فأغضت نظرها وابتسمت، ثم قالت: هذه مداعبة في الحديث يا صاح.
فقلت لها: أقسم بالله العلي العظيم إني مغرق نفسي في البحر الليلة القادمة إذا كنت أنت ترمين بنفسك فيه.
فقالت: تظلم نفسك بلا سبب. لا أعرفك ولا تعرفني. فلا شأن لك بي. - لست أدعي أن لي بك شأنا يا سيدتي. إن تعرضت لك بأمر كان لك علي حق المجني عليه على الجاني. - إذن لماذا تنتحر إذا أنا انتحرت؟ - ألست حرا يا سيدتي بحياتي؟
فسكتت برهة. ثم قالت: هل كانت حبيبتك تعلم أنك تنتحر بسببها؟ - نعم. - عجبا. ولماذا لم تحبك؟ - لسبب ليس مني ... دعينا من ذكر الأسباب. أحمد الله أني شفيت من حبها. •••
انقضى الليل وجاء الصباح، وضيفتي انتعشت تماما واهتمت بطعامها اللطيف، وبذلت جهدي في تلطيف ثورتها النفسية ما استطعت إذ كان قلقها عظيما واضطرابها شديدا. حاولت أن أتحقق ما بها فلم أستطع أن أفهم شيئا. تحايلت عليها حتى أعلم من هي فلم تبح بشيء عن شخصيتها. وإنما ظواهرها تدل على أنها ذات نبل وأدب وعلم أيضا. لم يوجد معها شيء يدل على شخصيتها أو منزلتها سوى خاتم في إصبعها ثمين وسوارين نفيسين. ملابسها اعتيادية الزي وإنما هي ثمينة المادة. حيرني أمرها.
فقال الثاني: كم عمرها بالتقريب؟ - شابة وأرجح أنها عذراء. وقد قضت كل النهار وهي تتضجر لطوله. وكانت تسخط كلما لاح في بالها أنها لم تنته من مهمتها أمس. وأخيرا قلت: لماذا تخسرين حياتك يا سيدتي مجانا؟ ومهما كان من تبذلين حياتك بأجله عظيما فحياتك أثمن. ومهما كان السبب الذي حملك على الانتحار قويا عظيما فيمكنك أن تتحايديه.
فحاولت الابتسام في إبان غمها وقالت: عجبا! لماذا لم تقل لنفسك هذا القول ؟ - أقول لك الحق، لقد كنت على ضلال وقد عدت إلى رشدي الآن. لقد كان الحب قبلا يزين لي أن حياتي قد أصبحت عبئا على نفسي وأني ما دمت حيا فأنا معذب بسبب هذا الحب. أما الآن فصرت أرى أن الحب مهما كان عذابا فهو عذب ومهما كان شقاء فهو سعادة. فلذلك صرت أود أن أعيش لأشقى بالحب.
فتململت وقالت: إن مسألتي تختلف عن مسألتك يا سيدي. إن حياتي أصبحت مرة لخلوها من الحب. - غيري مجرى حياتك وحوليها إلى مجرى الحب وعيشي سعيدة، إذ لا سعادة إلا بالحب.
فانتفضت وجعلت تنتحب وتقول: يستحيل. يستحيل! هل تظنني أعود إلى قومي وناسي وأعيش سعيدة بعد هذه الغيبة الوحيدة التي غبتها عنهم في كل حياتي. آه، لا أدري ماذا هم فاعلون الآن؟ لا ريب أنهم أقاموا الدنيا وأقعدوها بالبحث عني آه، متي ينتهي هذا النهار وأفارق هذه الحياة فلا أعود أشعر ولا أعلم بما يكون بعدي؟
وهنا شعرت أني قد ملكت ناصية الأمل، فقلت لها: لكل كربة فرج، ولكل أزمة حل يا سيدتي. وأزمتك سهلة الحل جدا.
Page inconnue