ولما تكاثرت الفتن والثورات، وحلت بالمملكة المصائب في الخارج صار الناس ينسبون كل ذلك إلى سوء تدبير ملوكهم فازدادت الفتن والمصائب بهذا الاعتقاد، وهكذا أنتجت الثورات ثورات، وصارت النتيجة سببا.
31
وما كان يزيد ضعف الحكومة يومئذ انقيادها إلى آراء النساء. فإنه كان من المقرر في الشرق اتخاذ عدة نساء إضعافا للسلطة العظيمة التي تكون للمرأة الواحدة على الرجل في هواء الشرق الحار. أما في عرش القسطنطينية فقد كانت المرأة واحدة تبعا لنظام المسيحية، وهذا الأمر كان من أسباب ضعف الحكومة أحيانا.
32
وبما أن الجيش كان له يد ورأي في السياسة فقد أفضى هذا الأمر إلى تمرده أحيانا، وبذلك ضعف نظام الجندية، وقد كان القائد بليزار يقول لجنوده في ساحة الحرب: «إن جنود الفرس لا يفضلونكم في الشجاعة، ولكنهم يفضلونكم في الطاعة لقوادهم» وفضلا عن ذلك فإن الترف والمدنية أضعفا نفوس الأمة وميلها إلى الحروب في حين أن باقي الأمم التي تحيط بها لم يكن لها شغل غير الحرب، وبذلك وهن عزمها أمام أعدائها، وصار لا يجدد قواها ونشاطها إلا التحريض الديني كالحث مثلا على استخلاص الصليب كما حدث في حروب الفرس.
هذه أيها السادة أهم الأسباب التي أضعفت السلطنة، وقد فصلتها لكم باختصار. فلو تداركها اليونان لكان عندهم أجمل وأقوى وأعمر سلطنة في الأرض، ولما تمكن أحد غيرهم من منازعتهم في شيء.
لماذا بقيت سلطنة بزنطية (القسطنطينية) قرونا طوالا بعد مصائبها وأمراضها المذكورة آنفا؟
وهنا سكت الشيخ ليستريح من تعب الكلام، وكان الحاضرون في أثناء كلامه يتحادثون همسا، ويتبادلون أفكارهم وهم تارة يبتسمون وطورا ينقبضون. أما الإمام عمر فإنه كان بينهم كالجبل الراسخ لا يحركه شيء، ولا تبدو على وجهه دلالة.
ولكن لما سكت الشيخ همس الإمام كلمتين في أذن أبي عبيدة. فقال أبو عبيدة للشيخ: أيها الشيخ لقد أحسنت الحديث. إنما يؤخذ من حديثك هذا أن المملكة متهدمة فهل يظن أنه قد دنت آخرتها على يدنا؟
فأطرق الشيخ سليمان مليا، ثم قال: إنني أرى أنكم لا تقدرون على هذه المملكة العظيمة في الغرب وإن قدرتم عليها في آسيا، وذلك لعدة أسباب أولا: أنكم فتحتم بلاد الفرس وستملكونها وتسقطون دولتها. فهذا الفتح سيقوي الإمبراطورية؛ لأنها ستسترد كل جنودها القائمين على حدود الفرس، وهم خيرة جنودها؛ لتدافع بهم عن نفسها دفاعا شديدا. ثانيا: أنكم بعد فتح الشام وفارس لا بد أن تفعل فيكم مدنيتهما وتجتذبكم إلى الترف والتمتع، وتثير الطمع والحسد في نفوس حكامكم لاتساع ملككم فتنقسم كلمتكم ويتنافس أمراؤكم فتقفون عن الفتح حيث أنتم.
Page inconnue