لم يكن يسري فقيرا في القرية ولكنه كان تائها في زحامها، محتقرا بين أهلها لا يشعر به أحد، رغم جهده الجهيد أن يشعر الناس به؛ فقد كان لا يترك وسيلة يذكر بها الناس أنه حي، وأنه يسعى بينهم، وأنه ليس نكرة من النكرات، إلا سعى إليها حثيثا، وقد كان يحصل دائما على هزء الناس والسخرية به، إلا أنه لم يستطع قط أن يحصل منهم على ما يريد من شعور بوجوده وأنه حي.
ولم يكن غناه فادحا، ولكنه، مع ذلك، كان يدعو إلى الولائم في كثير من الأحيان، وكان الناس يلبون دعوته، ولكنهم ما إن يأكلوا ويتركوا بيته، حتى ينسوا أمره، وكأنه لم يكن.
ولم يكن يسري مؤمنا بالله، وما كان يصلي، ولكنه مع ذلك حريص على أن يشهد صلاة الجمعة، مرتديا أجمل ما عنده من الملابس، لا ينسى أن يلبس رباط عنقه الأحمر، مقتنعا أن اللون الأحمر أكثر الألوان استرعاء للأنظار، لكن الأنظار، مع ذلك، كانت تأخذه؛ فهو موجود بغير وجود، حاضر خير منه الغائب.
وكان يسري يحرص أيضا على أن يخطب الناس بعد كل صلاة جمعة، ولم يكن طبعا يستطيع أن يحدثهم عن عدم إيمانه؛ فهو مع كل حرصه على أن يذكر الناس بوجوده، أكثر حرصا على أن يظل على قيد حياة، أية حياة. ولو أنه أطلع الناس على ما يعتمل في نفسه من عدم إيمان، لأصبح موته بأيديهم أمرا محققا.
وإنما كان يسري يخطب الناس في وجوب إعطاء الفقراء والمساكين والإحسان إليهم، ولكن لم يقدر له أبدا أن يكمل خطبة إلى النهاية التي يريد أن ينتهي إليها؛ فما هي إلا جملة وأخرى، حتى يصبح المسجد فارغا من الناس أجمعين.
فما كان أحد من أهل القرية ليلقي إليه سمعا، وهم يعلمون أن الإحسان عنده كلام، والشفقة بالمساكين عنده شقشقة. وكفاهم دليلا على ذلك ما يعانيه منه عبد السميع ومحمدين وشفيق الذين يستأجرون أرضه؛ فإن أحدا في القرية لا يعاني من الفقر والذلة والهوان والقهر، ما يعانيه هؤلاء الثلاثة الذين قدر لهم أن يكونوا أجراء عنده. ويا طالما عرضوا أنفسهم على الملاك الآخرين، ولكن أحدا لم يستطع أن يغيثهم؛ فالمستأجرون في القرية يرثون الأرض عن آبائهم، ولا يستطيع مالك - بل ولا يجب - أن يخرج أحدا من أرضه ليعطيها إلى آخر.
وقد ضاق محمدين بمالك أرضه يسري، وضاق بالقرية جميعا فتركها إلى أرض الله، ولم تعد القرية تعلم عنه شيئا.
وظل عبد السميع وشفيق يستأجران أرض يسري وحدهما، بعد أن حاول أن يجد مستأجرا آخر بدلا من محمدين فذهبت محاولاته سدى.
فالكلام منه إذن عن وجود الإحسان خليق أن يجعل أهل القرية ينصرفون عنه. حتى إن لم يتوافر هذا السبب؛ فقد كان أهل القرية سينصرفون عنه أيضا؛ لأنهم لا يشعرون أن له وجودا أو مكانا.
كان هذا الشعور بالضياع والإهمال يملأ نفس يسري، ويجعل نفسه تفيض مرارة وحقدا؛ فهو حاقد على كل غني له بين القرية توقير واحترام، وهو حاقد على كل متعلم يقول فيسمع الناس في اقتناع واحترام، وهو أشد حقدا على المحترمين في القرية، دون أن يكون لاحترامهم سبب ظاهر إلا أنهم محترمون. فقراء هم ولعل بعضهم لم يصب من العلم إلا قليلا، ولكن أهل القرية يحترمونهم، ويقصدون إليهم إن طلبوا الرأي، وينزلون عندما يشيرون به.
Page inconnue