Oasis de la Vie
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genres
وليس معنى هذا أنني أعتبر قصة «زوجات الآخرين» عملا فنيا كاملا، ولا أقول عظيما، ولكن معنى ما أقول هو أن التطرف في تطبيق النظريات «العضوية» قد يصل بالناقد إلى درجة «الآلية» في النقد؛ ولهذا أحسست آنذاك بخيبة أمل أحبطت محاولاتي التالية لكتابة القصة القصيرة. ولكن التجربة كانت مفيدة، وأبرز فوائدها مناقشة فن القصة القصيرة باللغة العربية في قسم اللغة الإنجليزية! كانت الندوات فرصة سانحة لمن يريد التجربة واكتساب الخبرة، والاحتكاك بالنظريات الأدبية الجديدة ودراسة مدى جدواها عند تطبيقها عمليا.
وبعد الندوة - التي كان رشدي قد انتصر فيها بوضوح على كل من خالفه وخرج سعيدا ضاحكا - ذهبت إليه أحاول «تبرير» ما فعلته في القصة، فنحى كلامي جانبا وقال لي مباشرة: «أنت بتجيب تقدير إيه؟» قلت له: «جيد جدا» .. فقال لي: «حافظ على التقدير في سنة رابعة وانا آخدك.» وخرجت من غرفته مسرعا حتى لا نخوض في التفاصيل، وحتى أحتفظ بالوعد صافيا دون شروط، وغدوت من فوري إلى المنزل فقابلت «علي أبو العيد» عند المدخل، وهو زميل في كلية الزراعة يقيم في المنزل نفسه بالطابق الأرضي، فوجدني مهتاجا فدعاني للدخول، وبمجرد أن أغلق الباب أفضيت إليه بالسر! أحسست أنني أكاد أرقص طربا وقد تراءت لي صور المستقبل؛ إذ ربما سافرت في بعثة إلى الخارج للتخصص في اللغة الإنجليزية، وربما كتب لي أن أكتب عما كتب عنه توفيق الحكيم وهيكل وطه حسين ثم لويس عوض! ولم يناقشني «علي» في التفاصيل، ولكننا استمعنا إلى أسطوانة جديدة تمكن من الحصول عليها، وكانت لأغنية قديمة لعبد الوهاب هي «كلنا نحب القمر!»
وعندما عدت إلى رشيد في صيف ذلك العام كان كل شيء يبدو مختلفا.
7
كانت الهوة بيني وبين أيام الطفولة تبدو شاسعة؛ فالمنزل القديم امتدت إليه يد الهدم، ولم أجد لدي الجرأة لزيارته، ولا للمرور في الشارع الذي يقع فيه، وكنا استأجرنا شقة في منزل حديث ضخم يملكه الحاج خميس يونس بالقرب من مدرستي القديمة في «بحري»، وكنت أحيانا أجد من زملاء الطفولة من أتنزه معه، وأحيانا (وهو الغالب) ما كنت أسير في الحقول وحدي أو على شاطئ النيل حتى آخر «العمار» - أي حتى يبدأ الطريق المقفر المؤدي إلى «البوغاز»؛ أي إلى الفنار القديم حيث مصب النيل. وأذكر أنني كنت ذات يوم وسط الحقول قبيل الغروب، أسير فوق «الراتب»، وهو قناة ضيقة لا يزيد عرضها عن نصف متر، مبنية من الطوب، وكل جانب مرتفع نحو ثلاثين سنتيمترا، ومكسوة بطبقة من الأسمنت تمنع تسرب الماء، وتحمل المياه من «الساقية» (الناعورة) إلى شتى حقول الذرة والسمسم، وهي أهم المحاصيل التي يجنيها الفلاحون في أوائل الخريف ، كنت أسير وحدي أفكر فيما عساي أن أفعل في العام الدراسي المقبل، حين ترددت في خاطري أبيات من قصيدة «المقدمة» للشاعر وردزورث، التي يقص فيها قصة حياته منذ الطفولة، وكانت الأبيات تذكر كيف قرر أن يصبح شاعرا، عندما شهد مطلع الشمس وهو بعد طالب في جامعة كيمبريدج - وتوقفت عند الأبيات التالية:
أفضيت للحقول في الخلاء بالنبوءة،
فجاءت القوافي طائعات دون دعوة،
وخلت أن روحي ترتدي مسوح راهب،
قد اختلى حتى يصلي في خشوع!
وعجبت كيف رفع هذا الشاعر منزلة الشعر إلى منزلة القداسة، فكان يشير إلى ذلك بتعبير «حياة القداسة في الموسيقى والشعر»، وكيف وجد في الطبيعة آيات الخلق وروح الكون الحي، واكتفى بذلك كله عن الغزل والتشبيب وسائر أغراض الشعر، فمطلع «المقدمة» يحدد «المقام الموسيقي» لها؛ إذ يقول في الديباجة:
Page inconnue