فسخطت بي قائلة: أين هم الذين يعرفونني ويعرفون أني أعرفك؟ لا أعرف شيئا من هذه الأسماء التي تذكرها والمحلات التي تشير إليها في رسائلك هذه. لعلك تعني امرأة أخرى غيري!
فتململت وقلت لها: لا بأس يا سيدتي، إذا شئت فنرجئ الحساب والعقاب إلى حين آخر. وقصدت بذلك أن يكون اجتماعنا وحدنا وليس معنا غريب. فقالت: بل الآن أود أن أصفي هذا الحساب الثقيل. فإما أنك يا هذا غلطان تعني امرأة أخرى غيري تشبهني، أو أنك مجنون. وأنا غير مسئولة عن عواقب جنونك أو أخطائك. فإن كنت تحرك أقل ساكن بعد الآن فثق أني أقدم كل هذه الرسائل التي أرسلتها لي إلى المدعي العمومي وأقاضيك. إني أحفظها لهذا القصد. تفضل يا سمو الأمير اقرأ رسائل هذا الأحمق واحكم!
وناولت الرسائل كلها إلى ذلك الضيف لكي يقرأها. فذبت خجلا وكدت أغالط نفسي.
فقال الثاني: لا ريب أنك غلطان؛ لأن الناس يتشابهون كثيرا. فلطالما حدثت مثل هذه الأغلاط بسبب المشابهة. - مستحيل أفندم، مستحيل. غالطت نفسي فلم تقبل المغالطة: المرأة التي عشت معها أكثر من عامين وكانت كل دقيقة من دقائق ملامحها، وكل نبرة من نبرات صوتها، وكل حركة من حركاتها مطبوعة في أعماق ذاكرتي، يستحيل أن أضل عنها. هي هي بعينها، فما أنا سكران ولا مجنون. وإنما هي رامت أن تنكر شخصيتها السابقة بتاتا.
فقال الثاني: يلوح لي أن قلبها تغير عليك. - نعم نعم. وثقت حينئذ أنها لم تعد تحبني ذلك الحب. - لعل نسق المعيشة الجديدة الذي حصلت عليه كان السبب. - نعم، إني لا أستطيع أن أجعلها في مثل ذلك البذخ ولا في مثل ربعه. ولكنها لما فارقتني لم تكن تحلم بمثل هذا البذخ. ولا أعتقد أن الحب تؤثر عليه ...
فقاطعه الثاني قائلا: آ ... يا ... يظهر يا صاحبي أنك قليل الخبرة أو جديد في عشرة النساء. إن البذخ والترف عند المرأة فوق الحب، بل هما غذاء الحب لها. - لا أدري يا أخي لا أدري. آه! لا تقدر أن تتصور ماذا كان تأثير هذا الجفاء الهائل علي. شعرت أنها لم تعد تحبني، وأن الاستعطاف لا يلين قلبها. فصرت أتمنى علاجا ناجعا لشفائي من حبي. فماذا تفعل لو كنت مكاني؟
فتمايل الثاني في مجلسه قليلا، ثم قال: أنا مكانك أبغضها إلى حد الحقد وأنتقم منها شر نقمة. أقل ما أفعله أني أفرغ رصاصة في صدرها.
فهز الأول رأسه وقال: إذن أنت لست من طائفة العشاق، بل من طائفة محبي النفس القساة. لقد لاح لتلك المرأة أني قد أنتقم منها فأغدر بها فأقامت حراسا لها. فكتبت لها كتابا يلين الحجر لو يحب، وقلت لها فيه: إني أحبك إلى حد أن أضحي بنفسي لأجلك، فإذا علمت يوما أني انتحرت فثقي أني لم أجد علاجا لمرض حبي غير الانتحار.
فقال الثاني: حقا إن الناس أصناف في الحب. أنا لا أستطيع أن أفعل هكذا مهما عظم حبي واشتد وجدي. إذا عظم الأمر أقتلها وأقتل نفسي على الأثر.
فتنهد الثاني ملء صدره، ثم سكت كمن يأخذ هدنة.
Page inconnue