Oasis de la Vie
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genres
هذا هو ما كان النقاد يدعون إليه، وهذا هو ما كنت لا أستطيع قبوله لأن معناه أن يكون الناقد سلطة سياسية أو فكرية أو خلقية تتولى تحديد «قيمة» ما يكتب ثم تفرض على الآخرين، الطامحين في تحقيق قيمة ما، محاكاة ذاك الذي كتب أو النسج على منواله! وسبب رفضي هو أن القيم السياسية تتغير من عصر إلى عصر، وما قد تكون له قيمة سياسية في عصر ما قد يفقدها في عصر لاحق دون أن ينتقص ذلك من قيمته الفنية، بل إن القيم الفنية نفسها قد تتغير من عصر إلى عصر، والمعايير التي تستند إلى «القيم» إذن لا بد أن تكون معايير نسبية لا مطلقة، وهذا هو ما خصصت له بابا مستقلا في أوائل الكتاب بعنوان «النقد والتاريخ والنسبية النقدية».
كان لويس عوض يقول لي إن هذه «الخناقة» بين مندور ورشدي «خناقة» لا أساس لها، والمصطلحات المستخدمة فيها لا يفهمها أصحابها، وكان يقول لي إن علي أن أتابع دراستي في إنجلترا، متجاهلا هذه «الفقاقيع» النقدية التي لن تصمد للتحليل العلمي، وأهداني (في مارس 1963م) نسخة من كتاب «بروميثيوس طليقا» وهو ترجمة لمسرحية شلي التي تحمل ذلك الاسم مع مقدمة ضافية عن مفهوم الرومانسية الإنجليزية في مطلع القرن التاسع عشر، وتحليل اجتماعي وسياسي لدلالاتها لإنجلترا في ذلك الوقت. وأذكر أنني قابلته مصادفة في ميدان سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) بعد ذلك بأسبوع، فاصطحبني إلى مقهى جروبي لمناقشة هذا الموضوع، ولا أعرف كيف تطرق الحديث إلى مناقشة كتاب «اللغة الشاعرة» لعباس العقاد، وكنت أعترض على الكثير مما جاء فيه، فإذا بلويس عوض ينبري للدفاع عنه بشدة، ويبدو أنه نسي الموعد الذي كان مرتبطا به، فلم نغادر جروبي إلا حين أغلق المقهى أبوابه!
كان تأييد لويس عوض لما جاء في كتابي باعثا على الاطمئنان؛ فقد أدرك ما أرمي إليه من الكتاب، ولكنه كان يكره رشاد رشدي لأسباب شخصية منها، حسبما فهمت، أنه دس له لدى السلطات؛ أي «كتب تقريرا» يتهمه فيه بالشيوعية مما أدى إلى فصله من الجامعة. ولم أعرف مطلقا مدى صحة ذلك، بل ولا أعتقد أن الزمن سوف يكشف لنا عن حقيقة مثل هذه الاتهامات؛ إذ كنا وما نزال نؤمن بالشائعات، ونحب القيل والقال، والخيال المصري خصب، وقد حاولت تجسيد «ولادة» الشائعة في مشهد مسرحي ولكنني لم أفلح، وتوليد الشائعات وانتشارها مبحث لا مجال هنا لمناقشته.
ما أبعد ما كان النقاد آنذاك يرمون إليه من تحديد «القيمة الأيديولوجية» للعمل الفني عن مقولتي «الفن للفن» و«الفن للمجتمع»! كانت الصورة تزداد وضوحا كل يوم؛ فالنقاد الأيديولوجيون يريدون إلغاء الأدب الذي يركز على الفرد، وإحلال أدب يناقش القضايا الاجتماعية بحيث يعلي من شأن المجموع! ولم أكن أتصور وأنا في تلك السن المبكرة كيف أبيح لنفسي أن أكون قاضيا أحكم بفساد عمل فني لأنه فردي، أو كيف أبتدع منهجا نقديا يعلي من قيمته الاجتماعية (إذ أعجبني) حتى أفسح له مكانا بين الأعمال الفنية العالمية. كان نجيب محفوظ يتمتع بسمعة طيبة لدى هؤلاء وهؤلاء، أي لدى اليمين واليسار؛ لأنه يتولى المعالجة الفنية للفرد في إطار المجتمع، وكذلك بعض من يكتبون القصص القصيرة أو المسرحيات، أما الشعراء فكانوا في حال لا يحسدون عليها! وقد اتضح لي ذلك يوما ما حين قابلت أنور المعداوي، الناقد الاجتماعي ذا الصوت الجهير، الذي كان يناصب جبهتنا العداء، وكان يناصب لويس عوض عداء أشد باعتباره «ناقدا اشتراكيا يخون القضية من باب الولاء لأبناء المهنة»؛ أي الولاء لأساتذة الآداب الأجنبية! ولذلك قصة.
كنت في مطعم كبابجي الدقي أنتظر الانتهاء من الشواء، حين دخل أنور المعداوي وجلس إلى المائدة نفسها. وكان رحمه الله ضخما، ذا شهية هائلة للطعام، وكان من بلدة صغيرة بجوار رشيد فكان يتكلم بلهجة أبناء بلدنا، وكان - حتى صدور كتابي النقد التحليلي - يحب ما أكتب إذ كان من محرري مجلة «المجلة»، وكان من الأصدقاء القدامى للدكتور لويس عوض، ولمعظم الاشتراكيين في تلك الآونة، وكان قد طلب طبقا سريع التحضير وهو «أرز بالموزة» (والموزة هي قطعة من اللحم الملاصق للعظم وهي رأس العضلة ؛ ولذلك تشبه الموز)، وسرعان ما انتهى من غدائه وطلب «الحلو» وأنا أناقشه في موضوع الكتاب وإذا به يزيح الأطباق من أمامه ويقول لي بلهجة أبناء البحيرة الجميلة: «انتو عمالين تقولوا الفن الفن .. طب وبعدين؟ انتم في ضلال! والأخطر أن يمتد الضلال إلى الجيل الجديد! طيب لويس عوض يعرف ما يقول .. وهو قادر على تبرير كل شيء بخبرته الواسعة .. لكن أنا قلبي على الصغار!»
وعندما أوضحت له أن مسألة الصغار والكبار مسألة نسبية، وأن الصغير الذي يقرأ سوف يكبر يوما ما، وأنني أدرس الفن الأدبي لا المجتمع، وجدته - على غير عادته - يتكلم بتؤدة واطمئنان كأنما هو الوالد ينصح ابنه: «شوف يا عناني .. الأدب ده باعترافكم ابن للمجتمع .. يبقى ازاي تناقشوه بمعزل عن المجتمع؟ انتم كده بتقطعوا الجذور الطبيعية للأدب .. بتلغوا مصادر إلهام الفنان .. شوف «فاروق منيب» أهو ده قصاص بارع، وسر براعته هو التصاقه بالمجتمع .. شوف «أبو النجا» .. شوف أي قصاص ناجح ...» وهنا أتى الطعام فانتهزت الفرصة وقلت: اسمع حضرتك شوقي:
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نشجى لوادينا
ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت في حواشينا
Page inconnue