سنوات مرت وسنوات، وقطع من العمر طريقا طويلا، ومن النجاح طريقا أطول، فلم يكن أمامه أن يعود إلى المحاماة، وكان قد تعود الجد الذي أرغم عليه في أول حياته، فنجح نجاحا ساحقا.
وأصبحت شهرته تشمل العالم العربي أجمع، بل إنه تولى قضايا دولية خارج العالم العربي.
ولكن العجيب أنه مع كل هذا النجاح بقي له شيء هام من هوايته القديمة؛ فهو يمثل في كل تصرف يعمله، يمثل في المحكمة، يمثل مع أبنائه، يمثل مع أحفاده، والغريب الغريب أنه يمثل مع الممثلة الشهيرة زوجته، وكانوا جميعا يضحكون فيما بينهم على طريقة تمثيله، ويزدادون له حبا من أجلها، لم تمر به هوايته عبثا.
لقد بقي منها شيء، بقي منها شيء كثير.
وإن كنت تعبت
- لا أرى أي فائدة في التجديف. - ومع ذلك لا بد أن تجدف. - الأمواج تتصرف بالقارب غير عابئة بهذا التجديف. - ومع ذلك لا بد أن أجدف. - لماذا؟ - هذا عملي. - وإن كان بلا فائدة؟ - ليس هناك عمل بلا فائدة. - أتراك توجه القارب بتجديفك هذا؟ - أنا لا أدري ولكن لا بد أن أجدف. - فإذا كنا تحت رحمة الأمواج؟ - ولكن لا يستوي من يجدف ومن لا يجدف. - كيف عرفت؟ - انظري حولك الجميع يجدفون. - أترى الجميع؟ - أرى من حولي. - ربما كان هناك آخرون لا يجدفون. - أولئك لا شك قد توقفوا في الطريق. - أنت تستنتج؟ - بل أنا أعرف. - كيف عرفت؟ - وعرفت معي. - تقصد هذا الذي يقوله لنا الآخرون؟ - نعم. - أتصدقه؟ - ولماذا أكذبه؟ - أنا لا أصدق شيئا لا أراه. - ومع ذلك فأنت تعرفين أن ابنك يجدف هو الآخر مع زوجته، وأنت وابنتك في قارب زوجها الذي يجدف هو بها ويطفيه. - ما شأن هذا بما قلت؟ - أنت لا ترينهم دائما ومع ذلك تعرفين أنهم موجودون. - موجودون طبعا. - أن تصدقي ما تريدين أن تصدقيه وترفضي ما لا تحبين. - ربما كان تجديفهم عبثا هم أيضا. - وليكن ولكن لا بد أن نجدف. - ربما إذا توقفت عن التجديف بعض الشيء يتواثب السمك إلى قاربنا. - بل السمك لا يثب إنما ينبغي أن نقتنصه بالشباك، وأنت تعلمين ذلك. - ومع ذلك فهو يثب أحيانا. - الاستثناء ليس القاعدة. - ألا تذكر السمكتين اللتين وثبتا معا إلى قاربنا دون جهد؟ - مرة. - ولكن السمك يثب إلى قوارب أخرى أفواجا. - ومع ذلك فأصحاب هذه القوارب يصيدون بالشبك هم أيضا. - هواة متاعب. - يفعلون ما يجب أن يفعلوا. - لو كنت مكانهم لاكتفيت بالسمك الذي يثب إلى القارب. - من يدري ربما إذا توقفوا عن الصيد توقف السمك عن الوثوب إليهم. - فليجربوا. - ليس لدينا وقت للتجارب. - من تقصد؟ - نحن جميعا، جميع الذين يجدفون يجربون أن يتوقفوا. - ما الذي يخيفهم؟ - الذي يخيفنا. - وما الذي يخيفنا؟ - الذي يخيفهم. - وما آخرة هذا التجديف؟ - أظن أننا سيأتي علينا وقت ونستريح. - من أين عرفت؟ - لا شيء يظل كما هو. - طبعا. - كانتا ضعيفتين أول الأمر ثم أخذتا تشتدان شيئا فشيئا، ثم أخذتا تضعفان شيئا فشيئا. - فكف عن التجديف إذن. - سيأتي وقت أكف فيه على رغم أنفي، لا تستعجلي. - لقد جئت إلى قاربك وذراعاك قويتان. - أعرف ذلك. - لم تشك إلي ضعفهما إلا الآن. - ومع ذلك فقد عرفت أنهما ضعفتا. - نعم. - ولم تقولين؟ - كنت أيضا أحس بالضعف. - أعرف ذلك. - ولم تقل؟ - الأشياء البدهية لا داعي لذكرها. - ولكننا مع ذلك نقولها . - إن تجنبنا البدهيات في كلامنا، ما زاد كلامنا عن جملة كل سنة. - أخاف على ابنتي. - لماذا؟ - إنها تجدف مع زوجها. - وأي غريبة في ذلك؟ - لم نعودها على ذلك. - كنا مخطئين. - أخشى أن تتعب. - ولماذا لا تخافين على زوجة ابنك؟ - إن من واجبها أن تجدف مع زوجها. - أليس هو نفس الواجب بالنسبة لابنتك؟ - صحتها ضعيفة. - أرى صحتها أحسن من صحة زوجة ابنك. - أيامنا لم نكن نجدف. - الأيام تتغير، أين نحن وأين هم؟ - نعم، بيننا مسافة بعيدة. - والمسافة بيننا وبين آبائنا أبعد. - بل يخيل إلي أننا نقترب منهم. - ليس إلى الحد الذي تتصورين. - إلى أين نحن ذاهبان؟ - إلى أبي وأبيك وأمي وأمك. - منذ زمن بعيد لم نرهما. - كلما اقتربنا إليهما زاد شوقنا لرؤيتهما. - تعبت، فتوقف. - لا أستطيع. - ألا ترى الموج يسير بنا حتى وإن لم تجدف. - لا بد أن أساعده. - يخيل إليك أنك تساعده. - بل يعرف أنني أساعده، على الأقل حين أجدف أحس أنني أتقدم. - وهم. - بل الوهم أن أتوقف وأترك للموج كل شيء. - إن كل شيء في يده. - ولكنه مع ذلك يريدني أن أجدف. - أقال لك هذا؟ - كثيرا. - أبينك وبينه حديث؟ - لا تسمعينه. - حسبت أنني وحدي التي أكلمه. - وإنما نظن أننا ننفرد بأشياء. - غرور. - لا بد منه. - لماذا؟ - لنتحمل الرحلة الطويلة. - ألا تحتمل إلا بالغرور؟ - وبأشياء أخرى. - مثل ماذا؟ - مثل التجديف. - وماذا؟ وهذا الكلام الفارغ. - ولا أدري، ربما أيضا بشعورنا أننا لا بد أن نحتمل. - وإن لم؟ - لا يهم، سواء عند الموج أن نحتمل أو لا نحتمل، فالرحلة ستتم. - أعلم، أتذكر متى بدأنا الرحلة؟ - لم أعد أذكر شيئا. - ولا أنا. - هذا حسن. - لماذا؟ - ربما معناه أننا اقتربنا. - أتريدنا أن نقترب؟ - لا. - ولا أنا. - مع أنك تعبت؟ - مع أني تعبت.
لم يتسع الوقت
حين تقرر أن يسافر إلى السعودية لأعمال الشركة البولندية التي يعمل بها، لم يفكر في شيء آخر إلا أن يزور الأراضي المقدسة، ويطوف حول الكعبة المكرمة ويقف أمام شباك النبي.
ولم يكن توقه إلى العمرة عن أي شعور بالإيمان ، بل كان كل ما يفكر فيه هو تحدي هذه الرواسب، التي تسيطر على أفكار المسلمين، والتي يرى أن انصياعهم لها ما هو إلا تعلق ببقايا الأبوة وعهود الصبا والطفولة. وكان واثقا أن الإنسان لا يمكن أن يؤمن بفكرة الدين أو التعلق بأوهامه.
هو واثق من نفسه ومن أفكاره، وقد ازداد بها وثوقا حين اختار المذاهب الشيوعية مذهبا، وانسلك في قالبه وواجه كل ما واجهه أصحاب المذاهب من عقاب، كما نال كل ما ناله هؤلاء من ثواب.
Page inconnue