وجنح به الخيال إلى تأليه المظاهر الكبرى في الوجود، من الشمس إلى القمر إلى الكواكب إلى النجوم إلى البرق والرعد، حتى النهر والصخر والخصب والجدب، فجعل لكل حالة في الطبيعة آلهة معينة بها، تستحق منه العبادة، والتقرب إليها بأثمن ما لديه، ضمانا لعطفها ودرءا لغضبها.
وإبان ذلك أو ربما قبله، قدس الإنسان - فيما رآه جديرا بالقدسية - آباءه وأسلافه الغابرين، وكان لظاهرة الأحلام دورها في تقديس الأسلاف، فلم يكن لدى الإنسان في مبتدأ أمره تفسير واضح لأحداث المنام وأحواله. وهذا المبتدأ لم يكن إلا مرحلة الطفولة في التطور البشري، فكان كالطفل واضح الحلم جليه، فكان لا يفرق بين حدث الحلم وحدث الواقع، وفي المنام كان الأسلاف الراحلون أحياء فاعلين، فخرج بنتيجة مؤداها أن أباه الراحل لم يزل موجودا وحيا ومؤثرا، وإن كان مخفيا بطريقة ما.
ومن هنا سوغ اعتقاده في أرواحية الطبيعة وصبغها بالحياة، أن سلفه الراحل هو حالة من حالات الطبيعة، أو هو في واحدة من ظواهرها، فربما كان في هذه الشجرة أو تلك النبتة، أو في هذا الحيوان النافع، أو في تلك المياه الجارية.
وهي تلك المرحلة المسماة - اصطلاحيا - بالطوطمية، التي تم فيها تقديس الكائنات الأرضية، واعتبارها محلا لسكنى السلف الراحل، مع الأخذ بالحسبان أن الطوطمية من كلمة «أوطوطيمان» من العهد الكونكي، وتعني «هذا من قرابتي».
وفي مرحلة تالية، وعندما أخذت العشائر البدائية تتجمع في قبائل، واتصلت القبائل مكونة مجتمعا أكبر وأكثر رحابة واتساعا، لم يعد ممكنا فرض روح السلف المعبود، الحالة في حيوان طوطمي مقدس لدى قبيلة، على قبيلة أخرى تقدس طوطما آخر، فكان أن تم تمثل السلف في ظاهرة ترضي جميع الأطراف المتجاورة أو المتحدة، فارتفع العقل بسلفه المعبود عن التمثل في حيوان على الأرض، إلى تمثله في مظهر كوني أكبر، فكانت عبادته المخلصة للكواكب والنجوم إن هي إلا للأسلاف المقدسين.
تأسيس (2)
على ناتج البحوث الأركيولوجية، افترض الباحثون أن المجتمع الإنسان قد مر بمرحلتين شكلا نظامين اجتماعيين مختلفين: مجتمع سادته المرأة، إذ كانت تستقر إلى جوار أطفالها ، بينما يخرج الذكور للقنص، وكانت المرأة فيه للجميع، لم يكن هناك نظام زواج بالمعنى المعروف بعد، ومجتمع ساده الذكور، بما في الذكورة من قسوة وخشونة، وقد اختلف العلماء حول أي المجتمعين كان سابقا للآخر، بينما افترضنا في طرح خاص سبق لنا وضعه في دراستنا «أضحية للذكر، قربان للأنثى»
1
أن اختلاف النظامين: الذكري والأنثوي، ليس اختلافا زمانيا، إنما هو اختلاف مكاني. ودللنا على أن المجتمع الذكري الأبوي كان مجتمعا رعويا بدويا عبد آلهة ذكورا، إلى جوار المجتمع الأنثوي الأمومي الذي سادته المرأة، وعبد إلهات نساء يمثلن القدرة على الميلاد والخصوبة ومنح الحياة، تأسيسا على فرضنا أن المجتمع الأنثوي الأمومي كان مجتمعا زراعيا، شكل فيه الخصب ظاهرة أساسية؛ مما جعلها أس الاعتقاد والعبادة، الممثلة في إلهة خصبة ولود، كانت أما أولى مقابل عبادة الأب الأول في المجتمع الرعوي البدوي الذكري الأبوي، وبمرور الزمن تمكن البدو الرعاة من التسلل إلى المناطق الزراعية، في شكل غزو بطيء تدريجي أدى إلى سيادة الذكور في النهاية، ونشوء نظام الزواج؛ ومن ثم ترك الأقدمون لنا آباءهم وأمهاتهم ممثلة في آلهة كونية، تركزت خاصة في الظواهر الفضائية.
تأسيس (3)
Page inconnue