36
يؤكد مقولتنا في أن التأليه بدأ بالوالدين، وسبق دمجهما في الظواهر الكونية وتأليهها؛ لأن تعبيرهم «الكون» لم يكن يعني سوى الآلهة نفسها، فهو
Me
ولاحظ هنا ميم الأمومة مرة أخرى.
إلا أن إشارة الأساطير السومرية (في أغلبها) إلى أن أول الآلهة كان إلهة أنثى هي الأم، يعني أن هذه المنطقة كانت تحفظ في ذاكرتها بقايا العصر الأمومي، وهذا يستدعي التساؤل عن نوع القرابين التي كانت مفترضا تقديمها للإلهة الأم؟ وهذا بدوره يستدعي عدة أسئلة أخرى: هل كان هناك فارق واضح بين أنواع القرابين التي كانت تقدم للإلهة الأم، وبين تلك التي كانت تقدم لإله أب؟ وفي هذه الحالة، وحتى نمسك بخيوط تطور طقس القربان لا بد أن نحاول الإجابة على سؤال أهم من كل هذا وهو: أيهما سبق الآخر: المجتمع الأمومي أم المجتمع الأبوي؟ لم أجد فيما وقع بين يدي من مصادر أو بحوث ما يضع هذه التفرقة بين قرابين خاصة بالمجتمع الأمومي وقرابين خاصة بالمجتمع الأبوي، وكل ما وجدت رتلا ضخما يتكلم عن القرابين وخطها التطوري، منها ما يخلط الحابل بالنابل، ومنها ما يؤكد تطور هذا الطقس ابتداء من التقرب بالنبات صعودا إلى الحيوان حتى الإنسان، ومنها ما يعكس الوضع فيبدأ بالقربان الإنسان ويرتقي، فيستبدل قرابينه الإنسانية بالحيوان أو النبات. وهنا أقترح - بناء على ما بين يدي من شواهد - أن طقس القربان في النظام الأمومي، قد اتخذ في أول أمره شكلا خاصا يتفق مع طبيعة النظام، ثم تبع ذلك اختلاط ناتج عن تداخل المجتمعين إبان مرحلة الانتقال إلى سيادة الذكر النهائية، أدى إلى خلط مماثل في البحوث التي تناولت هذه المرحلة.
وحتى أكون واضحا، ورغم تشابك المسألة واختلاطها الشديد، سأبدأ بمحاولة تمييز المجتمعات الأمومية عن المجتمعات الأبوية، بميزات أكثر من كون هذا كانت السيادة فيه للذكور، أو كون ذاك كانت السيادة فيه للنساء ، ولنقر مبدئيا أنه من غير المنطق أن يوجد مجتمع كل آلهته إناث ويسوده بشر ذكور أو العكس.
لقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال أيهما كان أولا: النظام الأمومي أم الأبوي؟ فافترض «داروين» أن السيادة المطلقة كانت في البداية للذكر (المجتمع الأبوي)، وأكمل «أتكسون» فقال: إنه قد حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش فقتلوه وافترسوه معا، ويستطرد «روبرتسون سميث» فيقول: إنه بعد ذلك مرت مرحلة انتقالية ظهر فيها النظام الأمومي، ثم يسلم «فرويد» بكل ذلك ويقول: إن الأوضاع عادت بعد ذلك إلى سابق عهدها، وساد الذكر مرة أخرى.
37
هذا بينما تلخص الأنثروبولوجيا «جيكيتا هوكس
Jaquetta Hawkes » اتجاه معظم الباحثين، وترتب المسألة بشكل أكثر إقناعا، فتقول: إن أقدم تماثيل شكلها الإنسان للعبادة يعود تاريخها إلى حوالي خمس عشرة ألف سنة (أي في العصر الحجري القديم)، وهي تماثيل لإناث ضخمت فيها الأعضاء المثيرة جنسيا، أسمتها «هوكس» تماثيل «أفروديت الولادة»، وهذا يعني أن العصر الأمومي كان الأسبق. وتبع ذلك عصر اتضحت فيه رسوم تتسم بالذكورة، تلاها العودة للإلهات مع اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الحديث، وتؤكد «هوكس» أمرا منطقيا تماما، هو أن النساء هن مكتشفات الزراعة، وقد حدث ذلك إبان جمعهن للثمار في منطقة مستقرة مع أطفالهن، وملاحظتهن بالصدفة لنمو الثمار المتساقطة على الأرض مرة تلو أخرى، في وقت كان الرجال فيه يخرجون للقنص، وعند عودتهم يكون كل الرجال لكل النساء فينسب الأطفال إلى الأم دون الأب. ويعد اكتشافها للزراعة وإجادتها لهذا العمل رغم بدائيته النسبية، أساسا اقتصاديا ساعد على تثبيت سيادتها، ثم تلا ذلك في نهاية العصر الحجري الحديث، أي منذ حوالي خمسة آلاف سنة تقريبا، سيادة الذكور النهائية، ولاحظت «هوكس» أن ذلك قد اقترن بنشأة المدن المستقرة الكبيرة.
Page inconnue