يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، تلوح عليه سمات الفطنة والذكاء وحب اللذات والشهوات، وهو من أشهر تجار مدينتنا وأغناهم؛ فلما دنا مني حياني بكل لطف ودعة، ثم اقترب من المكان الذي كنت جالسة فيه، فجلس بجانبي والتصق بي، وأخذ يداعبني ويغازلني بألفاظ لا أتذكرها الآن فابتعدت عنه، ونظرت إليه نظرة الغضب والامتهان.
فتظاهر بأنه لم يفهم قصدي، وزاد اقترابه مني، ثم أراد أن يمسك بيدي فنزعتها منه بشدة وقلت له: ما هذا الحال يا سيدي، وماذا تريد مني؟
أجاب فوستر: بالله دعي عنك يا مادلين هذا الصد والدلال وارثي لحال حبيب مسكين يرجو رضاك وينتظر نوال السعادة على يدك. - وما معنى هذا الكلام يا سيدي؟ - يا لله من قلوب النساء؛ فما أشد قساوتها؛ فهل لم تدركي يا سيدتي مرادي ولم تعرفي في حقيقة قصدي إلى الآن، فها إني أنبئك بما تجهلين، فأنا فوستير التعيس الذي أضناه حبك وتأججت نيران الوجد والهيام بين أضلاعه، فجاء يطلب منك الشفاء ويرجو الرضاء، فعسى أن تشفقي عليه ولا ترديه خائبا. - يظهر يا سيدي إنك قد ضللت في الطريق فدخلت هذا البيت سهوا وأنت تظنه من بيوت الهوى، فأرجوك أن ترجع من حيث أتيت لأن ما فعلته يخالف ناموس الشرف والآداب.
وعلى إثر ذلك نهضت على قدمي بكل حماسة وفتحت أمامه الباب معتذرة إليه عن صدور هذه الجسارة مني؛ لأني فعلت ذلك رغما عن إرادتي.
أما فوستر فلم يعبأ بهذا التصريح الجارح وتظاهر بعدم الفهم، ثم بادر إلي فأمسك بيدي وأجابني بكل هدوء وسكينة.
لا تخشي يا سيدتي ولا تضطربي؛ فقد صدر الأمر بأن لا يدخل هذه الغرفة أحد سواي، وقد خلا لنا الجو ونامت عيون العواذل والرقباء.
قلت: ومن أصدر هذه الأوامر؟
قال: إن خادمتك دانيز أخبرتني أن زوجك هو الذي أمر بذلك.
قلت: ولماذا؟
قال: حتام تحاولين الكتمان وتتعمدين التجاهل، أليس هو زوجك الذي أخذ مني اليوم مبلغ 20 ألف فرنك، ووعدني بأن يستميلك إلي وينيلني منك سؤلي، وقد وعدته أنا أيضا بأضعاف هذا المبلغ إذا أدركت بغيتي وفزت بوطري.
فلما علمت ذلك سقط هذا الرجل من عيني، وتعجبت كيف أن الدناءة والسفالة تصل ببعض الناس إلى هذا الحد، ثم التفت إلى المسيو «فوستير» الذي كان في ذلك الوقت جاثيا على قدميه أمامي يسترضيني.
أما فوستر فلم يعبأ بهذا التصريح.
ويستعطفني، فقلت له: انهض يا مولاي ودعني أندب سوء حظي؛ لأني أصبحت مثل الأنعام التي تباع وتشرى بأبخس الأثمان، وإني أطلب يا سيدي أن لا تزيد في حزني وهمي، فاذهب إلى حيث تشاء، ولا تعد إلي بمثل هذا الموضوع والآن أستودعك الله؛ لأنه قد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى.
قلت ذلك ثم خرجت من أمامه غاضبة، ودخلت إلى غرفتي فانطرحت على سريري وطفقت أذرف الدموع السخينة على ما وصلت إليه حالتي من التعاسة والشقاء، وكنت في ذلك الوقت أناجي نفسي قائلة: يا لله ما هذا الحال؟ هل سمع أحد أن زوجا باع عرض زوجته بهذا الثمن البخس، فهل لم يكف راعول أنه بدد ثروة أولاده على بنات الهوى وربات الغنج والدلال، وأهان زوجته إلى هذا الحد حتى إنه باع عرضها لذلك التاجر الغني بمبلغ لا يزيد عن 20 ألف فرنك؛ فوا خجلاه ووا فضيحتاه.
وبينما أنا على هذا الحال أنوح وأبكي لم أشعر إلا وقد فتح الباب، ودخل جيلبير وروبير مهرولين فانطرحا بين ذراعي وسألاني عن سبب حزني وكدري، وسمعت صوت طارق على الباب الخارجي فكفكفت الدمع وقلت لهما: ليس بي شيء؛ فاذهبا لمقابلة أبيكما المحبوب؛ فإني أسمع وقع أقدامه الآن.
وعلى إثر ذلك دخل راعول إلى غرفتي فنظر إلي نظرة الغضب الممزوج بالحزن، ولكنه لم يبد حراكا، ولم يفه ببنت شفة؛ فعلمت أنه اطلع على كل ما جرى بيني وبين صديقه فوستير، وبعد مضي يومين أنبأني زوجي بأن لديه أشغالا ضرورية تضطره إلى مبارحة القرية والتوجه إلى مدينة «نانت»، ولكنه لا يعلم متى يرجع من سفره، وعلى ذلك أعد ما يلزمه لهذا السفر، وودع ولديه، ثم رمقني بعين الحنو والخداع، وسار قاصدا مدينة «نانت».
الفصل التاسع
لما سافر راعول إلى «نانت» بقيت أنا وحدي مع خادمتي «دانيز» وهي فتاة على جانب عظيم من الحسن والجمال استخدمها زوجي في خدمتنا على إثر زواجي ببضعة أشهر، ولكن هذه الخادمة مع ما كانت عليه من جمال الخلق اشتهرت بفساد الأخلاق وسوء النية ودناءة الطبع، وقد ظهرت لي منها أمور كثيرة تؤكد عندي هذا الظن، وكنت عزمت على فصلها من الخدمة وطردها، ولكن إرادة زوجي أبت إلا صدى من هذا العزم، واتضح لي أخيرا أن تلك الخادمة كانت عشيقة زوجي وخليلته؛ فكظمت حينذاك غيظي وصبرت على هذه المصيبة العظيمة، وكنت أتعجب كيف أن الاندفاع والتهور في الفساد يقود صاحبه إلى درجة الجنون والعمى، حتى يستحل وضع زوجته الشرعية وخليلته الفاسقة في بيت واحد وتحت سقف واحد!
ومع أن دانيز كانت تعلم أنها معتبرة بصفة خادمة حقيرة؛ لكنها كانت تتظاهر لي بالحسد وتناصبني العداء جهرا؛ لأنها علمت أني وإياها سواء في الحقوق والواجبات أمام هذا الزوج الخائن ...
ولم تكن هذه الفتاة تميل إلى زوجي أو تحبه حبا خالصا، غير أنها جرت وراءه حبا في ماله ورغبة في استنزاف ثروته، وهذا شأن كل امرأة أباحت عرضها وانتهجت سبيل الغواية والفساد.
قلت لك يا سيدي: إن زوجي سافر إلى «نانت» لقضاء مهمة كنت أجهلها؛ فبقيت وحدي مع هذه الخادمة أو الخليلة ...!
وكان في جملة الذين تعودوا زيارتنا وتفقد أحوالنا من أقارب زوجي راعول شاب لين العريكة، حلو المعاشرة، يدعى «إميل» وهو من عائلة عريقة في الحسب والنسب، قد أحرز مالا طائلا وثروة عظيمة، إلا أن ذلك كله لم يكن ليجعل «إميل» سعيدا؛ لأن السعادة الحقيقية ليست في كثرة المال وإحراز الغنى، ورب صعلوك حقير أسعد من غني كبير.
ليس السعيد الذي دنياه تسعده
إن السعيد الذي يخلو من الهم
لقد كان إميل مع ما هو عليه من السعة واليسار لا يميل إلى البطالة والكسل، ولا يحب الراحة والخمول، فتعلم فن التصوير وبرع فيه كثيرا؛ فكان يقضي أغلب أوقاته في مزاولة هذا الفن الجميل، وقليلون هم الذين يحذون هذا الحذو من أبناء الأغنياء وأصحاب الثروة والجاه.
ولكن دوام الحال من المحال، ولا بد لكل امرئ أن يذوق في هذه الحياة الدنيا مرارة العيش ولو مرة واحدة مهما كانت درجته، وكيفما كان حاله، وقد قيل:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
فبينما كان إميل يمرح في بحبوحة العز والرخاء، رزئ فجأة بوفاة والديه، وهو في عنفوان الصبا وريعان الشباب؛ فاحتمل هذا المصاب الأليم بجأش قوي، وجنان ثابت، ولكن الدهر لم يقنع بتجريعه هذه الكأس المرة، بل ابتدره بعد ذلك بفاجعة ثانية كانت على قلبه أعظم وقعا وأشد وطأة من الأولى.
ذلك بأن إميل كان يحب فتاة تبادل وإياها عبارات الإخلاص والولاء؛ فخانت وعده ونكثت عهد محبته، وتزوجت بشاب آخر من أرباب الخلاعة والمجون؛ فشق عليه هذا الأمر، ومن ثم انقطع عن العمل وهجر الشغل؛ لأنه وجد في نفسه انقباضا عظيما واضطرابا زائدا، والرأس - في الغالب - إذا امتلأت بالهموم والأكدار لا تستطيع العمل أو التفكير على الإطلاق.
وعليه أخذ إميل يجول في طول البلاد وعرضها؛ طلبا للنزهة والرياضة حتى يزيل غصته ويفرج كربته، وكان يرى في زيارتنا من وقت إلى آخر بعض التعزية والسلوى.
أما أنا فلم يكن ميلي إلى مجالسته ومحادثته بأقل من ميله إلى زيارتنا؛ لأني كنت أرى في مبادئنا ومشاربنا توافقا تاما وائتلافا عجيبا ولا غرو في ذلك؛ فقد كابد كل منا من مصاعب الحياة ومتاعب العيش ما من شأنه أن يقرب القلوب ويستميل الأفئدة ويجتذب العواطف والأميال، فكنت إذا اختليت بإميل يقص علي تاريخ حياته الماضية وحوادثه السالفة؛ فأجدها كلها مفعمة بالحكم والعبر، وأرى في نفسي عند سماعها راحة عظمى، ولذة لا توصف.
وكلما كثر تردد إميل علينا قويت محبتنا وازدادت ألفتنا، حتى أصبح يشق علي فراقه، وأود لو أن يكون قريبا مني وجالسا بجانبي طول العمر؛ لأن أعظم ما تجده فتاة حزينة مسكينة مثلي من أنواع التعزية والسلوان هو أن ترى بجانبها شابا جميلا لطيف المعاشرة مثل إميل يقاسمها الهموم ويشاطرها في مصائبها وأحزانها.
ولكني لم أكن أعلم ما خبأته لنا يد الأقدار، من النوائب والأكدار، إذ بينما كنت أنا وإميل نذوق لذة العزاء، ونتمتع بهذه المعاشرة الخالية من شوائب الغش والخداع، كانت خادمتي «دانيز» تدبر لنا المكائد والدسائس ونحن لا نشعر ولا ندري؛ لأنها هي أيضا كانت تحب «إميل» وتميل إليه كل الميل، وقد حسدتني على حبه لي وانعطافه إلي، وظنت أن وراء هذا الحب الخالص شيئا من المآرب الدنيئة أو الشهوات البهيمية، وإني أريد مزاحمتها في حب هذا الشاب الجميل فاحتدمت غيظا واستشاطت غضبا، ولا سيما لأنها وجدت من إميل كل النفور والهجر، فأخذت تثير عوامل الغيرة في قلب زوجي وتوغر صدره على إميل، حتى أوقعت في نفسه الشك والارتياب من جهتنا فأصدر أمره حالا بطرد إميل من دارنا وحرمانه من زيارتنا، وقد تم ذلك فعلا بلا معارضة ولا نزاع، وجرت هذه الحوادث كلها على إثر زيارة الموسيو فوستير المعهودة ببضعة أسابيع، وبعد ذلك عزم زوجي على السفر وغادر القرية متوجها إلى مدينة نانت كما مر الكلام.
الفصل العاشر
وبعد مضي يومين على سفر زوجي راعول كنت جالسة في غرفتي نحو الساعة السادسة مساء أمام إحدى النوافذ التي تطل على حديقة بيت يجاور دارنا، وكانت الشمس وقتئذ على وشك الغروب، فتركت آثارها الذهبية على رءوس الزهور والأشجار، وقد هب نسيم المساء العليل يحمل إلى النفوس عوامل الانتعاش والسرور، أما أنا فلم تكن هذه المناظر الجميلة إلا لتزيدني حزنا وانقباضا؛ لأنها كانت تذكرني بأيام الصبا، وأويقات البشر والهناء؛ فوضعت رأسي بين يدي وغرقت في بحار التخيلات والأوهام، وقد أزرفت عيني الدموع رغما عن إرادتي لما تذكرت ما حل بي مع حبيبي موريس وصديقي إميل، وقلت: يا لله، كيف يعيش العاشقون إذا كان هذا حالهم، وكيف ترضى الطبيعة لهم بهذا الذل والشقاء وتجود على غيرهم بالسرور والهناء، وبينما أنا على هذا الحال لم أشعر إلا وقد سمعت وقع أقدام تحت النافذة التي كنت جالسة بجانبها، فانتبهت من أحلامي وانتصبت واقفة على قدمي، وإذا بي أرى أمامي رجلا قد تسلق على جدران الدار وصعد إليها على سلم حتى وصل إلى نافذة غرفتي.
فعند ذلك تقهقرت إلى الوراء وناديته بصوت جهير قائلة: من تكون أنت يا هذا؟
فأجابني صوت مملوء من الحنو واللطف قائلا: لا تخافي يا مادلين فأنا هو «إميل» جئت إليك متنكرا تحت جنح الظلام.
قال ذلك ثم دنا من النافذة؛ فدخل إلى الغرفة وترك وراءه السلم معلقا على شجرة عالية، أما أنا فدهشت من هذه الجسارة الغريبة، ونظرت إلى إميل نظرة الحنق والذهول وقلت له بلهجة شديدة: ما هذا الحال يا إميل، وكيف سولت لك نفسك الإقدام على هذا العمل الفظيع، وقد عهدتك أكثر ذكاء وتبصرا؟ قال: عفوا يا سيدتي، فإنما فعلت ذلك رغما عن إرادتي؛ لأني كنت مدفوعا بعامل لم أستطع مقاومته، والحر يعفو إذا قدر، ثم انطرح على قدمي وطفق يبكي بحرقة شديدة ولهفة زايدة.
فهاجت في قلبي حينذاك بواعث الشفقة والحنان، غير أني تمالكت إحساساتي وتغلبت على عواطفي، وقلت له بهيئة الغضب: ولكن ما معنى هذا التسلق والدخول إلى البيوت من غير أبوابها تحت جنح هذا الظلام؟
قال: آه يا سيدتي لو تعلمين كم أنا تعيس ومسكين، فناشدتك المروءة والحنان أن لا تجعلي جزاء أسير حبك وهواك الطرد والإبعاد، ودعيني أمتع النظر وأشرح الفؤاد برؤية محياك الجميل ولو دقيقة واحدة؛ فإن هذا هو منتهى سعادتي وهنائي.
نظرتك يا سيدتي فأحببتك وحاولت أن أكتم هذا الحب فلم أستطع إلى ذلك سبيلا، واجتهدت أن أنساك وأسلو هواك، ولكن عواطفي أبت إلا مقاومتي، فظلك يتبعني أينما ذهبت وحيثما توجهت، وقد طفت البلاد وجلت في مشارق الأرض ومغاربها أرجو النسيان أو السلوان؛ فذهبت أتعابي كلها أدراج الرياح، إذ كانت صورتك الجميلة تتمثل دائما أمام عيني في أقصى أرجاء المسكونة، ولم تكن هذه السياحة لتحجب شخصك الجميل عن نظري أو تزيل تأثير صوتك الرخيم ورشاقتك العجيبة عن قلبي؛ فأنت معي في كل حين وفي كل مكان، فكيف أسلوك أو أنسى حبك! وكيف تسأليني بعد ذلك: لماذا أتسلق الجدران وأدخل البيوت من غير أبوابها! فرحماك يا مولاتي رحماك؛ فأنا عبدك وأسير هواك؛ فإما أن تجودي علي بنظرة الرضا، أو تدعيني أموت تحت قدميك؛ فلست أول من مات شهيد الحب، وذهب ضحية الإخلاص والوفاء.
قال ذلك، ثم قبض على يدي؛ فأخذ يقبلها بحرقة وحرارة، وقد بللها بدموعه السخينة؛ فزاد انعطافي إليه ولم أستطع أن أملك عواطفي أو أتغلب على إحساسي أكثر من ذلك، فقلت له والدمع ملء جفوني: إني أسامحك يا إميل على ما صدر منك، بشرط أن لا تعود إلي بعد الآن، لئلا توقع علي وعليك الشبهة؛ فحذار من الوقوع في هذا الخطأ مرة أخرى.
قال: إنك يا سيدتي تريدين إذن أن أموت شهيد الحب والوجد؟
قلت: وما عساني أن أفعل يا إميل، وأنا كما تعلم زوجة ذات بعل ولي أولاد صغار، فهل يمكنني أن أسمع غير نداء الواجب والضمير؟!
قال: وأي واجب يقضي عليك يا مادلين أن تعيشي تحت هذا النير الثقيل، وتخضعي لهذا الزوج القاسي الذي نغص عيشك وقصر أيام صباك، وأنهك قواك، فهل لا يوجد في العالم من يرثي لحالك، ويدافع عنك وينتقم لك من ذلك الوحش الضاري.
أليس لك أقارب أو أصدقاء يشفقون عليك ويطلبون لك الراحة والسعادة؟ فلماذا إذن ترضين بهذا الذل والشقاء؟ أجل؛ فأنا أفديك يا مادلين بالنفس والنفيس وأدافع عنك وآخذ بثأرك، فهيا اتركي هذه الدار التي استحكمت فيها حلقات الشر والعذاب، وتعالي نرحل من تلك البلاد ونعيش حيث لا يرانا أحد ولا تصل إلينا يد إنسان.
قلت: قد مضى هذا الوقت يا إميل، وليس هذا زمان الصبا حتى يسوغ لي أن أفعل ما أريد وأقدم على الهرب والفرار، فأنا قد ارتبطت برباط لا يمكنني حله الآن، فدعني أتجرع كأس الذل والعذاب إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
فلما سمع إميل هذا الكلام نهض على قدميه وكفكف الدمع، ثم ناجى نفسه بصوت منخفض فقال: يا لله، ما هذا الجنون! كيف ألقي بنفسي بين يدي امرأة لا تميل إلي ولا تحبني.
ثم تقدم إلى النافذة، فأراد أن ينزل منها إلى الحديقة كما دخل الغرفة وهو يدمدم قائلا: الوداع يا مادلين الوداع.
أما أنا فانزعجت من حالة هذا الشاب المسكين ودنوت منه فقبضت على ذراعه بلطف وناديته قائلة: إلى أين تريد الذهاب يا إميل؟
قال: سأذهب إلى حيث لا ترينني بعد ذلك يا مادلين، سأذهب من حيث أتيت؛ فلا عدت ترين وجهي بعد الآن.
قلت: ولكن هذه النافذة تعلو عشرة أقدام عن الأرض، فكيف تستطيع النزول منها إلى الحديقة؟
قال: لا تخافي يا مادلين؛ فأنا لا أموت تحت نوافذ غرفتك، بل سأخرج من دارك حيا كما دخلت إليها، ولكن بعد ذلك سألاقي الموت الأحمر بعيدا عن تلك الديار؛ فالوداع يا مادلين الوداع.
قلت: ما هذا الكلام يا إميل؛ فقد جرحت فؤادي وهيجت عواطفي، ولماذا تريد أن تتعمد لنفسك الأذى؟
قال: لا بد لي يا سيدتي من الخروج بواسطة هذه النافذة لئلا تراني خادمتك «دانيز» التي جعلها زوجك راعول رقيبة علينا.
قلت: ولكن هل لا تظن أن السكان الذين أمامنا لا يرونك وأنت تتسلق الجدران فيظنونك لصا أو يوقعون علي الشبهة؟
قال: لا تخشي يا سيدتي من هذه الجهة؛ فقد دبرت كل شيء قبل أن آتي إليك متنكرا؛ لأن الدار التي تجاوركم ليس بها أحد من السكان، وهي مهجورة منذ زمن طويل، وصاحبها من أصدقائي المخلصين، وقد أخذت منه مفتاحها، بدعوى أني أريد التفرج عليها ونزلت منها إلى الحديقة، حيث صعدت بعد ذلك إلى غرفتك فلم يشعر بي أحد على الإطلاق.
قلت: حسنا فعلت يا إميل، وأنا أشكرك على هذه العواطف الأبية والإحساسات الشريفة، وأرجو أن لا يبرح ذكري من بالك؛ لأني أسر إذا علمت أن لي في العالم صديقا يحبني ويغار على مصلحتي وقد عهدتك يا إميل هو ذلك الصديق المخلص.
وفي خلال هذا الحديث طرقت خادمتي دانيز الباب فانتبهنا من حلمنا، وسألت: من الطارق؟ فأجابت «دانيز»، هل تحتاج مولاتي إلى شيء من الخدمة؟ قلت: لا يا دانيز؛ فأنا قد دخلت إلى سريري، وحينذاك عادت الخادمة إلى غرفتها وبقيت أنا وإميل وحدنا كما كنا.
ومن ثم أراد إميل الخروج فمنعته؛ لأن دانيز كانت لم تزل مستيقظة، وربما نظرته عند خروجه، وهناك يكون البلاء الأكبر، فانتظر إميل حتى تنام الخادمة، ولما حانت الساعة الثانية بعد نصف الليل ساد السكون وهدأت الطبيعة، فهم إميل بالخروج وحينذاك نظر إلي نظرة العاشق الولهان، وقال: هل لا تسمح سيدتي بالرجوع إليها مرة أخرى؟
فعندئذ تفرست في وجهه؛ فإذا به قد علاه الاصفرار، ولاحت عليه سمات الكآبة والانقباض، ولكن ملامح الجمال والرقة كانت لم تزل ظاهرة بين عينيه البراقتين وجبينه الوضاح، وقد ألقى القمر أشعته الجميلة على محياه اللطيف فتمثل أمام عيني أجمل مما كنت أظن، فلم أستطع أن أتغلب على عواطفي وأجبت إميل قائلة: نعم، يمكنك أن تراني مرة أخرى يا حبيبي إميل، وعلى إثر ذلك صعد إلى النافذة وانحدر منها إلى الحديقة، ثم توارى عن الأبصار، فاضطجعت على الكرسي الذي كنت جالسة عليه، ولم أذق في تلك الليلة لذة الكرى إلى أن أشرق صباح اليوم الثاني.
الفصل الحادي عشر
ومن ثم أخذ إميل يأتي في مثل هذا الوقت من كل يوم فنقضي بضع ساعات على هذه الحال بين مداعبة ومحادثة وبث لواعج، إلى أن مضى على ذلك نحو تسعة أيام ولم يقف لنا أحد على أثر، ولم يعلم عنا خبر.
وفي اليوم العاشر خرجت للنزهة وترويح النفس في الصباح، ولما عدت إلى الدار استلمت من زوجي راعول خطابا ينبئني فيه بأن أشغالا مهمة تضطره إلى التأخير عن الحضور بضعة أسابيع فيجب أن أكون مطمئنة من جهته ولا أضجر من تأخيره.
وبعد أن تناولت الغداء دخلت إلى غرفتي وجلست أطالع كعادتي كتابا مفيدا، وكنت أشعر في ذلك اليوم بانقباض وانزعاج في نفسي لا أعلم له سببا، وكلما حاولت إزالته زاد تمكنا ورسوخا، وكان ذلك الوقت هو ميعاد حضور إميل، فكنت أتمنى أن لا يأتي في هذه الساعة؛ لأن قلبي يحدثني بوقوع مصيبة عظيمة تلك الليلة.
وكان الليل وقتئذ مظلما والغيوم كثيفة وأصوات الرعود تملأ الفضاء، فيسمع لها مع هدوء الليل صوت هائل يزيدني حزنا وانقباضا ويملأ قلبي خوفا وانزعاجا، وبينما أنا أتقلب على جمر الغضا ومضض الانقباض سمعت صوتا يدنو من نافذة غرفتي، وإذا به إميل وضع السلم وتسلق على جدران الحديقة كما هي عادته في كل مساء.
فلما نظرته هاجت في نفسي عوامل الخوف والاضطراب فدنوت منه وقلت له: بالله عليك يا إميل لا تدنو مني الآن وارجع من حيث أتيت، فإني أشعر الليلة بانزعاج شديد وأخشى أن يداهمنا خطب عظيم، أجل؛ لا تبق معي في هذا المساء؛ فإن الخوف يكاد يقتلني، وإن شئت فأت غدا أو في وقت آخر، وأما في هذا المساء فإياك والدخول إلى غرفتي.
قال: وما سبب هذا الخوف والانزعاج، ومن ذا الذي يهددك يا مادلين؟
قلت: ليس يوجد من يهددني، ولكني أرى الخوف مستوليا علي ولا أعلم لذلك سببا.
قال: دعي عنك يا حبيبتي هذا الوهم الفاسد وتعالي نذق لذة الحب ونتمتع بأحسن ساعات العمر، ثم أمسك بيدي وأجلسني بجانبه وطفق يرمقني بعين ملئيها الحب والحنان، وأنا غارقة في بحار المخاوف والأوهام.
قلت: وماذا تريد الآن يا إميل؟
قال: لماذا هذا الإلحاح والخوف، وقد مضى علي أكثر من أسبوع من الزمان وأنا أحظى برؤيتك وأقضي الساعات الطويلة في اجتلاء أنوار محياك، فلا أرى منك إلا الرضا والانعطاف؛ فهل أنبأك راعول اليوم أنه قادم من سفره.
قلت: كلا، وإنما قال لي: إنه سيتأخر عن الحضور بضعة أيام أيضا. - ولكنه سيحضر على كل حال؛ فأواه لماذا لا يرضى الله لي بالسعادة والهناء، ولماذا تأبين يا مادلين مطاوعتي على الخلاص من هذه الورطة واغتنام أويقات الهناء والسرور، فتعالي يا حبيبتي نهجر هذه البلاد ونعيش حيث لا يرانا أحد ولا يعرف مقرنا إنسان، وهناك نكون أحرارا نفعل ما نشاء، وعين الله ترعانا أينما حللنا وحيثما توجهنا.
هناك يخلو لنا الجو وننسى متاعب الحياة ونذوق طعم السعادة الحقيقية، حيث أجلس بجانبك كل مساء في واسع الفضاء بعد عناء الأشغال ولا أخشى عذولا أو رقيبا وحينذاك أتمتع برؤيتك وأحظى بقربك وأناديك بأعلى صوتي أني أحبك يا مادلين وأجاهر بحبك على رءوس الأشهاد، وأنت حينئذ بماذا تجيبينني يا مادلين؟ - إني أسمع كل ما تقول فابتسم بكل فرح وسرور. - ولكن، هل لا تجيبينني بكلمة واحدة يا حبيبة الفؤاد. - وما عساني أقول لك يا إميل؟ - آه يا قاسية القلب، تقولين: إنك تحبينني أيضا؛ لأني أحب أن أسمع منك هذه الكلمة الرقيقة. - وهل تجهل حقيقة حبي حتى تطلب إلي أن أجاهر لك به؟ - إني لا أجهل ذلك يا مادلين، ولكني أريد أن أسمع هذه الكلمة من فمك فيمتلئ قلبي فرحا وانتعاشا. - حسنا تقول؛ فأنا أحبك يا إميل، وهذه أول مرة جاهرت فيها بحبك، أحبك أكثر مما تفتكر، أحبك حبا خالصا؛ لأنك جمعت بين جمال الخلق والخلق، ولأنك تتألم وتتعذب مثلي، قلت لك إني أحبك وها إني أكرر عليك هذا القول؛ فأنا أحبك حبا مبرحا، فافعل بي ما تشاء؛ فإن أردت الهرب فأنا طوع أمرك، ورهينة إشارتك، فهيا بنا نرحل من هذه الدار إذا شئت ونسكن الخلا ونعيش بمعزل عن جميع الناس. - كفى كفى يا حبيبتي؛ فقد كدت أموت من شدة الفرح. قال إميل ذلك ثم دنا مني وكدنا نغيب عن الصواب.
الفصل الثاني عشر
وبينما نحن في هذا الموقف الرهيب ما أشعر إلا وقد فتح باب غرفتي فجأة، وسمعت صوت عيار ناري أطلق في وجه حبيبي إميل فخر على الأرض صريعا لا يبدي حراكا.
وعند ذلك نظرت؛ فإذا زوجي راعول واقف أمامي، وقد كاد الشرر يتطاير من عينيه وهو قابض بيده على مسدسه، فنظر إلي نظرة الغضب والازدراء، وقال لي بصوت جهير: حسنا تفعلين يا مادلين؛ فيظهر أن هذا الفتى يروق في عينيك أكثر من صديقي فوستير.
ولكني لم أفقه معنى كلامه، ولم أع على شيء مما حولي ، بل سقطت على الأرض مغشيا علي.
وعلى إثر وقوع هذه الحادثة الفظيعة اعتراني مرض عضال وأخذتني نوبة من الحمى فلازمت الفراش، وكنت في ذلك الوقت لا أعي شيئا ولا أعرف من حولي حتى أولادي أنفسهم، وبقيت على هذه الحالة نحو شهر كامل، وبعد ذلك تنبهت حواسي وعاد إلي رشدي، فتذكرت ما حل بحبيبي موريس، وكيف أنه ذهب شهيد الحب؛ فأذرفت الدموع، وبكيت بحرقة على فقد هذا الحبيب المخلص الذي كان خير صديق يواسيني ويشاطرني هموم الحياة.
وكنت أتعجب: كيف أن زوجي علم بكل ما جرى بيني وبين إميل حتى داهمنا في تلك الليلة الدهماء وفتك بهذا الشاب البريء ظلما وعدوانا.
ولكني أخيرا أدركت الحقيقة، وعلمت ما وراء السويداه، فلم أوقع الشبهة إلا على خادمتي دانيز، وقد أقرت هي بفعلها واعترفت به أمامي جهرا، فأمرتها بأن تنفصل من خدمتي ولا تريني وجهها بعد ذلك؛ فلم يكن منها إلا أنها أجابت طلبي، ونفذت إرادتي حالا، وذلك بخلاف عادتها معي؛ ولذا تعجبت من هذا الانقلاب العظيم والتغيير السريع، وقلت: إنه لا بد وأن يكون وراء ذلك سر خفي لم أقف عليه بعد.
وبعد شفائي من هذا المرض ببضعة أيام دخل إلي زوجي راعول وسألني بلطف عن صحتي، فأجبته بغضب: إني سعيدة ما دمت بعيدة عن رؤيتك.
قال: ولكني أريد أن أنبئك بخبر خطير؛ فاسمعي ما أقول؛ لأننا أصبحنا الآن في حالة تستوجب الحزم والتروي، فاعلمي يا مادلين أن ثروتنا كلها نفدت، وهذا البيت الذي نسكنه ليس هو ملكنا اليوم، بل إنه من حقوق المداينين، وسيباع غدا لإيفاء ما علينا من المال، ولكن الله كريم رحيم، فهو لم يرض بوقوعنا تحت طائلة العقاب مرة واحدة، بل قد نظر إلينا بعين لطفه وحلمه؛ فأوجد لنا بيتا آخر نأوي إليه وهو في قرية «سان كولومب» وقد ورثته عن شقيقتي التي انتقلت إلى رحمة الله تعالى منذ بضعة أيام.
وذلك البيت، وإن كان أقل رونقا وبهاء، وأصغر اتساعا من هذا، إلا أنه يكفي على حال لأن يلم شعثنا ويأوينا تحت سقفه، فعليك الآن أن تستعدي للسفر إلى قرية سان كولومب، أما أنا فاندهشت من هذا الكلام وقلت لراعول بلهجة الغضب والاشمئزاز: إني لا أتبعك ولا أقتفي أثرك منذ اليوم؛ فاذهب أنت وحدك إذا شئت.
قال: وإلى أين تذهبين إذن يا مادلين؟
قلت: أنا حرة في ما أفعل فليس علي حرج ولا جناح. - ولكن، ألا تعلمين يا سيدتي أن الشريعة تلزمك بالخضوع لإرادة زوجك رغم أنفك. - إن الشريعة لا تأمرني بالإذعان لإرادة وحش ضار وسفاك للدماء مثلك. - كفى يا مادلين؛ فأنت لا بد لك من الرضوخ لأمري على كل حال. - ومن ذا الذي يجبرني على ذلك؟ - إذن فاذهبي حيثما شئت فأنا آخذ أولادي وأرحل وحدي من هذه المدينة.
قال ذلك ثم خرج من الغرفة يهز أكتافه علامة التهكم والازدراء؛ فهالني هذا الأمر، وعلمت أنه لا مناص لي من اتباع مشورة زوجي راعول؛ لأن السلاح الذي اتخذه لمحاربتي لا يمكنني الوقوف أمامه، وما على العاجز الضعيف إلا التسليم والخضوع، وعلى ذلك جهزنا كل ما يلزم لهذا السفر، وفي صباح اليوم الثاني ابتدأنا في المسير، ولم يأت المساء إلا وقد وصلنا إلى سان كولومب، فدخلت إلى دارنا الجديدة، وإذا بها بيت حقير البناء ضيق النطاق، وقد خيمت عليه عناكب الكآبة وأرخى فيه الظلام سدوله، وحينذاك تذكرت أيام النعيم والهناء التي مرت أمام عيني كمر السحاب، وقلت في نفسي: يا لله، هل لم يكفني ما حل بي من البلايا والرزايا بفقد والدي وفراق حبيبي موريس وقتل صديقي إميل على مرأى ومسمع مني حتى يحكم علي بعد ذلك بالنزول من قصور العز والدلال إلى أكواخ المذلة والفقر؟
ولكن ماذا ينفع هذا التأوه والتنهيد، وقد نزل الخطب وحل البلاء؟
إن هذا البيت الجديد الذي قضى علينا سوء الطالع بأن نسكنه كان ملك أخت زوجي راعول، وهي آنسة تناهز الخامسة والثلاثين من عمرها.
وقد كانت تهوى شابا أوقف قلبه لحبها، ومالت إليها كل جوارحه، ولكن أبت المنون إلا أن تفجعها بموته قبل إتمام زفافهما ببضعة أيام فشق عليها هذا المصاب، وأقسمت بأن لا تعطي يدها ولا تسلم قلبها إلى شخص آخر، وكانت تملك من حطام الدنيا كلها هذه الدار الحقيرة؛ لأن أخاها راعول هضم كل حقوقها في ميراث أبيها، واستحل اغتصابها لنفسه، أما هي فسامحته على كل ذلك ولم تسخط عليه؛ لأنها كانت على جانب عظيم من التقوى ومكارم الأخلاق وطيب العنصر، ولطالما وبخت زوجي على هذا الغدر وسوء التصرف؛ فلم يكن يعيرني إلا أذنا صماء؛ حتى إذا دنا أجل شقيقته كان هو وقتئذ وريثها الوحيد في هذه الدار.
ومن ثم لبثنا في هذه الدار التي أبى الدهر إلا أن تكون مأوى الحزانى وأهل المصائب والكروب، وقلت في نفسي: إن الواجب أن أرضى الآن بما قدر به علي وأقضي باقي أيام حياتي الحزينة في هذا السجن الجديد كما فعلت أخت زوجي راعول من قبلي.
ولكن بعد مضي أسبوعين من الزمان سئمت نفسي من الحياة وضقت ذرعا، فعزمت على الخلاص من هذه الورطة؛ إما بالفرار أو الانتحار.
وفي صباح أحد الأيام انتهزت فرصة تغيب زوجي عن الدار؛ فجمعت ما يتيسر من اللوازم الضرورية، وأخذت ما كنت قد ادخرته من فضلات المال في أيام العز والنعيم، ثم حملت ولدي الصغيرين على ذراعي وبارحت قرية «سان كولومب» هاربة من وجه هذا الوحش الضاري والزوج القاسي، ولكن النحس لسوء الطالع كان يلازمني ولا ينفك عني طرفة عين؛ فإني لم أدر من الذي أخبر زوجي بحقيقة الأمر، ففاجأني في الطريق وقبض علي ثم أتى بي إلى الدار ثانيا، وطفق يوسعني شتما وإهانة على ما صدر مني، وأخيرا أدخلني إلى غرفة مظلمة في الدار تكاد تصلح لأن تكون سجنا للمجرمين والأشقياء فزجني فيها، وأمر بأن لا يدنو أحد مني إلا مرة واحدة في كل مساء لإحضار الطعام، وهنا لا تسألني يا سيدي عما كنت أذوقه من صنوف الذل والعذاب، وأي ذل وعذاب أعظم من أن أرى نفسي - أنا التي تربيت في بحبوحة العز والرخاء ولم أتعود إلا على معيشة الرفاه والدلال، ولم أسكن إلا القصور الشائقة التي تكتنفها الغياض الغناء والحدائق الأنيقة - لم ألبث أن أصبحت مطروحة في سجن مظلم، وقد حرمت من رؤية الشمس والتمتع بجمال الطبيعة مثل غيري من البشر.
الفصل الثالث عشر
ولما وصلت حالتي إلى هذه الدرجة من التعاسة والذل لم يمكني أن أحتمل الضيم أكثر من ذلك، وعزمت أخيرا على الانتحار والتخلص من هذا الشقاء، ولكن من أين لي الوصول إلى تنفيذ غرضي، وأنا مطروحة في ذلك السجن المظلم، وليس عندي شيء يسهل على إتمام هذا العزم.
وبينما أنا أفكر في هذا الأمر لم أشعر إلا وقد فتح باب تلك الغرفة الجهنمية، ولاحت مني التفاتة فرأيت ولدي جيلبير مقبلا يحمل إلي الطعام كعادته، ولما وقع نظره علي تهلل وجهه فرحا وناداني بلطف: اسمعي يا أماه؛ فقد جئت أبشرك اليوم بخبر سار.
قلت: وما هو؟
قال: إن والدي عفا عنك وأصدر أمره بإخراجك من هذه الحجرة المظلمة.
فتحركت عندئذ في قلبي عوامل الشفقة والمحبة وانطرحت على جيلبير فعانقته وطفقت أقبله بلهفة، وقد خنقتني العبرات وسالت من عيني الدموع، أما هو فاستطرد الكلام قائلا: أليس هذا الخبر مما يسرك ويفرحك يا أماه؟ وهل لا ترين في رجوعك إلينا وبقائك معنا كل اللذة والانشراح، كما أرى أنا وأخي روبير؟ فكفكفي إذن الدمع ولا تعودي إلى البكاء والنحيب؛ فلسوف نكون دائما بقربك ونسر برؤيتك ونفرح بوجودك ونخرج وإياك كل يوم للنزهة في واسع الخلاء فأية سعادة أعظم من هذه يا أماه.
قلت - وقد حاولت كتمان ما في قلبي: حسنا تقول يا جيلبير؛ فأنا أرى في وجودكما معي كل السعادة والسلوى، ولكن أين أخوك روبير؟ - قد توجه مع والدي إلى «سان مالو» وسيرجعان بعد ظهر اليوم.
إذن أطلب إليك أن تأتيني بقلم وقرطاس؛ لأني أريد أن أكتب كتابا، وأحضر لي أيضا السكين؛ لأنك لم تحضرها مع مائدة الطعام، وعندما يعود أخوك ائت به إلي حالا.
ولكن ألا تريدين أن تغادري هذا السجن وتنزلي معي إلى حيث ترين شمس الضحى وجمال الطبيعة بعد هذا الحبس الطويل.
سوف أفعل ذلك بعد كتابة هذه الرسالة.
وعلى ذلك بادر جيلبير فأحضر كل ما طلبته، ثم عاد إلي مسرعا فتناولت القلم والقرطاس، وكتبت إلى زوجي راعول كتابا ضافيا أظهرت له فيه كل ما أوقعه علي من الإساءة والأذى، وأخبرته بأني مع كل ذلك أسامحه بذنوبه وآثامه إذا أحسن التصرف من الآن فصاعدا واعتنى بتربية ولدي الصغيرين وبذل جهده في كل ما يعود عليهما بالخير والسعادة في المستقبل، وأما أنا فقد كفاني ما ذقته من مرارة الذل والتعذيب؛ ولذا عزمت على ترك هذه الحياة غير آسفة عليها، وإني أوصيه بأن ينهج سبيل الرشد والهدى ولا يلقي بنفسه بعد الآن في مهاوي الردى، ثم أمضيت الرسالة وطويتها وانتظرت رجوع راعول حتى أسلمها له.
الفصل الرابع عشر
وفي الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم فتح الباب ودخل جيلبير ومعه أخوه روبير فهرعت إليهما وطفقت أقبلهما بحنو والدي وشفقة فائقة؛ لأني كنت أريد أن أودعهما وأزودهما النظرة الأخيرة، قبل أن أنتحر وأغادر هذه الحياة المرة.
أما جيلبير؛ فإنه لما شاهد مني هذا الانقباض العظيم والارتباك الشديد تعجب غاية العجب، ودنا إلي فانطرح بين ذراعي وسألني بلهفة: ما لك تبكين يا أماه؟ وما لي أرى الحزن متسلطا عليك أكثر من العادة؟ فأجبته: ليس بي حزن يا ولدي، ولكني أشعر بتوعك لا أعلم له سببا.
قال: لقد صدقت يا أماه؛ فإن اصفرار وجهك وارتجاف صوتك يدلان على ذلك، وقد تكدرت كثيرا لأنك لم تذوقي الطعام الذي أحضرته لك، فأواه كيف تكون حالتنا إذا قدر علينا أن تموتي وتتركينا وحدنا، حقا إني لا أستطيع البقاء بعدك، وقد فكرت في هذا الأمر قبل الآن وعزمت على أن ألحقك إلى عالم الأموات إذا اختطفتك يد المنون وأقتل نفسي بيدي إذا لزم الحال؛ لأني لا أحب شخصا في الدنيا أكثر منك يا أماه. قال روبير: وأنا أفعل مثل أخي أيضا إذا حرمت رؤيتك يا أماه. قلت: دعا عنكما هذه الأوهام يا ولدي؛ فإنكما الآن في مقتبل العمر، ولا بد لكما أن تعيشا كثيرا وتعمرا طويلا، ومن كان مثلكما يجب أن ينسى كل تلك المصاعب والأتعاب الآن.
أجاب جيلبير: حقا، إن من كان مثلنا يا أماه يحتاج إلى والدة شفوقة مثلك تعتني بأمرنا وتغمرنا بحنانها ومحبتها.
فلما سمعت هذا الكلام خارت عزائمي ووهنت قواي، ولم أتمالك عن البكاء، ورأيت أني لا أعيش لنفسي حتى أفعل ما أشاء، وأن العدل الإلهي ينتقم مني إذا تسببت في قتل نفس، بل نفوس حية حرم الله قتلها، وعندئذ تناولت الكتاب الذي كتبته لزوجي فمزقته، ثم قبضت بيدي على ولدي الصغيرين، ونزلت إلى الحجرة التي كان جالسا بها ذلك الوحش الضاري؛ فإذا به قد اتكأ مائدة بجانبه وهو يدخن بغليونه وأمامه زجاجة خمر كبيرة، فلما رآني مقبلة عليه أجر مطارف الذل والخضوع تبسم تبسم الدهاء والمكر، حتى إذا صرت على مقربة منه نظر إلي محملقا وقال متهكما: يظهر يا سيدتي أن بقاءك داخل الغرف وتحت سقوف البيوت يضر بصحتك كثيرا؛ لأنك تعودت المعيشة في الخلاء واستنشاق هواء الصحراء حتى أني أرى وجهك قد أكمد وعلاه الاصفرار، ولكن لا تلومي إلا نفسك؛ لأنك أنت التي جلبت عليها كل هذا الشقاء بسبب عنادك وسوء تصرفك.
وهو جالس يدخن بغليونه وأمامه زجاجة خمر.
قلت: ليس يا مولاي هذا وقت التوبيخ أو العتاب؛ فالذي مضى قد مضى وانقضى، ونحن نريد أن تنظر الآن إلى ما هو آت.
قال: وماذا تبتغين مني الآن؟
قلت: أريد أن أعيش معيشة منفردة مع ولدي الصغيرين بهدوء وسكينة، حتى أقضي ما بقي من أيام حياتي، قال: اسمعي يا مادلين ما أقوله لك، واتركي هذا العناد والجهل؛ فأنا لا أملك الآن غير 60 فرنكا، فأين لنا المال الذي يكفينا حتى تطلبين الانفراد أو العزلة مع ولديك، ويجب أن تعلمي يا مادلين أن نصف ما أصابني من البلايا والرزايا كان بسبب عنادك؛ لأن الحكماء يقولون: إن المرأة العنيدة تعجل في خراب بيتها وشقاء عائلتها، فلا يمكنني بعد العناء الذي تحملته منك أن أوافقك في شيء أو أجيب لك سؤالا.
قلت: أنت إذن وحش مفترس تروم تعذيبي وإهلاكي.
هو ما تقولين يا سيدتي؛ لأنه ليس جزاء مثلك إلا الإذلال والانتقام.
قال ذلك ثم هدأ روعه وسكن غضبه قليلا واستأنف الكلام فقال: ومع ذلك؛ فأنا الآن أريد أن أتوجه إلى مدينة سان مالو وأطلب قرضا؛ فإن توفقت إلى الحصول على بغيتي نظرت في ما تقوم به راحتنا، وإلا فليس باليد حيلة.
قال ذلك ثم خرج مهرولا وأغلق وراءه الباب.
الفصل الخامس عشر
فلما خلا لي الجو نظرت يمنة ويسرة فلم أر إلا ظلاما وكآبة فقلت في نفسي: بالله كيف تستطيع امرأة مثلي أن تتحمل كل هذه الهموم والمصائب التي تدك الجبال وتفتت الصخور، فلا بد لي من أن أبادر إلى الهرب مرة ثانية وأقصد مدينة «سان سرفان»؛ لأن لي هناك قريبة محبة وصديقة حميمة لا أخالها تضن علي بالمساعدة والإسعاف، وفي الحال أخبرت ولدي بما عزمت عليه فقبلا ذلك بغاية الفرح والسرور، ومن ثم جمعنا ما نحتاج إليه من الملابس واللوازم الضرورية وخرجنا نقصد السفر، فأخذنا نجد في السير حتى وصلنا إلى جهة سان مالو بسلام، وقد أعيانا التعب وأنهكنا المسير، وبعد أن استرحنا قليلا تحت ظل شجرة في الخلا نهضنا قاصدين جهة «سان سرفان» التي كان الماء يغمرها منذ بضع ساعات واضطر أهاليها إلى تسيير الزوارق في طرقها وأزقتها العمومية، حتى إذا وصلنا إليها بادرت مسرعة إلى دار صديقتي المعهودة، ولما طرقت الباب لم يجيبني أحد، فسألت عنها المجاورين لهذه الدار فأنبأوني أنها غادرت تلك المدينة، وهي ساكنة الآن بجهة «مونتفور» التي تبعد عن هذا المكان كثيرا.
فتأسفت على ضياع هذا التعب كله سدى، ولكني تجلدت وصبرت على بلواي، ورأيت من الصواب أن نبيع كل ما كان معنا من الملابس والحلي حتى نجد المال اللازم للسفر إلى تلك البلدة وقد أتممت ذلك فعلا، وفي صباح اليوم التالي نهضت باكرا فتوجهت إلى المعبد وتضرعت إلى الله بحرارة أن يرعانا بعين عنايته ويمهد لنا السبيل في هذا الوقت الحرج، ثم أخذت ولدي تحت ذراعي وسرت متكلة على الله سبحانه وتعالى الذي هو وحده أبو الضعفاء ونصير العاجزين.
وبينما نحن نسير سيرا حثيثا ما أشعر إلا وقد نظر إلي جيلبير فجأة نظرة الذهول والاندهاش وقد اصفر لونه وارتجفت أعضاؤه ثم صرخ بصوت مخيف.
رويدك يا أماه فقد أصبحنا على وشك الهلاك؛ لأني أرى أبي مقبلا إلينا، والظاهر أنه يجد في طلبنا ويقتفي أثرنا.
فرفعت نظري إلى الجهة التي أشار إليها جيلبير فتأكدت أن كلامه صحيحا، لكني حمدت الله؛ لأن راعول كان لم يزل بعيدا عنا كثيرا وقد تأكد عندي أنه لم يرنا بعد، فحملت ولدي على ذراعي وبادرت مسرعة أطلب الفرار من وجه هذا الوحش المفترس؛ لأني كنت واثقة بأنه إذا قبض علينا هذه المرة فلا نعود نستطيع الخلاص من تلك الورطة الوبيلة، ثم عرجت من طريق آخر متجهة نحو قرية «سان سرفان» في بقعة جبلية مهجورة تعلوها الرمال والصخور، ولا يسكن فيها أحد من بني الإنسان، ولجأت إلى صخرة عالية فجلسنا تحتها، وقد أنهكنا التعب وعزمنا على أن نقضي يومنا كله في هذا الملجأ الحصين، حتى إذا أقبل الليل خرجنا نفتش على مأوى آخر في قرية «سان سرفان».
أما روبير وجيلبير؛ فقد كانا في ذلك الوقت في حالة يلين لها الجماد وتتفتت منها الأكباد من شدة ما قاسياه في هذه السياحة المشئومة من المشقة والعناء، فأدخلتهما إلى فوهة تلك الصخرة العالية، وفرشت لهما شيئا من الملابس فاضطجعا عليها وأخذتهما سنة النوم؛ فغرقا في بحر الكرى، وبقيت أنا أحرسهما حتى المساء، ثم تركتهما وخرجت إلى الخلا أريد استنشاق الهواء النقي وأتدبر في كيفية الوصول إلى القرية التي نقصدها في هذه الليلة قبل أن يداهمنا مصاب آخر لم يكن في الحسبان، ولكني ما كدت أصل إلى الخارج حتى دهشت اندهاشا عظيما، ولم أتمالك أن صرخت بأعلى صوتي يا للمصيبة العظمى، ويا للداهية الدهماء، لقد هلكنا لا محالة، فارحمنا يا الله ولا تتخل عنا.
وعند ذلك نهض ولداي من نومهما على إثر هذا الصراخ وبادرا إلي مسرعين وهما يناديان: ماذا جرى يا أماه، هل وصل والدنا إلى هنا يريد القبض علينا؟
قلت: حبذا لو صح ذلك؛ فإن هذه مصيبة أعظم وأدهى مما تظنان. قالا: وكيف ذلك؟
قلت: إن عدوا آخر أكثر بطشا وأصعب مراسا من والدكما يتهددنا الآن؛ فانظرا أمامكما وأنتما تعلمان حقيقة الخبر.
ذلك أن البحيرة التي كانت على مقربة منا حدث بها فيضان عظيم فجأة وانهالت على ما يجاورها من الآكام والصخور فغطت أغلبها، وأصبح الماء محاصرا لنا من كل الجهات، وقد كاد يغطي الصخرة التي كنا نأوي إليها أيضا.
وهنا لا حاجة لي يا سيدي أن أخبرك كيف كان حالنا وقد أحدق بنا الخطر من كل جانب، وصرنا ننتظر الهلاك بفروغ الصبر؛ فكيف ننجو وإلى أين نهرب وقد سدت في وجهنا كل المسالك، ولسنا نرى أمامنا سفينة أو قاربا حتى ننادي أصحابه فيأتون إلى إنقاذنا والأخذ بناصرنا، وساعة الموت تدنو إلينا بسرعة غريبة وقد عدمنا النصير وانقطع عنا كل رجاء، أما أنا فكاد عقلي يطير من شدة الهلع والجزع، ولم أكن أخشى الموت حبا في الحياة؛ لأنها أصبحت لدي بلا قيمة ولا اعتبار، ولكني أم ترى بعينها ما سيحل بولديها أمام عينها من الهلاك، وتعلم أنها هي التي جنت على نفسها وعليهما ولا تضيق في وجهها سعة الفضاء، فكنا نصرخ بأعلى أصواتنا طالبين النجاة والخلاص، ولكن صدى صوتنا كان يرجع إلينا فارغا والمياه تزداد انهيالا علينا، فاستفزتني عندئذ عوامل الحنان والمحبة الوالدية، فحملت ولدي على ذراعي وطفقت أتسلق على هذه الصخرة العالية لأحميهما من شر هذا الفيضان العظيم، ولكني كلما حاولت الصعود زاد الماء ارتفاعا حتى وصل إلى قمة الصخرة وغمر نصف قامتي وكاد يبتلعنا كلنا مرة واحدة.
فحملت ولدي على ذراعي.
وكنت أجول بنظري في ذلك الوقت يمنة ويسرة فلا أرى إنسانا ولا أنظر شبحا، ولا تقع عيني إلا على الجبال المقفرة والآكام العالية تحيط بها القبة الزرقاء التي كانت في ذلك الوقت متلبدة بالغيوم الكثيفة والسحب المظلمة، فطفقت أصرخ وأستغيث من فؤاد مجروح وقلب مكلوم، ولكن صراخي كان ينتشر في الفضاء ويذهب أدراج الرياح، وبينما أنا في هذا الموقف الحرج والحالة الفظيعة التي لا يستطيع أبلغ كاتب وأفصح خطيب أن يقوم بإيفاء وصفها لاحت مني التفاتة؛ فرأيت على بعد أشباحا هائلة تدنو إلينا، ولما اقتربت منا علمت أنها سفن تجارية، فرفعت ذراعي إلى السماء وأخذت أصرخ وأستغيث بصوت عال، ولكن من يقدر أن يوصل هذا الأنين الضعيف إلى آذان الذين نريد أن تصل إليهم أصواتنا وهم بعيدون عنا كل ذلك والماء يزداد فيضانا وارتفاعا حتى وصل إلى رءوسنا بعد أن غطى كل أجسامنا، أما أنا فأردت أن أحمل ولدي وأنهض بهما إلى صخرة أعلى من هذه يكون الماء بعيدا عنها، ولكن حينما حاولت القيام رأيت نفسي عاجزة عنه، إذ تشنجت أعصابي وخارت قواي ولم تقر أقدامي على النهوض، وبعد بضع ثوان غمرنا الماء ودفعنا تياره إلى قاع البحر، وهناك لم أر لولدي أثرا ولم أقف لهما على خبر، فغشي علي من شدة اليأس والذهول، واستسلمت لعوامل القنوط، وسلمت نفسي ليد المنون عن طيب خاطر؛ لأنه لم يبق لي مطمع في الحياة بعد هذا المصاب العظيم.
عند ذلك دنت تلك السفن، وقد شاهدتنا على بعد؛ فأتت تريد إنقاذنا، ولكن بعد أن نزل القضاء وحل البلاء؛ فأنزل بعض الملاحين قوارب صغيرة إلى الجهة التي غرقنا فيها، ونقلوا منها ثلاث جثث لا حراك بها.
أقول يا سيدي ثلاث جثث لا حراك بها، ولكن الحقيقة أنهما جثتان ميتان، وأما الثالثة فهي جثتي أنا التي كنت قد مت ثم بعثت حية كما تراني.
فقد غرق جيلبير وروبير، وكنت أظن أني سألحق بهما، ولكن أبى الله إلا أن يبعد عني الموت ليزيد في شقائي وتعذيبي، ولما أفقت من غشيتي وجدت نفسي في وسط إحدى السفن وحولي جماعة من الرجال يعتنون بأمري، وينبهون حواسي لأفيق من غشيتي وأمامي جثتان
هما جثتا ولدي المحبوبين وثمرة أحشائي وموضوع رجائي وعزائي، وهنا لا تطلب مني يا سيدي أن أشرح لك ما اعتراني من الذهول والجنون؛ فاحتملت هاتين الجثتين العزيزتين وطلبت إلى أصحاب السفن أن يسمحوا لي بالنزول إلى أحد جوانب هذه الجزيرة التي غرقنا فيها يكون الماء بعيدا عنه، فأجابوا طلبي بعد إلحاح طويل، وهناك دفنت ولدي المحبوبين بيدي وبللت قبرهما بدموعي الغزيرة، وأقسمت أن لا أنتقل من هذه البقعة التي ضم ثراها أعز الناس عندي وأحبهم لدي، ومن ثم أخذت أهيم على وجهي في هذه الصحراء، وقد كانت تأخذني نوبة من الجنون حينما أتذكر شيئا من ماضي حياتي التعيسة، وها أنا كما تراني يا سيدي منفردة في هذا الخلاء لا أنيس لي غير آكام البر وصخور البحر، ولست أسمع غير قصف الرعود ولا أرى إلا هطول الأمطار وتراكم الثلوج وتلاطم الأمواج، أتسول وأعيش من فضلات أهل الخير والإحسان، أنا التي ربيت في مهد العز والدلال، ومن الغريب أن كل هذه المصائب والنوائب انهالت على رأسي، ومع ذلك لم أزل حية أرزق إلى الآن.
قالت ذلك ثم التفتت إلى أمواج البحر المتلاطمة تحت الصخرة التي كانت مادلين جالسة عليها مع ذلك السائح المجهول وهي تقص عليه تاريخ حياتها، وهو ينظر إليها بقلب مفعم بعوامل الحزن والشفقة، وعند ذلك تأوهت وظهرت عليها علامات الانقباض والاكتئاب، ثم عادت فاستأنفت الحديث وقالت للسائح:
الفصل السادس عشر
والآن اسمع يا سيدي خاتمة قصتي؛ لتعلم أن المرأة المسكينة التي تراها الآن جالسة معك قدرت - مع شدة ضعفها وجبنها - أن تنتقم لنفسها وتأخذ بثأرها من ذلك الذي نغص عيشها وجلب عليها كل هذا الذل والهوان.
إنني بينما كنت أجول في أطراف هذه الجزيرة المقفرة لمحت على بعد شخصا نزل من إحدى السفن الراسية على مقربة مني وهو مقبل إلي يخطر بثيابه الرثة وأطماره البالية، أما أنا فظننته في مبدأ الأمر أحد السياح الذين تعودوا أن يتخذوا لهم زيا بسيطا ما داموا في الغربة؛ فبادرت إليه لأسأله الصدقة حسب عادتي، ولكني لما تفرست في وجهه اعتراني الانزعاج والاضطراب؛ لأني علمت أنه زوجي راعول أفضى به الحال إلى التجول في المدن والقرى يتسول مثلي الصدقة، ويطلب الإحسان، ولما نظرني لم يعرفني فظنني امرأة فقيرة جئت أسأله الصدقة، فقال: هوني عليك يا مسكينة، ولا تعللي نفسك بالمحلل؛ فأنا أشد فاقة منك وأكثر احتياجا إلى القوت الضروري، ثم تركني وذهب في حال سبيله.
أما أنا فتبعته واقتفيت أثره على بعد، وإذا به قد صعد إلى صخرة عالية يريد الجلوس تحت ظل شجرة فيها، وكان كلما تقدم إلى الأمام يلتفت فيراني أتبعه فيدنو مني ويسألني عن قصدي فلا أجيبه بشيء؛ فزاد حنقه وغيظه واقترب من طرف الصخرة التي كنا واقفين عليها وناداني بأعلى صوته: من تكونين يا هذه، وما شأنك؟ وماذا تريدين؟ أما أنا فلم أبد حراكا ولم أفه ببنت شفة حسب عادتي، وحينذاك صرخ راعول في وجهي متهكما وقد هز كتفيه وحرك رأسه بازدراء وقال: يظهر أنك يا هذه شبح لا حياة فيه أو صنم لا حراك به.
فعند ذلك نزعت الرداء الذي كنت أغطي به رأسي ودنوت من هذا الوحش الضاري فناديته بصوت جهير: أجل، أنا شبح زوجتك مادلين المنكودة الحظ، التي أوصلتها إلى هذه الحالة التعيسة بسوء تصرفك ودناءة سلوكك جاءت تطلب الانتقام وأخذ الثأر.
فلما سمع مني راعول هذا الكلام اعترته الدهشة والانزعاج، وكأن الأرض فتحت فاها لتبتلعه أو انشقت ميازيب السماء لتمطر عليه صواعق الغضب والانتقام، فأجفل ورجع إلى الوراء ولم يتمالك نفسه حتى سقط من أعلى الصخرة إلى الأرض، وفي اليوم الثاني أشيع بهذه المدينة خبر موته.
الفصل السابع عشر
وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
قال الراوي: فلما انتهت مادلين من سرد حكايتها العجيبة وقصتها المحزنة تأوهت تأوه القنوط، وطفقت تصعد الزفرات وتسكب العبرات بحرارة شديدة ولهفة زائدة، وذلك السائح المجهول ينظر إليها نظرة الحنو والحزن ويرثى لحالها ويبكي لبكائها، وبعد مضي بضع دقائق ساد الهدوء والسكون ولازم الاثنان الصمت والسكوت، ثم التفتت مادلين إلى السائح واستأنفت الحديث فقالت:
هذه يا سيدي قصتي، ذكرتها لك على سبيل الإجمال والإيجاز، فهل لا ترى فيها كل الحكم والعبر وتقضي العجب مثلي من مقدرتي على احتمال كل هذه المصائب والبلايا التي تدك الجبال وتفتت الصخور، ولكن قل لي بالله عليك يا سيدي ها قد سمعت حكايتي ووقفت على حقيقة أحوالي، ألا يمكنك أن تنبئني بحقيقة أمرك وتطلعني على شيء من ماضي حياتك لأشاركك في عواطفك كما شاركتني أنت الآن؛ لأني أرى في نفسي ميلا عظيما ورغبة شديدة إلى ذلك؛ فمن تكون أنت يا سيدي إذن؟
قال السائح: قلت لي يا مادلين: إنه كان لك في أيام الصبا صديق حميم وحبيب مخلص يدعى «موريس»؛ فهلا تذكرت هذا الصديق في أيام شدتك الأخيرة وحن قلبك إلى رؤيته.
قالت: كيف لا وقد كان ركن سعادتي ورفيق صباي وشريك أفراحي ومسراتي، آه يا سيدي، إني لا أحب في العالم كله أكثر من حبيبي موريس وصديقي إميل وولدي روبير وجيلبير، وهؤلاء الثلاثة قد ماتوا أمام عيني، وأما حبيبي موريس فلم أعرف عنه خبرا ولم أقف له على أثر، وهذا ما يضاعف حزني ويزيد في غمي وشقائي، فأين هو موريس يا ترى الآن؟ وهل انتقل إلى العالم الباقي أو هو لم يزل حيا؟ وهل أتيح له بأن يعيش سعيدا ويتزوج امرأة جميلة تقر بها عينه وينشرح فؤاده أو قضي عليه أن يبقى تعيسا ذليلا مثل حبيبته مادلين.
قال السائح: إن موريس لم يعش سعيدا يا مادلين، ولو أنه أحرز ثروة واسعة وغنى وافرا. - ومن أين لك أن تعرف ذلك يا سيدي؟ - إن موريس تزوج امرأة جميلة، ولكنها كانت قبيحة السيرة والسريرة فنغصت عيشه وحرمته لذة الحياة، ولكنها ماتت أخيرا وأراحه الله من سوء تصرفها ودناءة سلوكها.
فازداد قلب مادلين خفقانا وحملقت إلى السائح مدهوشة مذعورة.
أما هو فاستمر في حديثه فقال: وموريس لم ينس حبيبته مادلين، ولم تبرح من باله تلك الأيام السعيدة التي قضاها بالقرب منها وهو الآن يجول مفتشا عليها في مشارق الأرض ومغاربها، وقد سأل عنها في جهة فوجير ولوريان وسان كولمب إلى أن علم من أحد الفنادق في سان مالو أنها أتت إلى هذا المكان.
وعندئذ صرخت مادلين بأعلى صوتها.
ومن تكون أنت يا سيدي ومن أين لك أن تعرف هذه الأسرار كلها؟
قال السائح: رحماك يا مادلين! ألم تعودي تعرفين شخص حبيبك وأسير هواك موريس التعيس؟ فتفرست مادلين في وجه هذا السائح المجهول فانقشعت عن عيونها غياهب الشك والارتياب وعلمت أنه هو بعينه، فألقت بنفسها بين ذراعيه، وهي لا تستطيع الكلام من شدة الفرح والسرور.
ومن ثم عاد موريس مع حبيبته مادلين إلى مدينة «فوجير مسقط رأسهما ومنبت شعبتهما»، وهناك بنى قصرا جميلا تكتنفه حديقة أنيقة فيها من كل فاكهة زوجان، وقد شيد فيها غرفة بديعة الصنع نقلت إليها: جثتا روبير وجيلبير، وقد عقد موريس إكليل الزواج على حبيبته مادلين وجعلها زوجته الشرعية وعاشا في غاية الهناء والصفاء إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات.
نصيحة ختامية
يشهد التاريخ أن وضع الروايات والقصص التمثيلية وغيرها كان قديم العهد، وآثار المصريين واليونان والرومان القدماء تنطق بهذا القول وتؤيد حقيقته وتثبت صحته من كل الوجوه، فليست الروايات إذن من نفحات هذا العصر واختراعاته الحديثة كما يتوهم البعض.
على أن أغلب الروايات - وخصوصا التمثيلية منها - لم يكن يقصد من وضعها بادئ ذي بدء إلا الزهو واللهو وترويح النفس ورياضة الجسم؛ فكانت أشبه شيء بالألعاب الرياضية والملاهي البسيطة، وأما في هذا العصر الذي بزغت فيه أنوار الحضارة والعرفان واتسع نطاق التمدن والعمران؛ فقد أصبحت هذه الروايات التمثيلية وغيرها من أكبر الحاجيات وأهم وسائل التربية والتهذيب، والمشتغلون بها يعتبرون في اعتقاد العقلاء من مهذبي النفوس ومربي الأخلاق، ورافعي لواء الفضائل والآداب وقادة العقول والأفكار، وقد شوهد بعد الاختبار والتحري الدقيق أن الاعتماد على هذه الوسيلة النافعة في بث روح التقدم والإصلاح أفاد الأمم والشعوب كل الفائدة وأتى بالغاية المقصودة؛ ولذا راج سوق الروايات في عالم التمدن وأقبل الناس عليها إقبالا عظيما ووجد المشتغلون بها من الهيئات الحاكمة والمحكومة كل المساعدة والتعضيد .
والذي يراجع تاريخ الأمة الفرنساوية الحديث يعلم أنها لم تقم لها قائمة ولم تنهض من حضيض الانحطاط والارتباك إلى أوج التقدم والنجاح، إلا بفضل كتابها الذين اتخذوا وضع الروايات التمثيلية وغيرها ذريعة إلى تحسين العادات وإصلاح المختل وتقويم المعوج وتربية ملكة الغيرة والشهامة في نفوس الأهالي، فاندفعوا في تيار التقدم وأدركوا ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات، فانتبهوا من غفلتهم وهبوا لطلب المزيد من التنور والإصلاح.
وقد كان للكاتب العظيم «موليير» وغيره من كتاب الروايات والقصص - وخصوصا العالم الطائر الصيت إسكندر دوماس - الفضل الأول في هذه النهضة الأدبية الشريفة.
أما في الشرق فلم يظهر من الكتاب المعدودين الذين أحيوا هذا الفن في البلاد إلا النذر اليسير، ولكن الشاعر العربي يقول:
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
ولا يبعد أن يأتي يوم ينبغ فيه من تفتخر بهم لغتنا الشريفة وبلادنا المحبوبة، وليس هذا على ذكاء الشرقيين وحسن استعدادهم ببعيد.
على أننا ننصح الذين يتصدون لوضع الروايات والقصص أو تعريب شيء منها إلى لغتنا العربية أن يلاحظوا أمرا مهما، وهو أن يجعلوا مدار بحثهم ومطمح أنظارهم إصلاح العادات الأهلية وبث روح الغيرة الوطنية والمبادئ الشريفة في نفوس القراء، وإلا فلا خير في هذه الروايات ولا فائدة لها على الإطلاق.
ولا يخفى أن بين عادات الغربيين واصطلاحاتهم ما يخالف مشرب الشرقيين ويفسد أخلاقهم، وليس وراءه إلا الخارة والغبن، فليس من الصواب تعريب هذه الروايات ونشرها بين قراء العربية، ولدينا من العادات القبيحة والاصطلاحات المبتذلة ما هو أجدر بالانتقاد وأحرى بالتنديد، وكثير من الروايات الإفرنجية قد تفيد الذين وضعت لهم من الإفرنج، ولكنها لا تفيد الشرقيين، بل تضرهم؛ فعلى الكاتب الذي يقصد الفائدة وينشد الحقيقة ويريد تهذيب الأخلاق أن يلاحظ هذه المسألة بعين الدقة والانتباه، وهذا ما حدا بنا إلى انتقاء هذه الرواية «الوحش الضاري» وتعريبها دون غيرها من الروايات الأخرى؛ لأننا رأينا فيها من الانتقادات السديدة والآراء المفيدة ما تحتاج إليه بلادنا الشرقية ويطابق حالتنا الحاضرة وظروفنا الخصوصية ؛ لأن هذه الرواية كما يتضح للقارئ الكريم من مطالعتها ترمي إلى غاية نبيلة وغرض شريف، وهي إظهار الأضرار العظيمة والأخطار الجسيمة التي تنجم عن الزواج القسري، وهي عادة مضرة تفشت في الشرق، وكانت سببا في خراب البيوت العامرة وسقوط العائلات الكثيرة في وهدة الشقاء والبلاء.
فعلى أبناء الفتيان والفتيات أن يمعنوا نظرهم في هذا الأمر الخطير ولا يضحوا مستقبل أولادهم المساكين على مذبح فائدتهم الشخصية ومصلحتهم الذاتية، وكفى بما جاء في هذه الرواية الصغيرة عبرة وتذكرة لقوم يعقلون.
وإني أسأل الله أن يجعل هذه الخدمة الحقيرة مقبولة لدى أبناء وطني وأهل جلدتي، ويلهمنا جميعا طريق السداد والرشاد، إنه السميع المجيب.
تقريظ الرواية
اطلع بعض أصدقائنا الأفاضل من الشعراء الأدباء على بعض ملازم هذه الرواية عند مباشرة طبعها، فأبت مكارم أخلاقهم وحسن آدابهم إلا التكرم علينا بتقريظها ولم يلبثو أن بعثوا إلينا بقصائد التقريظ الجميلة فلم نر بدا من نشرها؛ لأنها لا تخلو من الفكاهة والفائدة، وذلك اعترافا بفضلهم وقياما بواجب الشكر لحضراتهم. قال حضرة الشاعر اللبيب والكاتب الأديب أحمد أفندي محرم:
هات الحديث عن المكارم هات
لا عن غزال أغيد ومهاة
لست الذي تصبى العيون فؤاده
أو تزدهيه فواتر اللحظات
هذي الشبيبة حولتها حكمتي
شيبا نسيت له عهود لذاتي
دع ذكر سلمى قد تولت صبوتي
وصحا فؤادي وانجلت عمراتي
لم أدكر عبرات عيني في الهوى
إلا سفحت سواكب العبرات
لا أبتغي غير الفضائل مطلبا
طول الحياة وإنها لحياتي
كم رحت فيها واغتديت فما عدت
ما رمت روحاتي ولا غدواتي
كل الفضائل حازها توفيقنا
بعزيمة مأثورة وثبات
فطن إذا أجرى اليراع بكفه
وقفت جياد القول محتبسات
يا من يظن السحر أصبح باطلا
حقق فهذا ساحر النفثات
هذي «الرواية» أسفرت عن فضله
لما بدت كالدر في اللبات
نفحت فقلنا المسك فاح أريجه
بل أين ذا من هذه النفحات
ما قلت هذي نسمة سحرية
إلا علت طيبا على النسمات
هذي شمول أصبحت ألبابنا
سكرى لرشف كئوسها ثملات
رقت وراقت لا كعهدك بالطلا
أمسى يطوف بها أخو عبنات
فأدر على الشرب الكرام كئوسها
فالحظ موف والزمان موات
ولك الثناء كما تشاء جميعه
ما بين ماض في الزمان وآت
لولا محاسن صنعك اللاتي بدت
لم يأت هذا الدهر بالحسنات
فبقيت للآداب ترفع شأنها
بفضائل في الناس مشتهرات
ماذا الذي يهدي إليك أولو النهى
غير الثناء وصالح الدعوات
ونظم حضرة الأستاذ الفاضل الأديب الشيخ محمد البشير ظافر الأزهري قصيدة بديعة في هذا المعنى قال فيها بعد التخلص من الغزل:
فهم في مثلها لا تخش لوما
وجاهر بالمحبة في الحسان
لكي تحظى بما تهوى وتقضي
لأوطار لدى قاص ودان
ورو بالعلا ظماء ترو
رواية من غدا شمس الزمان
سمير الفضل توفيق المفدى
ومن دانت له كل المعان
لدى الإنشاء والأشعار فرد
أتى بالبكر منها والعوان
فدونك إن أردت بديع معنى
روايته تنل كل الأماني
ففيها قد أتى ببديع لفظ
كعقد الدر في جيد الغوان
تخال السامعين بها نشاوى
بلا خمر ولا عزف القيان
فمن فرحي بها قد قلت أرخ
عقودا قد تحلت بالمعاني
سنة 1316 (وقال حضرة الأديب البارع ميخائيل أفندي عبد الملك من موظفي مصلحة السكة الحديد المصرية):
نعم بالنهى لا بالقواضب والسمر
تدين لنا الدنيا ونعتز بالنصر
وننشر أعلام الهداية جملة
ونمحق آثار الجهالة والنكر
وما المجد إلا دولة نحن أهلها
وما العزم إلا من عزائمنا الغر
هو العلم لو حققت ملك عبيده
ملوك سموا في دولة الفهم بالفكر
لهم عزمات لا تفل سيوفها
تفوق القنا الخطى في الكر والفر
يصيغون من در الحديث قلائدا
وحقك تزري بالجواهر في النحر
بروحي أفدي سادة لو صحبتهم
لخلت بحار الفضل من فضلهم تجري
فهم شيدوا ربع العلى بعد ما ذوت
معالمه واعتاده عسف الدهر
وهم أخرجوا من كل معنى دقيقه
بسحر بيان لا يقل عن السحر
وهذا كتاب جل في النفس موقعا
يفوح له ند البلاغة كالعطر
يسوق لك المعنى الجليل مسلسلا
بلفظ شهي لا يمل مع الذكر
ويبسط أحوال الزواج صحيحة
وينجيك من شر المصائب لو تدري
وإن لم يكن في النفس حب لزوجة
فخير من العيش التستر في القبر
أتانا به خدن ذكي أخو حجى
خبير بحال القوم في السر والجهر
بليغ له عزم جليل وفكرة
تبدد شمل الجهل فورا على الأثر
أتى بدواء الداء والخطب مشكل
فمنا له شكر يفيض على شكر
ولا زال بالعيش الرغيد ممتعا
ولا زال عنوان المحامد والفخر
يفيد الورى بالعلم ما قلت منشدا
نعم بالنهى لا بالقواضب والسمر
Page inconnue