L'illusion des constantes: lectures et études en philosophie et psychologie
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
نعم يمكنها؛ فليس ثمة صعوبة لدى الموقف الاسمي تتعلق بالنكوص اللانهائي؛ فالعلم - كما قد رأينا - لا يستخدم التعريفات لكي يحدد معاني حدوده، بل لكي يدخل تسميات مختزلة يسيرة الاستخدام لا أكثر. وهو لا يعتمد على التعريفات؛ فجميع التعريفات يمكن أن تحذف من العلم دون فقدان للمعلومات التي ينقلها. ينتج من ذلك أنه في العلم «يجب أن تكون جميع الحدود التي يحتاجها حقا حدودا غير معرفة». كيف تؤمن العلوم إذن بمعاني مصطلحاتها؟ لقد اقترحت أجوبة شتى على هذا السؤال، ولكني لا أظن أن من بينها أي جواب شاف؛ فالموقف - فيما يبدو - هو هذا: لقد أنبأتنا الفلسفة الأرسطية وما لف لفها لزمن طويل كم هو مهم أن نحصل على معرفة دقيقة بمعنى حدودنا، بحيث صرنا جميعا نميل إلى تصديقها، ونحن ما زلنا متشبثين بهذه العقيدة برغم الحقيقة التي لا تقبل الشك بأن الفلسفة - التي جعلت همها معنى المصطلحات طيلة عشرين قرنا - ليست تعج باللفظية فحسب، بل هي أيضا غامضة على نحو مريع، في حين أن علما مثل الفيزياء لا يكاد يكترث بالألفاظ ومعانيها بل بالوقائع قد بلغ درجة عظيمة من الدقة. من المؤكد أن هذه الحقيقة ينبغي أن تلفتنا إلى أنه تحت النفوذ الأرسطي تمت المبالغة الشديدة في أهمية معاني الحدود؛ غير أني أراها تشير إلى ما هو أكثر حتى من ذلك؛ فهذا التركيز على مشكلة المعنى لا يفشل فحسب في تأسيس الدقة، بل إنه هو نفسه المصدر الرئيسي للغموض والخلط.
نحن في العلم نحرص على أن تكون عباراتنا لا تعتمد مطلقا على معنى ألفاظنا. وحتى عندما تعرف مصطلحاتنا فنحن لا نحاول على الإطلاق أن نستمد أي معلومات من التعريف، أو نؤسس عليه أية حجة؛ لذا لا تسبب مصطلحاتنا أدنى اضطراب، نحن لا نبهظها، ونحن لا نأخذ «معناها» بجدية شديدة. نحن على وعي دائما بأن مصطلحاتنا غامضة بعض الشيء (ما دمنا قد تعلمنا ألا نستخدمها إلا في تطبيقات عملية)، ونحن نبلغ الدقة لا بإنقاص هامش الغموض منها بل بالبقاء في صميمه، بصياغة جملنا بعناية بحيث لا يكون للظلال الممكنة لمعنى مصطلحاتنا شأن يذكر. هذا هو سبيلنا في تجنب الاصطراع حول ألفاظ.
من المؤكد أن الرأي القائل بأن دقة العلم ولغة العلم تعتمد على دقة مصطلحاته هو رأي جد مقبول ظاهريا، إلا أنه مجرد تحيز؛ فدقة أي لغة إنما تعتمد على حقيقة أنها تحرص على ألا تثقل ألفاظها بمهمة أن تكون دقيقة. إن لفظا مثل «كثيب (رملي)»، أو «ريح» هو لفظ شديد الغموض بدون شك (فكم بوصة يتعين أن يكون طول الكثيب حتى يسمى كثيبا؟ وبأية سرعة يتعين أن يتحرك الهواء كيما يسمى «ريحا»؟) ورغم ذلك فهذان اللفظان يتحليان بدقة كافية تماما لكثير من أغراض عالم الجيولوجيا، وإذا ما تطلب الأمر درجة أعلى من التمييز فإن بوسعه دائما أن يقول: «كثبان رملية طولها بين 4-20 قدما» أو «ريح سرعتها بين 20-40 ميلا في الساعة». وكذلك الحال في العلوم الأكثر دقة. في القياسات الفيزيائية - على سبيل المثال - نحرص دائما أن نضع اعتبارا للنطاق الذي قد يحدث فيه خطأ، ولا تتمثل الدقة في محاولة إنقاص هذا النطاق إلى صفر، أو نتظاهر بعدم وجود مثل هذا النطاق، بل في تمييزه الصريح.
وحتى حيثما أوقع مصطلح ما إزعاجا، كمصطلح
simultaneity (تزامن) في الفيزياء على سبيل المثال؛ فإن ذلك لم يكن لأن معناه كان غير دقيق أو كان ملتبسا، بل بسبب تحيز حدسي معين حملنا على أن نثقل المصطلح بقدر كبير من المعنى، أو بدقة زائدة في المعنى، وليس لأننا أضفينا عليه قدرا قليلا من المعنى أو من دقة المعنى. إن ما وجده أينشتين في نقده للتزامن هو أن الفيزيائيين في حديثهم عن الأحداث المتزامنة كانوا يضمرون افتراضا ضمنيا (افتراض إشارة لا متناهية السرعة) تبين أنه مصطنع. لم يكن الخطأ أنهم لم يعنوا أي شيء أو أن معناهم كان ملتبسا أو أن المصطلح لم يكن دقيقا بما فيه الكفاية؛ بل ما وجده أينشتين هو أن التخلص من افتراض نظري كان خفيا حتى حينه بسبب وضوحه الذاتي الحدسي - قد تكفل بإزالة صعوبة كانت قد برزت في العالم؛ ومن ثم فقد كان أينشتين غير معني في الحقيقة بمسألة معنى المصطلح بل بصدق إحدى النظريات، وإنه لمن المستبعد جدا أنه كان سيجدي كثيرا لو أن المرأ كان قد بدأ بمعزل عن مشكلة فيزيائية محددة في تحسين مفهوم التزامن عن طريق تحليل «معناه الجوهري»، أو حتى بتحليل ما «يعنيه الفيزيائيون حقا» عندما يتحدثون عن التزامن.
أعتقد أننا يمكن أن نتعلم من هذا المثال أننا يجب ألا نحاول أن نعبر جسورنا قبل أن نصل إليها، وأعتقد أيضا أن من المؤكد أن الانشغال بأسئلة تتعلق بمعنى المصطلحات (مثل غموضها أو التباسها) لا يمكن تبريره باللجوء لمثال أينشتين. إنما يستند مثل هذا الانشغال على الافتراض القائل بأن شيئا كثيرا يتوقف على معنى مصطلحاتنا وأننا نعمل بواسطة هذا المعنى؛ ومن ثم فهو لا بد أن يؤدي إلى النزعة اللفظية والسكولائية. من هذه الزاوية يمكننا أن ننتقد مذهبا مثل مذهب فتجنشتين الذي يقول بأنه في حين أن العلم يبحث في الوقائع فإن مهمة الفلسفة هي أن توضح معنى المصطلحات؛ وبذلك تنقي لغتنا وتتخلص من الأحاجي اللغوية. إن السمة المميزة لآراء هذه المدرسة أنها لا تفضي إلى أية سلسلة من الحجة يمكن أن تخضع للنقد العقلاني، وأنها من ثم لا تتوجه بتحليلاتها الدقيقة إلا لدائرة حصرية صغيرة من المكرسين. يشير ذلك فيما يبدو إلى أن أي انشغال بالمعنى ينزع إلى أن يؤدي إلى تلك النتيجة التي تسم المذهب الأرسطي بصفة خاصة: النزعة السكولائية والتصوف.
لننظر الآن باختصار كيف نشأت هاتان النتيجتان المميزتان للأرسطية. لقد كان أرسطو يؤكد أن البرهان والتعريف هما المنهجان الأساسيان لتحصيل المعرفة. بالنظر أولا إلى مذهب البرهان، فلا سبيل إلى إنكار أنه قد أدى إلى محاولات لا حصر لها لإثبات أكثر مما يمكن إثباته. وتعج الفلسفة القروسطية بهذه السكولائية، ويمكن أن نلاحظ الميل نفسه في القارة حتى زمن كانت. لقد كان نقد كانت لجميع محاولات إثبات وجود الله هو ما أدى إلى رد الفعل الرومانسي عند فخته وشيلنج وهيجل. وتتمثل النزعة الجديدة في إغفال البراهين ومعها كل نوع من الحجة العقلانية. ومع الرومانسيين فإن نوعا جديدا من الدوجماطيقية يصبح صيحة رائجة في الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية أيضا. إنها تجابهنا بقولها الفصل وعلينا أن نأخذها أو ندعها. يصف شوبنهاور هذه الفترة الرومانسية لفلسفة نبوئية، والتي أطلق عليها «عصر الغش»، قائلا: «إن سمة الأمانة - تلك الروح الخاصة بمشاركة القارئ في الاضطلاع ببحث ما، والتي تتخلل أعمال كل الفلاسفة السابقين - تختفي هنا كليا. وإن كل صفحة تشهد بأن هؤلاء المدعوين فلاسفة لا يحاولون أن يعلموا القارئ بل أن يسحروه.»
وثمة نتيجة مماثلة أنتجها مذهب أرسطو في التعريف. لقد أدى أولا إلى كم كبير من المماحكة اللفظية؛ غير أن الفلاسفة بدءوا يشعرون فيما بعد بأن المرء لا يمكنه أن يحاج حول التعريفات. بهذه الطريقة فإن الماهوية لم تشجع النزعة اللفظية فحسب، بل أدت أيضا إلى خيبة أمل في الحجة؛ أي في العقل. السكولائية والصوفية واليأس من العقل، هذه هي النتائج المحتمة لماهوية أفلاطون وأرسطو. وتصبح ثورة أفلاطون المعلنة ضد الحرية - مع أرسطو - ثورة سرية ضد العقل.
وكما نعلم من أرسطو نفسه، فإن الماهوية ونظرية التعريف عندما دفع بهما لأول مرة قد ووجها بمعارضة قوية، وبخاصة من أنتستين الرفيق القديم لسقراط، الذي يبدو أن نقده كان معقولا للغاية، إلا أن هذه المعارضة قد انهزمت للأسف، وإن نتائج هذه الهزيمة لفادحة بالنسبة للتطور الفكري للجنس البشري.
الفصل السادس
Page inconnue