شكر وتقدير
1 - لغز مختف في وضح النهار
2 - الأحكام الحدسية والأوهام
3 - هل الوعي حر؟
4 - رفيق في الرحلة
5 - من نحن؟
6 - هل الوعي في كل مكان؟
7 - ما وراء شمولية الوعي
8 - الوعي والزمن
ملاحظات
شكر وتقدير
1 - لغز مختف في وضح النهار
2 - الأحكام الحدسية والأوهام
3 - هل الوعي حر؟
4 - رفيق في الرحلة
5 - من نحن؟
6 - هل الوعي في كل مكان؟
7 - ما وراء شمولية الوعي
8 - الوعي والزمن
ملاحظات
الوعي
الوعي
دليل موجز للغز الجوهري للعقل
تأليف
آناكا هاريس
ترجمة
أحمد هنداوي
إلى سام، وإيما، وفيوليت
شكر وتقدير
هذا الكتاب هو خلاصة سنوات طويلة من البحث والحوارات المستفيضة مع خبراء في مجال دراسات الوعي. وأشعر بالامتنان للعلماء والفلاسفة الذين اقتطعوا من جداول أعمالهم المزدحمة لمشاركة أفكارهم (ورؤاهم الجدلية باستفاضة!) مع هاوية مثلي؛ كان ممتعا حقا مناقشة موضوع الوعي مع كل هؤلاء: دونالد هوفمان، أنيل سيث، كريستوف كوخ، ريبيكا جولدشتاين، دين بونومانو، فيل جوف، آدم فرانك، توماس ميتسينجر.
مر هذا المشروع بمراحل تطور عديدة؛ إذ كان في البداية مجرد اهتمام شغل تفكيري ثم صار مقالة طويلة ثم كتابا قصيرا، وخلال مراحل تطوره هذه، لعب الكثير من الأصدقاء والزملاء دورا محوريا. أشعر بالامتنان لكرم العلماء والفلاسفة والرسامين الذين قرءوا هذا الكتاب، وأبدوا ملاحظاتهم بشأن مسوداته الأولى، وشاركوني تساؤلاتهم النهمة ورؤاهم الثاقبة: إيزابيل بويميكي، شون كارول، ديفيد جيليز، جوزيف جولدشتاين، دانييل جولمان، آدم جرانت، سوزان كايسر جرينلاند، دان هاريس، ناتاليا هولت، سوزان هادسون، ماركو ياكوبوني، ديفيد جانيت، آيمي لينكلوس، لين ماكجيلكرايست، توماس ناجل، روب ريد، كاسي رنتس، موراي شاناهان، جيسون سيلفا، سوزان سمولي، جالين ستراوسون، ماكس تيجمارك، داليت توليدانو، جوليو تونوني، جون تيرتلتاوب، تيم إيربان، دي إيه والاش، ريتشيل ريتش ووترز، ديانا وينستون، كاليكا ياب. وأتوجه بشكر خاص إلى جوردون جولد على انتزاعي من بوتقة الفلسفة الروحية الشاملة لأبدأ أخيرا في تأليف هذا الكتاب.
وأشكر بحرارة آيمي رينيرت، وكيلة كتاب الأطفال الذي ألفته، وهو بعنوان «أتساءل»، على دعمها لهذا المشروع من أول يوم، وأقول إنني أثق دائما بقدراتها وحسها السليم؛ فهذا الكتاب لم يكن ليخرج إلى النور لولا جهودها. كما أشكر وكيلي جون بروكمان، لمغامرته إزاء كتاب عن موضوع مجنون كهذا، وأشكر أيضا ماكس بروكمان لإسهامه في إقناع جون بالإقدام على هذه الخطوة. لقد ظل جون وكاتينكا بروكمان صديقين موثوقين لسنوات طويلة، وربما يكون من المستحيل أن أحصر الطرق التي ألهماني ودعماني بها. فلست ممتنة فحسب لنيلي فرصة العمل معهما ولكن لميزة قضائي وقتا مع شخصين أكن لهما كل إعجاب. أيضا أتوجه بالشكر إلى محررتي ومستشارتي سارا ليبينكوت؛ لقد كان اهتمامها وثقتها مصدر إلهام وتشجيع لي، وأصبح الكتاب يتسم بمزيد من القوة والبلاغة بفضل آرائها القيمة. كما أنني مدينة لمحررتي سارا هاوجن في دار نشر هاربركولينز لحماسها الكبير وصبرها الوافر بينما كنا نسعى لسلوك النهج السليم في تناول موضوع معقد وجدلي كهذا. لقد أظهرت اهتماما كبيرا في حثي على الخروج من «نطاق الأمان»، وبفضل ذلك خرج الكتاب إلى النور بهذا المستوى من القوة.
أما مربيتنا، روزماري، فقد ساعدت في استمرار عجلة الحياة (ومنع أطفالي من اقتحام مكتبي) خلال الساعات التي كنت أمضيها في البحث والكتابة. وقد منحتني ثقتي بها حرية مواصلة العمل الذي أحبه؛ وهي نوع من الرفاهية قلما تمنحه النساء هذه الأيام، وأشعر بالامتنان الشديد إزاءه.
أما بول ويت، فقد قدم بسخاء، حتى في مرضه الشديد، تقييمه الذي انطوى على فيض من الخبرة، لكن المحزن في الأمر أنه لم يستمر برفقتنا طويلا ليقرأ مسودة الكتاب. كان هذا الكتاب سيستفيد كثيرا من موهبته وحكمته. جميعنا نفتقده بشدة، ونفتقد لمسته في هذه الصفحات بكل تأكيد.
كما أعبر عن خالص شكري وامتناني لأختي بريانا وجين، لإظهارهما استعدادا دائما لقراءة مسودة الكتاب، وإعطاء تقييم دائم (بل وتقديم تعديلات حتى اللحظات الأخيرة عبر الرسائل النصية). أشعر بأنني محظوظة للغاية لأنني نلت صداقتهما وأتيحت لي فرصة الاستفادة من مهاراتهما التحريرية الفطرية. وأتوجه بالشكر أيضا لأمي لكونها محررتي الأولى والأكثر إخلاصا ولدعمها الدائم لي.
وأخيرا، وليس آخرا، أشكر سام وإيما وفيوليت الذين منحوني حبا أجده في وعيي أثرى تجربة وأنفس هبة.
الفصل الأول
لغز مختف في وضح النهار
إن خبرتنا بالوعي جوهرية للغاية لكينونتنا، إلى درجة أننا نادرا ما نلاحظ أن شيئا غامضا يحدث من حولنا. إن الوعي هو «الخبرة ذاتها»؛ لذا فمن السهل ألا ننتبه إلى السؤال العميق الذي يحدق في وجوهنا في كل لحظة من حياتنا: لماذا يتحلى أي تجمع للمادة في الكون بالوعي؟ إننا نتجاوز التفكير في هذا اللغز وكأن وجود الوعي أمر بديهي أو نتيجة حتمية لوجود حياة معقدة، ولكن عندما ننظر من كثب، نجد أنه أحد أغرب جوانب الواقع.
إن التفكير في الوعي يمكن أن يثير متعة تماثل تلك التي نستمدها من التأمل في طبيعة الزمان أو في أصل المادة، وهو ما يستثير فضولا عميقا إزاء أنفسنا والعالم من حولنا. أتذكر أنني كنت أنظر إلى السماء حين كنت فتاة صغيرة، وأتذكر إدراكي أن الإحساس المعتاد بأنني على الأرض في الأسفل وأن السماء تعلوني هو تصور غير دقيق على نحو تام. لقد شعرت بالدهشة لحقيقة أنه على الرغم من أنني تعلمت أن الجاذبية تجذبنا نحو الأرض أثناء دورانها حول الشمس - وأنه لا يوجد «أعلى» و«أسفل» في حقيقة الأمر - فإن «شعوري» بأنني في الأسفل على الأرض تحت السماء ظل دون تغيير. ومن أجل تغيير منظوري، كنت أحيانا أرقد خارج المنزل وأمد ذراعي وساقي في محاولة لاستيعاب أكبر قدر ممكن من السماء والأفق. وفي محاولة للتحرر من الشعور المألوف بكوني «هنا بالأسفل» وفوقي القمر والنجوم، كنت أرخي كل عضلات جسدي - مستسلمة للقوة التي تمسكني بإحكام على سطح كوكبنا - وأركز على حقيقة وضعي: إنني أسبح في الكون على سطح هذه الكرة العملاقة؛ معلقة هنا بواسطة الجاذبية ومنطلقة في هذه الرحلة. وحين كنت أستلقي هناك، كنت أشعر حقا أنني أنظر إلى الخارج نحو السماء، ولست أنظر إلى الأعلى. استمددت البهجة التي شعرت بها من إسكات حدس زائف مؤقتا ورؤية حقيقة أعمق: إن الوجود على الأرض لا يفصلنا عن بقية الكون؛ بل في الواقع، لقد كنا دائما، ولا نزال، في الفضاء الخارجي.
يهدف هذا الكتاب إلى زعزعة افتراضاتنا اليومية بشأن العالم الذي نعيش فيه. إن بعض الحقائق مهمة للغاية وغير بديهية على الإطلاق (تتكون المادة في أغلبها من فراغ خاو؛ والأرض هي كرة دوارة واحدة من مليارات الأنظمة الشمسية في مجرتنا؛ والكائنات المجهرية تسبب المرض؛ وهكذا)؛ لذا نحتاج إلى تذكر هذه الحقائق مرارا وتكرارا، إلى أن تتغلغل أخيرا في ثقافتنا وتصبح أساسا لتفكير جديد. ويحتل الغموض الجوهري للوعي - وهو موضوع محير للغاية للفلاسفة والعلماء على حد سواء - مكانة خاصة بين هذه الحقائق التي نحتاج إلى تذكرها. إن هدفي من تأليف هذا الكتاب هو أن أنقل للقارئ البهجة التي تنبع من اكتشاف مدى روعة الوعي وكم هو مدهش.
وقبل أن نطرح أي أسئلة عن الوعي، يجب علينا تحديد ما نتحدث عنه في المقام الأول. يستخدم الناس هذه الكلمة بعدة طرق مختلفة؛ مثل الإشارة إلى حالة اليقظة، أو الشعور بالذات، أو القدرة على التأمل في الذات. ولكن عندما نريد أن نحدد بالضبط الخاصية الغامضة التي تشكل جوهر الوعي، فمن المهم أن نركز على ما يجعله فريدا من نوعه. وأكثر التعريفات جوهرية للوعي هو التعريف الذي قدمه الفيلسوف توماس ناجل في مقالته الشهيرة «ماذا يشبه أن تكون خفاشا؟» وهو المعنى الذي أستخدم به الكلمة في هذا الكتاب بالكامل. وخلاصة الشرح الذي يقدمه لنا ناجل هو على النحو التالي:
يكون الكائن الحي واعيا إذا كان ثمة «شيء يشبه» كونه ذلك الكائن الحي.
1
وبعبارة أخرى، الوعي هو ما نشير إليه عندما نتحدث عن التجربة في أكثر أشكالها جوهرية. هل ثمة «شيء يشبه» كونك أنت في هذه اللحظة؟ من المفترض أن تكون إجابتك هي نعم. هل ثمة «شيء يشبه» كونك ذلك المقعد الذي تجلس عليه؟ ستكون إجابتك (على الأرجح) هي لا، بالقدر نفسه من الحسم. وهذا الاختلاف البسيط - بين ما إذا كانت ثمة تجربة حاضرة أم لا - الذي يمكننا جميعا استخدامه كنقطة مرجعية، هو الذي يشكل ما أعنيه بكلمة «الوعي». هل ثمة «شيء يشبه » كونك حبة رمال، أو بكتيريا، أو شجرة بلوط، أو دودة، أو نملة، أو فأرا، أو كلبا؟ عند نقطة ما على طول هذا الطيف، تكون الإجابة هي نعم، ويكمن اللغز العظيم في معرفة السبب وراء «إضاءة أنوار الوعي» لدى بعض تجمعات المادة في الكون.
ويمكننا حتى أن نتساءل: عند أي نقطة من تطور الإنسان ينبثق الوعي إلى الوجود؟ تخيل الكيسة الأريمية البشرية بعد بضعة أيام فقط من تخصيب البويضة، والتي تتكون من حوالي مائتي خلية فقط. إننا نفترض أنه لا يوجد على الأرجح «شيء يشبه» أن يكون المرء هذه المجموعة المجهرية من الخلايا. لكن بمرور الوقت، تتكاثر هذه الخلايا وتتحول ببطء لتصبح طفلا بشريا له دماغ بشري، قادر على اكتشاف التغيرات في الإضاءة والتعرف على صوت أمه، حتى وهو لا يزال في الرحم. وعلى عكس جهاز الكمبيوتر، الذي يمكنه أيضا اكتشاف الضوء والتعرف على الأصوات، فإن هذه المعالجة تكون مصحوبة بخبرة أو شعور بالضوء والصوت. وفي أي مرحلة من مراحل تطور دماغ الطفل يخبرك حدسك فيها قائلا: «حسنا، الآن ثمة خبرة تعاش هناك»، يكمن اللغز في التحول. أولا، لا يكون ثمة وعي، ثم فجأة، وعلى نحو سحري، وفي اللحظة المناسبة ... ينبثق شيء ما. وبغض النظر عن مدى ضآلة هذا الشيء الأولي، فإن شرارة الشعور أو الخبرة تشتعل على نحو واضح في قلب ذلك الجماد، متجسدة من قلب الظلام.
وعلى أي حال، يتكون الطفل الرضيع من جسيمات لا تختلف عن تلك التي تحوم في قلب الشمس. فالجسيمات التي تشكل جسدك كانت ذات يوم مكونات لعدد لا يحصى من النجوم في ماضي هذا الكون. وقد سافرت مليارات السنين لتستقر في جسدك - في هذا التكوين المحدد الذي هو أنت - وهي الآن تقرأ هذا الكتاب. تخيل متابعة حياة هذه الجسيمات من أول ظهور لها في الزمان والمكان وحتى اللحظة التي أصبحت فيها مرتبة على نحو يتيح لها أن تبدأ في أن تشعر بشيء ما أو تختبر شيئا ما.
رسمت الفيلسوفة ريبيكا جولدشتاين صورة لهذا اللغز رائعة في وضوحها ومرحها:
من المؤكد أن الوعي مسألة مادة - فما عساه يكون غير ذلك، حيث إن ذلك هو ما نحن عليه - ورغم ذلك، فإن الحقيقة هي أن بعض كتل المادة لها حياة داخلية ... لا تشبه أي خصائص أخرى للمادة رأيناها حتى الآن، فضلا عن تلك التي استطعنا تفسيرها. هل يمكن لقوانين حركة المادة أن تنتج «هذا»، كل «هذا»؟ فجأة تستيقظ المادة وتفهم العالم وتستوعبه؟
2
يبدو أن اللحظة التي تصبح فيها المادة واعية لا تقل غموضا عن لحظة انبثاق المادة والطاقة إلى الوجود للمرة الأولى. إن لغز الوعي يضاهي أحد أعظم الألغاز التي حيرت الفكر الإنساني على مر العصور: كيف يمكن أن يظهر شيء من العدم؟
3
وبالمثل، كيف تنشأ الخبرة الحسية من مادة لا حياة فيها ولا وعي؟ وقد ذاع عن الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز أنه أطلق على ذلك اسم «المعضلة العويصة» للوعي.
4
فعلى عكس «المشكلات السهلة» المتمثلة في تفسير السلوك الحيواني أو فهم أي العمليات في الدماغ تؤدي إلى ظهور وظائف معينة، تكمن المعضلة العويصة في فهم أسباب اقتران بعض من هذه العمليات الفيزيائية بخبرة حسية من الأساس.
لماذا تؤدي تكوينات معينة من المادة إلى أن تشتعل هذه المادة بالوعي؟
الفصل الثاني
الأحكام الحدسية والأوهام
الآن بعد أن أصبح لدينا تعريف ملائم للوعي والغموض الذي ينطوي عليه، يمكننا البدء في التخلص من بعض الأحكام الحدسية الشائعة. لقد تشكل حدسنا إلى حد كبير بواسطة الانتقاء الطبيعي لتزويدنا بسرعة بالمعلومات التي من شأنها أن تنقذ حياتنا، ولا يزال يمكن لهذا الحدس الذي تطور في الماضي أن يستمر في مساعدتنا في الحياة الحديثة. فعلى سبيل المثال، لدينا القدرة على أن ندرك دون وعي العناصر المحيطة بنا في بيئتنا في موقف يمثل لنا تهديدا، وهو ما يؤدي بدوره إلى تقييم فوري للخطر المحدق بنا؛ مثل ذلك الحدس الذي يخبرنا بأننا لا يجب أن ندخل المصعد مع شخص معين، على الرغم من عدم قدرتنا على معرفة السبب بالضبط. غالبا ما يقوم دماغك بمعالجة إشارات مفيدة قد لا تكون مدركا لها بوعي في تلك اللحظة: ذلك الشخص الآخر الذي يدخل المصعد متوهج الوجه أو متسع حدقتي العينين (وكلا الأمرين يمثل إشارة على أن مستوى الأدرينالين لديه مرتفع وأنه على وشك التصرف بعنف)، أو باب المبنى الذي عادة ما يكون مغلقا، ولكنه مفتوح الآن. يمكننا أن نعرف أن موقفا ما خطير دون أن تكون لدينا أدنى فكرة عن كيفية معرفتنا ذلك أو أسباب تلك المعرفة. يتشكل حدسنا أيضا من خلال التعلم، والثقافة، وعوامل بيئية أخرى. ويكون لدينا أحيانا حدس مفيد في قراراتنا الحياتية - مثل اختيار الشقة التي سنستأجرها - وهو حدس ناشئ عن معلومات ذات صلة اكتسبها دماغنا - وأخذها في الاعتبار - من خلال عمليات غير واعية. وفي الواقع، تشير الأبحاث إلى أن «إحساسنا الداخلي» يكون أكثر موثوقية من نتائج التفكير الواعي المنطقي في الكثير من المواقف.
1
لكن «إحساسنا الداخلي» يمكن أن يخدعنا كذلك، و«الحدس الخاطئ» يمكن أن ينشأ بعدد كبير من الطرق، لا سيما في مجالات الفهم التي لم يكن من الممكن أن يتنبأ بها التطور؛ مثل العلوم والفلسفة. تأمل الاحتمالات والإحصاء، حيث يشتهر حدسنا بأنه لا يعتمد عليه على الإطلاق: كثيرون منا يشعرون بالقلق من السفر بالطائرة، على الرغم من أننا نحتاج - إحصائيا - إلى الطيران يوميا لنحو 55 ألف سنة قبل أن نتعرض لحادث تحطم طائرة مميت (ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن الناس لا يصابون عادة بنوبات ذعر عند الجلوس خلف عجلة قيادة سياراتهم استعدادا لرحلة إلى متجر البقالة، فإن سلامة المرء في مثل هذه الرحلات في الواقع تكون أقل بأضعاف مضاعفة مقارنة بالطيران).
2
إننا بالكاد نستطيع التوفيق بين حدسنا وبين بعض الحقائق العلمية الأساسية؛ إذ بدت لنا الأرض مسطحة إلى أن كشفت لنا التطورات المذهلة في القياسات الفلكية غير ذلك. وفي بعض مجالات البحث - مثل فيزياء الكم - لا يعد حدسنا عديم الفائدة فحسب، بل إنه يشكل عقبة صريحة أمام تحقيق التقدم. الحدس ببساطة هو شعور قوي بأن شيئا ما صحيح دون أن يكون لدينا وعي أو فهم للأسباب الكامنة وراء هذا الشعور؛ بصرف النظر عما إذا كان هذا الشيء يمثل حقيقة صحيحة في العالم أم لا.
في هذا الفصل من الكتاب، سوف نتناول حدسنا فيما يتعلق بكيفية حكمنا على ما إذا كان شيء ما واعيا أم لا، وسنكتشف أن الإجابات التي تبدو واضحة بديهية تنهار أحيانا عند فحصها فحصا دقيقا. وأحب أن أبدأ هذا الاستكشاف بسؤالين يبدو للوهلة الأولى أنهما بسيطان للغاية وتسهل الإجابة عنهما. لاحظ أول الاستجابات التي تطرأ على ذهنك، وتذكرها جيدا بينما نستكشف بعض الحدسيات والأوهام النمطية. (1)
في نظام نعرف أن لديه تجارب حسية واعية - ألا وهو الدماغ البشري - ما هو الدليل الذي يمكننا استقاؤه من العالم الخارجي على وجود الوعي؟ (2)
هل الوعي ضروري لسلوكنا؟
يتداخل هذان السؤالان في عدة نقاط هامة، لكن من المفيد تناول كل منها على نحو مستقل. فكر أولا في أنه يمكن أن توجد تجربة واعية دون أي تعبير خارجي على الإطلاق (على الأقل في الدماغ). أحد أبرز الأمثلة على ذلك الحالة العصبية التي تسمى «متلازمة المنحبس» (أو «السبات الكاذب»)، والتي يكون فيها جسد الإنسان بأكمله مشلولا ولكن الوعي سليم تماما. اشتهرت هذه الحالة العصبية من خلال جان دومينيك بوبي، رئيس التحرير السابق لمجلة «إل» الفرنسية، الذي ابتكر بعبقرية طريقة للكتابة عن معاناته الشخصية مع متلازمة المنحبس. فبعد أن أصابته جلطة دماغية بالشلل، لم يستعد بوبي شيئا من قدرته على الحركة سوى الرمش بعينه اليسرى. ومن المدهش أن القائمين على رعايته لاحظوا جهوده من أجل التواصل، وطوروا بمرور الوقت طريقة تمكنه من تهجئة الكلمات من خلال الرمش بعينه بنمط معين، وهكذا تمكنوا من الكشف عن النطاق الكامل لحياته الواعية. وقد وصف بوبي هذه التجربة المروعة في مذكراته التي نشرت عام 1997 بعنوان «جرس الغوص والفراشة» والتي كتبها من خلال نحو مائتي ألف رمشة. قد نفترض، بالطبع، أن وعيه لم يكن سيتغير بأي حال من الأحوال لو أن جفنه الأيسر استسلم للشلل بدوره. ومن دون هذه القدرة على تحريك جفنه الأيسر، لما كانت ثمة وسيلة لديه لإخبارنا بأنه واع وعيا تاما.
مثال آخر على الحبس الجسدي هو حالة تسمى «الوعي أثناء التخدير»، حيث يعاني المريض الخاضع للتخدير العام لإجراء عملية جراحية الشلل دون أن يفقد وعيه. ومما لا شك فيه أن الأشخاص الذين يمرون بهذه الحالة يعيشون كابوسا متمثلا في شعورهم بكل خطوة من خطوات العملية الجراحية، التي تكون أحيانا عبارة عن تدخل طبي شديد مثل استئصال أحد أعضاء المريض، دون القدرة على التحرك أو إخبار من حولهم بأنهم مستيقظون تماما ويشعرون بالألم. يبدو أن هذا المثال والمثال السابق يأتيان مباشرة من فيلم رعب، لكن يمكننا أن نتخيل حالات أخرى أقل إزعاجا يفتقد فيها العقل الواعي القدرة على التعبير؛ كما في سيناريوهات تنطوي على ذكاء اصطناعي - على سبيل المثال - يصبح نظاما متقدما واعيا، ولكن ما من سبيل لديه لتوصيل هذه الحقيقة على نحو مقنع لنا. ولكن إن كان ثمة شيء مؤكد بالنسبة إلينا فهو أنه: من الممكن أن توجد تجربة وعي مفعمة بالحياة دون إمكانية رصدها من الخارج.
والآن، لنعد إلى السؤال الأول ونسأل أنفسنا: ما الذي يمكن اعتباره دليلا على الوعي؟ إننا نعتقد، إلى حد كبير، أنه يمكننا تحديد ما إذا كان الكائن الحي واعيا أم لا عن طريق دراسة سلوكه. فيما يلي افتراض بسيط يقوم به أغلبنا، تماشيا مع حدسنا، ويمكننا استخدامه كنقطة بداية: «البشر واعون؛ النباتات ليست واعية.» يعتقد معظم الناس بشدة أن هذه جملة صحيحة، وثمة أسباب علمية جيدة للاعتقاد بأنها كذلك. إننا نفترض أن الوعي لا وجود له في غياب الدماغ أو الجهاز العصبي المركزي. لكن ما الدليل أو السلوك الذي يمكننا رصده لدعم هذا الادعاء بشأن التجربة النسبية للبشر والنباتات؟ فكر في أنواع السلوك التي نعزوها عادة إلى الحياة الواعية، مثل الاستجابة للضرر البدني أو رعاية الآخرين. تكشف الأبحاث العلمية أن النباتات تقوم بكل من هذين الأمرين بطرق معقدة؛ رغم أننا، بالطبع، نتصور أنها تفعل ذلك دون الشعور بالألم أو الحب (أي دون وعي). لكن بعض سلوكيات البشر والنباتات متشابهة للغاية إلى حد أن هذا التشابه يشكل في واقع الأمر تحديا لاستخدامنا سلوكا معينا باعتباره دليلا على وجود خبرة واعية.
في كتابه «ما يعرفه النبات: دليل ميداني للحواس»، يصف دانيال تشاموفيتز بتفاصيل رائعة كيف يمكن لتحفيز النبات (باللمس، أو الضوء، أو الحرارة ... إلخ) أن يستحث استجابات مماثلة لاستجابات الحيوانات في ظل ظروف مشابهة. فالنباتات يمكنها أن تستشعر بيئتها من خلال اللمس، ويمكنها اكتشاف العديد من جوانب محيطها - بما في ذلك درجة الحرارة - بوسائل أخرى. بل إنه من الشائع جدا أن تتفاعل النباتات مع اللمس: فالكرمة تزيد من معدل نموها وتغير اتجاه هذا النمو حين تشعر بوجود جسم قريب يمكنها الالتفاف حوله، ويمكن لنبات «خناق الذباب» سيئ السمعة أن يميز بين الأمطار الغزيرة أو هبة رياح قوية - وهما أمران لا يتسببان في إغلاق شفرات النبات - وبين عمليات التسلل المترددة الوجلة لخنفساء أو ضفدع يعتبره النبات غذاء، وحينها يغلق النبات شفراته عليها في عشر ثانية.
يوضح تشاموفيتز كيف يؤدي تحفيز الخلية النباتية إلى تغيرات خلوية تؤدي إلى إطلاق إشارة كهربائية - على غرار التفاعل الناجم عن تحفيز الخلايا العصبية في الحيوانات - و«كما هو الحال في الحيوانات، يمكن لهذه الإشارة أن تنتشر من خلية إلى أخرى، وهي تتضمن الوظيفة المنسقة لقنوات الأيونات؛ بما في ذلك البوتاسيوم، والكالسيوم، والكالمودولين، ومكونات نباتية أخرى.»
3
ويصف تشاموفيتز أيضا بعض الآليات المشتركة بين النباتات والحيوانات، وصولا إلى مستوى الحمض النووي. ومن خلال بحثه، اكتشف الجينات المسئولة عن قدرة النبات على تحديد ما إذا كان في الظلام أو في الضوء، كما تبين أن هذه الجينات هي أيضا جزء من الحمض النووي البشري. في الحيوانات، تنظم هذه الجينات نفسها الاستجابات للضوء وتشارك في «توقيت الانقسام الخلوي، ونمو الخلايا العصبية على مستوى المحور، والتشغيل السليم للجهاز المناعي». وتوجد آليات مشابهة في النباتات لاكتشاف الأصوات، والروائح، والموقع، وحتى تشكيل الذكريات. وفي مقابلة مع مجلة «ساينتفك أمريكان» يصف تشاموفيتز كيف تلعب أنواع مختلفة من الذكريات دورا في سلوكيات النباتات:
إذا كانت الذاكرة تنطوي على تشكيل الذكرى (تشفير المعلومات)، والاحتفاظ بالذكرى (تخزين المعلومات)، واستعادة الذكرى (استرداد المعلومات)، فإن النباتات تتذكر بكل تأكيد. فعلى سبيل المثال، نبات «خناق الذباب» لا يغلق مصيدته إلا إذا لمست حشرة شعرتين من الشعر الموجود على أوراقه؛ ومن ثم فهو يتذكر اللمسة الأولى ... وتتذكر شتلات القمح أن فصل الشتاء قد انتهى قبل أن تبدأ في الإزهار وصنع البذور. وتصنع بعض النباتات المجهدة ذرية أكثر مقاومة لنوع الإجهاد نفسه الذي تعرض له أسلافها، وهو نوع من الذاكرة العابرة للأجيال اكتشف حديثا في الحيوانات أيضا.
4
تجري عالمة البيئة سوزان سيمارد أبحاثا في علم بيئة الغابات، وقد حققت أبحاثها تقدما كبيرا في فهمنا للتواصل الذي يحدث بين الأشجار في الغابات. في عام 2016، ألقت سوزان محاضرة في مؤتمر «تد»
TED
الشهير وصفت فيها إثارة اكتشاف التكافل بين نوعين من الأشجار أثناء إجراء أبحاثها على شبكات الفطريات الجذرية؛ وهي شبكات متشعبة تحت الأرض من الفطريات تربط نباتات مستقلة، وتنقل الماء، والكربون، والنيتروجين، ومعادن ومواد مغذية أخرى، بين هذه النباتات. كانت سيمارد تدرس مستويات الكربون في نوعين من الأشجار؛ وهما دوجلاس التنوب (أحد أنواع شجر الصنوبر) والبتولا الورقية، عندما اكتشفت أن النوعين منخرطان في «محادثة ثنائية حيوية». ففي أشهر الصيف، عندما تكون شجرة «التنوب» بحاجة إلى المزيد من الكربون، ترسل البتولا المزيد من الكربون إليها، وفي أوقات أخرى، عندما تكون التنوب لا تزال في مرحلة النمو، وتحتاج البتولا إلى مزيد من الكربون لأنها بلا أوراق، ترسل التنوب المزيد من الكربون إلى البتولا - وهو ما يكشف أن هذين النوعين متكافلان في واقع الأمر. ومما يثير الدهشة أيضا نتائج أبحاث إضافية أشرفت عليها سيمارد، وأظهرت أن «الأشجار الأم» من دوجلاس التنوب قادرة على التمييز بين أقاربها من النوع نفسه وبين الشتلات الأخرى المجاورة. وجدت سيمارد أن الأشجار الأم استعمرت الأشجار من نوعها عن طريق شبكات فطريات جذرية أكبر، وكانت ترسل إليها المزيد من الكربون تحت الأرض. كما أن الأشجار الأم «قللت من تنافس جذور تلك الأشجار لإفساح المجال أمام الأشجار الناشئة للنمو»، كما كانت ترسل رسائل حين تصاب أو تحتضر من خلال الكربون، وتوصل إشارات دفاعية أخرى إلى شتلات تلك الأشجار، مما يزيد من مقاومة هذه الشتلات للضغوط البيئية المحلية.
5
وبالمثل، عن طريق نشر السموم عبر الشبكات الفطرية تحت الأرض، تستطيع النباتات أيضا مكافحة الأنواع التي تهددها. ونظرا إلى الروابط الهائلة ووظائف شبكات الفطريات الجذرية هذه، يشار إليها باسم «شبكة الإنترنت الطبيعية للأرض».
6
ومع ذلك، يمكننا بسهولة تخيل النباتات تمارس السلوكيات الموصوفة هنا دون أن يكون ثمة «شيء يشبه» كونك نباتا؛ لذا فإن السلوك المعقد لا يلقي الضوء بالضرورة على ما إذا كان النظام واعيا أم لا. ويمكننا استكشاف حدسنا بشأن السلوك من زاوية أخرى من خلال طرح السؤال التالي: «هل يحتاج النظام إلى وعي لممارسة سلوكيات معينة؟» على سبيل المثال، هل يحتاج روبوت متقدم إلى أن يكون واعيا ليربت على ظهر صاحبته عندما يراها تبكي؟ أغلبنا سوف يجيب على الأرجح: «ليس بالضرورة». فبعض شركات التقنية تقوم بخلق أصوات محوسبة لا يمكن تمييزها عن الأصوات البشرية.
7
وإذا قمنا بتصميم ذكاء اصطناعي وبدأ يوما ما في قول أشياء مثل: «توقف من فضلك - ما تفعله يؤلمني!» فهل ينبغي أن نأخذ ذلك دليلا على وجود الوعي، أو ببساطة على برمجة معقدة، ولكنها مفتقدة إلى الوعي؟
إننا نفترض، على سبيل المثال، أن خوارزمية مجردة تماما من الوعي تكمن وراء قدرة جوجل المتزايدة على تخمين ما نبحث عنه بدقة، أو قدرة برنامج مايكروسوفت أوتلوك على تقديم اقتراحات بشأن من قد نرغب في إضافته لتسلم نسخة من رسالة البريد الإلكتروني التالية. إننا لا نعتقد أن جهاز الكمبيوتر الخاص بنا واع - فضلا عن أن يهتم بنا - عندما يومض اسم أحد أقاربنا، مثل العم جون، مذكرا إيانا بإدراجه في الرسالة التي نكتبها لإخبار الأسرة بمولد طفل جديد. من الواضح أن البرنامج تعلم أن العم جون عادة ما يدرج اسمه في رسائل البريد الإلكتروني إلى الوالد وإلى ابنة العم جيني، ولكن ليس لدينا أي دافع لنقول لهذا البرنامج: «شكرا لك - كان هذا لطفا منك!» غير أنه من الممكن تصور أن تقنيات التعلم العميق المستقبلية سوف تمكن هذه الأجهزة من التعبير عن أفكار وعواطف واعية (مما يعطيها قدرات متزايدة على خداع البشر). وتكمن المشكلة في أن كلا من الحالات الواعية وغير الواعية تبدو متوافقة مع أي سلوك، حتى تلك المرتبطة بالعاطفة، ومن ثم فإن السلوك في حد ذاته لا يشير بالضرورة إلى وجود الوعي.
وهكذا، فجأة، تبدأ إجاباتنا الأولية عن السؤال الأول - سؤال ما الذي يعد دليلا على وجود الوعي؟ - في التلاشي. وهذا يقودنا إلى السؤال الثاني، بشأن ما إذا كان الوعي يؤدي وظيفة أساسية - أو له أي تأثير على الإطلاق - في النظام المادي صاحب الوعي.
8
من الناحية النظرية، يمكنني أن أتصرف بكل الطرق التي أتصرف بها وأقول كل الأشياء التي أقولها دون أن يكون لدي خبرة واعية بها، مثلما قد يفعل روبوت متقدم (رغم أنه يصعب تخيل ذلك بلا شك). هذا هو جوهر تجربة فكرية تعرف باسم «الزومبي الفلسفي»، والتي اشتهرت عن طريق ديفيد تشالمرز. يطلب منا تشالمرز أن نتخيل أن أي شخص قد يكون - حقا - زومبي؛ وهو شخص يبدو ويتصرف من الخارج مثل أي شخص آخر تماما، ولكن دون أي خبرة داخلية على الإطلاق. إن تجربة الزومبي الفكرية مثيرة للجدل، ويدعي فلاسفة آخرون، ولا سيما دانيال دينيت من جامعة تافتس، أن ما تقترحه هذه التجربة الفكرية مستحيل؛ بمعنى أن أي دماغ بشري يعمل بشكل كامل لا بد أن يكون واعيا، بطبيعة الحال. لكن تصور «الزومبي» مسألة تستحق التأمل ولو من الناحية النظرية فقط؛ لأنها تساعدنا في تحديد السلوكيات التي نعتقد أنها يجب أن تكون مصحوبة بوجود للوعي، إن وجدت.
الهدف هنا هو التخلص من أكبر عدد ممكن من الافتراضات الخاطئة، وهذا التمرين الذهني تحديدا مفيد، سواء كان وجود الزومبي متوافقا مع قوانين الطبيعة أو لا. تخيل أن شخصا ما في حياتك هو في الواقع زومبي أو روبوت مزود بذكاء اصطناعي (يمكن أن يكون أي شخص؛ بداية من شخص لا تعرفه يعمل في متجر، ونهاية بصديق مقرب لك). في اللحظة التي تشهد فيها سلوكا من هذا الشخص تعتقد أنه لا بد أن يكون سلوكا متزامنا مع خبرة داخلية لهذا الشخص، اسأل نفسك لماذا تعتقد ذلك. ما هو الدور الذي يبدو أن الوعي يلعبه في سلوكه؟ لنفترض أن صديقك الزومبي شاهد حادث سيارة، ويبدو عليه القلق على نحو متناسب مع الحدث، ويخرج هاتفه للاتصال بسيارة إسعاف. هل يمكن أن يكون هذا الشخص يتصرف بشكل آلي دون إحساس داخلي بالقلق والاهتمام، أو دون عملية تفكير واعية تؤدي به إلى إجراء المكالمة الهاتفية ووصف ما حدث؟ هل يمكن أن يحدث كل هذا حتى لو كان روبوتا، دون أن يشعر بأي شعور يدفعه لهذا السلوك؟
لقد اكتشفت أن تجربة الزومبي الفكرية يمكنها أيضا التأثير على تفكيرنا على نحو يتجاوز مقصدها الأصلي. فبمجرد أن نتخيل أن السلوك البشري من حولنا موجود دون وعي، يبدأ هذا السلوك يبدو أشبه بالعديد من السلوكيات التي نراها في العالم الطبيعي والتي لطالما افترضنا أنها غير واعية، مثل سلوك نجم البحر الذي يتجنب العقبات، وهو حيوان مائي لا فقاري ليس لديه جهاز عصبي مركزي.
9
وبعبارة أخرى، عندما نخدع أنفسنا لنتخيل أن الناس يفتقرون إلى الوعي، يمكننا أن نبدأ في التساؤل عما إذا كنا في الواقع نخدع أنفسنا طوال الوقت عندما نعتبر أنظمة حية أخرى - مثل اللبلاب المتسلق أو شقائق النعمان البحرية اللاسعة - مجردة من الوعي. إن لدينا حدسا متأصلا بعمق - ومن ثم اعتقاد راسخ - بأن الأنظمة التي تسلك مثل سلوكنا هي أنظمة واعية، وأن تلك التي لا تفعل ذلك غير واعية. ولكن ما توضحه تجربة الزومبي الفكرية لي تماما هو أن الاستنتاج الذي نستخلصه من هذا الحدس ليس له أساس حقيقي سليم. إنه مثل صورة ثلاثية الأبعاد، تنهار في اللحظة التي نخلع فيها نظارتنا.
الفصل الثالث
هل الوعي حر؟
بينما نمضي في حياتنا اليومية، نعيش ما يبدو لنا أنه تيار مستمر من أحداث اللحظة الراهنة، ومع ذلك فإننا في الواقع لا ندرك الأحداث المادية في العالم إلا «بعد» وقوعها بقليل. وفي الحقيقة، إن إحدى أكثر النتائج إثارة للفزع في علم الأعصاب هي أن الوعي غالبا ما يكون «آخر من يعلم». تنتقل المعلومات البصرية، والسمعية، وأنواع أخرى من المعلومات الحسية عبر العالم (وعبر جهازنا العصبي) بسرعات مختلفة. فالموجات الضوئية والموجات الصوتية التي تنبعث لحظة ملامسة كرة التنس لمضربك، على سبيل المثال، لا تصل إلى عينيك وأذنيك في الوقت نفسه، وكذلك يحدث التأثير الذي تشعر به يدك الممسكة بالمضرب في لحظة زمنية مختلفة عنهما. ومما يزيد الأمور تعقيدا، أن الإشارات التي تتلقاها يداك وعيناك وأذناك تنتقل مسافات مختلفة عبر الجهاز العصبي للوصول إلى دماغك (فيداك بعيدتان عن دماغك أكثر من بعد أذنيك عنها مثلا). وفقط بعد تلقي الدماغ جميع المدخلات ذات الصلة، تجري مزامنة الإشارات وإدخالها إلى تجربتك الواعية من خلال عملية تسمى «الربط»؛ وبواسطة هذه العملية ترى، وتسمع، وتشعر أن الكرة ترتطم بالمضرب في اللحظة ذاتها. وقد عبر عالم الأعصاب، ديفيد إيجلمان، عن ذلك قائلا:
إدراكك الواقع هو النتيجة النهائية لحيل تعديل بارعة: يخفي الدماغ الفروق بين أوقات الوصول. كيف؟ إن ما يقدمه دماغك بوصفه الواقع هو في الحقيقة نسخة متأخرة عنه. يجمع دماغك كل المعلومات من الحواس قبل أن يصنع قصة عما يحدث. ... والنتيجة الغريبة لكل هذا هي أنك تعيش في الماضي. فبحلول الوقت الذي تعتقد فيه أن هذه اللحظة تحدث، تكون تلك اللحظة قد انتهت منذ وقت طويل. إن تكلفة مزامنة المعلومات الواردة من الحواس هي أن يتأخر إدراكنا الواعي عن العالم المادي.
1
والمثير للدهشة أن وعينا لا يبدو أنه يتدخل في الكثير من تصرفاتنا، باستثناء كونه شاهدا عليها. وقد أجري عدد من التجارب الرائعة في هذا المجال، ويصف عالم الأعصاب مايكل جازانيجا بعض هذه التجارب بالتفصيل في فصل رائع معنون على نحو ملائم «الدماغ يعرف قبل أن تعرف أنت» في كتابه «ماضي العقل». تظهر بعض هذه التجارب - التي اشتهر بإجرائها بنجامين ليبيت في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو - أن دماغك يجهز حركات ميكانيكية معقدة لجسمك قبل أن تدرك بوعي قرار التحرك. في مثل هذه التجارب، يشاهد المشاركون ساعة خاصة، ووفقا لأداة مماثلة لعقرب الثواني في الساعات التقليدية، يحددون بدقة اللحظة التي يقررون فيها تحريك إصبع مثلا. ولكن، باستخدام جهاز لرسم الدماغ، يستطيع الباحثون اكتشاف نشاط قشرة الدماغ الذي يرسل الإشارة للقيام بهذه الحركات الوشيكة بنحو نصف ثانية «قبل شعور المشاركين بأنهم اتخذوا قرار التحرك».
2
وقد أجريت نسخ أكثر تطورا من هذه التجارب منذ ذلك الحين، وأكدت النتائج نفسها.
3
وعلى الرغم من أنه ليس من الواضح بعد كيف ترتبط أنواع القرارات الحركية البسيطة تلك بقرارات أكثر تعقيدا، مثل اختيار ما سنأكله في الغداء أو الاختيار بين عرضي عمل، فلا شك أن علم الأعصاب الحديث يوفر لنا رؤية آخذة في التطور بسرعة للعقل البشري. ولدينا الآن سبب للاعتقاد بأنه إذا استطاع شخص آخر الوصول إلى نشاط معين يحدث داخل دماغك، فسيتمكن من معرفة ما ستفعله قبل أن تعرف أنت نفسك.
إن حدسنا المتمثل في أن الوعي يقف وراء سلوكيات معينة نابع من شعورنا بأننا نتخذ القرارات بحرية في هذا العالم، بينما أعمالنا الإرادية ترتبط ارتباطا وثيقا بإحساسنا بالتحكم الواعي في اللحظة الراهنة. وسواء أكان القرار الذي نفكر فيه صغيرا مثل اختيار شرب الماء بدلا من عصير البرتقال، أم قرارا ذا تبعات كبيرة، مثل قبول وظيفة في تكساس بدلا من وظيفة أخرى في نيويورك، فإننا نشعر بشدة أن الوعي مطلوب لعمليات التفكير (وحتى التفضيلات) الضرورية لاتخاذ قرار ما. ومن ثم، فإن النتائج المتعلقة بكيفية اتخاذ القرارات على مستوى الدماغ - والتأخير بمقدار عدة أجزاء من الألف من الثانية في إدراكنا الواعي للمدخلات الحسية وحتى أفكارنا - تسببت في وصف العديد من علماء الأعصاب، بما في ذلك جازانيجا، لشعور الإرادة الواعية بأنه وهم. لاحظ أنه في مثل هذه التجارب، شعر المشاركون بأنهم يقومون بفعل ما بإرادتهم الحرة، بينما الواقع أن هذا الفعل قد بدأ بالفعل قبل أن يشعروا أنهم اتخذوا قرار التحرك.
وتعززت الحجة القائلة بأن الإرادة الواعية هي وهم من خلال حقيقة أن هذا الوهم يمكن تحفيزه والتلاعب به عن عمد. فقد استطاع القائمون على التجارب إحداث شعور بالإرادة لدى المشاركين في هذه التجارب في حين لم يكن لهؤلاء الأشخاص في الواقع أي تحكم فيما يحدث. ويبدو أنه في ظل الظروف المناسبة، من الممكن إقناع الناس بأنهم بدءوا بوعي في القيام بفعل ما، في حين يتحكم شخص آخر في هذا الفعل في واقع الأمر. أجرى عالما النفس دانيال فيجنر وتاليا ويتلي سلسلة من هذه الدراسات. يقول فيجنر موضحا:
نجعل المشارك في التجربة يضع يده على لوحة صغيرة موضوعة فوق فأرة كمبيوتر، وهذه الفأرة تحرك مؤشرا على شاشة الكمبيوتر. تحتوي الشاشة على مجموعة متنوعة من الأشياء المختلفة، مثل صور من كتاب «أنا أتجسس»؛ وهي في هذه الحالة صور ألعاب بلاستيكية صغيرة. ولدينا أيضا في الغرفة حليف في التجربة إلى جانب المشارك؛ وكلاهما يضع سماعات رأس، ويطلب منهما معا تحريك المؤشر على الشاشة والتوقف على شيء على الشاشة كل بضع ثوان، متى سمعوا صوت موسيقى. ... في أغلب الأحيان، يسمعان أصواتا عبر سماعات الرأس التي يضعانها، وبعض هذه الأصوات هي أسماء لأشياء موجودة على الشاشة. يحدث الجزء الرئيسي من التجربة عندما يطلب من الحليف في التجربة - في بعض المحاولات - إجبار المشارك في التجربة على وضع المؤشر على شيء معين على الشاشة، بحيث لا يكون الشخص الذي نختبره هو من فعل ذلك، وإنما أجبر عليه. يبدو الأمر كما لو أن شخصا ما كان يغش على لوح «ويجا» (الذي يظن البعض أنه وسيلة للتخاطب مع الأرواح). ومن ثم نقوم بإسماع اسم شيء ما للمشارك في التجربة قبل أو بعد إجباره على التحريك بمدة زمنية معينة، وقد وجدنا أنه إذا قلنا اسم الشيء قبل ثانية واحدة فقط من إجبار المشارك على الانتقال إليه على الشاشة، فإنه يفيد بأنه فعل ذلك عمدا. ... إذن فمن الممكن اختلاق الشعور بالإرادة والإيهام به؛ ومع ذلك، فإننا نعيش حياتنا اليومية ونحن نشعر بعكس ذلك.
4
فما هو الدور الذي يلعبه الوعي إذا لم يكن هو خلق إرادة التحرك وكان مجرد مشاهد لهذا التحرك وهو يحدث، وكل ذلك في ظل وهم أنه هو المسئول؟ يمكننا الآن أن نرى كيف أن الشعور بالإرادة الحرة - كما نختبره عادة - ليس بالبساطة التي يبدو عليها. وإذا بددنا هذا المفهوم الشائع، يمكننا البدء في التشكيك في فكرة أن الوعي يلعب دورا أساسيا في توجيه السلوك البشري.
من المهم أن أوضح أنني عندما أتحدث عن طبيعة الإرادة الحرة في هذا السياق، فإنني أشير تحديدا إلى الشعور بالإرادة «الواعية». إنني أشير إلى الوهم الأساسي اليومي الذي يبدو أنه يلازمنا جميعا: أننا «ذوات» متمايزة ومنفصلة؛ ليست منفصلة فقط عن المحيطين بنا وعن العالم الخارجي، ولكن حتى عن أجسادنا نفسها، كما لو أن تجربتنا الواعية بطريقة ما تطفو مستقلة عن العالم المادي. فعلى سبيل المثال، لدي - مثل أي شخص آخر - ميل سخيف إلى اعتبار «جسدي» (بما في ذلك «رأسي» و«دماغي») شيئا يسكنه وعيي؛ في حين أن الحقيقة هي أن كل ما أفكر فيه على أنه «أنا» يعتمد على وظائف دماغي. فحتى أدنى التغيرات العصبية التي قد تحدث عن طريق التسمم مثلا، أو المرض، أو الجرح، يمكن أن تجعل «الأنا» غير قابلة للتعرف عليها. ومع ذلك، لا يبدو أنني أستطيع زعزعة الحدس الخاطئ القائل بأنه يمكنني حتى اختيار ترك جسدي (فقط لو كان بإمكاني معرفة كيفية فعل ذلك) وكل شيء يشكل «الأنا» سيظل بطريقة سحرية ما قائما دون مساس. من السهل أن نرى كيف أن البشر في جميع أنحاء العالم، جيلا بعد جيل، قاموا دون عناء كبير ببناء مفاهيم مختلفة عن «الروح»، وأوصاف لحياة بعد الموت تحمل تشابها مذهلا مع الحياة قبل الموت.
غير أن الدماغ، كنظام، يمتلك بالفعل نوعا من الإرادة الحرة؛ حيث إنه يتخذ القرارات والخيارات على أساس معلومات خارجية، وأهداف داخلية، وعملية تفكير معقدة. ولكن عندما أناقش وهم الإرادة الواعية هنا ، فإنني أتحدث عن الوهم القائل بأن «الوعي هو الإرادة نفسها».
5
يبدو أن مفهوم الإرادة الحرة الواعية غير متسق؛ فهو يشير إلى أن إرادة الفرد منفصلة ومنعزلة عن بقية بيئتها، لكنها - على نحو متناقض - قادرة على التأثير في هذه البيئة عن طريق اتخاذ خيارات داخلها.
كنت ذات مرة في إحدى الفعاليات عندما سئل صديقي ومعلم التأمل جوزيف جولدشتاين عما إذا كان يعتقد أن لدينا إرادة حرة. وقد أجاب عن السؤال بوضوح لافت للنظر عندما قال إنه لا يعرف حتى ماذا يعني هذا المصطلح. ما معنى أن تكون لدينا إرادة مستقلة عن العلاقات بين الأسباب والنتائج في الكون؟ وأشار بيديه إشارة راقصة في الهواء فوقه؛ في محاولة للإشارة إلى هذه الإرادة الحرة الخيالية، وهو يتساءل: «كيف يمكننا حتى محاولة تخيل مثل هذه الإرادة حولنا؟»
غير أن الكثير من الناس يعترضون على مقولة أن الإرادة الواعية هي وهم استنادا إلى أسس أخلاقية، مؤكدين أن البشر يجب أن يتحملوا مسئولية اختياراتهم وسلوكياتهم. لكن البشر يمكن (ويجب عليهم) أن يتحملوا مسئولية أفعالهم، لأسباب عديدة؛ فهذان المعتقدان ليسا متناقضين بالضرورة. فلا يزال بإمكاننا معرفة الفارق بين الأفعال المتعمدة والواضحة وبين النوع الذي تسببه الأمراض العقلية أو غيرها من اضطرابات العقل/الدماغ.
6
تخيل أننا في مدينة مستقبلية، وأن سيارة ذاتية القيادة صدمت أحد المشاة. سوف تعتمد الاستجابة لهذا الحدث المؤسف على سبب عدم توقف السيارة. إذا تبين أن برامجها معيبة ولا يمكنها التعرف على المشاة عندما يرتدون معاطف شتوية داكنة، على سبيل المثال، فإن ذلك سيتطلب استجابة معينة. وإذا تعطلت مستشعرات السيارة بسبب عيب في هذه السيارة تحديدا، فإن ذلك يتطلب استجابة مختلفة. وإذا صدمت السيارة الشخص السائر لأنها كانت تتجنب الاصطدام بحافلة مزدحمة ودفعها وسط زحام مروري في الاتجاه الآخر، فسننظر إلى هذا الموقف (ونستجيب له) على نحو مختلف تماما عن السيناريوهين الأولين - باعتباره «نجاحا» للتكنولوجيا المتقدمة للسيارة، بدلا من اعتباره عيبا بها. إن مجرد معرفتنا أن سيارة ذاتية القيادة صدمت أحد المشاة ليست معلومات كافية لمساعدتنا في منع هذه السيارة من أن تكرر الحادثة أو لمعرفة كيفية صنع سيارات أفضل.
من المهم أن نلاحظ أنه في هذه التأملات حول السيارات الذاتية القيادة، لم يدخل الوعي في المحادثة قط. ويمكن النظر إلى الدماغ بطريقة مماثلة عندما يتعلق الأمر بالإرادة الواعية. فسيكون من المهم دائما معرفة «السبب» الذي جعل شخصا ما يتصرف بعنف، على سبيل المثال. ثمة مجموعة من السلوكيات البشرية التي يمكن أن تتأثر بالردع، والعواقب السلبية، والتعاطف، إلى جانب تلقين الأدمغة النامية للأطفال بالتنظيم الذاتي والتحكم الذاتي؛ وجميع الطرق الأخرى التي تستخدمها المجتمعات المتحضرة لإبقاء البشر حسني التصرف (عموما).
يغير الدماغ من سلوكه باستمرار استجابة للمدخلات التي يتلقاها. كما أنه يتغير ويتطور من خلال الذاكرة، والتعلم، والتفكير الداخلي. فمع التوجيه الصحيح، فإننا نتوقف في النهاية عن رمي أنفسنا على الأرض والدق بقبضات أيدينا عندما لا نحصل على ما نريد. وما كنا لنتمكن من الوصول إلى ذلك دون مفاهيم مثل المسئولية، والمساءلة، والعواقب. لكن في المواقف التي تكون فيها الضغوط الحضارية المعتادة عاجزة (حين يعاني شخص ما هلاوس فصامية مثلا)، فمن المنطقي معاملة هذا الشخص وسلوكه على نحو مختلف عن الشخص الذي يخضع لتلك الضغوط الحضارية. وبالمثل، فإن فهم النوايا الكامنة وراء السلوك العنيف يعطينا معلومات مهمة حول نوع «البرمجيات» التي يعمل بها دماغ شخص ما. فالشخص الذي يخطط لعدة جرائم قتل لديه دماغ يعمل بشكل مختلف تماما عن شخص أصيب بجلطة دماغية أثناء قيادة سيارته وقتل عددا من الأشخاص عن طريق الخطأ.
قد يبدو من التناقض الحديث عن الأخلاق في هذا الإطار؛ لأن الوعي ضروري لمناقشة المسائل الأخلاقية. فلما كانت الأخلاق مجالا يتعلق بالمعاناة، فإن كل المحادثات حولها تدور حول كيفية «الشعور» بشيء ما. لكن من حيث كون الدماغ نظاما للمعالجة الفيزيائية؛ فإن بعض أهدافه يمكن أن تكون أخلاقية بطبيعتها - تحديدا، العمل على تقليل عدد الأحداث التي تسبب المعاناة - وهنا تشبه أدمغتنا السيارات الذاتية القيادة المذكورة سابقا. وعلى الرغم من أننا نتحدث عن تعديل تجربة واعية، فإن الوعي نفسه لا يعني بالضرورة التحكم في النظام؛ وكل ما نعرفه هو أن الوعي يشعر بالنظام. وليس من التناقض أن نقول إن الوعي ضروري للاعتبارات الأخلاقية، ولكنه في الوقت ذاته غير ذي صلة عندما يتعلق الأمر بالإرادة.
يعد التمييز بين سلوكيات الدماغ المتعمدة والسلوكيات التي يسببها تلف في الدماغ أو قوى خارجية أخرى («ضد إرادة الفرد») أمرا سليما وضروريا، لا سيما عند تنظيم قوانين المجتمع وأنظمة العدالة الجنائية. لكن الادعاء بأن الإرادة الواعية وهمية لا يزال قائما - بمعنى أن الوعي لا يقود السفينة - ويمكن الحفاظ على تلك الإرادة جنبا إلى جنب مع هذه التمييزات الأخرى المتمثلة في التعمد والمسئولية.
التجارب الموصوفة في هذا الفصل ليست ضرورية لإثبات هذه النقطة في حقيقة الأمر. فخبرتنا وحدها تكشف الوهم، ويمكنك اكتساب بعض الأفكار المتبصرة حول هذا الأمر من خلال تجربة بسيطة. اجلس في مكان هادئ وامنح نفسك خيارا - أن ترفع ذراعك أو قدمك - مع وجوب إجراء هذا الخيار قبل وقت معين (قبل أن يصل عقرب الثواني في الساعة إلى الرقم ستة، على سبيل المثال). فلتقم بذلك الأمر مرارا وتكرارا، ولتراقب خبرتك من لحظة إلى أخرى عن كثب. لاحظ كيف يتم إجراء هذا الاختيار في الوقت الحقيقي، وما الشعور الذي يسببه. من أين ينبع القرار؟ هل «تقرر متى تقرر»، أم يبزغ القرار ببساطة في تجربتك الواعية؟ هل ثمة إرادة واعية تعطيك بطريقة ما الفكرة؛ «حرك ذراعك»، أم أن الفكرة تصل إليك من مصدر ما؟ ما الذي يجعلك تختار الذراع وليس القدم؟ قد يبدو لك فجأة أن «أنت» (أي تجربتك الواعية) لم يكن لها أي دور في الأمر.
يبدو واضحا أننا لا نستطيع أن نقرر ما نفكر فيه أو نشعر به أكثر مما نستطيع أن نقرر ما نراه أو نسمعه. إن التقاء معقدا للغاية بين العوامل والأحداث الماضية - بما في ذلك جيناتنا، وتاريخ حياتنا الشخصية، وبيئتنا المباشرة، وحالة أدمغتنا - هو المسئول عن كل فكرة تالية نفكر فيها. هل قررت أن تتذكر الفرقة الموسيقية في مدرستك الثانوية عندما بدأ الراديو في إذاعة تلك الأغنية؟ هل قررت أنا أن أكتب هذا الكتاب؟ الإجابة بشكل ما هي نعم، لكن «أنا» في السؤال ليست هي تجربتي الواعية. في الواقع، قرر دماغي، بالاشتراك مع تاريخه ومع العالم الخارجي، أن أكتب هذا الكتاب. أما أنا (بمعنى تجربتي الواعية) فقد شهدت ببساطة هذه القرارات وهي تتجلى للعيان.
الفصل الرابع
رفيق في الرحلة
يمكن العثور على عدد هائل من الأمثلة التي من شأنها أن تقلب حدسنا رأسا على عقب، وتتحدى المفهوم النمطي للإرادة الحرة، في دراسة الطفيليات وكيفية تأثيرها على سلوكيات عوائلها. «التوكسوبلازما جوندي» هو طفيل مجهري يمكنه أن يصيب جميع الحيوانات ذات الدم الحار، لكنه لا يستطيع التكاثر الجنسي إلا في أمعاء القطط. ورغم أنه يمكن أن يعيش في أي حيوان ثديي، إلا أنه يجب أن يعود في النهاية إلى قطة لإكمال دورة حياته. عادة ما يصيب طفيل التوكسوبلازما الفئران؛ لأنها توجد في كثير من الأماكن التي توجد فيها القطط، وقد طور هذا الطفيل آلية بارعة ومخيفة للغاية للتغلب على التحدي المتمثل في الانتقال من الفئران - التي تشعر بخوف غريزي عميق من القطط - ليعود إلى المكان الذي يستطيع أن يتكاثر فيه؛ أي القطط. فمن خلال آلية عصبية لا يزال العلماء لا يفهمونها تماما بعد، يؤثر طفيل التوكسوبلازما على سلوك الفئران المصابة، فتتسبب في تخلي الفئران عن خوفها من القطط، لدرجة أنه في كثير من الحالات تسير الفئران (أو حتى تركض) باتجاه عدوها مباشرة. يخلق التوكسوبلازما مئات من الأكياس في دماغ مضيفه، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات الدوبامين. والدوبامين هو ناقل عصبي يلعب دورا في استثارة مشاعر قوية مثل الرغبة والخوف، وهو ما يساعد في تفسير الكثير من السلوكيات التي نراها في الثدييات المصابة بهذا الطفيل. من المحتمل أن هذه الفئران تشعر بطريقة أو بأخرى أنه يتم التلاعب بها رغم إرادتها بواسطة قوة خارجية، ولكن يبدو من المرجح أكثر أن الكيمياء العصبية لديها تتغير، ومن ثم تتغير رغباتها ومخاوفها: إنها لم تعد تشعر بالخوف من القطط، بل على العكس، تشعر الآن أنها منجذبة إليها.
1
يمكن أن يصاب البشر بهذا الطفيلي بالطريقة نفسها التي تصاب بها الثدييات الأخرى - عن طريق استهلاك اللحوم غير المطهية جيدا للحيوانات المصابة، أو عن طريق الاتصال المباشر مع البيئات الملوثة بفضلات القطط، مثل مياه الشرب أو تربة الحديقة أو صناديق القمامة - وقد تبين أن طفيل التوكسوبلازما له أيضا تأثير على أدمغة البشر. وقد أشارت الصحفية العلمية كاثلين ماكوليف إلى الملاحظات التي أبداها علماء الطفيليات قائلة إن «الخلايا العصبية التي تؤوي الطفيلي تصنع الدوبامين بكميات تفوق تلك التي تصنعها الخلايا الطبيعية بثلاثة أضعاف ونصف. ويمكن في الواقع رؤية المادة الكيميائية وهي تتجمع داخل خلايا الدماغ المصابة». ويمكن أن تسبب التوكسوبلازما مجموعة متنوعة من التغيرات السلوكية في البشر، ويعتقد أنها تسبب حدوث انفصام الشخصية وغيره من الأمراض العقلية لدى كثير من الناس. ووفقا لما ذكرته ماكوليف فإن «الأشخاص المصابين بالفصام تزداد احتمالات أن تكون نتائج اختبارات وجود أجسام مضادة للطفيلي لديهم إيجابية بمرتين إلى ثلاث مرات مقارنة بأولئك الذين لا يعانون هذا الاضطراب.»
2
في مقالها الرائع الماتع في «نيويورك تايمز» الذي جاء بعنوان «كيف تتلاعب الطفيليات للحصول على المساعدة من عائلها للبقاء على قيد الحياة»، تقول ناتالي أنجيير:
عندما أجرى ياروسلاف فليجر من جامعة تشارلز في براغ اختبارات شخصية على مجموعتين من الناس، إحداهما تظهر عليها علامات مناعية لعدوى سابقة بالتوكسوبلازما، والأخرى لا تظهر عليها هذه العلامات؛ سجل الرجال المصابون درجات أعلى نسبيا من الرجال غير المصابين في سمات مثل الشك في السلطة والميل لكسر القواعد، في حين أن النساء المصابات سجلن ترتيبا أعلى نسبيا من النساء غير المصابات على مقاييس الحنان، والثقة بالنفس، والثرثرة.
وثمة أمثلة لا حصر لها على طفيليات أخرى تؤثر على سلوكيات عائلها. فتتسبب الديدان الشعرية مثلا في جعل الصراصير المصابة - التي تحافظ عادة على مسافة آمنة من المسطحات المائية الكبيرة - تعدو نحو أقرب بحيرة أو مجرى مائي. فعن طريق إطلاق مواد كيميائية عصبية تحاكي تلك الموجودة في الصراصير، تحث الدودة الصراصير على الغرق في الوقت المناسب لمشاركة الدودة في موسم التزاوج، الذي لا بد أن يحدث في الماء.
3
وبالمثل، على الرغم من أن حشرة قمل الخشب عادة ما تختبئ خلال ساعات النهار لتجنب أن تأكلها الطيور، فإن الحشرات المصابة بالديدان شائكة الرءوس ترغب بشدة في الخروج لقضاء ظهيرة لطيفة للاستجمام في الشمس - على سطح فاتح اللون، بدون مبالغة، حيث تسهل البيئة العالية التباين على الطيور التي تحلق فوقها اكتشافها بسهولة. وهكذا تقوم الديدان بالعودة إلى الجهاز الهضمي للطائر لوضع بيضها.
4
وتملك يرقات فراشة ألكون الزرقاء كيمياء سطحية تحاكي المواد الكيميائية الموجودة على سطح نوعين على الأقل من يرقات النمل، مما يتسبب في حمل النمل ليرقات الفراشة ذات الرائحة المألوفة إلى عشها لإطعامها ورعايتها، غالبا على حساب ذرية النمل ذاتها.
5
وتتسبب الدبابير الطفيلية في جعل العناكب الغازلة المدارية تقوم ببناء شبكات تختلف اختلافا جذريا عن تصميماتها المعتادة. فبعد حقن يرقات الزنبور مادة كيميائية في العنكبوت، يبدأ العنكبوت في غزل شبكة أكثر ملاءمة لاحتياجات اليرقة من احتياجاته هو، والحفاظ على اليرقة في مأمن من الحيوانات المفترسة القريبة وتوفير شبكة مثالية لبناء شرنقتها.
6
والقائمة تطول وتطول.
وعند استعراض أمثلة كهذه، يذهلنا على الفور كثرة غفلتنا عن رؤية مجموعة القوى المعقدة التي تؤثر في السلوكيات التي تحدث في كل مكان حولنا. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل عما يدفع حقا كل رغباتنا وسماتنا الشخصية؛ لا سيما تلك التي نميل إلى التوحد معها بقوة.
ثمة أيضا حالات من العدوى البكتيرية التي تسبب تغيرات سلوكية في البشر، والعلماء مستمرون في اكتشاف الروابط بين الأمراض المعدية والاضطرابات النفسية البشرية.
7
فقد طورت البكتيريا العقدية، على سبيل المثال، آلية دفاعية تمكنها من الاختفاء بنجاح من الجهاز المناعي للأطفال لبعض الوقت. فالجزيئات الموجودة على جدران خلاياها تجعلها لا يمكن تمييزها عن الأنسجة الموجودة في قلب الطفل، ومفاصله، وجلده، ودماغه. وفي نهاية المطاف، يتعرف جهاز المناعة لدى الطفل على وجود بكتيريا غريبة في الجسم، ولكن عندما يشن هجومه، قد يستهدف عن طريق الخطأ الأنسجة السليمة في الجسم أيضا. ووفقا للدراسات التي أجراها المعهد الوطني للصحة العقلية، ففي هذه الحالات فإن «بعض الأجسام المضادة التفاعلية المتصالبة والمضادة للدماغ [قد] تستهدف الدماغ، مسببة الوسواس القهري، والتشنجات اللاإرادية، وأعراضا عصبية ونفسية أخرى تعرف اختصارا ب
[اضطرابات المناعة الذاتية النفسية العصبية عند الأطفال المصاحبة لالتهابات العقديات]».
8
هنا، سلوك العائل لا يدعم أهداف الطفيلي؛ وبدلا من ذلك، ينتج عن العدوى البكتيرية ظاهرة ذات تأثيرات «غير مقصودة». لكن كلا النوعين من الأمثلة يكشف عن الواقع ذاته حول تجربتنا الواعية، وتبدأ فكرة أن «أنا» هي المصدر النهائي لرغباتي وأفعالي في الانهيار.
ومع وجود العديد من القوى التي تعمل من وراء الكواليس - بدءا من العمليات العصبية الأساسية التي ذكرناها سابقا وحتى العدوى البكتيرية والطفيليات - يصعب أن نرى كيف يمكن أن تكون سلوكياتنا، وتفضيلاتنا، وحتى خياراتنا، واقعة تحت سيطرة إرادتنا الواعية بأي معنى واقعي. ويبدو من الأكثر دقة بكثير أن نقول إن الوعي مجرد رفيق في الرحلة؛ يشاهد العرض، ولكن لا يصنعه أو يتحكم فيه. من الناحية النظرية، يمكننا أن نذهب إلى حد القول بأن قلة قليلة (إن وجدت) من سلوكياتنا تحتاج إلى الوعي من أجل تنفيذها. ولكن على مستوى حدسي، فإننا نفترض أنه نظرا إلى أن البشر يتصرفون بطرق معينة ويكونون واعين - ولأن تجارب مثل الخوف، والحب، والألم، تبدو كأنها محفزات قوية داخل الوعي - فإن سلوكياتنا يحفزها «وعينا بها» وما كانت ستحدث بخلاف ذلك. غير أنه صار من الواضح الآن أن العديد من السلوكيات التي نعزوها عادة إلى الوعي، ونفكر بها كدليل على الوعي، يمكن أن توجد بالفعل دون وعي، على الأقل من الناحية النظرية. ويعيدنا هذا إلى السؤالين اللذين طرحناهما. ومرة أخرى، من الصعب أن نرى كيف تلعب التجربة الواعية دورا في السلوك. هذا لا يعني عدم وجود دور لها، لكن يكاد يكون من المستحيل الإشارة إلى طرق محددة تلعب بها هذا الدور.
ومع ذلك، أثناء تأملاتي الشخصية، تعثرت فيما قد يكون استثناء مثيرا للاهتمام: يبدو أن الوعي يلعب دورا في السلوك «عندما نفكر في سر الوعي ونتحدث عنه». فعندما أتأمل في «معنى» أن أكون شيئا، فمن المفترض أن تجربة الوعي هذه تؤثر على المعالجة التي تحدث في دماغي لاحقا. وكل شيء تقريبا أفكر فيه أو أقوله عندما أتفكر في الوعي لن يكون له أي معنى إذا صدر عن نظام بدون وعي. كيف يمكن لروبوت فاقد الوعي (أو زومبي فلسفيا) أن يتفكر في تجربة واعية بنفسه دون أن تكون له تجربة واعية أصلا؟ تخيل للحظة أن ديفيد تشالمرز نفسه زومبي، يفتقر تماما للتجربة الداخلية، ثم فكر في الأشياء التي يقولها في كتابه «العقل الواعي» عند شرح مفهوم الزومبي:
ونظرا إلى أن توءمي الزومبي يفتقر إلى التجارب الواعية، فهو في وضع معرفي مختلف تماما عني، وأحكامه تفتقر إلى المبررات اللازمة لها. ... إنني أعلم أنني واع، وهذه المعرفة تعتمد فقط على تجربتي المباشرة. ... ومن وجهة نظر المتكلم، أنا وتوءمي الزومبي مختلفان تماما: فأنا لدي تجارب واعية، وهو ليس لديه.
9
لست أدري كيف يمكن لأي نظام غير واع أن يكون لديه أي سبب لإنتاج هذه الأفكار من الأساس، فضلا عن الكيفية التي يستطيع بها نظام ذكي أن يفهمها. فدون أن يختبر توءم تشالمرز الزومبي تجربة الوعي، لا يكون ثمة ذلك الفارق الذي يشير إليه. إن تفسير تشالمرز لكيفية استمرار تصور الزومبي من الناحية النظرية هو أنه من الممكن دمج لغة الوعي ومفاهيمه في برنامج الزومبي. فيمكن بالتأكيد برمجة الروبوت لوصف عمليات محددة مثل «رؤية اللون الأصفر» عند اكتشاف بعض الأطوال الموجية للضوء، أو حتى التحدث عن «الشعور بالغضب» في ظل ظروف محددة، دون أن يرى أي شيء أو يشعر بأي شيء فعليا. ولكن يبدو أنه من المستحيل على أي نظام أن يميز بين التجربة الواعية واللاواعية بشكل عام دون أن يكون لديه تجربة واعية فعلية كنقطة مرجعية. عندما أتحدث عن لغز الوعي - مشيرا إلى شيء يمكنني تمييزه والتعجب بشأنه ونسبه (أو عدم نسبه) إلى كيانات أخرى - يبدو من المستبعد كثيرا أن أتمكن من فعل ذلك - فضلا عن تكريس الكثير من الوقت لذلك - دون شعور بالتجربة التي أتكلم عنها (لأن التجربة النوعية هي الموضوع برمته، ودونها لا يمكنني معرفة أي شيء عنها على الإطلاق). وعندما أقلب هذه الأفكار في ذهني، فإن حقيقة أن أفكاري تدور «حول تجربة الوعي» تشير إلى أن ثمة حلقة تغذية مرتدة من نوع ما، وأن الوعي يؤثر على معالجة دماغي. ففي نهاية المطاف، لا يمكن لدماغي التفكير في الوعي إلا بعد عيش تجربة الوعي (كما يمكن أن يفترض المرء).
لكن بخلاف هذا المثال الواحد الذي غالبا ما أقنع نفسي به، فإن معظم حدسياتنا حول ما يمكن اعتباره دليلا على وجود وعي يؤثر في نظام ما تتداعى عند تمحيصها. لذا، يجب علينا إعادة تقييم الافتراضات التي نفترضها حول الدور الذي يلعبه الوعي في توجيه السلوك؛ لأن هذه الافتراضات تؤدي بطبيعة الحال إلى الاستنتاجات التي نستخلصها بشأن ماهية الوعي، وما الذي جعله ينشأ في الطبيعة. إن كل ما نأمل في اكتشافه من خلال دراسات الوعي - بداية من تحديد ما إذا كان شخص ما في حالة واعية أم لا، إلى تحديد أين نشأ الوعي أولا أثناء تطور الحياة، إلى فهم العملية المادية المحددة التي تنتج التجربة الواعية - موجه بواسطة حدسنا حول وظيفة الوعي.
الفصل الخامس
من نحن؟
حين نتحدث عن الوعي، فإننا عادة ما نشير إلى «الذات» التي هي موضوع كل شيء نختبره؛ فكل ما ندركه يبدو أنه يحدث لهذه الذات أو حولها. لدينا ما نشعر أنه تجربة موحدة، حيث تتكشف لنا الأحداث في العالم بطريقة متكاملة. ولكن، كما رأينا، فإن عمليات الربط مسئولة جزئيا عن هذا الأمر، فهي تقدم لنا وهما بأن الحوادث الفيزيائية متزامنة تماما مع تجربتنا الواعية في اللحظة الحالية. يساعد الربط أيضا على ترسيخ مفاهيم أخرى في الزمان والمكان، مثل لون وشكل وملمس جسم ما؛ وكلها تعالج بواسطة الدماغ على نحو منفصل، ثم تجمع معا قبل الوصول إلى وعينا ككل متكامل . غير أنه في بعض الأحيان تتوقف عمليات الربط، بسبب مرض عصبي أو إصابة عصبية، تاركة المريض في عالم مربك لم تعد المشاهد والأصوات فيه متزامنة (العمه الانفصالي)، أو ترى فيه الأشياء المألوفة مجرد أجزاء، ولكن دون التعرف عليها (العمه البصري).
وحتى إذا كان الدماغ سليما، يمكننا في بعض الأحيان ملاحظة مواطن خلل صغيرة في الربط تلقي الضوء على الوهم الذي عادة ما يخلقه لنا الربط. قبل بضعة أشهر، كنت أسير لأحضر كوبا من الماء في منتصف الليل حين سمعت صوت اصطدام مرتفع في الخارج. ولسبب ما، ربما كان متعلقا بحقيقة أنني كنت شبه نائمة، اختبرت تلك اللحظة بطريقة غير عادية؛ فقد لاحظت استجابة الجفول المفاجئ لجسدي قبل سماع صوت الاصطدام. وللحظة وجيزة، شعرت أنني استجبت لشيء لم أسمعه «أنا» بعد.
تخيل كيف ستكون تجربتك إذا لم يحدث الربط على الإطلاق - عندما تعزف على البيانو، على سبيل المثال، إذا رأيت إصبعك تضغط على المفتاح أولا، ثم سمعت النغمة الموسيقية، وأخيرا شعرت بمفتاح البيانو ينزل تحت إصبعك. أو تخيل لو تعرضت عملية الربط للتلف ووجدت نفسك تجري قبل سماع نباح كلب شرس. من دون عمليات الربط، قد لا تشعر بذاتك على أنها ذات على الإطلاق. سيكون وعيك أشبه بتدفق للتجارب في موقع معين من الفضاء؛ وهو ما سيكون أكثر قربا إلى الحقيقة. هل يمكن أن تكون ببساطة على وعي بالأحداث، والأفعال، والمشاعر، والأفكار، والأصوات؛ وجميعها يأتي في سلسلة من الإدراك؟ مثل هذه الخبرة ليست استثنائية في مجال ممارسة التأمل، والعديد من الناس - بمن فيهم أنا - يمكن أن يشهدوا عليها. إن الذات التي يبدو أننا نسكنها معظم الوقت (إن لم يكن كل الوقت) - كمركز متموضع وثابت وصلب للوعي - هي وهم يمكن العبث به، دون تغيير خبرتنا بالعالم بأي طريقة أخرى. يمكن أن يكون لدينا وعي كامل بكل ما هو معتاد من المشاهد، والأصوات، والمشاعر، والأفكار، دون الشعور بكوننا ذاتا تتلقى هذه الأصوات وتفكر هذه الأفكار. لا يتعارض هذا على الإطلاق مع علم الأعصاب الحديث؛ فقد عثر على منطقة من الدماغ تعرف باسم شبكة النمط الافتراضي يعتقد العلماء أنها تسهم في إحساسنا بأنفسنا، ووجد أن هذه المنطقة تقمع أثناء ممارسة التأمل.
1
وثمة طرق أخرى لإيقاف الشعور بالذات. فمن المعروف أن عقاقير الهلوسة - مثل إل إس دي، والكتامين، والسيلوسيبين - تهدئ دائرة في الدماغ تربط بين التلفيف المجاور للحصين وبين القشرة المخية خلف الشبكية في شبكة النمط الافتراضي، وهو ما يفسر سبب وصف الناس لفقدانهم ذاتهم أثناء كونهم تحت تأثير هذه العقاقير.
2
يدرس العلماء تجارب الناس مع عقاقير الهلوسة ونشاط الدماغ المرتبط بها من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. بينما يكون المشاركون تحت تأثير هذه العقاقير، فإنهم يخبرون تجارب تتراوح بين «الطفو والشعور بالسلام الداخلي، إلى الاختلالات في الوقت والاقتناع بأن الذات تتفكك».
3
يفترض الكثير من الناس أن الوعي وتجربة الذات متلازمان دائما، ولكن من الواضح أنه في تلك اللحظات التي يفيد فيها الناس بالانفصال عن الذات، يظل الوعي حاضرا بالكامل. وكما يوضح مايكل بولان في كتابه «كيف تغير عقلك» عن نتائج البحث العلمي على عقاقير الهلوسة:
كلما زاد الانخفاض في تدفق الدم واستهلاك الأكسجين في شبكة النمط الافتراضي، زاد احتمال قيام المتطوع بالإفادة بفقدان الإحساس بالذات. ... تشير تجربة عقاقير الهلوسة ل «عدم الازدواجية» إلى أن الوعي ينجو من اختفاء الذات، وأن الذات ليست لا غنى عنها بقدر ما نرغب - وبقدر ما ترغب هي نفسها - في الاعتقاد.
4
تعمل عقاقير الهلوسة أيضا على كبح التواصل بين الخلايا العصبية في مناطق أخرى خارج شبكة النمط الافتراضي، مما يجعل النشاط في المخ أقل انفصالا بشكل عام. يناقش إرين برودوين، وهو صحفي في مجال العلوم، أبحاث روبين كارهارت-هاريس، الذي يجري دراسات التصوير في إمبريال كوليدج لندن حول تأثير عقار الهلوسة إل إس دي على الدماغ:
يقول كارهارت-هاريس: «إن انفصال هذه الشبكات يتداعى، وبدلا من ذلك ترى دماغا أكثر تكاملا أو توحدا». قد يساعد هذا التغيير في تفسير سبب إنتاج العقار [إل إس دي] لحالة مغايرة من الوعي أيضا . ... يبدو أن الحواجز بين الشعور بالذات والشعور بالتواصل مع البيئة الشخصية تذوب.
5
ومن المثير للاهتمام أن أحد الأسباب التي تجعل الأشخاص الذين يتناولون عقاقير هلوسة يكونون في مثل هذه الحالات المغايرة؛ هو أن هذه الفئة من العقاقير يمكنها أيضا تعطيل عمليات الربط. ويبدو من المحتمل أن هذا أيضا يسهم في إيقاف شعور المرء بأنه ذات، متمايزة ومنفصلة عن العالم. يشير بولان إلى أن «إحساسنا بالفردية والانفصالية يعتمد على ذات لها حدود وترسيم واضح للحدود بين ما هو نحن وبقية العالم. ولكن كل ذلك قد يكون بناء عقليا، أو نوعا من الوهم».
6
يصف برودوين تجربة أحد المشاركين في دراسة في جامعة جونز هوبكنز حول الآثار العلاجية لسيلوسيبين على المرضى الذين يعانون السرطان والقلق المرتبط به قائلا: «لبضع ساعات، يتذكر الشعور بالراحة؛ كان مستريحا، ويشعر بالفضول، ويقظا في الوقت نفسه. ... ولكن الأهم من كل شيء أنه لم يعد يشعر بالوحدة. لقد قال: «إن مفهوم «أنت» بأكمله يتحول بشكل ما إلى حضور خارج إطار الزمان وبلا شكل محدد»».
7
على الرغم من أنه قد يكون من المستحيل على شخص لم يختبر شيئا كهذا أن يتخيله، فإن الوعي يمكنه أن يستمر من دون شعور المرء بأنه ذات، وحتى في غياب التفكير. يشير الصحفي والكاتب مايكل هاريس إلى أن هذا يرجع جزئيا إلى تلك القدرة على التداخل مع إحساس المرء بذاته وهو الإحساس الذي نعرف أنه بناء:
إذا كان من الممكن العبث بتمايز الذات الجسدية بواسطة وسائل ميكانيكية [عقاقير الهلوسة، أو سكتة دماغية، أو اضطراب عصبي]، فعلينا حينئذ أن نبدأ في قبول أن الذات الجسدية - ذلك الشعور بأننا كائنات كاملة ومصونة - لا ترجع إلى وجود روح مميزة، أو «أنا»، موجودة داخل أدمغتنا.
8
فكما ذكرنا من قبل، يمكن التغلب على المفهوم النمطي ل «الذات» - إلى جانب مفاهيم خاطئة أخرى عن الخبرات اليومية - من خلال التدريب على التأمل، الذي أصبح الآن مفهوما على نحو أفضل على مستوى الدماغ. لآلاف السنين، استخدمت التقاليد التأملية الشرقية التأمل أساسا تجريبيا لدراسة طبيعة الوعي، وعلى الرغم من أن العلوم الغربية متأخرة نسبيا عن هذه الأساليب للاستبطان، يجري البحث الآن من قبل علماء الأعصاب عن الآثار المحددة للتأمل على العقل والدماغ. نأمل أن تؤدي هذا الأبحاث إلى اكتشافات جديدة حول كيفية تدريب انتباهنا بطرق منهجية يمكن أن توفر فهما أفضل للوعي وعلم النفس البشري. وعلى أقل تقدير، تؤكد هذه الأبحاث أنه يمكن امتلاك رؤى قيمة من خلال أدوات تحقيق ذاتية. يصف العالم البوذي أندرو أولنسكي الطبيعة الوهمية للذات التي يمكن الكشف عنها من خلال التأمل قائلا:
مثل تسطح الأرض أو صلابة المائدة، لها [أي فكرة الذات] فائدة على مستوى معين - اجتماعيا، لغويا، قانونيا - لكنها تنهار تماما عندما يتم فحصها بتمحيص دقيق.
9
لكن بغض النظر عما إذا كان يمكن للمرء كسر وهم الذات أم لا، فمن الواضح أن ثمة الكثير مما يتم إدراكه في أي تجربة واعية معينة؛ بداية من شخص في حالة واعية في أدنى شكل ممكن إلى شخص يقود طائرة. والشيء الوحيد الذي يمكننا أن نقوله بثقة - بغض النظر عما يتم إدراكه - هو أنه إما أن الوعي موجود أو غير موجود. إنه إما يشبه شيئا أو لا.
وكما تفكرنا في اللحظة التي ظهرت فيها التجربة الواعية للمرة الأولى في جنين ينمو، يمكننا أن نتساءل عن اللحظات الأخيرة للوعي في نهاية الحياة. أخبرني صديق لي مؤخرا عن قضاء بعض الوقت مع جده، الذي كان يموت ببطء بسبب مرض قلبي. لقد وصف تدهور حالة جده على مدار عدة أشهر والتجربة المدمرة المتمثلة في مشاهدة شخص يعرفه جيدا ويحبه كثيرا يتغير بشكل كبير. كان أول ما اختفى لدى جده هو التنظيم العاطفي والسيطرة على اندفاعه، بسبب الأضرار التي تحدث في قشرة الفص الجبهي على الأرجح. لم يعد جده يخفي عواطفه المتذبذبة؛ فقد كان يعلن فجأة للجميع كافة المشاعر التي يحس بها؛ الفرح، والإحباط، والشهوة، والغضب. وبعد ذلك، بدأت ذاكرته في التدهور، مما جعل استمرارية شخصيته أقل استقرارا. وفي نهاية المطاف، فقد القدرة على الكلام والمشي . وفي مرحلة ما، وجد صديقي نفسه يتساءل، مثلما يفعل كثيرون في مثل هذه الحالات، متى لن يعود جده «موجودا» حقا؟ متى سيكف عن أن يكون «نفسه»، وأكثر من ذلك، متى سيتلاشى وعيه تماما؟ ومع جلوسه صامتا في غرفة ليس بها شخصية يمكن التعرف عليها، ومع ضياع معظم ذكرياته، ظل الجد يبدو لصديقي أنه يختبر «شيئا ما». فحتى لو كان المتبقي هو أدنى أثر للإدراك، فإن الوعي يكون موجودا بوضوح في شكل ما، حتى اللحظة الأخيرة لوجوده. وهذا الحد الأدنى من الإدراك - مهما كان شكله قبل أن تنطفئ الأنوار تماما - قد يكون مختلفا تماما عن تجربتنا البشرية المألوفة.
عندما طلب منا توماس ناجيل أن نتخيل ماذا يشبه أن نكون خفاشا، فإنه يشير إلى أننا نعرف بالفعل أن ثمة حالات للوعي مختلفة تماما عن حالاتنا. فالطيران في الهواء باستخدام نظام استشعار الصدى لا بد أنه شعور مختلف تماما عن الشعور بالسير على الرصيف باستخدام البصر. وتقدم الدراسة المذهلة ذات الصلة التي أجريت على استبدال الحواس - حيث تمكن العلماء من إعطاء أشخاص مكفوفين وصم طرقا جديدة لإدراك ما يراه ويسمعه معظمنا - أدلة على وجود مجموعة واسعة من الخبرات المحتملة في الدماغ. على سبيل المثال، من خلال أداة تسمى منفذ الدماغ - وهي شبكة صغيرة توضع على اللسان وتحول تغذية فيديو إلى صدمات كهربائية صغيرة - يمكن للمخ أن يبدأ في تعلم ترجمة الإشارات الكهربائية التي تصل إلى اللسان. وباستخدام هذه التكنولوجيا، يمكن للمكفوفين في نهاية المطاف إنجاز مهام مثل رمي الكرة بدقة في سلة، والتنقل عبر مسار به عقبات.
10
من الواضح أن استخدام منفذ الدماغ مرتبط باستخدام الرؤية للمناورة في جميع أنحاء العالم المادي، ولكن من المؤكد أن طبيعة الخبرة الفعلية مختلفة تماما عن الرؤية بأعيننا. ثمة مصطلح رائع، وهو «البيئة الحسية»، قدمه لنا عالم الأحياء جاكوب فون أوكسكول في عام 1909، لوصف خبرة حيوان معين، على أساس الحواس المستخدمة من قبل هذا الكائن الحي للتنقل في بيئته. الخفافيش لها بيئة حسية معينة، وللنحل بيئة حسية أخرى، وللبشر بيئة حسية ثالثة، وشخص يستخدم تكنولوجيا مثل منفذ الدماغ يختبر بيئة حسية مختلفة أيضا.
يشارك ديفيد إيجلمان في أبحاث تستكشف إمكانيات توسيع البيئة الحسية للبشر لتشمل المعلومات التي لا نستطيع الوصول إليها حاليا من خلال حواسنا الخمس. يوضح ديفيد إيجلمان أن الدماغ «لا يهتم بكيفية حصوله على المعلومات، ما دام قد حصل عليها».
11
في مؤتمر تيد لعام 2015، وصف إيجلمان النتائج المستقبلية المحتملة لاستبدال الحواس، التي بموجبها يتم إنشاء «حواس جديدة» للأشخاص:
لا توجد في الأفق نهاية حقا لإمكانيات التوسع البشري. فقط تخيل أن يكون رائد فضاء قادرا على الشعور بالصحة العامة لمحطة الفضاء الدولية أو - بالأحرى - أن تشعر بالحالات غير المرئية لصحتك الشخصية؛ مثل مستوى السكر بالدم وحالة الميكروبيوم الخاص بك، أو رؤية ما حولك بنطاق 360 درجة، أو الرؤية باستخدام الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية.
12
نحن نعلم في الحقيقة أن الدماغ البشري - في ظل ظروف مناسبة - يمكنه دمج الأشياء الغريبة بسلاسة في خريطته لما يشكل جسده. ووهم اليد المطاطية مثال على كيفية إدراج شيء خارجي في تصور الفرد للذات عند استيفاء شروط معينة. في التجربة الأصلية، يجلس المشارك واضعا يده الحقيقية أسفل طاولة، بينما توضع يد مطاطية على الطاولة في مكان يده الأصلية. وعندما يقوم القائم بالتجربة بحك اليد الحقيقية للمشارك واليد المطاطية في الوقت نفسه باستخدام فرشاة، يبدأ المشارك في الشعور بأن اليد المطاطية التي يراها على الطاولة هي يده. وقد أجريت تجربة وهم اليد المطاطية فيما بعد بأشكال مختلفة باستخدام تقنية الواقع الافتراضي. في واحدة من هذه التجارب، التي أجراها عالم الأعصاب أنيل سيث وفريقه في جامعة ساسكس، ترتدي المشاركة نظارات الواقع الافتراضي، وتختبر عالما افتراضيا تمتلك فيه يدا افتراضية. أحيانا يتسبب القائمون بالتجربة في وميض اليد باللون الأحمر بشكل متزامن مع دقات قلب المشاركة، وأحيانا بشكل غير متزامن. وكما يمكن أن نتوقع، يكون لدى المشاركة شعور أكبر بملكية اليد الافتراضية عندما يكون الوميض متزامنا مع دقات قلبها.
13
يشير سيث إلى خبراتنا بأنفسنا في العالم على أنها نوع من «الهلوسة المحكومة». وهو يصف الدماغ بأنه «محرك تنبؤ» ويوضح أن «ما ندركه هو أفضل تخمين لما هو موجود في العالم». إنه يقول بمعنى ما: «إننا نخرج أنفسنا إلى حيز الوجود من خلال التنبؤ.»
14
تعد ظاهرة «الانقسام الدماغي» أيضا ظاهرة مفيدة هنا؛ حيث تلقي الضوء على كل من مرونة الوعي ومفهوم الذات. كثير من الناس صاروا الآن يعرفون بشأن الأبحاث الرائعة التي أجراها روجر سبيري ومايكل جازانيجا في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ابتداء من ستينيات القرن العشرين، على مرضى الصرع الذين خضعوا لجراحة قطع الجسم الثفني. وهذا إجراء جراحي يتم فيه قطع الجسم الثفني؛ إما جزئيا أو كليا، مما يفصل الروابط بين نصفي الدماغ الأيمن والأيسر في محاولة لمنع نوبات الصرع من الانتشار. وعلى الرغم من أن مرضى انقسام الدماغ لم يتغيروا بشكل مفاجئ بسبب إجراء الجراحة، فإن الأبحاث التي أجريت عليهم كشفت عن حقيقة غريبة ومناقضة للبديهة تشكك في العديد من افتراضاتنا حول سيولة الوعي وحدوده.
في التجارب التي أجريت على الأشخاص الذين خضعوا لجراحة انقسام الدماغ، يمكن تقديم المعلومات بشكل منفصل لكل من نصفي الدماغ من خلال الرؤية (في شكل صور، أو لغة مكتوبة، أو ما إلى ذلك)؛ لأن مجال الرؤية الأيمن يعرض على نصف الدماغ الأيسر، والعكس صحيح. في الشخص الطبيعي، تتم مشاركة المعلومات الواردة من أي مجال رؤية مع نصف الدماغ المقابل من خلال الجسم الثفني. أما في حالة مرضى انقسام الدماغ، فيتم استقبال التحفيز البصري لكل مجال من جانب واحد فقط من الدماغ. والشيء نفسه ينطبق على المحفزات المقدمة لكل أذن، وكذلك بالنسبة إلى معظم المعلومات الواردة من أيدي المرضى؛ في أغلب الأحيان، تصل مستقبلات اللمس من كل يد إلى نصف الدماغ المقابل، وحركة كل يد يسيطر عليها أيضا نصف الدماغ المقابل. في الواقع، بعد العملية الجراحية، يمكن لمرضى انقسام الدماغ أن يختبروا شيئا يسمى «تنافس نصفي الدماغ»؛ حيث نراهم يحاولون القيام بسلوكيات متعارضة بأيديهم اليسرى واليمنى في معركة مربكة - مثل محاولة إقفال أزرار قميصهم بيد بينما اليد الأخرى تحاول فك هذه الأزرار، أو محاولة عناق الزوج بذراع بينما الذراع الأخرى تدفع هذا الزوج بعيدا، أو فتح الباب بيد وإغلاقه باليد الأخرى في الوقت نفسه.
15
شكل 5-1: دراسة انقسام الدماغ.
طور علماء الأعصاب مجموعة متنوعة من الأساليب الإبداعية لتلقي الاتصالات من نصفي الدماغ لمرضى انقسام الدماغ، وكشفوا عن جوانب مذهلة أخرى لهذه الحالة. في الغالبية العظمى من الناس، يكون نصف الدماغ الأيسر هو المسئول عن التعبير عن اللغة من خلال الكلام والكتابة، في حين يكون النصف الأيمن أصم؛ غير أن نصف الدماغ الأيمن قادر على التواصل من خلال الإيماء والإشارة باليد اليسرى (والغناء، في بعض الحالات).
16
إذا أعطينا عملة معدنية لأحد مرضى انقسام الدماغ لكي يمسكها في يده اليسرى دون أن يتمكن من رؤيتها، فإن نصف الدماغ الأيمن فقط هو الذي سيكون مدركا لذلك. وإذا سألنا المريض عما يمسك به، فإنه يرد بأنه لا فكرة لديه؛ لأن نصف الدماغ الأيسر (الذي يملك القدرة على التواصل لفظيا) ليس لديه وعي بالعملة المعدنية. ولكن إذا طلب من المريض الإشارة إلى صورة للشيء الذي أعطي له، فإن يده اليسرى (التي يتحكم فيها نصف الدماغ الأيمن، والذي يعرف بأمر العملة المعدنية) سوف تشير بشكل صحيح إلى صورة العملة المعدنية. وبالمثل، إذا عرضنا كلمة «مفتاح» في نطاق حقل الرؤية الأيسر للمريض، وسألناه عن الكلمة التي يراها، فسوف يفيد بأنه لا يرى شيئا؛ حيث إن نصف دماغه الأيسر الذي يستطيع الكلام لا يرى الكلمة. ولكن إذا طلبنا من المريض التقاط الشيء المطابق للكلمة التي تظهر على الشاشة، فسوف يمد يده اليسرى (التي يتحكم بها نصف الدماغ الأيمن، الذي يرى الكلمة) ويلتقط المفتاح (الشكل
5-1 ). يمكن تكرار هذا النوع من التجارب بعدة طرق متنوعة، والحصول على النتائج نفسها مرارا وتكرارا. في الواقع، يفيد مرضى انقسام الدماغ أحيانا (عبر نصف الدماغ الأيسر القادر على النطق) أن يدهم اليسرى تتصرف من تلقاء نفسها - بإغلاق الكتاب الذي يقرءونه على سبيل المثال - وذلك تأكيد على أنهم غير مدركين رغبات ونوايا نصف الدماغ الأيمن.
وما أثار دهشة علماء الأعصاب الأوائل الذين أجروا مثل هذه التجارب (ودهشة بقيتنا أيضا!)، أن الشخص نفسه يمكن أن يكون لديه إجابتان مختلفتان عن سؤال واحد، إلى جانب رغبات وآراء مختلفة تماما بشكل عام. والأكثر إثارة للدهشة هو اكتشاف أن مشاعر وآراء كل من نصفي الدماغ تبدو كأنها خبرة خاصة به وغير معروفة للنصف الآخر. إن إحدى «ذاتي» المريض المصاب بانقسام الدماغ تندهش من آراء ورغبات الذات الأخرى، بنفس قدر دهشة شخص آخر تماما. إن معرفة ما إذا كانت كلتا وجهتي النظر لدى مرضى انقسام الدماغ واعية أم لا، لهو أمر صعب إن لم يكن مستحيلا، ولكن ليس لدينا سبب للشك في أن ثمة تجربة مرتبطة بأفكار ورغبات كل نصف من نصفي الدماغ، ويعتقد أغلب علماء الأعصاب أن كلا نصفي الدماغ واع في واقع الأمر. وكما يوضح عالم الأعصاب كريستوف كوتش، من معهد ألين لعلوم الدماغ، «فنظرا إلى أن كلا من نصفي الدماغ الناطق والأصم يقوم بسلوكيات معقدة ومخطط لها، فإن كلا النصفين له تصورات واعية، على الرغم من أن طابع ومضمون مشاعرهما قد لا يكونان هما نفسها.»
17
تحتوي الأبحاث المنشورة عن انقسام الدماغ على العديد من الأمثلة التي تشير إلى أن ثمة وجهتي نظر واعيتين يمكن أن توجدا في دماغ واحد. وأغلب الدراسات تسقط أيضا المفهوم النمطي للإرادة الحرة، من خلال الكشف عن ظاهرة أنشأها نصف الدماغ الأيسر، وأطلق عليها جازانيجا وزميله جوزيف ليدوكس «المترجم الشفهي».
18
تحدث هذه الظاهرة عندما يتخذ نصف الدماغ الأيمن إجراءات بناء على المعلومات التي يمكنه الوصول إليها والتي لا يصل إليها نصف الدماغ الأيسر، ثم يقدم النصف الأيسر شرحا فوريا وكاذبا لسلوك مريض انقسام الدماغ. فعلى سبيل المثال، عندما يعطى نصف الدماغ الأيمن الأمر «ارحل من هنا» في إحدى التجارب، فإن المريض سوف يقف ويبدأ المشي. لكن عند سؤاله عن سبب مغادرته الغرفة، سوف يقدم تفسيرا مثل «أوه، أنا بحاجة إلى تناول مشروب». إن نصف الدماغ الأيسر ، المسئول عن الكلام، غير مدرك للأمر الذي تلقاه الجانب الأيمن، ونحن لدينا كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد أنه في الحقيقة يعتقد أن عطشه كان السبب في أنه وقف وبدأ في المشي. وكما في المثال الذي تمكن فيه القائمون على التجربة من إحداث شعور بالإرادة لدى أشخاص لم يكونوا في الواقع يتحكمون في تصرفاتهم؛ فإن ظاهرة «المترجم الشفهي» هي تأكيد إضافي على أن شعورنا بأننا ننفذ تصرفات إرادية واعية هو على الأقل في بعض الحالات مجرد وهم محض.
لكن بغض النظر عما تخبرنا به أبحاث انقسام الدماغ عن الإرادة الواعية، فإن الفكرة الأساسية الأكثر صلة بمناقشتنا هي أن: مجموعات مختلفة من النوايا والمقاصد لدى مريض انقسام الدماغ يبدو أنها معزولة بعضها عن بعض في جزر منفصلة ومتمايزة من الوعي. في مثال المعركة التي تخوضها المريضة مع نفسها على إغلاق أزرار القميص بيد وفتحها باليد الأخرى، يشعر أحد الجانبين أن يدها اليمنى يتحكم فيها «شخص آخر»، شخص يكافح لمنعها من ارتداء القميص الذي اختارته. الجانب الآخر يرفض اختيارا سيئا للملابس اتخذه «شخص آخر». وفي لحظات كهذه، يتصرف مريض انقسام الدماغ (وربما يشعر) وكأنه توءمان ملتصقان وليس شخصا واحدا.
في كتابه «السيد ومبعوثه»، حول نصفي الدماغ، يصف الطبيب النفسي إيان ماكيلكريست أطروحته المثيرة للاهتمام حول إمكانية أن الوعي ينشأ على عمق أكبر بكثير في بنيات الدماغ مما يعتقد العلماء عادة:
يبدو لي أنه من الأنفع التفكير في الوعي لا باعتباره شيئا ذا حواف حادة نصل إليه فجأة بمجرد أن يصل المرء إلى قمة الأداء العقلي، ولكن باعتباره عملية تدريجية، بدلا من «كل شيء أو لا شيء»، وهو يبدأ منخفضا في الدماغ. ... المشكلة إذن لا تكمن في كيف يمكن أن تصبح إرادتان وعيا موحدا، ولكن كيف يمكن لمجال وعي واحد أن يستوعب إرادتين. ... إن الوعي ليس طائرا، كما يبدو غالبا في الأدبيات - يحوم على نحو منفصل ويأتي من مستوى علوي هابطا على الدماغ في مكان ما في الفصوص الأمامية - بل هو شجرة ضاربة بجذورها في أعمق أعماقنا.
19
إن الاكتشافات التي تحققت من خلال أبحاث انقسام الدماغ والتطورات الأخرى في علم الأعصاب الحديث، قد أدت بالكثيرين إلى طرح السؤال التالي: هل ثمة نسخة من انقسام الوعي تحدث في أدمغة غير منقسمة ماديا؟ هل ثمة مراكز أخرى للوعي، حتى ما قد نفكر فيه على أنه عقول أخرى، أقرب منا أكثر مما نعتقد؟ قد لا يكون من المستحيل تخيل وجود «مراكز»، أو «تكوينات»، أو «تدفقات» مختلفة من الوعي توجد بالقرب بعضها من بعض، أو تتداخل حتى في جسم بشري واحد.
الفصل السادس
هل الوعي في كل مكان؟
يبدو أننا لا نمتلك أية إجابات عن السؤالين اللذين بدأنا بهما هذا البحث: حين نمعن النظر، لا يمكننا العثور على أدلة خارجية موثوقة تؤيد وجود الوعي، ولا يمكننا أن نشير على نحو قاطع إلى أي وظيفة محددة يؤديها. كلتا هاتين النتيجتين تتناقض مع البديهة إلى حد بعيد، وهنا يبدأ لغز الوعي في الاصطدام بألغاز أخرى في الكون.
إذا كنا لا نستطيع الإشارة إلى أي شيء يميز أي مجموعات الذرات في الكون هي الواعية، وأيها غير الواعية، فأين عسانا أن نأمل في وضع الخط الفاصل بين الوعي واللاوعي؟ ربما يكون السؤال الأكثر إثارة للاهتمام هو لماذا يجب علينا رسم خط من الأساس. عندما نرى تجربتنا الخاصة بالوعي بمثابة «رفيق في الرحلة» فحسب، فجأة نجد سهولة أكبر في تخيل أن الأنظمة الأخرى تتسم بالوعي هي أيضا. حينها لا نجد مفرا من التفكير في إمكانية أن تكون المادة «كلها» مشبعة بالوعي بمعنى ما - وهي وجهة نظر يشار إليها بشمولية الوعي «بانسيكزم».
1
إذا أمكن أن تقترن السلوكيات المختلفة للحيوانات بالوعي، فلماذا لا تكون استجابة النباتات للضوء، أو حتى دوران الإلكترونات، مقترنة بالوعي؟ ربما يكون الوعي مدمجا في المادة نفسها، بصفته خاصية جوهرية من خواص الكون. «يبدو» ذلك ضربا من الجنون، لكننا سنرى أنه سؤال جدير بالطرح.
ظهر مصطلح شمولية الوعي في القرن السادس عشر وصاغه الفيلسوف الإيطالي فرانشيسكو باتريزي من الكلمة اليونانية «بان» التي تعني («الكل») وكلمة «سايكي» التي تعني («العقل» أو «الروح»). يوصف الوعي في بعض نسخ شمولية الوعي بأنه منفصل عن المادة ويتألف من مادة أخرى، وهو تعريف يذكرنا بالمذهب الحيوي والأوصاف الدينية التقليدية للروح. لكن على الرغم من أن المصطلح قد استخدم لوصف نطاق كبير من أنماط التفكير عبر التاريخ، فإن الاعتبارات المعاصرة لشمولية الوعي تصف الواقع بطرق مختلفة تماما عن الأوصاف التي كانت تقدمها النسخ السابقة، ودونما ارتباط بأي معتقدات دينية.
يقترح أحد فروع شمولية الوعي أن الوعي صفة جوهرية في جميع أشكال معالجة المعلومات، حتى الأشكال غير الحية منها مثل الأجهزة التكنولوجية، ويذهب فرع آخر إلى حد القول بأن الوعي من القوى والمجالات الأساسية الأخرى التي كشفت لنا الفيزياء عنها - مثل الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوتين النوويتين؛ القوية والضعيفة. إن النطاق الكامل للمناقشات الجادة بشأن شمولية الوعي - سواء أكانت تقتصر على أنواع معينة من معالجة المعلومات أم تنطبق على مادة الكون بأكملها - يختلف عن أغلب النظريات التي وضعت في الماضي بشأن شمولية الوعي. وإن التفكير الحديث بشأن شمولية الوعي يسترشد بالعلوم ويتماشى تماما مع مذهب الفيزيائية والاستدلال العلمي.
ثمة مقال للفيلسوف فيليب جوف أحب عنوانه: «شمولية الوعي فكرة مجنونة، لكنها أيضا صحيحة على الأرجح.» يتبع تفكير جوف المسار التالي:
فور أن ندرك أن الفيزياء لا تخبرنا شيئا عن الطبيعة الجوهرية للكيانات التي تتحدث عنها، وأن الشيء الوحيد الذي نعرفه يقينا عن الطبيعة الجوهرية للمادة هو أن بعض الأشياء المادية على الأقل لديها خبرة ... فإن الضرورة النظرية المتمثلة في تكوين رؤية بسيطة وموحدة تتسق مع البيانات، تقودنا بشكل واضح ومباشر في اتجاه شمولية الوعي.
2
وبسبب قيمة البساطة، فإني أميل إلى تفضيل فرع شمولية الوعي الذي يصف الوعي بأنه صفة جوهرية في المادة، على الوصف الذي يقتضي مستوى معينا من معالجة المعلومات حتى يكون الوعي موجودا. ومرة أخرى، هذا نتيجة المشكلة الصعبة للوعي، والتي تظهر حيثما حاولت رسم خط فاصل - سواء أحاولت رسمه عند المعالجة العصبية أم عند أشكال أبسط من معالجة المعلومات . فعلى الرغم من أن استيعاب وجهة النظر القائلة بأن الوعي جوهري في المادة أصعب كثيرا على عقولنا من نواح كثيرة، فإنها تعد حلا أكثر إقناعا بالنسبة إلي، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنها أكثر بساطة (وإن كان ذلك بدرجة ضئيلة فحسب). ولنا في حقل هيجز مثال على ذلك: أدرك الفيزيائيون أن مجال هيجز لا بد أن يكون موجودا، وإلا فإن الإلكترونات والكواركات التي تشكلنا جميعا ستكون عديمة الكتلة وتنطلق بسرعة الضوء. على مدى سنوات قبل اكتشاف حامله، بوزون هيجز، افترض الفيزيائيون وجود مجال هيجز. وعلى الرغم من أن لا شيء بشأن تأكيد وجوده يدعم أي نظريات عن الوعي (أو يقدم أي دليل عليها)، فإنه يساعدنا على فهم الافتراض المناظر له في شمولية الوعي - وهو أن الوعي ربما يكون خاصية أخرى للمادة، أو للكون نفسه، ولم نكتشفها بعد.
في كتابه «شمولية الوعي في الغرب»، يقدم الفيلسوف ديفيد سكربينا دراسة استقصائية لتاريخ الحجج العلمية لشمولية الوعي، والتي تستند إلى العقلانية، والأدلة التجريبية، والمبادئ التطورية. بعد نشر نظرية داروين عن التطور بالانتخاب الطبيعي (1859)، وبعد أن كشفت التطورات اللاحقة في مجالات الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا أن البشر يتألفون من العناصر نفسها التي تتألف منها المواد الأخرى، أصبح اللغز الحقيقي للوعي واضحا. وأدى الفهم الجديد المتمثل في أن كل شيء في الكون يتكون من اللبنات الأساسية نفسها إلى مزيد من الدعم لمنظور علمي وتطوري ينطوي على شكل من أشكال شمولية الوعي. إن النزعة الطبيعية للاستكشاف العلمي هي التوصل إلى التفسير الأبسط قدر الإمكان، ويعد مفهوم انبثاق الوعي عن مواد غير واعية نوعا من فشل الهدف النمطي للتفسير العلمي. في الفلسفة، يشار إلى هذه القفزة من اللاوعي إلى الحالة الواعية للمادة بأنه انبثاق «جذري» أو «قوي».
3
يقتبس سكربينا من عالم الأحياء الشهير جاي بي إس هالدين - في سياق معارضته مفهوم الانبثاق الجذري - بسبب التعقيد الحتمي الذي يضيفه إلى أي تفسير للوعي:
إذا لم يكن الوعي من خواص المادة، فهذا يعني القول بنظرية انبثاق قوي تتعارض مع العلم جوهريا . مثل هذا النشوء «يعارض روح العلم بشكل جذري، وهي الروح التي حاولت دائما تفسير المعقد بالبسيط. ... إذا صحت وجهة النظر العلمية، فسنجدها في نهاية المطاف [علامات وجود الوعي في المادة الخاملة] في شكل بدائي على الأقل، في جميع أنحاء الكون.»
4
ينقل سكوربينا القارئ عبر أكثر من ثلاثمائة سنة من تأملات العلماء الذين يتخذون منهجا علميا نحو شمولية الوعي، من يوهانس كيبلر إلى روجر بنروز، والذين يصل الكثير منهم إلى استنتاج مفاده أن التفسير الأبسط للوعي في حقيقة الأمر، هو شموليته. وفي ستينيات القرن العشرين - أي بعد نحو ثلاثين عاما من هالدين - أكد عالم الأحياء برنارد رينش أنه مثلما يوجد غموض في التصنيفات عند دراسة تطور شكل من أشكال الحياة إلى شكل آخر على مستوى الكائنات الحية الدقيقة والخلايا، فإن الفصل الصارخ بين الأنظمة الحية والأنظمة غير الحية مبهم أيضا، ومن المحتمل أن ينتقل التمييز الخاطئ إلى حدود الخبرة الواعية أيضا.
5
إضافة إلى ذلك، عندما يفترض العلماء أنهم تجاوزوا المشكلة الصعبة من خلال وصف الوعي بصفته خاصية منبثقة، أي ظاهرة معقدة لا تتنبأ بها الأجزاء المكونة لها، فإنهم يغيرون الموضوع. فجميع الظواهر المنبثقة - مثل مستعمرات النمل، وندف الثلج، والأمواج - لا تزال وصفا للمادة وسلوكها، مثلما نراها من الخارج.
6
أما ما تبدو عليه توليفة من المادة «من الداخل» وما إذا كانت هناك تجربة مرتبطة بها أم لا، فهو شيء لا يشمله مصطلح «الانبثاق». إن وصف الوعي بأنه ظاهرة منبثقة لا يفسر أي شيء في الواقع؛ لأن المادة، من وجهة نظر المراقب، تتصرف مثلما تفعل على الدوام. فإذا كانت بعض المواد لها خبرة وبعضها ليس له خبرة (وبعض الظواهر المنبثقة تتسم بالإدراك بينما لا يتسم به البعض الآخر)، فإن مفهوم الانبثاق، باستخدامه التقليدي في العلم، لا يفسر الوعي.
شكل 6-1: يشار إلى الظاهرة التي لا تتنبأ بها الأجزاء المكونة لها، والتي هي أعقد من مجموع أجزائها، بأنها ظاهرة منبثقة.
ويذهب بعض الفلاسفة إلى حد القول بأن الوعي لا يمثل مشكلة عويصة على الإطلاق، ويختزلونه في محض وهم فحسب. غير أن الوعي، كما أشار آخرون، هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن، بحكم تعريفه، أن يكون وهما. قد يظهر وهم ما «داخل» الوعي، لكنك إما تختبر شيئا ما أو لا تختبره، فالوعي ضروري لحدوث الوهم. يحلل الفيلسوف التحليلي البريطاني جالين ستروسون فكرة الوعي بصفته وهما في مقال بعنوان «منكرو الوعي»، ويعرب عن سخطه من عدم اتساق الفكرة على الإطلاق: «كيف يمكن لأي شخص أن يستنتج شيئا سخيفا للغاية مثل إنكار وجود التجربة الواعية، التي هي الشيء العام الوحيد الذي نعرف أنه موجود بالتأكيد؟»
7
يصف الفيلسوف نيد بلوك، الباحث بمركز العلوم العصبية بجامعة نيويورك، ظاهرة يلاحظها في طلابه عندما يلقي محاضرة عن المشكلة العويصة للوعي، تشبه اختلاف أنواع الشخصيات. يقدر بلوك أن ثلث طلابه تقريبا «لا يدركون أهمية الظاهراتية [التجربة المحسوسة] والمشكلات الصعبة التي تثيرها»، ويعتقد أنه سيكون من المثير للاهتمام دراسة الاختلاف العصبي بين الأشخاص القادرين على فهم المشكلة العويصة بشكل حدسي وغير القادرين على ذلك (أو الذين يرونها وهما).
8
وعلى أي حال، فإن إحالة الوعي إلى درجة الوهم ينم في رأيي عن عدم فهم للظاهرة. الحق أن تلك الإحالة ليست سوى إعادة تعريف للوعي بأنه «وهم الوعي». وحتى لو اتفقنا على وصف الوعي بأنه وهم، وهو أمر يبدو سخيفا، فإننا سنظل نتساءل عن مدى عمق هذا الوهم. هل هناك عمليات معقدة أخرى، أو مجموعات أخرى من المادة، تخبر هذا «الوهم»؟ سوف تظل جميع الأسئلة المتعلقة بالوعي وشموليته قائمة أمامنا.
9
في الواقع، يفترض ستروسون أن «شمولية الوعي هي أوجه نظرية يمكن للمرء تبنيها إذا كان طبيعانيا صرفا ... يعتقد بصحة مذهب الفيزيائية»، وأن «كل ما يوجد بشكل ملموس هو فيزيائي» وأن «جميع الظواهر الفيزيائية هي صور للطاقة.» ويخلص ستروسون إلى أن «شمولية الوعي هي ببساطة فرضية عن الطبيعة الجوهرية النهائية لهذه الطاقة، فرضية تقول بأن الطبيعة الجوهرية للطاقة هي الخبرة أو التجربة ... لن تمس هذه الفرضية الفيزياء في شيء. فكل ما هو صحيح في الفيزياء سيظل صحيحا .»
10
ومع ذلك، لا تزال الاعتبارات العلمية لشمولية الوعي ترى على أنها مثيرة للجدل ومتعارضة مع النظرة العلمية التقليدية. ورغم الصعوبة الشديدة لدراسة الوعي وحتى تعريفه، يعتقد أغلب علماء الأعصاب أنه ينتج عن عمليات معقدة في الدماغ، وأننا سنكتشف السبب الجوهري للوعي في نهاية المطاف من خلال دراسة العمليات العصبية المرتبطة به. غير أن العديد من علماء الأعصاب يعترفون بأن المشكلة العويصة ستستمر؛ لأن الفهم العلمي، أيا كانت درجة اكتماله، لا يتمتع بأي وسيلة تقدم لنا رؤية مباشرة عن التجربة الشخصية المرتبطة بتلك الخصائص الفيزيائية؛ فدراسة نظام كالدماغ لا تمدنا إلا بمزيد من المعلومات عن الخصائص الفيزيائية. على سبيل المثال، اعترف عالم الأعصاب «في إس راماتشاندران» بأن «الكواليا» (الصفات التجريبية للوعي التي يمكننا تسميتها، مثل الخبرة المتمثلة في رؤية اللون الأزرق أو الشعور بشيء حاد) ستظل لغزا:
تعد الكواليا مسألة محيرة للفلاسفة والعلماء على حد سواء؛ لأنه على الرغم من أنها واقعية على نحو واضح، ويبدو أنها تكمن في صميم التجربة العقلية، فإن النظريات المادية والحسابية عن وظائف الدماغ تلتزم الصمت تماما بشأن كيفية ظهورها أو سبب وجودها.
11
يولي علماء الأعصاب الذين يدرسون الوعي أقصى اهتمام للاختلافات على مستوى الدماغ بين «وظائف» الجسم التي تبدو واعية وتلك التي تبدو لا واعية (أنت على وعي بقراءة الكلمات الموجودة في هذه الصفحة في هذه اللحظة، ولكنك لست واعيا بأنشطة كليتيك)، وبين «حالتي» الوعي واللاوعي (كونك مستيقظا أو نائما بعمق، على سبيل المثال). ثمة مجموعة متنوعة من الفرضيات تشير إلى أن مناطق معينة من الدماغ، أو أنواعا من المعالجة العصبية، تخلق تجربة واعية؛ حتى إن بعض العلماء - ومنهم فرانسيس كريك وكريستوف كوخ - تكهنوا بأن التردد الذي تطلق عنده الخلايا العصبية إشاراتها هو الذي يؤدي بها إلى خلق الوعي.
12
حاول كريك وكوخ تحديد مصدر الوعي في الدماغ من خلال إجراء أبحاث على النظام البصري. كانا يأملان أن يتوصلا إلى فهم أفضل لأنواع المثيرات البصرية التي نعالجها بوعي (أي مدركين أننا نرى)، والمثيرات التي يستجيب لها الدماغ ولكن ليس لدينا وعي بها (المعالجة خارج حيز الوعي)، وأي مناطق من الدماغ هي المسئولة عن هذه الأنواع المختلفة من المعالجة. ورغم أن هذا النوع من الأبحاث مفيد وممتع، فإنه محدود مرة أخرى. إنه يزيد من معرفتنا بالدماغ وتجربتنا الإنسانية، لكنه لا يستطيع أن يخبرنا بأي شيء حول ماهية «الوعي من الأساس»، كما أنه لا يساعدنا على فهم ما إذا كانت هناك أنواع أخرى من الأنظمة، سواء حية أو غير حية، يمكن أن تختبر هذا الوعي.
في الآونة الأخيرة، صاغ عالم الأعصاب جوليو تونوني، مدير مركز جامعة ويسكونسن-ماديسون للنوم والوعي، بالاشتراك مع مارسيلو ماسيميني وفريقه بجامعة ميلانو، ما قد يصبح طريقة لتحديد ما إذا كان الشخص واعيا أم لا. في هذا الإجراء المعروف باسم «زاب آند زيب»
zap and zip ، يستخدم التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة لإيصال نبضة من الطاقة المغناطيسية إلى الدماغ، ثم تتم قراءة نشاط التيار الكهربائي التالي الذي يسري عبر الخلايا العصبية القشرية، بواسطة أجهزة التخطيط الكهربائي للمخ.
13
تعين الأنماط الناتجة على «مؤشر التعقيد المضطرب» (
). يوضح كوخ أن الطريقة ترسي قيمة حدية لمؤشر التعقيد المضطرب «كعتبة حرجة - أي الحد الأدنى لنشاط الدماغ المعقد - تدعم الوعي.»
14
تحاول هذه الطريقة اكتشاف الوعي لدى الأفراد الذين يصعب معرفة مستوى وعيهم من الإشارات الخارجية، ومن بينهم الأفراد الغارقون في نوم عميق، والأفراد الخاضعون للتخدير، والمرضى المصابون بغيبوبة. ونأمل أن يقربنا هذا خطوة من تحديد ما إذا كان المرضى المصابون بتلف في الدماغ، أو مرضى متلازمة المنحبس، أو من هم في مرحلة متأخرة من مرض الخرف، في حالة دنيا من الوعي أم في «حالة غيبوبة»، أو ما إذا كان المريض الخاضع لجراحة قد أصبح واعيا تحت التخدير، وهي حالات لا نمتلك حاليا سوى أدوات محدودة للكشف عنها.
لا شك أن هذا يعد من أهم الأعمال التي تجري في علم الأعصاب اليوم، ولكن مرة أخرى، لا تتناول الأسئلة المتعلقة بالوظائف الواعية مقابل الوظائف اللاواعية أو حالات الدماغ بالضرورة الأسئلة الكبرى فيما يتعلق ب «ماهية الوعي » ومدى تعمقه في الكون. ولكن تظل الحقيقة أن غالبية العلماء يعتقدون أن الوعي هو ظاهرة منبثقة ناتجة عن المعالجة العصبية. ويفترض أغلبهم أنه إذا لم نكن «نحن» واعين بخبرات معينة وعمليات دماغية، فيجب ألا تكون ثمة خبرة مرتبطة بهذه الخبرات على الإطلاق. قد يكون هذا صحيحا، لكن كما سنرى، قد لا يكون من المنطقي اتباع هذا الاتجاه الفكري.
لنر كيف يوجه هذا البحث (أو يفشل في توجيه) الآراء الخاصة بشمولية الوعي. ثمة تناقضات في العديد من الفرضيات التي طرحها العلماء والفلاسفة. وتظهر هذه التناقضات في: (1)
محاولات رسم خط فاصل بين الأماكن التي من المحتمل أن نجد فيها الوعي وتلك التي من غير المحتمل أن نجده فيها، وعادة ما يكون لهذا صلة بمعالجة المعلومات. (2)
فشل العلماء والفلاسفة في التغلب على الحدس القوي، على الرغم من كونه خاطئا على الأرجح، القائل بأنه لا يمكن أن يكون ثمة أكثر من مركز أو نظام وعي واحد داخل جسد بشري واحد.
يعد كريستوف كوخ أحد علماء الأعصاب الراغبين في النظر في تفسير شمولية الوعي؛ إذ قال لمحاور أجرى معه مقابلة:
إذا اتبعت مقاربة أكثر خيالية للوعي، فإن الأدلة تشير إلى أن ثمة العديد من الأنظمة الأخرى التي تمتلك وعيا؛ ربما تكون جميع الحيوانات وجميع البكتيريا أحادية الخلية، وربما يسري ذلك على مستوى ما، حتى على مستوى الخلايا الفردية التي لها وجود مستقل. قد نكون محاطين بالوعي في كل مكان ونجده في أماكن لا نتوقعها؛ لأن حدسنا يقول إننا سنراه فقط لدى الأشخاص، وربما لدى القردة، والكلاب والقطط أيضا. لكننا نعلم أن حدسنا عرضة للخطأ؛ ولهذا السبب نحتاج إلى العلم لإخبارنا بالحالة الفعلية للكون.
15
أؤيده هنا تأييدا تاما، لكنه يمضي بعد ذلك ليقول أشياء مثل: «نحن نعلم أن أغلب أعضاء جسدك لا تولد الوعي. كبدك، على سبيل المثال، معقدة للغاية، ولكن لا يبدو أن لديها أي مشاعر.»
16
إذا كان بإمكان المرء أن يتخيل أن للدودة مستوى ما من الوعي (وأنها ستحافظ على وعيها أثناء وجودها في جسم بشري)، فإن إسهام الدودة في مجال الوعي الذي أختبره «أنا» في الوقت الحالي من عدمه لا علاقة له بمسألة ما إذا كانت الدودة نفسها تختبر شيئا ما. لذا فإن هذه الخيوط المنفصلة من الدراسة (ما يسهم في وعيي «أنا» مقابل ما هو «واع») تنتهي بتشويش السؤال الأكبر حول ما هو الوعي في المقام الأول، وأين سنجده في الكون.
ومن خلال التفكير في مفهوم أن البكتيريا أو الخلايا المفردة يمكن أن يكون لها مستوى من الوعي، يبدو كوخ منفتحا على نسخة عصرية من شمولية الوعي، ولكن في الحوار نفسه، يؤكد أن المخيخ، الذي يضم تسعة وستين مليار خلية عصبية، «لا يولد الوعي». لكن لمجرد أن المخيخ غير مسئول عن الجزء الذي يحكم اللغة من مخي أو غير مسئول عن تدفق الوعي الذي أعتبره «أنا»، فلا يعني هذا أننا لا نستطيع أن نتساءل عما إذا كان المخيخ «منطقة أخرى» من الوعي (أو مناطق من الوعي)، تماما كما يمكننا التكهن بأن دودة أو بكتيريا قد تكون واعية. وعلى الرغم من أن كوخ يتعامل هنا مع الوعي في سياقين مختلفين - التفكير في وجهة نظر شمولية الوعي في السياق الأول، والإشارة إلى عمليات محددة في الجسم ليست مدرجة في التجربة التقليدية للوعي في السياق الثاني - فإن التفكير الإجمالي في هذا الموضوع في علم الأعصاب والفلسفة يميل إلى أن يكون متضاربا؛ أو على الأقل، غالبا ما يكون جزء من النقاش مفقودا.
وكما ذكرنا سابقا، فرغم أن تعريف توماس ناجيل لكلمة «الوعي» (أي كونه «مثل شيء») هو أصح طريقة للحديث عن التجربة الذاتية، فثمة مجموعة متنوعة من الطرق التي يستخدم بها الناس الكلمة (القدرة على التأمل الذاتي، اليقظة، الانتباه، وما إلى ذلك)، وهو الأمر الذي يسبب حيرة إضافية. لكن يمكننا الاستمرار في طرح الأسئلة بشأن ما إذا كان الوعي موجودا خارج الأنظمة التي يمكنها الإفادة بوجوده؛ وعلينا فقط القيام بذلك على مستوى آخر من المحادثة. حين أكون غير واع خلال مدة من النوم العميق، على سبيل المثال، فكل ما نعرفه هو أن الجزء من النظام الذي يشكل «أنا» قد توقف؛ وتتوقف معه استمرارية (وحتى واقعية) تجربتي لمدة من الوقت؛ لأن عمل هذا الجزء من النظام يتوقف لهذه المدة من الوقت. ولكن ما إذا كان الوعي نفسه مستمرا في مناطق أخرى من دماغي أو جسدي بينما تكون خبرة «أنا» متوقفة، فذلك لا يزال سؤالا ينتظر الإجابة.
وبغض النظر عن مقدار المعرفة التي نكتسبها حول كيفية عمل الدماغ، من المرجح أن يبقى السؤال المطروح دون إجابة هو: ما عمق انتشار الوعي في الكون؟ في كتاب «العقل الواعي»، يقترح ديفيد تشالمرز أن الوعي يمكن أن يتجلى في عمل شيء أساسي مثل جهاز تكنولوجي بسيط:
بينما نتحرك على طول النطاق الممتد من الأسماك والرخويات عبر شبكات عصبية بسيطة وحتى ننتهي بمنظمات الحرارة، أين يجب أن يختفي الوعي؟ ... يبدو أن منظم الحرارة (أو الترموستات) ينفذ نوع معالجة المعلومات التي تحدث في سمكة أو رخوية عند تجريدها إلى أبسط أشكالها؛ لذلك ربما يكون لديه أيضا نوع مناظر من الظاهراتية في أكثر أشكالها تجريدا. إنه يميز واحدا أو اثنين من الاختلافات المهمة التي تحدد ما يجب عمله؛ وبالنسبة إلي، على الأقل، لا يبدو من غير المعقول أن تكون هناك اختلافات مناظرة في التجربة.
17
لذا، إذا كان من المعقول أن تكون الديدان أو البكتيريا (أو منظمات الحرارة!) مصحوبة بمستوى ما من الوعي، مهما كان ضئيلا ومهما كان مختلفا عن خبرتنا أنفسنا، فلماذا لا نتبع المنطق نفسه عندما يتعلق الأمر بالأعضاء في الجسم، أو المخيخ (الذي يحتوي على معظم الخلايا العصبية في الدماغ)؟ هل مجرد عدم ظهور شيء ما في مجال ما «أنا» أخبره يعني استبعاد احتمال وجود العديد من أشكال الوعي في الوقت نفسه داخل حدود جسدي؟
وثمة مصدر محتمل آخر للحجج الخاطئة ضد شمولية الوعي يستند إلى التطور، حيث إن أغلب الدعم العلمي والفلسفي لفكرة أن الوعي يقتصر على الأنظمة العصبية للكائنات الحية يعتمد جزئيا على الزعم بأن الوعي هو نتاج للتطور البيولوجي . المنطق مفهوم، بالنظر إلى أن أكثر أساليبنا تطورا للبقاء على قيد الحياة يبدو أنها تتطلب الوعي. ولكن إذا لم يحدد الوعي سلوكنا كما كنا نفترض في المعتاد، فإن حجة التطور لا تصمد. فكيف يمكن أن يزيد الوعي من احتمالات البقاء على قيد الحياة إذا لم يؤثر على سلوكنا بالمعنى التقليدي؟
عندما ننظر خارج سياق الحياة الحيوانية، حيث يسهل علينا أن نتخلى عن حدسنا الفطري المغروس فينا، نجد أنه من الصعب في الواقع أن نستشعر المنطق القائل بأن أي قدر من معالجة المعلومات - بغض النظر عن مدى تعقيدها - سوف يتسبب فجأة في أن تصبح «تلك العمليات» واعية. عندما تركض كلبتك لاستقبالك في نهاية اليوم، يبدو وعيها واضحا لك تماما مثل أي حقيقة أخرى. ولكن كما رأينا، حتى عندما نتخيل روبوتات تبدو وتتصرف مثل البشر، يبدو أننا نكون غير قادرين على تحديد ما إذا كانت ستصبح واعية أم لا. وبسبب أننا نخبر الوعي بسهولة، وأننا ننسبه إلى أشكال الحياة الأخرى عن طريق القياس بسهولة، فإن الوعي يبدو لنا كأنه مقدرة واضحة (ولا نشعر بصدمة مستمرة لكوننا نخبر شيئا ما في كل لحظة من لحظات يقظتنا).
18
يجب أن نندهش إزاء واقع أو حقيقة وعينا تماما كما كنا سنندهش لو علمنا أن أحدث هاتف ذكي في الأسواق يمتلك وعيا.
إن إحساسي الشخصي بالتحليل الصحيح لسر الوعي، سواء أكنا قادرين على الوصول إلى فهم حقيقي أم لا، لا يزال منقسما حاليا بين تفسير قائم على الدماغ وتفسير قائم على شمولية الوعي. لكن على الرغم من أنني لست مقتنعة بأن شمولية الوعي تقدم الإجابة الصحيحة، فإنني مقتنعة بأنه فئة صالحة من الحلول الممكنة التي لا يمكن رفضها بسهولة كما يعتقد كثير من الناس. ومع الأسف، يظل من الصعب على العلماء الانضمام إلى الحوار دون المخاطرة بتعريض مصداقيتهم للخطر. في مقال نشر عام 2017 بعنوان «عقلنة المادة»، يعبر آدم فرانك، أستاذ الفيزياء الفلكية بجامعة روتشستر، ببلاغة عن كل من لغز الوعي وممانعة العلماء لاقتراح نظريات مغامرة تتجاوز النظر إلى الوعي كنتيجة للمعالجة في الدماغ:
الأمر بسيط بقدر ما هو لا يمكن إنكاره: فبعد أكثر من قرن من الاستكشافات العميقة في العالم دون الذري، فإن أفضل نظرية لدينا عن «سلوك المادة» لا تزال تخبرنا بالقليل عن «ماهية المادة». يناشد الماديون الفيزياء أن تفسر العقل، لكن في الفيزياء الحديثة، تظل الجسيمات التي تشكل الدماغ، بطرق عديدة، غامضة مثل الوعي نفسه. ... وبدلا من محاولة التخلص من لغز العقل عن طريق إسناده إلى آليات المادة، يجب أن نتصدى للطبيعة المتشابكة للاثنين. ... قد يكون الوعي، على سبيل المثال، مثالا على ظهور كيان جديد في الكون غير موجود في قوانين الجسيمات. هناك أيضا احتمال أكثر جذرية وهو ضرورة إضافة شكل بدائي من الوعي إلى قائمة الأشياء، مثل الكتلة أو الشحنة الكهربائية، التي صنع منها العالم.
19
لكن بينما يستطيع الفيزيائيون النظريون بكل بساطة اقتراح أفكار مثل التنبؤات بنظرية الأوتار - من عشرة أبعاد (أو أكثر) من الفضاء إلى المشهد الشاسع لأكوان محتملة - ويتمتعون بالإنصات الكافي لأبحاثهم، فلا يزال يعد من المجازفة بسمعة المرء أن يشير إلى أن الوعي قد يوجد خارج الدماغ. يشير فرانك إلى وجود معيار مزدوج مماثل يطبق على تقييم التفسيرات المختلفة لميكانيكا الكم: «لماذا تعد لا نهائية الأكوان المتوازية في تفسير العوالم المتعددة موقفا رصينا وغاية في الجدية، بينما تضمين موضوع الإدراك [الوعي] يتعرض للإدانة باعتباره عبورا إلى شواطئ مناهضة العلم في أحسن الأحوال، أو الصوفية في أسوأ الأحوال؟»
على الرغم من أن بعض العلماء قد انقادوا على نحو طبيعي إلى رأي شمولية الوعي بشكل أو بآخر، إلا أن المصطلح لا يزال يعد مصطلحا روحيا شبه ديني. يوضح ديفيد سكربينا أنه عند ذكر فكرة أن العالم غير الحي يمتلك وعيا للمرة الأولى، تبدو الفكرة معادية للعلم لدرجة أنها تثير معارضة غريزية ومشتركة:
بمجرد عرض موقف مؤيد لشمولية الوعي، فإن المرء يواجه على الفور تهمة أنه يعتقد أن «الصخور واعية» - وهي جملة تعد مثيرة للسخرية على نحو واضح لدرجة أنه يمكن بطريقة آمنة وسريعة رفض مفهوم شمولية الوعي. ... قد نرى أوجه تماثل قوية بين العقل البشري وبعض الحيوانات؛ ولذا فإننا نطبق المفهوم [الوعي] عليها بدرجات متفاوتة من الثقة. قد لا نرى مثل أوجه التماثل هذه مع النباتات أو الأشياء غير الحية؛ لذا فإن عزو وعي إليها يبدو سخيفا. هذا هو انحيازنا البشري. وللتغلب على هذا المنظور البشري، يطلب منا شمولي الوعي رؤية «عقلية» الأشياء الأخرى ليس من حيث الوعي «الإنساني»، ولكن كجزء يسير من «خاصية كونية» معينة للأشياء المادية، خاصية تعد كلا من عقلية الكائنات غير الحية والوعي الإنساني تجليات خاصة لها.
20
ورغم أن جميع الهجمات على شمولية الوعي التي قرأتها تفتقر إلى حجج موضوعية ومفصلة، فإن هذه الهجمات كانت شرسة. فمن «موسوعة الفلسفة» (إدواردز، 1967) إلى دورية «نيويورك ريفيو أوف بوكس»، اتهمت شمولية الوعي بأنها «غير مفهومة» و«غير معقولة إلى حد مذهل»، وشبه أنصارها ب «المتعصبين الدينيين».
21
وعلى أولئك الذين يرغبون في دفع هذه المحادثة إلى الأمام أن يلتزموا التزاما مهما بالتمييز الواضح بين وجهات نظر شمولية الوعي وبين الاستنتاجات الخاطئة التي يميل الناس إلى استخلاصها منها - وعلى وجه التحديد أن شمولية الوعي تبرر أو تفسر إلى حد ما مجموعة متنوعة من الظواهر النفسية - المتأتية من الافتراض غير الصحيح أن الوعي لا بد أن يستلزم عقلا له وجهة نظر واحدة وأفكار معقدة. إن عزو مستوى معين من الوعي للنباتات أو المواد غير الحية ليس معناه أن نعزو لها عقولا بشرية لها رغبات وأهداف ومقاصد مثل عقولنا. وأي شخص يعتقد أن الكون لديه خطة لنا أو أنه يمكن أن يتشاور مع «نفسه العليا» للحصول على مشورة طبية لا ينبغي له أن يشعر بأنه مدعوم من وجهة نظر شمولية الوعي الحديثة. فشمولية الوعي لا تدعم أي شيء من هذا القبيل. والبكتيريا التي تمتلك حدا أدنى من الوعي المتدفق عبر ذراتها تظل مجرد «بكتيريا». ستظل تفتقر إلى أدمغة وعقول معقدة، فما بالك بالعقول البشرية.
وكما يشير الفيلسوف جريج روزنبرج، عندما نفكر في فكرة أن البكتيريا أو الذرة تتمتع بمستوى من الخبرة الواعية، «من الواضح أننا لا نعزو إليها صفات خبراتنا أنفسنا»، ولكن بدلا من ذلك يمكننا أن نتخيل «نوعية حقل له طابع بمعنى «مجرد» للغاية مثل حقل تجاربنا، ولكن لا يمكننا تصوره «على وجه التحديد»، ولا يشبه تلك الخاصة بنا [خبرتنا الواعية].»
22
وبالطبع، فإن الاستنتاجات الخاطئة المستخلصة من سوء فهم شمولية الوعي - المتمثلة في أن الذرات، أو الخلايا، أو النباتات، تملك خبرة مماثلة لخبرة العقل البشري، على سبيل المثال - هي ذاتها التي تستخدم في الغالب للجدال ضد شمولية الوعي. ومع الأسف، يبدو من الصعب علينا جدا أن نتخلى عن الحدس بأن الوعي مساو للفكر المعقد. ولكن إذا كان الوعي في الواقع جانبا أساسيا أكثر مما كان يعتقد سابقا، فإن ذلك لا يعطي فجأة مصداقية لإيمان جارتك بأنها قادرة على التواصل عن بعد مع شجرة اللبخ لديها. وفي الواقع، إذا كانت ثمة صيغة صحيحة لمفهوم شمولية الوعي، فكل شيء سيظل يبدو لنا ويسلك السلوكيات نفسها التي يسلكها حاليا بالضبط.
الفصل السابع
ما وراء شمولية الوعي
تخيل أن تكون دماغا من دون أي أعضاء حسية متصلة به، أو أن تكون دماغا يطفو في الفضاء الخاوي أو في مسطح مائي ضخم. ثم تخيل حواسك توصل بجسدك، واحدة تلو الأخرى. لنبدأ بالبصر أولا. المحتوى الوحيد المتاح لك هو خبرة بصرية طفيفة. ربما يمكنك رؤية ضوء؛ ضوء نابض متفاوت السطوع يظهر ويختفي. حاول أن تتفهم هذا دون تضمين مفاهيم الذاكرة أو اللغة، بحيث لا يوجد أي شعور بتفكير ذاتي. «يا إلهي، لقد كان الظلام حالكا، ولكن ها قد عاد الضوء الآن مرة أخرى!» بدلا من ذلك، حاول أن تتخيل تدفقا بسيطا جدا من «الخبرات الأولى»: تعاقب الضوء والظلام، ثم ضوء أكثر سطوعا، ثم ضوء أكثر خفوتا، ثم ضوء نابض. بعد ذلك، تخيل الضوء الذي يأخذ أشكالا: ضوءا دائريا، شعاعا من الضوء، ضوءا يمتد إلى مسافة كبيرة. ربما يمكنك إضافة ألوان: ضوء محمر يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أزرق. تخيل الشعور بانعدام الشكل وانعدام الوزن. أنت تطفو بحرية في الفضاء، بلا أفكار أو مفاهيم؛ لا توجد كلمة «برتقالي» أو «أحمر»، هناك فقط الخبرة الخالصة لتلك الألوان. تصور أبسط خبرة يمكن تخيلها. بعد ذلك، أدخل الأصوات، ثم الأذواق، ثم الروائح؛ كل منها يصل تلو الآخر في شكل نقي قدر الإمكان. أنت ببساطة تختبر ما يصل إلى إدراكك، دون كلمات أو مفاهيم لوصف طبيعة الخبرة. وأخيرا، تخيل شعور اللمس قد نشط في شكل ضغط أو حرارة - مغطيا مناطق واسعة وفي مواقع صغيرة ومحددة - ليس في «جسدك» بالطبع - فليس لديك جسد - ولكن في مواقع في الفضاء. ...
من الصعب الاحتفاظ بهذا النوع من الصور الذهنية مدة طويلة، ولكن يمكننا الحصول على ما يكفي من الإحساس بمثل هذه الحالة لتخيل أن شيئا كهذا، «ممكن» على الأقل.
يدرك معظم الأشخاص الذين تلقوا تدريبا كافيا على التأمل أن تجربة الوعي لا تتطلب بالضرورة أن تكون مصحوبة بأفكار، أو حتى أي مدخلات حسية. يبدو من الممكن أن يكون المرء على دراية تامة بتجربته الذاتية في غياب الأفكار، أو المشاهد، أو الأصوات، أو أي مدركات أخرى. وكما رأينا، فإن الشعور الذي لدينا بأننا نفس ملموسة، وما يصاحب هذ الشعور من حدسيات، يخلق عقبات هائلة أمام التفكير الخلاق في الوعي. تسهم هذه الحدسيات أيضا في ميلنا إلى الرفض الغريزي لشمولية الوعي كإحدى الفئات المحتملة من النظريات، حتى عندما تكون هناك دلالات كثيرة على منطقيتها. ولكن عندما نفحص التفاصيل الفعلية عن كثب، تبدو الفكرة أقل استبعادا. توضح ريبيكا جولدشتاين أننا في الواقع نعرف أن الوعي جزء لا يتجزأ من المادة؛ لأننا أنفسنا مصنوعون من المادة، وهي الخاصية الوحيدة التي لدينا مدخل مباشر إليها:
الوعي هو خاصية جوهرية للمادة؛ بل إنها في الواقع الخاصية الجوهرية الوحيدة التي نعرفها للمادة؛ لأننا نعرفها مباشرة، من خلال كوننا أشياء مادية واعية. كل الخصائص الأخرى للمادة قد اكتشفت عن طريق الفيزياء الرياضية، وهذه الطريقة الرياضية للحصول على خواص المادة تعني أن الخواص العلائقية للمادة هي الخصائص الوحيدة المعروفة، وليست الخواص الجوهرية.
1
يشير جالين ستروسون إلى نقطة مماثلة من خلال تناول لغز الوعي من منظور آخر مختلف تماما. فيذهب إلى أن الوعي هو في الواقع الشيء الوحيد في الكون الذي «لا يشكل لغزا»؛ بمعنى أنه الشيء الوحيد الذي نفهمه حقا بصورة مباشرة. ويرى ستروسون أن «المادة» هي ما يشكل لغزا غامضا تماما؛ نظرا لعدم فهمنا لطبيعتها الجوهرية. وقد أطلق على هذا الأمر اسم «المعضلة العويصة للمادة»:
تخبرنا [الفيزياء] بالعديد من الحقائق حول تركيب الواقع المادي القابل للوصف الرياضي، وهي الحقائق التي تعبر عنها الفيزياء بالأرقام والمعادلات ... لكنها لا تخبرنا بأي شيء على الإطلاق عن الطبيعة الجوهرية للأشياء التي تشكل هذا التركيب. فالفيزياء صامتة - صامتة تماما وإلى الأبد - بخصوص هذه المسألة ... ما الأشياء الأساسية التي تشكل الواقع المادي، تلك الأشياء التي تنتظم بالطريقة التي تكشفها الفيزياء؟ الإجابة، مرة أخرى، هي أننا لا نعرف، إلا بقدر ما تأخذ هذه الأشياء شكل تجربة واعية.
2
ومرة أخرى، من المهم التمييز بين الوعي والفكر المعقد عند دراسة وجهات النظر الحديثة بشأن شمولية الوعي. فافتراض أن الوعي أمر أساسي لا يعني افتراضا بأن الأفكار أو الخواطر المعقدة أمور أساسية وتؤدي بطريقة سحرية إلى تجسد مادي لتلك الأفكار (وهو سوء فهم شائع لشمولية الوعي). فالادعاء السائد عكس ذلك تماما، وهو أنه إذا كان الوعي موجودا كخاصية أساسية، فإن الأنظمة المعقدة، التي تبنى من الوعي المتدفق بالفعل، يمكن أن تؤدي في النهاية إلى نشأة بنى مادية مثل العقول البشرية. يتناول ديفيد سكربينا مشكلة الإسقاطات الأنثروبية أو الإنسانية، حيث «نضع متطلبات وأعباء الوعي الإنساني على كاهل جسيمات غير حية»، ويوضح ضرورة التمييز بين الوعي و«الذاكرة»:
من المؤكد أن أي شيء يشبه العقل البشري يتطلب ذاكرة تشبه ذاكرة الإنسان، ولكن هذا مهم فقط للكائنات الحية المعقدة. فليس من المعقول أن نطالب بأن يكون للجسيمات الذرية أي شيء يشبه قدرة الذاكرة لدى الإنسان، أو حتى أي مثيل فيزيائي لشيء يشبه الذاكرة. قد تكون عقول الذرات، على سبيل المثال ، دفقا من ومضات خبرة لحظية دون ذاكرة.
3
ورغم ذلك يتساءل العديد من الناس: إذا كانت المكونات الأساسية للمادة تتمتع بمستوى من الخبرة الواعية، فكيف يمكن لنقاط الوعي الأصغر هذه عندما تشكل جسما أو نظاما ماديا أكثر تعقيدا أن تندمج لتكوين مجال جديد أكثر تعقيدا للوعي؟ على سبيل المثال، إذا كانت جميع الذرات والخلايا الفردية في دماغي واعية، فكيف تندمج تلك المجالات المنفصلة للوعي لتشكل الوعي الذي «أختبره»؟ وأكثر من ذلك، هل تتوقف كل نقاط الوعي الفردية الأصغر عن الوجود بعد أن تنشئ نقطة وعي جديدة تماما؟ يشار إلى ذلك باسم «معضلة الدمج»، التي تصفها «موسوعة ستانفورد للفلسفة» بأنها «أصعب مشكلة تواجه نظرية شمولية الوعي»، مشيرة إلى أن:
المشكلة هي أنه من الصعب للغاية فهم فكرة أن موضوعات واعية «صغيرة» ذات خبرة تتجمع معا بما لديها من خبرات محدودة لتشكل موضوعا واعيا «كبيرا» له خبراته الخاصة ... وفكرة تكوين العديد من العقول عقلا آخر أمر أصعب بكثير من أن يستوعبها عقلك (إذا جاز التعبير).
4
تمثل مشكلة الدمج - بالنسبة إلى العديد من العلماء والفلاسفة - أكبر عقبة أمام قبول أي وصف للواقع يتضمن الوعي بوصفه سمة واسعة الانتشار. غير أن العقبة التي نواجهها هنا مرة أخرى يبدو أنها حالة من الخلط بين «الوعي» وبين مفهوم «الذات»؛ إذ يميل الفلاسفة والعلماء إلى التحدث في إطار «موضوع» الوعي. يستخدم مصطلح «الذات» عادة لوصف مجموعة أكثر تعقيدا من السمات النفسية - بما في ذلك صفات مثل الثقة بالنفس أو القدرة على التعاطف - أما مصطلح «موضوع» فلا يزال يصف خبرة الذات في أبسط صورها. في ورقة بحثية تناقش المشكلة التي يشكلها الدمج، كتب ديفيد تشالمرز يقول: «كيف يمكن لأي علاقة استثنائية تجمع بين موضوعات مختلفة ... أن تكون كافية لتكوين موضوع جديد كليا؟»
5
ولكن ربما يكون من الخطأ الحديث عن موضوع للوعي، والأدق بدلا من ذلك هو الحديث عن «المحتوى المتاح» للتجربة الواعية في أي مكان معين في الزمان والمكان، يتحدد وفقا للمادة الموجودة هناك؛ أي وعي بالبيئة المحيطة لا يسري على الكائنات الحية فحسب، بل على جميع صور المادة، بكل شكل لها وفي كل نقطة في الزمان والمكان.
إذا نظرنا إلى مشكلة الدمج من هذا المنظور، يبدو لنا أنها لم تعد تشكل عقبة أمام جميع صيغ شمولية الوعي. بل قد تكون سببا إضافيا لتفضيل منظور يكون فيه الوعي سمة أساسية للكون، بدلا من أن يقتصر على مستوى معين من معالجة المعلومات. فاعتبار الوعي أساسيا يسمح للمادة بأن يكون لها طابع داخلي معين في كل مكان، وفي شتى أشكالها. ومن هذا المنظور، فإن الوعي لا يتفاعل «مع ذاته»، كما كان سيحدث في فعل «الدمج». وهذا الاتجاه في التفكير يفرز أسئلة مثيرة للاهتمام: هل يظهر محتوى معين في منطقة ما من الوعي اعتمادا على المادة الموجودة في هذا الموقع في الزمان والمكان؟ هل ثمة خبرات متداخلة، وكذلك خبرات متحدة، للمحتوى؟
في محادثة أجريتها مؤخرا مع كريستوف كوخ، ناقشنا ما قد ينجم عن تجربة افتراضية ربط فيها دماغان معا بنجاح كما يرتبط نصفا الدماغ العاديان. وبما أنه يبدو وكأن العقل ومحتويات الوعي يمكن تقسيمهما لدى أحد مرضى الانقسام الدماغي، فهل سيؤدي توصيل دماغين معا إلى إنتاج عقل جديد متكامل؟ على سبيل المثال، إذا ربط دماغانا، أنا وكريستوف، معا، فهل سيخلق هذا وعي كريستوف-آناكا جديدا؛ هل سيخلق وجهة نظر واحدة جديدة؟ هل سينتج عقل جديد يمكنه الوصول إلى جميع المحتويات التي سبق أن اختبرها دماغانا على نحو منفصل - كل أفكارنا، وذكرياتنا، ومخاوفنا، وقدراتنا، وما إلى ذلك - مشكلا «شخصا» جديدا؟
6
حتى إذا كان الجواب هو نعم، وهو كذلك على الأرجح، فلا أعتقد أننا نواجه مشكلة دمج في هذه التجربة الفكرية. نحن لا نقع في مشكلات إلا إذا رأينا تجاربي وتجارب كريستوف الواعية كذوات أو موضوعات؛ أي بنى دائمة للوعي بحدود ثابتة. في مثال توصيل الدماغين، قد يكون لدينا ببساطة مثال لوعي يغير محتواه أو طبيعته بالطريقة نفسها التي يتغير بها محتوى وعيك عندما تغلق عينيك وتفتحهما؛ فتجد الأشجار والسماء متاحة لمجال رؤيتك ثم تصبح غير متاحة. وعندما تحلم، فإنك تختبر بيئات مختلفة تماما عن محيطك الفعلي، وربما حتى تشعر بأنك شخص مختلف تماما. وفي النوم العميق، تفقد الوعي تماما، ثم تستعيده مرة أخرى. خلال فترتي حملي كلتيهما، وجدت نفسي أواجه تغيرات شديدة في محتويات وعيي؛ كان على قائمة الخبرات أحاسيس انتابت رحمي لم أعرفها من قبل، وهوسا بالطماطم وصلصات الطماطم بكل أشكالها، ومشاعر ذعر وموجات انفعالية أخرى غير محددة المعالم، وآلاما جسدية وأرقا ... لم أشعر بأنني «نفسي»، وأتوقع أنني لن أشعر بأنني نفسي أيضا أثناء اندماج عقلي مع عالم أعصاب ذكر يبلغ من العمر ستين عاما، لكن هذا لا يشير بالضرورة إلى «مشكلة دمج» بالنسبة إلى الوعي. حتى في حياتنا اليومية، يأتي المحتوى ويذهب، وحتى الوعي نفسه يمكن أن يبدو متأرجحا بين توهج وخفوت.
نحن نواجه مشكلة دمج فقط عندما ندرج مفهوم «الذات» أو «الموضوع» ضمن المعادلة. لكننا نعرف أن فكرة الذات، ككيان ملموس، هي وهم. من المسلم به أنه وهم من الصعب للغاية التخلي عنه، لكنني أعتقد أن الحل لمشكلة الدمج هو ألا يوجد بالفعل «دمج» يحدث على الإطلاق فيما يتعلق بالوعي. يمكن أن يستمر الوعي كما هو، بينما يتغير الطابع والمحتوى، حسب ترتيب المادة المعنية بالأخص. في بعض الأحيان قد يشارك المحتوى عبر مناطق كبيرة ومتصلة على نحو معقد، وفي أحيان أخرى يقتصر على مناطق صغيرة جدا، أو حتى متداخلة. فإذا اتصل دماغان بشريان معا، قد يشعر كلا الشخصين كما لو أن محتوى وعيهما قد اتسع فقط، مع شعور كل شخص بتحول مستمر من محتوى شخص واحد إلى محتوى كليهما، حتى اكتمال الاتصال بدرجة أو بأخرى. فقط عندما تدخل مفاهيم «هو» و«هي» و«أنت» و«أنا» ككيانات منفصلة، يصبح اتساع نطاق المحتوى لأي منطقة من مناطق الوعي (أو حتى عدة مناطق مندمجة) مشكلة دمج. يذكرني هذا بتلك الحيلة الكلاسيكية المتمثلة في تبديل الأدوار بين الشخصيات في قصة أو فيلم، مما يمنح كلا منهم تجربة الشعور بأن يكون المرء شخصا آخر . عندما ننظر عن كثب إلى ما يستلزمه هذا بالفعل، يصبح من المستحيل حتى طرح السؤال. أين هو «أنا» الذي سيتبدل إذا أصبحت شخصا آخر؟ إن كونك شخصا آخر لن يختلف عما ستشعر به حين تكون ذلك الشخص الآخر بالفعل. يبدو الأمر متناقضا، لكننا في النهاية نقول ببساطة ما هو واضح: «ذاك ما ستبدو عليه حين تكون هناك في صورة ذاك التكوين من الذرات، وهذا ما ستبدو عليه حين تكون هنا في صورة هذا التكوين من الذرات.» هذا يشبه القول إن «تكوين الذرات التي تشكل ورقة نبات ينتج عنه كل الخصائص المتوقعة لورقة النبات، وأن مجموعة من جزيئات الماء (
H
2
O ) تكتسب كل الخصائص المتوقعة للماء. هذا ما «تفعله» الجزيئات في هذا التكوين، وهذا ما تفعله في ذاك التكوين. وبالمثل، هذا ما تشعر به الجزيئات في هذا التكوين، وهذا هو ما تشعر به في ذاك التكوين». وها قد عدنا مرة أخرى إلى رؤية للمفاهيم الأساسية: الوعي والمحتوى.
إذا لم يكن الوعي بحاجة إلى الاندماج بالطريقة التي افترض الكثيرون أنها لازمة كي يكون من الممكن وجود واقع لشمولية الوعي، فإننا لا نواجه مشكلة دمج على الإطلاق. كما رأينا، لا يجب أن تكون خبرات الوعي مستمرة أو تظل بوصفها ذوات أو موضوعات فردية. كما أنها لا تحتاج بالضرورة إلى إخمادها عندما تتحد المكونات الصغرى للمادة لخلق أنظمة أكثر تعقيدا، مثل الأدمغة. قد يكون وهم كونك ذاتا، إلى جانب تجربة الاستمرارية مع مرور الوقت من خلال الذاكرة، في الواقع شكلا نادرا للغاية من الوعي. ومهما كانت الحقيقة الكبرى، فإن الخبرة الخاصة التي نملكها هي خبرة تمليها بنية أدمغتنا ووظائفها، وقد لا توفر لنا نقطة انطلاق مفيدة لفهم الطبيعة الفعلية للوعي. هل يمكن أن تكون هناك تجربة أخف بكثير، إلى جانب التجربة الواعية ل «الأنا»، لكل عصبون فردي أو مجموعات مختلفة من العصبونات والخلايا في جسدي وخارجه؟ هل يمكن للكون حرفيا أن يزخر بوعي يتأرجح بين التوهج والخفوت، ويتداخل، ويندمج، وينفصل، ويتدفق، بطرق لا يمكننا تخيلها تماما اعتمادا على قوانين الفيزياء بطريقة لم نفهمها بعد؟
ربما سيظل مصطلح «شمولية الوعي»، بسبب تاريخه وارتباطاته، يضع عواقب أمام التقدم في هذا المجال، ونحن بحاجة إلى تسمية جديدة للعمل الذي يقوم من خلاله الفلاسفة والعلماء بالتنظير حول إمكانية أن يكون الوعي سمة أساسية من سمات المادة. كما أن لدينا فروعا للفيزياء؛ الفيزياء النظرية والفيزياء التجريبية، قد نحتاج إلى إنشاء مصطلح جديد لهذا الفرع من دراسات الوعي؛ لتمييزه عن عمل علماء الأعصاب الذين يدرسون الارتباطات العصبية للوعي.
7
إن النظريات التي تفترض حتمية شمولية الوعي ما فتئت تكسب احتراما في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال عرضة للاستبعاد من المشهد الأكاديمي. ففي مقالته «ملاعق واعية، حقا؟ معارضة لشمولية الوعي»،
8
يعبر أنيل سيث عن وجهة نظر سائدة بين علماء الأعصاب مفادها أن علم الوعي قد «ابتعد» عن مصارعة «المعضلة العويصة» التي طرحها تشالمرز، ومن ثم عن الحلول «المتطرفة» مثل شمولية الوعي. ويصر على أنه «من خلال بناء جسور متطورة على نحو متزايد بين الآلية والظواهر، قد يختفي الغموض الظاهري للمعضلة العويصة». غير أن خطي البحث - محاولة فهم أي من عمليات الدماغ تؤدي إلى تكوين خبرتنا البشرية مقابل التقصي عن ماهية الوعي من الأساس - يمكن أن يتوافقا، حتى لو لم يكسب أي منهما الآخر شيئا بالضرورة. فكما هو الحال في الفيزياء، لا يحتاج علماء الأعصاب إلى إنفاق أي وقت في دراسة أفكار نظرية لا تشكل لهم أي أهمية. لكنهم ليسوا بحاجة إلى أن يعيقوا دراسة هذه الأفكار أيضا. فغالبا ما يكون العمل النظري في العلوم نقطة انطلاق ضرورية كما أنه عنصر حيوي للتقدم العلمي مثل العمل التجريبي الذي يعقبه.
من المهم توضيح بضع نقاط فيما يتعلق بالتمييز الذي أواصل رسمه بين فئتين من الأسئلة - تلك المتعلقة بمدى عمق الوعي في الكون وتلك المتعلقة بعمليات الدماغ التي تؤدي إلى تكوين خبرتنا البشرية - إلى جانب القيمة التي أضفيها على كل واحدة منهما. أولا، على الرغم من دفاعي عن شمولية الوعي باعتبارها فئة مشروعة من النظريات المتعلقة بالوعي بناء على ما نعرفه حاليا، فلست مقتنعة بإمكانية أننا قد نكتشف، من خلال طريقة علمية في المستقبل، أن الوعي في الواقع موجود فقط في الأدمغة. من الصعب بالنسبة إلي أن أدرك كيف تمكنا من الوصول إلى هذا الفهم بأي قدر من اليقين، لكنني لا أستبعده. كما أنني لا أستبعد إمكانية أن يكون الوعي شيئا لن نفهمه بصورة كاملة أبدا. من المحتمل أن تكون ريبيكا جولدشتاين محقة في إشارتها إلى أن لغز الوعي مستعص على الأساليب العلمية:
من المحبط نوعا ما التفكير في وجود حد مطلق لعلمنا؛ أن نعرف أن هناك أشياء لا يمكننا أن نعرفها أبدا. ... لقد أسفرت الفيزياء الرياضية عن معرفة الكثير من خصائص المادة. غير أن حقيقة أننا كأشياء مادية لنا خبرات، يجب أن تقنعنا أنها لا يمكن، للأسف، أن تسفر عن معرفة هذه الخصائص جميعا. وما لم يظهر جاليليو جديد، ويقدم لنا طريقة للوصول إلى خصائص للمادة لا تحتاج إلى أن تكون قابلة للتعبير عنها رياضيا، فلن نحرز أي تقدم علمي بشأن المعضلة العويصة للوعي.
9
علاوة على ذلك، فإن تركيزي ينصب على اللغز الذي تثيره المعضلة العويصة للوعي؛ لأنني أعتقد أنها غير مقدرة حق قدرها وتحتاج إلى انتباهنا، لا سيما عندما نواجه تلك المجموعة الكبيرة من العقول الاصطناعية التي ستكون بيننا قريبا. إن فهم ما إذا كان الذكاء الاصطناعي المتقدم واعيا أم لا هو أمر مهم كشأن أي سؤال أخلاقي آخر. إن لديك التزاما أخلاقيا باستدعاء سيارة الإسعاف إذا وجدت جارك مصابا بجروح خطيرة، وسوف يتعين عليك فجأة التزامات مماثلة تجاه كائنات ذكية اصطناعية إذا كنت تعرف أنها كائنات واعية. ولكن في النقاشات حول أشكال الوعي الأقل تعقيدا التي تشير إليها بعض صيغ نظرية شمولية الوعي - كتلك التي قد توجد في ترموستات أو إلكترون - لا تنطبق مفاهيم مثل السعادة والمعاناة، وأي أفكار حدسية عن أن نطاق أخلاقياتنا يمتد ليشمل أنظمة مختلفة اختلافا شاسعا عن أنفسنا تبدو سابقة لأوانها. إن الأسئلة التي تتعلق بالمعاناة البشرية في مجال علم الأعصاب («هل تم إيقاف خبرة المريض بنجاح وهو تحت تأثير التخدير؟» على سبيل المثال) هي أكثر الأسئلة إلحاحا التي يجب على العلماء التصدي لها حاليا.
من المهم أيضا أن نقول، مرة أخرى، إن خطي البحث المختلفين اللذين أوضحتهما لا يستبعد أحدهما الآخر، لكن ربما سيبقيان دائما معزولين أحدهما عن الآخر إلى درجة كبيرة. على سبيل المثال، يمكن أن نكتشف أن الوعي موجود في كل مكان، ولكننا نعرف في الوقت نفسه أن «التجربة الخاصة» للفرد لا يعود لها وجود في ظل ظروف عصبية معينة عندما يكون ذلك الشخص غير واع، كأن يكون في غيبوبة أو تحت التخدير. بالإضافة إلى ذلك، يبدو من المحتمل أن العقول المعقدة فقط هي القادرة على اختبار السعادة الشديدة والمعاناة الشديدة. في تلك الحالة، حتى لو كانت ثمة نسخة من شمولية العقل صحيحة، لن تكون جميع جزر الوعي متساوية أو لن يكون فهمها على القدر نفسه من الأهمية. تظل الحقيقة أن العقول المتكاملة والمعقدة مثل عقولنا قادرة على اختبار المعاناة الهائلة، ويجب أن نكون متحمسين لمساعدة جميع الكائنات على تجنب هذه المعاناة كلما كان ذلك ممكنا. ولو اقتصرنا على البحث في مسار واحد فقط لحل لغز الوعي (وهو ما لم يحدث لحسن الحظ!)، لمنحت الأولوية لأعمال مثل أعمال أنيل سيث وجوليو تونوني. ومع ذلك، فمن الواضح أن الألغاز الأعمق تستحق دراسة علمية متواصلة وتحتاج حاليا إلى الدفاع؛ لحماية قيم الفضول والبحث في خضم سعينا إلى المعرفة. وأنا أتفق مع الاستنتاج الذي توصل إليه موراي شاناهان، أستاذ علم الروبوتات المعرفية في كلية إمبريال كوليدج في لندن، حين قال:
إن وضع الوعي الإنساني ضمن فضاء أكبر من الاحتمالات، يدهشني كواحد من أعمق المشروعات الفلسفية التي يمكننا القيام بها. وهو أيضا من المشروعات الفلسفية المهملة. وفي ظل عدم وجود عمالقة لنقف على أكتافهم، فإن أفضل ما يمكننا فعله هو أن نوقد بضع شموع في هذا الظلام.
10
يبدو واضحا أن الصورة الكلية التي لدينا حاليا، جنبا إلى جنب مع القائمة الطويلة من الأسئلة التي تفتقر إلى إجابات قطعية، تمنحنا سببا وجيها لمواصلة التفكير في الوعي بطرق أكثر إبداعا، وعلى وجه الخصوص لمواصلة الاعتبار لفكرة أن الوعي متغلغل لأغوار أعمق مما جعلنا حدسنا نعتقد. غير أن البحث في طبيعة الوعي سوف يتقدم إلى الأمام فقط إذا اعتبر لغزا جديرا بفضولنا.
الفصل الثامن
الوعي والزمن
بعد عشر دقائق من ممارسة التأمل معا في صمت، رفع طلاب السنة الثانية الابتدائية، في فصل الحضور الذهني الذي أدرسه أيديهم، للتطوع لمشاركة خبراتهم.
1
أبدت أول طفلة تكلمت ملاحظة بسيطة، ولكنها عميقة. فقد صاحت قائلة: «إنها دائما اللحظة الحالية، لكن لا توجد لحظة حالية. إنها تتحرك باستمرار!» وكانت في حالة من الإثارة تعكس تعجبها الشديد مما أدركته. كان من المبهج أن أراها تكتشف كيف يرتبط لغز الوعي بلغز الزمن: إننا نختبر وعينا عبر الزمن، ولا يمكن فصله عنه.
فكر العديد من علماء الأعصاب في احتمالية أن يكون إحساسنا بأننا نوجد في اللحظة الحالية، في ظل التحرك المستمر للزمن في اتجاه واحد، مجرد وهم. ففي كتابه «دماغك آلة زمن»، يوضح دين بونومانو، عالم الأعصاب بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، أن مسألة تحديد ما إذا كان تدفق الزمن وهما أو رؤية حقيقية لطبيعة الواقع تعتمد جزئيا على تحديد أي من هذين المنظورين المتعارضين في الفيزياء هو الصحيح: (1)
الآنية: الزمن متدفق في الحقيقة، واللحظة الحالية فقط هي «الحقيقية»؛ أو (2)
الأبدية: نحن نعيش في «كون كتلي»، حيث يكون الزمن أشبه بالفضاء؛ فمجرد أنك في مكان ما (أو لحظة ما) لا يعني أن الآخرين لا وجود لهم في اللحظة نفسها.
ويشرح بونومانو صعوبة تناول طبيعة الزمن:
يقدم هذان المنظوران مفاهيم غير متوافقة لطبيعة الزمان، لكن كلاهما يعتبر شعورنا بمرور الزمن يمثل مشكلة جوهرية. غير أن حل هذه المشكلة سيكون مهمة جسيمة؛ إذ يقع شعورنا الذاتي بالزمن في مركز عاصفة عارمة من الألغاز العلمية التي لم تجد حلا وهي: الوعي، والإرادة الحرة، والنسبية، وميكانيكا الكم، وطبيعة الزمن.
2
شكل 8-1: وجهتا النظر بشأن طبيعة الزمن.
في عالم فيزياء الكم المحير، تضيف تجربة الاختيار المتأخر التي أجراها جون ويلر - وهي تجربة مستوحاة من نتائج تجربة الشق المزدوج الكلاسيكية - طبقة أكثر غموضا إلى السؤال المتعلق بكيفية ارتباط الزمن بالوعي. في تجربة الشق المزدوج في ميكانيكا الكم، عندما يكون الضوء موجها إلى لوح حاجز به شقان متوازيان، يعمل الضوء وكأنه موجة؛ فيمر عبر كلا الشقين، وينتج نمط تداخل على شاشة موضوعة خلف الشقين. وهذا صحيح حتى إذا كان الضوء ينبعث على صورة فوتون واحد في المرة الواحدة (الشكل
8-2 (أ)). وهذا يعني أن ثمة نمط تداخل لا يزال، بطريقة أو بأخرى، في طور الإنشاء على الرغم من عدم وجود تداخل فعلي يمكننا اكتشافه بين الفوتونات الفردية؛ وفقا للفيزياء الكلاسيكية. يبدو الأمر كما لو أن كل فوتون، على غرار الموجة، قد مر عبر كلا الشقين في وقت واحد.
ولكن إذا أجري قياس عند الشقين لتحديد أي منهما يمر عبره كل فوتون على حدة، حينئذ تتصرف الفوتونات كجسيمات، وتمر عبر شق أو آخر وتشكل شريطين متوازيين على الشاشة (كما يتوقع أن تفعل الجسيمات) وليس نمط التداخل (الشكل
8-2 (ب)).
شكل 8-2: تجارب الشق المزدوج.
تخبرنا هذه التجربة أن سلوك الضوء يختلف بناء على ما إذا كان يخضع للقياس أم لا. فدون إجراء قياس، يتصرف الضوء كموجة؛ وعندما يقاس، فإنه يأخذ خصائص الجسيمات الفردية. زعم البعض أن الضوء لكي يسلك سلوك الجسيمات، لا يتطلب الأمر إجراء قياس فحسب، وإنما يجب أن يكون هناك ملاحظة واعية لذلك القياس. لست واثقة من مدى قدرة أي شخص على التأكيد بشكل قاطع أن الوعي متورط في غرابة تجربة الشق المزدوج، وهنا أنضم للإجماع الساحق بين العلماء، بمن فيهم ويلر على أن الفوتونات توجد في عدة حالات محتملة في وقت واحد إلى أن تتفاعل مع «شيء ما»، لكن هذا الشيء ليس بالضرورة أن يكون شيئا واعيا. (كان هذا سيتغير، بالطبع، لو كنا اكتشفنا أن الوعي أساسي للمادة؛ لأن الوعي حينئذ كان سيرتبط بكل قياس، بحكم طبيعته.)
وكما لو أن هذه النتائج لم تكن غريبة بما فيه الكفاية، أدخل ويلر عنصر الزمن وتوقع أنه حتى لو أجرينا مثل هذا القياس «بعد» مرور الفوتون عبر أحد الشقين، لظللنا نحصل على النتيجة نفسها، ما يدفع الفوتون إلى أن يسلك سلوك الجسيم «بأثر رجعي».
3
بمعنى آخر، لقد توقع أن إجراء قياس في الوقت الحاضر كان سيؤثر على الماضي على نحو غامض. هذه هي تجربة الاختيار المتأخر، وقد أجريت أخيرا في عام 2007، وتأكد تنبؤ ويلر.
4
اقترح ويلر أيضا تجربة فكرية ذات صلة تخيل فيها قياس فوتون واحد من الضوء المنبعث من شبيه نجم (كوازار) على بعد مليارات من السنوات الضوئية، بحيث يمر هذا الفوتون بثقب أسود في طريقه إلى تلسكوب على الأرض. وكما هو الحال في تجربة الشق المزدوج، سينقسم الضوء بواسطة تأثير الجاذبية للثقب الأسود، مما يتسبب في الظاهرة المعروفة باسم الأثر العدسي الثقالي؛ وهي وهم بصري نرى فيه صورا متعددة من مصدر واحد، مثل شبيه النجم. في مقابلة مع الكاتب روب ريد، يشرح دونالد هوفمان، وهو عالم معرفي في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفين، ما الذي سيحدث إذا قمنا بقياس فوتون واحد في تجربة ويلر الافتراضية الكونية:
يمكنك الآن أن تسأل، بالنسبة إلى كل فوتون يأتي إلي، ما إذا كان قادما من الجانب الأيسر [أو الجانب الأيمن] من عدسة الجاذبية. [دعنا نفترض] أنني قررت أن أقيس الجانب الذي جاء منه، ووجدت أنه ذهب إلى الجانب الأيسر. هذا يعني أنني أستطيع القول إنه خلال العشرة مليارات سنة الماضية، كان هذا الفوتون يسلك مسارا بدأ من شبيه النجم ومر من الجانب الأيسر من عدسة الجاذبية. لكن إذا اخترت، بدلا من ذلك، عدم إجراء هذا القياس، والاكتفاء بقياس نمط التداخل فقط، فلن يكون صحيحا أنه خلال العشرة مليارات سنة الماضية، كان الفوتون قد مر [عبر مسار ما] من الجانب الأيسر. لذا فإن الخيار الذي أتخذه اليوم يحدد عشرة مليارات سنة من تاريخ ذلك الفوتون.
5
بالإضافة إلى الحقائق غير المفهومة بالفعل التي تكشف عنها تجربة ويلر حول الضوء ، إذا كان الوعي في الحقيقة شيئا جوهريا إلى حد ما للمادة، فإن تجربته تشير أيضا إلى وجود علاقة غريبة للغاية وغير بديهية بين الوعي والزمن.
فلنترك الطبيعة المذهلة لميكانيكا الكم جانبا، ولنعد إلى البساطة النسبية لتجربتنا الإنسانية في اللحظة الحالية. بغض النظر عن الطبيعة الفعلية للزمن، نعلم أن تجربتنا الواعية لا تمثل تسلسل الأحداث في العالم بدقة. لقد رأينا أنه من خلال عمليات مختلفة، يربط الدماغ المعلومات التي تصل إلى مستقبلات الإحساس لدينا في أوقات مختلفة ويسلمها لنا باعتباره حزمة أنيقة آنية. ولكن لا يزال بوسعنا أن نتساءل كيف ترتبط «التجربة الواعية ذاتها» بالزمن. إن إيلاء انتباه دقيق إلى تجربة الفرد لحظة بلحظة خلال أحد تمارين التركيز مثل التأمل - أو مجرد التأمل في غموض التجربة المحسوسة للمرء عموما - يؤدي إلى العديد من التساؤلات المثيرة المتعلقة بالزمن: كم من الوقت تستغرقه لحظة من الوعي؟ هل الوعي مستمر أم أنه متذبذب ما بين التوهج والخفوت بطريقة ما (وكيف لنا أن نعرف الفارق)؟ ما هي اللحظة الحالية؛ أهي نوع من الوهم؟ هل «الزمن في حد ذاته» وهم؟
إن كل الأسئلة المحيطة بالوعي ليست مهمة فحسب، خاصة مع دخول العلماء والفلاسفة عصر آلات الذكاء الخارق، ولكنها أيضا مذهلة عند التأمل فيها. في كتابه المعنون «الدماغ الواشي»، يتأمل «في إس راماتشاندران» في فرص العلم في كشف لغز الوعي: «يمكن جدا أن تكون مثل هذه التطورات بعيدة عن نطاق فهمنا الحالي مثلما كان علم الوراثة الجزيئية بعيدا عن أولئك الذين عاشوا في العصور الوسطى. ما لم يكن هناك أينشتاين آخر يدرس علم الأعصاب مختبئا في مكان ما.»
6
من وجهة نظرنا الحالية، يبدو من غير المرجح تماما أننا سنصل إلى فهم حقيقي للوعي. غير أننا قد نكون مخطئين بشأن الحدود المطلقة للمعرفة. فما زالت الإنسانية في شبابها، ونحن بالكاد بدأنا نفهم مكاننا في الكون. وبينما نواصل النظر من كوكبنا ونتفكر في طبيعة الواقع، يجب أن نتذكر أن ثمة لغزا هنا حيث نقف.
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
Page inconnue