ولما كانت للشاعر جولات شتى في فنون الشعر المتعددة فإني أكتفي بالإشارة إلى أهمها، أو على الأصح إلى ما يحضرني منها؛ فهو قد أعاد لنا الروح الفلسفي في الشعر، وبرهن - أيما برهان - على أن الشعر العالي يعتز بذلك، وأن الفلسفة لا تضر الشعر بل تخدمه وتغذيه، وليس الذنب عائدا إليها إذا أدخلها بعض الأغرار في الشعر فأفسده بها، فإنما الذنب ذنب من يتناولها بغير بصيرة، ومن يخرجها به تقليدا، لا عن شعور وإيمان صادق، وقد رأينا أبا العلاء والمتنبي مثلا يمزجان الشعر بالفلسفة؛ فيبلغان ذروة الإجادة، ويضيء شعرهما بأسمى معاني الفلسفة. وشواهد «أبي شادي» في هذا الباب تكاد لا تحصى، وهو يرى أن النظرة الشعرية تستطيع أن تستوعب الفلسفة والعلم، بل وجديرة بأن تستوعب كل شيء، والعبرة باندماج الشاعر في موضوعه بدل أن يكون صانعا وصافا غريبا عنه، ولعل هذا هو السر في إكباب أبي شادي على عمله العلمي بشغف كأنما هو ينظم شعرا جميلا، وله في «المكرسكوب» - المجهر - قصيدة فلسفية وجدانية فريدة في بابها.
الينبوع
وبينما يروج غير واحد من أعلام أدبائنا للدعاية ضد المرأة، على اعتبار أنها نوع من الشر الضروري؛ يعدها أبو شادي ينبوع السعادة، ويضعها في أرفع منزلة لم تنلها من شاعر عربي من قبل، بل ولا من أحد من معاصريه، وتدور حولها - على الحقيقة - عبرته «الآلهة» في رمزي الجمال والحب، وبدافع سحرها نظم قصيدته البديعة «الينبوع» مستوحيا - كما شاءت عواطفه الحارة وخياله الشعري - الصورة الفنية
8
التي رسمها النقاش الشهير إنجرز “ingrss” .
وقد تنوقلت هذه القصيدة وكثر الاقتباس منها؛ لجمال موسيقيتها ومعانيها، ولم يفت شوقي بك روحها وأخص معانيها حين نظم قصيدته اللامية «بمصرع كليوباترا». ولا جدال في أن نظرة أبي شادي إلى المرأة هي نظرة أفلاطونية روحية بريئة، ويتبع ذلك شعره الغزلي - وكله عفيف - ونظمه الغنائي الكثير، ولن تجد في شعره الغزلي - كيفما كان الموقف أو الموضوع أو المناسبة - شيئا ينبو عنه الذوق المهذب، أو تستحي منه الفتاة، وكما أنه بطبيعته مبتكر في المعنى والخيال والموضوع، فهو كذلك شديد النزوع إلى الابتكار في المبنى؛ مثال ذلك: قصيدته الطريفة «المثال»
9
وهي تحفة من حسنات الشعر العصري الذي ما نزال نغفل دراسته في معاهدنا بكل أسف - ولا أستثني من ذلك الجامعة المصرية - منقطعين لعبادة القدماء والتغني بآثارهم، وفي هذه القصيدة ما يروعك، ويفتنك من الوصف الدقيق المشوق والنغم الشجي، في حين أن كل عقباه قبلة أفلاطونية و«شعر يطيب كوقع المثاني»!!
ولا عجب في ذلك حينما تدرك نزعة «الإيديالزم» المتسلطة عليه دائما، الموحية إليه بأن يقول:
مذهبي في جلالة الحسن أن لا
Page inconnue