L'illusion des constantes: lectures et études en philosophie et psychologie
وهم الثوابت: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
3
الإنسان الفرد إذن - وفقا لهذا الخط من التفكير - ما هو إلا نسخة جزئية لمثال كلي مسبق أو نموذج قبلي عام، هو الطبيعة الإنسانية التي تشمل كل أفراد البشر، هذه هي فكرة الماهية السابقة على الوجود، تلك الفكرة التي ظلت مسيطرة على الفكر الإنساني منذ نشأته اليونانية، وبقيت مسيطرة على أذهان الكثيرين، «فنجدها» عند «ديدرو» وعند «فولتير» وحتى عند «كانت»؛ فالإنسان له طبيعة بشرية، وهذه الطبيعة البشرية هي ما يصاغ عليها الإنسان، وهي ما يتسم به كل إنسان، أو يشترك في صفاتها مع غيره من البشر. وبذلك تكون الإنسانية كلها أو أفرادها قد خلقوا طبقا لفكرة عامة أو مفهوم عام أو نموذج عام يجب أن يكون عليه البشر. ويغالي «كانت» في وصف هذه الطبيعة العامة للبشرية، بحيث يساوي بين رجل الغابة والإنسان الطبيعي والبورجوازي، ويجعلهم الثلاثة يشتركون في صفات عامة. وهكذا نجد فكرة الإنسان في التاريخ أسبق على حقيقته؛ بمعنى أننا نجد أنه لا يوجد بشر معينون وكل منهم يختلف عن الآخر، ولكن توجد فكرة عامة وإطار عام يجمع البشر جميعا ويساوي بينهم، ثم هناك بعد ذلك الآحاد المتميزة من البشر؛ أي إن الماهية تسبق على الوجود مرة أخرى.
4
ويأتي سارتر ليعكس الآية ويقول: بل الوجود هو الأصل وهو السابق؛ فالإنسان يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذلك. وليس ثمة طبيعة إنسانية موجودة سلفا أو ماهية مسبقة تفرض نفسها على الإنسان وتصبه في قالبها ضربة لازب، بل الإنسان هو الذي يخلق ماهيته؛ فالإنسان في أول وثبته نحو الوجود ليس شيئا. لقد قذف به إلى عالم غير مكترث فهو في وضع مستيئس وعليه أن يختار ويفعل دون أية مرجعية. إنه يوجد أولا غير محدد بصفة، ثم يغمد نفسه في المستقبل ويبرأ ماهيته بنفسه عن طريق اختياراته ومقاصده وأفعاله التي يؤديها عن حرية هي نظير المخاطرة؛ لأنه يؤديها دون أية قاعدة مسبقة ودون أية ضمانات. إنه ينحت هويته كل لحظة ويصنع تعريفه ويخترع طريقته في الوجود. إنه مشروع دائم يظل يتحقق ولا يكتمل إلا بالموت.
5
في كتابه: «الوجودية مذهب إنساني» يقول سارتر: «... يوجد على الأقل مخلوق واحد قد تواجد قبل أن تتحدد معالمه وتبين. وهذا المخلوق هو الإنسان ... وحين نقول: إن الوجود سابق على الماهية فإننا نعني أن الإنسان يوجد أولا، ثم يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي، فتكون له صفاته، ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده، فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة؛ فذلك لأنه قد بدأ من الصفر، بدأ ولم يكن شيئا. وهو لن يكون شيئا إلا بعد ذلك، ولن يكون سوى ما قدره لنفسه ... إن الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود.»
6 «الإنسان ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه. هذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية، وهذا هو ما يسميه الناس «النزعة الذاتية» للوجودية مستخدمين هذه الكلمة ليوجهوا بها النقد إلينا. لكننا لا نعني بها سوى أن للإنسان كرامة أكبر مما للحجارة أو المنضدة؛ لأننا نعني أن نقول: إن الإنسان يوجد أساسا ثم يكون ، وهو يكون شيئا يمتد بذاته نحو المستقبل، وهو يعي أنه يمتد بها إلى المستقبل؛ فالإنسان مشروع، مشروع يمتلك حياة ذاتية، بدلا من أن يكون شيئا كالطحلب.»
7
الإنسان إذن كائن «محكوم عليه بالحرية»، يمارسها عن طريق اختيارات يقوم بها في كل لحظة؛ فالاختيار حتم، حتى عدم الاختيار هو نوع من الاختيار أو هو اختيار مقنع. وما دام الإنسان حرا مختارا فهو مسئول عن وجوده وعما يكون عليه. المسئولية هي توءم الحرية. وهذه المسئولية ليست وقفا عليه بوصفه فردا بل تمتد لتشمل الناس جميعا؛ فالإنسان يختار للآخرين فيما يختار لنفسه، ويفعل للآخرين فيما يفعل؛ لأنه باختياره وفعله هذين يرسم الإنسان كما يرى أن يكون، ويدس «القيم» في قلب العالم، وبتشكيله لصورته يشكل في الوقت نفسه صورة الإنسان بعامة. وحين يختار قيمة أو فعلا ما فإن ما يأتيه يمس الآخرين بالضرورة وينعكس عليهم، المسئولية إذن باهظة ثقيلة؛ لأنها تمس الناس جميعا؛ ومن ثم ترتبط الحرية والفعل الحر دائما بالكرب والقلق. «القلق دوار الحرية»، وهو مما ينزغ للإنسان أن يضع عن كاهله عبء الحرية والمسئولية، وأن يخفض نفسه من مرتبة «الموجود لذاته»
le pour soi ؛ الوجود الإنساني الحر الواعي بذاته، إلى مرتبة «الموجود في ذاته»
Page inconnue