ومهما يكن من أمر، فقد انقطع «مندل» لدراسة مسائل الوراثة، وتفهم الأسباب والعلل التي نشأ منها تخالف الأفراد وتغايرهم! ولكن وميضا من الوحي، أو قبسا من الإلهام؛ أنار له الطريق التي يسلكها للوصول إلى ذلك التباين العظيم في توريث أخلاق الناس وصفاتهم ومواهبهم. (2) كيف استنبط مندل طريقته؟
أما الطريقة التي سلكها «مندل» في استنباط قانونه، فهي سهلة واضحة يسهل منها تفهم الوسائل التي قادته إلى تلك النتائج الباهرة، فقد اختار بعض نباتات «البسلة» - بادئ ذي بدء - ورأى أن بعض عيدانها طويل والآخر قصير، وأن لبعضها أوراقا خشنة، على حين رأى أوراق البعض الآخر ناعمة، وشاهد أوراقا صفراء وأخرى خضراء، ثم أكب على درسها وفحصها إكبابا.
وبدأ يغرس بذور بعض عيدانها الطويلة وعيدانها القصيرة، وكان يبلغ ارتفاع الأولى عدة أقدام، ولا يزيد ارتفاع الثانية عن بضع بوصات، فلما نمت تلك العيدان وتم نماؤها؛ لقح بذور الأولى ببذور الثانية، مزاوجا بين كل بذرة من بذور العيدان الطويلة، وأخرى من بذور العيدان القصيرة، ثم أخذ تلك الحبوب الجديدة فبذرها في العام التالي، فكانت النتيجة على غير ما يتوقعها القارئ، ولم يخرج النبات مزيجا من العيدان الطويلة والقصيرة، بل كانت سوقه كلها طويلة، فلما غرس حبوبها - بعد ذلك - غرسا عاديا، وصل إلى نتيجة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها؛ فقد ظهر الغرس الجديد مزيجا من العيدان الطويلة والقصيرة، ولكن بنسبة مطردة؛ هي نسبة ثلاثة عيدان طويلة إلى واحد قصير. (3) نتيجة هذه التجاريب
ومن ذلك استخلص «مندل» أن خصائص القصر قد انعدمت بالازدواج في النتاج الأول، وأن الطول - لهذا السبب - يطغى على القصر، وأن للأول صفات مؤثرة، كما أن للثاني صفات متأثرة، فسمى الأولى صفات «قاهرة» والثانية صفات «مقهورة»، أو إن شئت فسمي أولاها «مخضعة» والثانية «خاضعة». •••
ثم استمر يزرعها كرة بعد أخرى، فماذا رأى؟ رأى أن بذور العيدان القصيرة لا تنتج إلا عيدانا قصيرة فقط، وأن ذرياتها لا تكون إلا قصيرة دائما، أو بعبارة أخرى: أن ذات الصفات الخاضعة تظل ذرياتها على ما هي عليه، وأن واحدا من كل ثلاثة عيدان طويلة يحتفظ في ذريته بميزة الطول.
شكل هندسي يتبين منه القارئ قوانين الوراثة التي تكشفها «مندل» في تجاريبه التي أجراها بعيدان «البسلة» بعد أن زاوج بين طويلها وقصيرها، ومن هذا الشكل يتبين القارئ نتيجة الازدواج واضحة جلية.
بينما يبقى الاثنان الآخران محتفظين بالنسبة السابقة في الذريات المتعاقبة بنسبة ثلاثة عيدان طويلة إلى عود قصير.
فلما طبق هذا القانون على نباتات أخرى وجده صحيحا، وظل يزيد في أشباه هذه التجاريب بطرق شتى، حتى توصل إلى نظريته في الوراثة. (4) أهمية قانون مندل
ولقانون «مندل» خطر عظيم؛ إذ هو أول من كشف للناس إمكان الانتفاع بميزات بعض الأنواع - من نبات وحيوان - ونقلها إلى غيرها، والتوصل بذلك إلى تحسين النوع، ولهذا خطره وأهميته الحيوية في تربية الماشية والجياد وغيرها، ومساعدة الفلاح على تحسين إنتاجه الزراعي أيضا.
على أن نفعه لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى تمكين الناس من استيعاب طبيعة الأشياء بوضوح وجلاء، وتفهم دقائق هذه المادة الضئيلة، ونظم تركيبها وتأليفها، وسر مميزاتها، وطريقة توريثها وانتقالها إلى ذراريها. •••
Page inconnue