وبما أن الحضارة العربية الإسلامية ما كان ممكنا أن تبدأ من الصفر، فلا بأس - عند الباحثين - من الرجوع إلى أسسها في فلسفة اليونان، وإذا كان لا بد من الاعتراف بأن لها صلة بالحضارات القديمة في المنطقة، فهي صلة قد انبنت أساسا على أساطير كانت عوامل سلب في الحضارة العربية الإسلامية، وشكلت دعوة إلى نزعات صوفية وغنوصية، ولا معقول، وهو الجانب الذي ينبغي شطبه من تاريخ الفكر العربي الإسلامي؛ ومن ثم تتأرجح الأحكام بالعقلانية في المسافة الشاسعة، الواقعة ما بين الأشاعرة والقرامطة، أو بإصدار الحكم بالمعقول الإبستمولوجي على مجموعة علوم تبدأ بالطب، وتنتهي بالفقه، في خلطة لا يجمع بينها سوى أن منتجيها كانوا مسلمين، بينما تستبعد كل الخبرات القديمة وثقافتها إزاء البحث عن المعقول؛ لأن هذا القديم لا هو عربي ولا هو إسلامي ولا هو معقول، بينما المطلب الواضح لدى الباحثين هو التأكيد على ثقافة مشتركة معقولة، تستند إليها أصالتنا إزاء العصر، ويبدو أن هذه الثقافة لا بد أن تكون عربية، وهو ما يستدعي بالضرورة أن تكون إسلامية، رغم أن هذه الثقافة يمكن أن تجد لها أسسا في التراث القديم المنعوت بالأسطورة، ذلك التراث الذي يملك - إذا درسناه بصدق - من القرائن ما يبرهن على أنه كان عامل تواصل دائم في المنطقة الشرق أوسطية.
ولا يفوتنا هنا الأخذ بعين الاعتبار المقصود بمفهوم «العقلانية والمعقول» مقابل «اللامعقول» الذي يطرحه بعض الباحثين، وهل هو مفهوم مجرد قائم بذاته؟ أم أنه حكم تأسس على ملاحظة الواقع وارتبط بوقائع محددة، وما أدى إليه تفاعل هذه الوقائع ليتكون لدينا معيار لمعنى المعقول؟ ثم أي معقول نقصد؟ وهل تصح أحكامنا بالعقلانية من عدمها على نصوص قديمة، معزولة عن سياقها، وزمنها، ومجتمعها، وحدثها؟ ودون فهم من جانبنا للغة هذا القديم وخصوصية لغته، ولا نقصد بالطبع باللغة الكلام المنطوق أو المكتوب، إنما نقصد النسق الشامل الذي استخدمت فيه الكلمات كأدوات للتعبير عنه، والترتيب النسقي لهذه التعابير وعلاقتها بأنماط التفكير، وأساليب توصيل المعاني والرموز، ومفهوم البلاغات وجمالياتها عندهم، ثم علاقة هذه اللغة بفهمهم للكون والقوى الغيبية، وعلاقة كل هذا بالبنية التحتية بكل متشابكاتها. وكل هذا لا شك كان محكوما بقواعد وقوانين، وإلا ما أفرز تلك الحضارات التي ما كان يمكن للعشوائية إفرازها، لكنها قواعد وقوانين ذات لغة خاصة يجب أن نفهمها في إطار الحدث الاجتماعي والسياسي، والشكل الاقتصادي، والعقدي، ويحتاج منا إعادة نظر في مفهومنا للعقلانية، عند دراسة تلك النصوص القديمة. (1) معنى الأسطورة
وإعمالا لذلك تأتي قيمة دراسة الأساطير في تراثنا القديم وأهميتها، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تراثنا، وهي الجانب الذي لم يحظ بأدنى قدر من الاهتمام، إزاء صدور الحكم المسبق عليه باللامعقول الذي ينبغي شطبه من تاريخنا، قبل درسه الدرس الكافي لإصدار مثل هذا الحكم، وربما جاز لنا هذا الشطب، لكن بعد الدرس الكافي وليس قبل ذلك، وإذا كان المفكرون في بلادنا قد تأخروا كثيرا في إدراك أهمية دراسة التراث وتناوله بالمنهج العلمي، وإذا كان ثمة إهمال واضح لمن لديهم إمكانية الاضطلاع بهذه المهمة، فإن إلقاء التراث القديم في سلة مهملات التاريخ سيكون جريمة لا تغتفر بكل المقاييس، سواء أكانت تلك الدعوة مقصودة أم بحسن نية، من حيث كونها تسهم في قطع الحبل السري لهذه الأمة برحمها الأصيل، وربما جاز القول: إن قطع الحبل السري يعني نضوج الوليد وخروجه لحياة جديدة وحقيقية، لكن هذا القطع سيكون في هذه الحال قطعا لجذره الرءوم، الذي يمكن لو بقي - على الأقل للفحص والتحليل - أن يكشف لنا عن أوجه الوراثة الجينية، وملامح التشابه الأصيل، وما إذا كان التوريث سائدا أم متنحيا.
والواضح أن الباحثين في تراثنا لم يهملوا القديم من هذا التراث إلا لأنه أسطوري، ولم يهملوا الأسطورة إلا لأنها تعنى بالخرافات واللامعقول وأقاصيص الآلهة. وواضح أيضا أن هذا الفهم لم يتأت بعد درس صادق وعميق للأساطير والتراث القديم، قدر ما انبنى على حكم تأسس على فهم شائع عن الأسطورة كخرافة وتلفيقات بدائية لا أساس لها، ولأن العرب احتسبوها أباطيل، ولأن الأديان الشرق أوسطية الكبرى قد اعتبرتها نوعا من العقائد الباطلة. هذا بالطبع مع ما درج من مفاهيم أنتجها معنى المصطلح القرآني عن الأسطورة، واحتسابها من خرافات الأولين، وربما ساعد على ذلك الإهمال البعد الزمني ما بين التراث القديم وبين اليوم، وتصور عدم إمكان التأثير عن بعد، أو إمكان بقاء موروث ذي قيمة مؤثرة في حياة أناس اليوم، هذا ناهيك عن الوهم المستبطن غير المعلن والناشئ عن مفاهيم تراثنا الإسلامي، والذي يصل إلى اقتناع بانقطاع تام لدى شعوب المنطقة مع ماضيها القديم، بحيث لم يبق لها غير العروبة والإسلام، ولا يصبح لمصر تاريخ أو شعب، فمصر ليست سوى فرعون واحد طغى وتجبر وغرق في البحر مع قومه المجرمين، وانتهى الأمر. وإذا اكتشفت بعد ذلك في الأمور أمور، فهي أمور تتعلق بقوم ضالين وعبدة للأصنام، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على القرى العربية القح، التي ذهبت في طوايا الغابرين، من عاد إلى ثمود ... إلخ، والأمر نفسه الذي ينطبق على الفلسطينيين وزعيمهم الكافر جالوت «جوليات»، بعد أن أورث الله أرضهم لبني إسرائيل، ولم يبق من كل تلك الأقوام إلا الذكرى المستحب فيها الاستعاذة وصب اللعنات ابتغاء الثواب.
ومن هنا جاء اهتمامنا بالأسطورة وبدراستها، ضمن دراستنا للتراث، بحسبانها من أهم أعمدته، وقد بدأنا ذلك بمجموعة بحوث نشرت تباعا، يجمع كتابنا هذا اليوم أهمها. والطريف أني بعد نشر كتابي «أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة» لقيت كثيرا من الاستحسان من الكتاب المهمومين بدراسة التراث، وعبر بعضهم عن انبهاره بهذا التاريخ القديم، وأبدى استهجانه لإهماله كل هذا الإهمال، لكن هؤلاء «البعض» انتهى الأمر عندهم بمجرد إبداء الإعجاب بالتراث القديم، وعاد كل منهم لدراساته بالمفهوم الكلاسيكي العربي للتراث، دون هم حقيقي، رغم أن الدراسة العلمية لهذا القديم يمكن أن تكون من أمضى الأسلحة في الصراع الفكري الدائر الآن.
والأساطير (
Myth Mythos ) هي في الفهم الكلاسيكي مجموعة خرافات وأقاصيص، وهي اشتقاق من «سطر الأحاديث». وموضوعها - إضافة للآلهة - يتناول الأبطال الغابرين وفق لغة وتصورات وتخيلات وتأملات وأحكام تناسب العصر والمكان اللذين صيغت فيهما، وشكل الأنظمة، والمستوى المعرفي، وهي في الوقت نفسه تشكل ثقافة عصرها، بحيث تبدو ذات خصوصية تربطها ببيئتها ومجتمعها، بحيث يمكن من خلال دراستها استقراء التاريخ الأصدق لزمنها ومكانها.
وعادة ما نجد في الأساطير مشاعر إنسانية جياشة، وأحاسيس، وتصورات، ومواقف، تطلعنا على فلسفة الإنسان في الوجود، وعلى محاولاته الفكرية الأولى، التي تتضمن خلاصة تجاربه وماضيه، وكيف كان يستنتج من هذه التجارب منطقه ومفاهيمه وتعامله مع واقعه، وفق منطق خاص، ووفق مضامين أخلاقية، تمت صياغتها في قوالب أدبية ذات خصوصية، توارثتها الأجيال، وعدلت فيها، وأضافت إليها؛ مما جعل الأسطورة محل عمل دائب لا يتوقف، فهي حفرية حية. ورغم كونها تأكل بعضها بعضا، وتتناسخ، وتتكرر، إلا أن لها تاريخا حيا يمكن قراءته في تفاصيلها التكوينية، إذا بذلنا الجهد اللازم للتعامل مع كائن حي يعيش منذ ألوف السنين، بما دخل عليه من تبدلات وتغيرات خلال تلك السنين، وبشرط أن نملك المنهج المناسب، والأدوات اللازمة لقراءة كل حركات وسكنات هذا الحي العظيم والعريق.
وعليه فنحن نرى الأسطورة تسجيلا للوعي الإنساني واللاوعي في آن معا، وأنها أخذت مسارا تطوريا بطيئا، استثمرت أثناءه مبدأ لا يزال بحاجة لتفسير، لكنه قائم، وهو أن كل عنصر من الماضي يفرض نفسه وتأثيره على الجماهير بقدر لا يقاوم، ولا يقف أمامه أي اعتراض منطقي، وحتى اليوم، وبعيدا عن نطاق السلوكيات الدينية وطقوسها وعقائدها، يمكننا أن نجد مظاهر سلوكية لا معقولة ولا مبررة، ولا يبقى لتفسيرها سوى البحث في جذورها بحسبانها أحد مظاهر ذلك الحفري الحي، الذي كان يصر على الاستمرار. وعندما كان يستشعر أنه سيتبدد تحت وطأة عناصر ثقافية أخرى أقوى منه، كما حدث في المرحلة التي بدأ الدين يفرض فيها سيادته على الفكر، فإنه كان يتخفى في أردية دينية تتلاءم مع المستوى المعرفي الجديد.
وكناتج لرحلتنا مع الأساطير القديمة يمكننا المجازفة بالقول: إن الأسطورة وإن اشتملت على أحلام وانفعالات وتصورات وأخيلة، فإنها اشتملت أيضا على حقائق يمكن أن تنكشف بوضوح إذا عرفنا كيف نفسرها بعد ربطها بشرطها التاريخي، ومكانها في النسق المعرفي لزمكانها، وقد دعمنا تلك الرؤية بما كشفنا عنه في كتابنا «أوزيريس ...» وكيف عبر المصريون زمانها عن تحولهم التاريخي بأسطورة، بل وغيروا واقعهم الاجتماعي والسياسي، بأيديولوجيا تمت صياغتها لتحقيق أهداف ذلك التغيير في صياغة أسطورية، بحيث كانت الأسطورة هي الجانب النظري، أو النظرية الثورية لتثوير المجتمع حينذاك، كذلك عثرنا على أنسقة أسطورية يتضمنها الكتاب الحالي «الأسطورة والتراث» تشتمل على تسجيل تاريخي لأحداث وقعت فيما قبل التدوين، تناقلتها الأجيال المتعاقبة. وهي تؤمن تماما أنها كانت وقائع حدثت.
Page inconnue