هكذا كانت نتيجة السياسة حين مداخلتها في الدين. «فكان من أعظم أسباب مصائب اليونان جهلهم الحدود التي بين السلطة الإكليريكية والسلطة المدنية، ولذلك وقع الفريقان في أغلاط متواصلة، والفصل بين هاتين السلطتين الذي عليه تبنى دعائم راحة الشعوب ليس أساسه الدين فقط ولكن أساسه أيضا العقل والطبيعة. فإنهما يقضيان بأن الاشياء التي من طبيعتها الانفصال والتباعد والتي لا يمكن أن توجد معا إلا منفصلة متباعدة بعضها عن بعض - يجب أن لا تمتزج أبدا، وهذا الفصل كان معروفا عند قدماء الرومان أكثر مما كان في القسطنطينية، ولئن كان إكليروسهم الوثني غير منفصل عن طبقات الهيئة الحاكمة. فإنه لما وقف الإمبراطور كلوديوس منزل «شيشرون» للحرية بعد نفيه وعاد شيشرون من منفاه طلب استرداد منزله؛ فحكم رؤساء الكهنة بأنه يمكن رد منزله إليه دون أن يكون في ذلك إهانة للدين إذا كان المنزل قد وقف بلا أمر خصوصي من الشعب. قال شيشرون: وقد قالوا إنهم ينظرون في صحة الوقف لا في صحة الشريعة التي سنها الشعب، وإنهم إذا كانوا نظروا في القضية الأولى كرؤساء كهنة فإنهم ينظرون في هذه القضية كأعضاء مجلس الشيوخ».
24
هذا هو أعظم الأسباب في ضعف سلطنة بزنطية، وإنما يستمد هذا السبب أهميته الخصوصية من صرفه فكر الحكومة والأمة عن الإصلاحات الاجتماعية والحوادث الخطيرة، وشغلها بالمجادلات الدينية العقيمة.
انظروا أيها السادة لأعطيكم برهانا صغيرا يدلكم علينا أحسن دلالة. قبل أن تصلوا إلى هذه المدينة بيوم واحد لتحصروها كان شعبها يملأ الدنيا ضجيجا على طريق بيت لحم طلبا لتعميد فتاة يهودية وجدها في طريقه، وكان يهتم بهذه الفتاة أكثر من اهتمامه بجنودكم الزاحفة إلينا.
ومن هنا تعلمون مبلغ ضعف تربيته السياسية وعواطفه الوطنية. أستغفر الله فإنه يجب علي أن لا أذكر «الوطن» بشفتي إذ الوطن عندنا الدين؛ بل الدين عندنا فوق الوطن وفوق كل شيء.
وهكذا بدل أن يقوم الشعب، ويطلب إصلاحات اجتماعية كإنشاء جمعيات لمساعدة الزراع والصناع والعمال، وفتح الترع لجر المياه للحقول، وأنشاء المدارس لتعليم أبناء الأمة، ووضع نظامات جديدة لتقوية العائلة والسلطة الحاكمة ضد الرهبان الذين تقدم ذكرهم، ونقل معامل الفرس إلى السلطنة أو إنشاء مثلها فيها - نراه إذا قالوا له مثلا هذه قطعة من حذاء بولس أو بطرس أو هذا أثر من مريم المجدلية فإنه ينسى كل تلك الإصلاحات ويبيعها كلها بهذا الأثر.
فما أسهل إرضاء الشعب الديني أيها السادة.
ولكني إذا كنت ألوم الإمبراطور لإهماله شعبه إلى ذلك الحد فأنا أشفق عليه. فإن السلطة متعددة الأحزاب الآن، وهذا من أسباب ضعفها أيضا. فإن الأحزاب في البلاد الجمهورية تنفع الأمة لظهور الحقائق بالبحث واحتكاك الأفكار، ولكنها في البلاد الملكية المطلقة تكون سبب ضعف لها؛ لأن كل حزب منها يقدر أن يستبد بالحزب الآخر فيقوم هذا إلى الثأر منه، وهكذا دواليك إلى ما شاء الله، وأهم أحزابنا الآن «الخضر» و«الزرق» وأصل تسميتهم هكذا أن ساقة المركبات الذين كانوا يتسابقون إلى الجوائز في حلبة السباق كان فريق منهم يلبسون ثيابا زرقاء وفريق ثيابا خضراء. فكان الحاضرون يتحزبون لهم حزبين يسمون «الخضر» و«الزرق»
25
وقد انتشرت هذه القسمة في كل مدن الإمبراطورية، وصارت قسمة سياسية، ولما قام جوستنيانوس انتصر «للزرق» وظلم «الخضر» فقوي الزرق حتى صاروا يدوسون نظامات المملكة، وكذلك الخضر عبثوا بالنظامات؛ لأنهم رأوا رفاقهم الزرق لا يحترمونها، وكان كل قاتل وشرير في ذلك الزمن من حزب الزرق، وكل مقتول من حزب الخضر.
Page inconnue