Oasis de la Vie
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genres
كان ذلك هو الحلم إذن! وألح على خاطري بيت آخر من «المقدمة» «كانوا الحلم وكنت الحالم!» وعندما تذكرت تلك اللحظات وأنا أقرأ شعر الشاعر كله فيما بعد، أدركت مدى صدق نظرته ومدى قدرته على التعبير عما يدف بين جوانح كل طامح في حياة الشعر والشعراء!
وعندما عدنا إلى القاهرة برزت هوة جديدة بيني وبين أقراني؛ إذ كنت لا أنظر باحترام كبير للعاطلين من الموهبة الذين يدرسون الأدب، وكنت أو بدأت أتصور أن تقتصر دراسة الأدب على أصحاب المواهب اللغوية أو الفنية مهما يكن حظهم ضئيلا من الموهبة، ولم أكن أدرك ذلك إدراكا كاملا حتى نبهني إليه صديقي رضا فرحات (السفير حاليا) حين أشرت إلى أحد الزملاء قائلا إنه «غلبان»، وكان ذلك الزميل قد أخطأ في حقنا وتقول علينا بغير الصدق، ومع ذلك وجدت نفسي أغفر له صادقا، وإن كان «رضا» يريد المواجهة والشجار والانتقام! ولما سمع مني كلمة «غلبان» قال لي ماذا تقصد؟ إنه شرير سيئ القصد فاسد الطوية، ولكن هيهات! لم يكن ما فعل أو ما يمكن أن يفعله جديرا بالتصدي له؛ لأنه كان بلا مواهب، ولم يكن في نظري بالجدير بالمواجهة! وقال «رضا»: «أنت عايز كل الناس يبقوا شعراء؟» وضحكت وأنكرت وأنهيت الموضوع وأنا أذكر قول شوقي:
نازعتني ثوبي العصي وقالت
أنتم الناس أيها الشعراء!
وفي أول درس من دروس الترجمة، وجدت اسم المدرس الدكتور «يوسف خليف»، وعلى الفور قررت أن أقدم له تحية قبل دخوله القاعة فكتبت على السبورة:
في الضفاف التي يهيم بها السحر وينهل في حماها الضياء،
وتضوع الأزهار في جوها الرحب وحيث الحياء والأحياء،
خطر النيل في مواكبه الخضر عليه من الجلال رداء.
وهي من مطلع القصيدة التي كتبها يوسف خليف قبل سنوات عديدة، وفازت بالمركز الأول في المسابقة التي نظمها صاحب مجلة «الكتاب» (عادل الغضبان) وكان من بين المحكمين عباس محمود العقاد! وسر يوسف خليف لوجود من يحفظ شعره العربي في قسم اللغة الإنجليزية، ولكنه صحح البيت الأول فقال «إنني لم أقل «يهيم» بل قلت «يموج»!» ولما أبديت إصرارا على الخطأ قال لي رحمه الله والبسمة لا تفارق شفتيه: وهذا أكبر دليل على خيانة الذاكرة! بل وأكبر دليل على ضرورة توخي الحذر في نقل روايات الرواة! فالشعر العربي في القرنين الأول والثاني للهجرة كان يعتمد على الرواة (موضوع رسالته للدكتوراه) والشعراء الصعاليك، الذين تخصص في شعرهم، لم يكونوا يكتبون ما يؤلفون، وكان العبء كبيرا على كاهل الرواة! وبدأ العام الدراسي بداية ساخنة!
وعندما بدأت دروس اللغة العربية، رأيت الدكتور عبد الحميد يونس لأول مرة، وكان كفيفا يسير مع سكرتيره، وبدأ بذكر الروايات المقررة لهيكل وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم - ثم أردف قائلا: ومن شئتم أن تقرءوا لهم! وكان ذلك بمثابة كسر للنمط الذي اعتاده الطلبة، فسأله أحدهم: «من خارج المقرر؟» فقال بثقة: «لا يوجد ما هو داخل المقرر وخارجه؛ الرواية الحديثة هي موضوع الدرس.» ومن ثم بدأ يتكلم عن السيرة الذاتية، وما زلت أذكر أولى عباراته: «شغل الإنسان بامتداده في الزمان والمكان ...» وكأنما كان يتكلم عن وردزورث لا عن طه حسين، ثم انطلق يتحدث عن الإحساس بالعالم لدى المكفوف، وعن استحالة الصمت المطلق، فجيشان الدم له صوت يأنسه الصامت في صمت الدنيا، مثلما يرى في مخيلته ما لا يتصوره المبصر! وسألته عن «الصوت الداخلي» فأجاب إن كنت تقصد صوتك الذي يحادثك فلا استغراب ولا دهشة، أما إذا كنت تقصد صوتا آخر يحادثك ولا تعرفه فذلك صوت المراهقة الذي يعلن الوجود والتفرد ويؤكده، وهو صوت يزول عندما يتكيف الإنسان آخر الأمر مع المجتمع ويقبل حياته المكبلة بالقيود، ويطوع نفسه (وكان رحمه الله مغرما بكلمة «تطويع») أي يغير من أفكاره وسلوكه ومشاعره حتى يتوافق مع من حوله! وسألته: «وعندها يتوقف الصوت؟» وضحك وأطرق ثم قال: «وهل أنت واثق أنه الصوت الآخر؟»
Page inconnue