Oasis de la Vie
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genres
كان أسلوب تفكيره جديدا ينبئ عن حدة ذهن ثاقبة، ولن أنسى تحليله لرواية زينب لهيكل؛ إذ إنه لم يركز (مثلما فعل الآخرون) على السمات الفنية للقصة ومدى حفولها بمشاهد الوصف للريف والطبيعة، ولم ينتقد حبكتها من حيث إنها «رواية» بالمعنى الغربي الحديث، بل بدأ من حيث أراد هيكل للقارئ أن يبدأ - من تعريف الكاتب بأنه «مصري فلاح» (لا فلاح مصري) - وبأن الرواية هي «أخلاق ومناظر ريفية»! من الخطأ إذن، ولا أقول من الظلم، أن تعامل الرواية باعتبارها قصة طويلة تتوافر فيها أركان القصة التي وضعها الغرب، أو أن تقاس بمقاييس الكتاب الغربيين! وقال دون اكتراث: «أليس هذا ما يقوله ت. س. إليوت؟ وأعني به محاسبة الفنان على ما يقصد إليه لا على ما نتوقعه منه؟» ودهش الطلبة ودهشت لمدى إحاطته بالمذاهب النقدية المعاصرة، وعلمت فيما بعد أنه كتب كتابا بعنوان «الأسس الفنية للنقد الأدبي»، نال عنه فيما بعد جائزة الدولة التشجيعية (في عام 1961م) وكنت أتمنى أن يطبق بعض المذاهب الأدبية الحديثة في دراساته للسير الشعبية (التي تخصص فيها)، ولكن تلاميذه فعلوا ذلك وأبدعوا؛ ابتداء من الدكتور أحمد مرسي، وانتهاء بالدكتور خطري.
وكان منهج الشعر الإنجليزي ينقسم إلى قسمين؛ قسم يدرسه رشاد رشدي (المتخصص في الرواية أو في أدب الرحلات) وكان ينحصر في شعر ت. س. إليوت، والقسم الآخر يدرسه مرسي سعد الدين، وكان ينحصر أو يكاد في شعر وليم بطلر ييتس! أما رشدي فقد أحالنا إلى المراجع ننهل منها كيف شئنا، ولم يزد في محاضراته عما ذكرته «إليزابيث درو» في كتابها عن إليوت، واقتصر في محاضراته على قراءة قصيدة الأرض الخراب والتعليق عليها، مركزا على فنون الصنعة فيها من حيث بناؤها السيمفوني وتعدد أصواتها، وكان يقول دائما: مهمتي ليست تقديم المعلومات التي تستطيعون الحصول عليها في المكتبة، بل قراءة النص معكم وتدريبكم على القراءة! وأشهد أن إلقاءه الشعر كان جميلا، وكانت إيقاعاته ونبراته البريطانية ذات أصالة وعراقة، وكثيرا ما كنت أنسى المعنى في ثنايا الإيقاع وتضاعيف النظم! وفي اليوم التالي ذهبت إلى المكتبة واستعرت كتابا عن إليوت أظنه من تأليف «ماكسويل» يحلل فيه القصائد كلا على حدة، فبهرت بعبقرية قراءة النص التي ذكرتني بعبد القاهر الجرجاني، وبعد أن انتهيت منه في جلسة واحدة، طفقت أنسخ في كشكول خاص أهم ما جاء به من فقرات، ثم أعدته إلى المكتبة، واستعرت كتابا آخر، وعدت إلى المنزل لكنني لم أفتحه، بل ظللت أقرأ الشعر المرة بعد المرة، وكان المطلع يذكرني بآية كريمة:
ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ! ما معنى الخشوع؟ أليس ذلك أبلغ من وصف الأرض بالموت؟ وذكرت الآية الأخرى:
وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
هامدة؟ واستبد بي ذلك الخاطر: ألا يحتمل أن تكون الأرض الخراب هي أرض الموات؟ وذكرت الآية الأخرى
له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ! وهل الثرى هو التراب؟ إذا كان كذلك [
ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ،
أئذا متنا وكنا ترابا ... ] وهل الثرى حقا هو التراب الرطب؟ إذا صح المعنى الأخير فلا بد أن يكون ما تحت الثرى هو الجذور والدرنات والديدان التي يتحدث عنها إليوت! لا يدور الحديث عن «موت» بالمعنى المفهوم بل عن حالة حياة كامنة فيما يبدو ميتا! وذلك هو معنى إليوت البعيد، الذي يشير به إلى خلود الروح، وهو يقدم في القصيدة صورا للموات النفسي في مظاهر الحياة العصرية حتى يؤكد التناقض بين الحياة في الموت، وهو المعنى الديني العميق، وبين الموت في الحياة عند من لا يعرفون حياة الروح!
وحاولت أن أترجم المطلع نظما كعادتي في ترجمة الشعر، فكتبت:
أبريل ذا أقسى شهور العام!
Page inconnue