Oasis de la Vie
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genres
وفي أغسطس ذهبت الأسرة إلى رشيد، وقررت الذهاب في ذلك العام، وكنا قد تركنا منزلنا القديم الذي امتدت إليه يد الهدم، واستأجرنا شقة (حسبما سبق لي أن ذكرت) وانهمكت في تلك الأيام في تأمل المستقبل الأدبي، خصوصا بعد أن لاحت فرصة الكتابة للسينما، وكان أجر السيناريو الواحد 500 جنيه! وسرعان ما أعددت قصة تصلح للسيناريو اسمها «جوازة صيف»، وما زلت أحتفظ بها وأعتز بالجو الذي أصوره فيها، وذات يوم قرأت في «الأهرام» خبرا يقول: رفع درجة 3 كتاب «إذاعيين» إلى كتاب من الدرجة الثانية وهم سمير سرحان ومحمد عناني وعبد الجواد الضاني! وكان معنى ذلك رفع أجر التمثيلية التي طولها نصف ساعة من 8 إلى 10 جنيهات، والمسرحية من 200 إلى 300! ومع بدايات سبتمبر وانتهاء فصل الصيف عدنا إلى القاهرة وبدأ فصل جديد في الدراسة والكتابة!
كانت مجلة «المجلة» التي يرأس تحريرها يحيى حقي قد خصصت بابين في آخرها لعرض الكتب المحلية والأجنبية، وكانت الدكتورة فاطمة موسى، الأستاذة في القسم لدينا، تشرف على باب الكتب الأجنبية؛ ومن ثم طلبت من جميع الأساتذة والمعيدين المساهمة في هذا الباب، وكان أجر «عرض الكتاب» الواحد ثلاثة جنيهات فانقضضنا جميعا على المكتبة نقرأ ونلخص، كل في تخصصه، وقد شاء القدر أن أجمع هذه العروض فيما بعد في كتاب أصدرته عام 1995م هو «من قضايا الأدب الحديث»! وكان رشاد رشدي قد بدأ هو الآخر «حملة» لإشاعة الأفكار النقدية الجديدة من خلال سلسلة من الكتب يصدرها أعضاء القسم عن «أعلام النقاد الغربيين»، فأعددت في الخريف كتابا صغيرا اسمه «النقد التحليلي» قدر له أن يطبع عدة طبعات كان آخرها في التسعينيات! وفي غضون كتابة هذا الكتاب توثقت علاقتي بزملائي في قسم اللغة العربية وعلى رأسهم عزت عبد الموجود (الدكتور) الذي كان يعد رسالة ماجستير عن «الظواهر اللغوية في شعر المتنبي» وكانت مناقشاتنا لا تنتهي؛ إذ جمعنا حب العربية وحب الشعر بصفة خاصة، كما كان نعيم اليافي (الدكتور) الذي يعد رسالة عن القصة القصيرة في قسم اللغة العربية من أصدقائنا الثابتين؛ أولا بسبب الموقع الاستراتيجي للشقة التي كان يقيم بها وحده في ميدان الجيزة؛ فهي مكان مغلق يختلف عن المقاهي على شاطئ النيل أو على غير شاطئ النيل (مثل صان صوصي)، وثانيا بسبب اهتمامه بحكم التخصص باللغة العربية!
وبلغني في ديسمبر، أثناء انشغالي بتصحيح تجارب كتابي «النقد التحليلي»، أن بروفات المسرحية قد بدأت! إذن سوف تجد «الدرجة السادسة» طريقها إلى المسرح! وعندما استفسرت عن «الوضع المالي» لم أجد إجابة شافية. وعندها كان لا بد من الإفصاح لسمير سرحان عن موقف سمير خفاجى. وكان رده قاطعا: لا! ودهشت أول الأمر وأبديت له تشككي وترددي ولكنه كان حاسما وقادرا على الإقناع؛ إذ كانت حجته تقول ببساطة ما يلي: «إذا بدأت حياتك المسرحية بالارتباط «كمؤلف» بسمير خفاجى فسوف ينتهي بك الأمر إلى أن تصبح تابعا له!» وذهبنا ذات مساء إلى المقهى الملحق بفندق سميراميس القديم، وكان يفتح أبوابه للجمهور 24 ساعة (ولذلك كان اسمه «نايت آند داي» أي الليل والنهار) واستمرت المناقشة حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، وبعد ساعات نوم قلقة ذهبت إلى المسرح لأحضر البروفات التي كانت تبدأ في الحادية عشرة صباحا. وانتظرت عبد المنعم مدبولي كي أبلغه بقرار رفضي وضع اسم سمير خفاجى مع اسمي، ولكنه لم يحضر.
وحضرت «البروفة» دون تركيز - كان حسن يوسف، وكان إذ ذاك ممثلا ناشئا، هو الذي يلعب دور البطولة، وأمامه مديحة حمدي، وميمي جمال، والسيد راضي، ومنى سراج، وعدد آخر من فرقة المسرح الكوميدي. وبعد انتهاء البروفة ذهبت إلى الجامعة حيث كانت في انتظاري مفاجأة. كانت لدينا طالبة اسمها آمال عبد الحكيم عامر، وكانت لها بعض الصديقات المعجبات بسمير سرحان، ولم أكن قد علمت أن سمير قد أبلغ آمال أو صديقاتها بموضوع مسرحيتي، وعلى أي حال، فإن مواعيد الامتحان كانت قد اقتربت وكان همنا الأول الانتهاء من ذلك الفصل الدراسي «على خير»! ولكن المفاجأة كانت كما يلي: جاءتني آمال وقالت لي: «أنا قلت لبابا على موضوع المسرحية وطلب مني قال لي أسألك إن كنت تحب يعمل تحقيق، والا تخاف على علاقتك بالوسط الفني؟» «بابا؟» كان بابا هو المشير عبد الحكيم عامر النائب الأول لرئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة! وبعد ثوان من الذهول قلت لها: «مافيش داعي! ربنا يسهل وتتحل المشكلة لوحدها!» وقالت في مرح «بابا تصور كده برضه .. لكن تحت أمرك!» وانصرفت هي وصاحباتها ضاحكات! وظلت كلمة «تحت أمرك» ترن في أذني! هل يمكنه حقا أن يساعدني في موضوع كهذا؟ وماذا يقول عني الزملاء والفنانون والكتاب؟ لا .. فلنترك المسرحية حتى ترى النور ثم نبحث موضوع التعاقد واسم المؤلف في مرحلة لاحقة؛ فنحن على مشارف عام 1963م؛ أي إن الزمن يجري بسرعة دون أن أنتهي من الماجستير، ودون أن أفوز بإحدى البعثات، ودون حدوث شيء ينبئ بالتقدم في الجامعة! كان الذين فازوا بالبعثات الدراسية قد سافروا فعلا إلى إنجلترا وأمريكا، وكان أولهم عمرو برادة الذي تمكن من الحصول على منحة دراسية شخصية، وسافر فعلا، ثم تلاه عبد اللطيف الجمال (بعد حصوله على الماجستير)، وعفاف المنوفي، وسلمى غانم (وكلاهما من زملاء دفعتي)، وهدى حبيشة (التي تخرجت قبلي بأربع سنوات)، وأمين العيوطي (بعد حصوله على الماجستير).
كان الشيء الوحيد الذي يحدث هو تصحيح بروفات كتاب «النقد التحليلي» (مكتبة الأنجلو)، وبروفات «درايدن والشعر المسرحي» (دار المعرفة)، وكتابة عروض الكتب في مجلة المجلة، وهي التي وثقت الصلة بين ثلاثتنا - سمير سرحان وعبد العزيز حمودة وأنا - من ناحية وبين أسرة الدكتورة فاطمة موسى - وزوجها الدكتور مصطفى سويف وأبنائها أهداف (الدكتورة حاليا) والتي أصبحت روائية تنشر إبداعاتها من القصة القصيرة والطويلة بالإنجليزية في بريطانيا، وليلى (الدكتورة) وعلاء (المهندس) من ناحية أخرى. كنا نتردد بانتظام على منزل الدكتورة فاطمة، وكان يحضر جلساتنا عبد المحسن طه بدر (الذي كان لا يتحدث إلا عن رسالة الدكتوراه التي كان منهمكا في كتابتها) والدكتور أبو شادي الروبي (أستاذ الطب الباطني) والدكتورة ليلى موسى (أخت الدكتورة فاطمة) المتخصصة في علاج الأورام بالأشعة (النظائر المشعة). وكانت اللقاءات أدبية في المقام الأول، فكنت أحيانا أقرأ بعضا من شعري (الذي كنت أكتبه لنفسي ولا أنشره أبدا) وكنا كثيرا ما نستمع إلى أحاديث الدكتور سويف التي كانت تشبه المحاضرات العلمية في دقتها وعمقها، وكانت الدكتورة فاطمة كريمة غاية الكرم، فكانت لا تبخل علينا بشيء أبدا، لا بالنصح والإرشاد، ولا بالطعام أو الشراب.
وعندما جاءت عطلة نصف العام (في مطلع 1963م) نظمت الكلية رحلة إلى الأقصر وأسوان، برئاسة الدكتور عبد المنعم أبو بكر، أستاذ الآثار المصرية وعميد الكلية، وبمشاركتنا جميعا، إلى جانب بعض أساتذة الكلية الأخرين. كان معنا رشاد رشدي وزوجته لطيفة الزيات، والدكتور أنور عمر (أستاذ علم المكتبات) وجيهان رشتى (الدكتورة) من قسم الصحافة، وغيرهم. وكانت الرحلة بالقطار، ولن أنسى لحظة وصولنا إلى الأقصر، إذ التفت إلي رشاد رشدي وقال: «قل لنا بم تشعر يا عناني.» وانبرى بسرعة أحد أفراد الشلة للإجابة، ولكن رشدي تجاهله وأصر على سماع رأيي، فقلت له: «أحس أنني رحلت رحلة إلى الماضي كأن رحلة القطار في المكان كانت رحلة في الزمان!» وقال إن هذه هي الإجابة التي كان يريد أن يسمعها. كانت الأقصر بلدا فرعونيا حقا. وربما كان الأرق الذي لازمني طول الليل سببا في ذلك الإحساس الغريب بالانفصال عن الواقع من حولي، فتركت الجميع بعد أن وضعنا الأمتعة في الفندق، وظللت أضرب على غير هدى في شوارع الأقصر، ولم تكن الشمس قد علت في السماء، وكان جو الشتاء يشجع على المسير، وكنت - في ذلك الصباح المشرق - لا أتوقف أبدا ولا أنظر حولي بل أسير وحسب.
كانت الرؤى تنثال فياضة في ذهني، وربما اختلط ما كنت أراه بما قرأته عن وردزورث، فكان الوجود نفسه يبدو قلقا؛ أي إن كيانه المادي لم يكن ثابتا في عيني، ولم أكن على استعداد للتيقن من وجوده الثابت؛ فقد غمرني الإحساس «بالوهم» أي بزوال الحاجز بين ما يوجد في الذهن وما يوجد خارجه، لم أكن أفكر في الكتب التي في المطبعة ولا في المسرحية وتجاربها، ولا فيما عدا ذلك من شئون الحياة، بل كان ذهني مرآة تنعكس فيها رؤى مخلخلة، يصفها الناس بحالة «انعدام الوزن»، أما أصدق وصف يمكن إطلاقه عليها فهو التأرجح بين الحقيقة المادية والحقيقة الروحية. وعندما عدت إلى الفندق كان الجميع قد خلدوا للراحة أو للنوم، فجلست وحدي في قاعة الاستقبال وأغفيت ساعة أو بعض ساعة، ثم أفقت على أصوات القادمين وطلبات القهوة.
عندما أفقت عادت الحياة إلى طبيعتها في نظري، ولكن البهو كان يبدو مثل الديكور المسرحي أو ديكور الأفلام السينمائية. وذكرت مناقشة كنت قرأتها بين الدكتور صمويل جونسون، الناقد الإنجليزي الأشهر في القرن الثامن عشر، وبين أحد دعاة الفلسفة «المثالية»؛ أي الفلسفة التي تثير الشكوك في الحقيقة المادية للواقع المرئي والمحسوس؛ ومن ثم في طبيعة الوجود، إذ توجه إليه هذا الداعية بسؤال ظنه سوف يحسم القضية إذ قال له: كيف تثبت أنك موجود أو أن هناك وجودا؟ فما كان من جونسون إلا أن نهض فجأة وضرب حجرا بقدمه ضربة أحدثت دويا هائلا وهو يقول: «أثبته هكذا!» عقلانية القرن الثامن عشر أنقذت الموقف! ولكن كيف أثبت أن الرؤى التي حفل بها ذهني ذلك الصباح غير حقيقية؟ وكيف أثبت أنها أقل «وجودا» من الوجود المادي؟ لقد درسنا آراء الفلاسفة الإنجليز الذين ناقشوا عمل الحواس ومدى خداع ذهن الإنسان في إدراك الواقع، وكنت شخصيا مولعا بهم بسبب ميولهم التجريبية والمنطقية (أو الإمبيريقية أي التي تستند إلى تجارب الحواس)، ولكن منظر البهو في الفندق لم يكن يؤكد أبدا أن ما أراه «حقيقي»، وانتابني نازع يشبه نازع جونسون ولكنني أحجمت، فنهضت وعدت إلى الغرفة واغتسلت وعندما هبطت من جديد كان الجميع قد استيقظوا.
كانت زياراتنا لمواقع الآثار المصرية القديمة في الأقصر زيارات علمية حيث تولى الدكتور عبد المنعم أبو بكر شرح كل شيء بلغة عربية فصحى ناصعة، ولكنها كانت في باطنها جهدا متواصلا، وعلى أساس نفسي وطيد، للبحث عن الجذور، وللتساؤل الدائب عن أصول الأفكار التي تعيش في وجداننا منذ الطفولة ونسلم بصحتها دون مناقشة، وكانت كل زيارة تتحول في ذهني إلى «مغامرة شعورية» في تلك البقعة غير الثابتة بين الواقع والحلم، أو بين العالم المادي والوهم. هؤلاء أجدادي - بشر مثلي سبقونا جميعا إلى التفكير في الوجود وفي معنى الحياة وفي حقيقة الروح والخلود، وعز على بعضهم التسليم بفكرة الفناء المادي؛ لأن «وجودا داخليا» من لون ما يؤكد لهم أن الجسم عرض لا جوهر! وما هذه الرموز من حولنا إلا الدلائل القاطعة على صدق رؤاهم! لقد نجح الفن المصري القديم في «إمساك» هذه الرؤى غير المادية وتثبيتها وتجسيدها بنقشها على الحجر، ونحتها في الصخر، بحيث تحولت الأفكار المجردة والمشاعر التي من المحال تحديد شكل لها إلى رموز مرئية ومحسوسة، وبحيث اتخذت أشكالا محددة ذات قوة على الإحالة إلى العالم غير المرئي! لقد أصبحت دنيا «الشهادة»؛ أي دنيا المشهود والحاضر مدخلا إلى دنيا «الغيب» عن طريق الفن! لقد نجح الحجر في ذلك؛ فهل تنجح اللغة؟
وعندما عبرنا نهر النيل إلى البر الغربي لزيارة وادي الملوك ووادي الملكات التفت إلي الدكتور أبو بكر وقال فجأة: «إنت سارح في إيه يا عناني؟ بتفكر في مسرحية جديدة؟» ولم يعلق أحد، ولم تكن لدي إجابة على السؤال. كنت أسير مع الجميع شارد اللب، ولم أكن أتوقف أبدا حتى حين يقف الركب، بل كنت أدور في حلقات حتى أعود إليهم، وطيلة زيارة البر الغربي كان الإحساس يغمرني بموضوع الرحلة وموضوع العبور، فالمراكبي (الفلايكي أو قائد القارب) رجل طاعن في السن، ملامحه تشبه إخناتون، تماما مثل طالب لدينا اسمه عزت عدلي دميان، (الذي حصل فيما بعد على الدكتوراه) ولا يبدو أن السنين التي عاشها تنتمي إلى سنواتنا الأرضية. إنه يشبه «النوتي» (المراكبي في بلدي رشيد) الذي لا ينفصل عن المركب الشراعي الذي يسيره، ويبدو في صمته وشروده جزءا من عالم نهر النيل، أو قل جزءا من الزمن نفسه.
Page inconnue